الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(221) قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ...} الآية 194
تاريخ النشر: ١٧ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 510
مرات الإستماع: 771

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث متصلاً بالكلام على خواتيم هذه السورة الكريمة سورة آل عمران، وقد تحدثنا في الليلة الماضية عن سؤالهم، وتضرعهم رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار [آل عمران:193]، ثم ذكر الله بقية سؤلهم، فقال: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد [آل عمران:194].

رَبَّنَا يا سيدنا، ومالكنا، ومُدبر شؤوننا أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رُسلك من النصر والتمكين، وغير ذلك مما وعد الله أهل الإيمان في الدنيا.

وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا تفضحنا، ولا تُهنا في الآخرة، إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد فوعدك حق ثابت لا يتبدل، ولا يحصل فيه خُلف ولا إضاعة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني والفوائد: التوسل إلى الله -كما ذكرنا- بأسمائه الحسنى في الدعاء، وذكرنا أيضًا خصوص التوسل بهذا الاسم الكريم "ربنا"، وقلنا: بأنه جاء مُكررًا خمس مرات في هذه الدعوات الخمس، وأن هذا يدل على مزيد من الضراعة والإلحاح على الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا الاسم له من الاختصاص بالدعاء ما ليس لغيره، وذلك أن النفع والضُر، والعطاء والمنع، وما إلى ذلك، يرجع إلى معنى هذا الاسم الكريم، مع ما فيه من ذكر الربوبية التي يكون فيها تربيب المخلوق، والقيام على شؤونه مما يكون معه الرعاية، والرحمة، ونحو هذا، هذا هو الرب، ولذلك لما ذكر ربوبيته العامة في سورة الفاتحة الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين [الفاتحة:2]، أتبعه بالرحمن الرحيم، فهي ربوبية مبنية على الرحمة، "ربنا"، وإضافة ذلك إلى ضمير المُتكلم يدل على القُرب، وحذف ياء النداء أيضًا يُشعر بالقُرب.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ فهذا عام يشمل كل ما وعد الله به أهل الإيمان، وعدهم بماذا؟

مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ، يعني: على ألسنة رُسلك، فهذا وعد مُحقق ثابت لابد من وقعه، وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ فيدخل في ذلك الهدايات بأنواعها: التوفيق والإرشاد، ويدخل في ذلك أيضًا التمكين والنصر، والغلبة على الأعداء، والحياة الطيبة في الدنيا لأهل الإيمان والعمل الصالح فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، وكذلك أيضًا مغفرة الذنوب والثواب الجزيل بالحسنات ورفع الدرجات كل هذا يدخل فيه.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ هذا الطلب، هذا الدعاء، قد يقول قائل: إن وعد الله لا بد أن يتحقق، فلا يحصل فيه خُلف، فلماذا قالوا: وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ فهذا من تحصيل الحاصل؟

ذكر أهل العلم أجوبة لهذا، بعض هذه الأجوبة قريب، له وجه، وبعضها لا يخلو من بُعد، بعضهم يقول: بأن المقصود بهذا الدعاء: إظهار الضراعة، وإلا فهم يعلمون أن هذا لا بد أن يتحقق، فهم يتضرعون وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ، وهذا قد يكون جزء من الجواب، ولكن قد يُحتاج إلى غيره ليُضم معه، فيكون ذلك أظهر بالمُراد، والله تعالى أعلم.

وبعض أهل العلم يقولون: إن هذا الوعد هو وعد على سبيل العموم، ولكن بالنسبة للأفراد فقد يقوم بالواحد منهم من الموانع، أو تخلف بعض الشروط، فهو موقوف على تحقق الشرط، وانتفاء المانع بالنسبة للأفراد، الشخص المعين، أو الطائفة المعينة، أو نحو ذلك، يعني: أن الله وعد أهل الإيمان جملة، لكن لماذا تخلف النصر عن هؤلاء في أُحد مثلاً، لماذا تخلف النصر، ومعهم رسول الله ﷺ؟

لوجود المانع، وهو المعصية وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، بعد الاختلاف والتنازع، والنبي ﷺ كان يُلح على ربه في يوم بدر أنجز لي ما وعدتني[1]، فهذا لاشك أنه ليس من الاعتداء في الدعاء في شيء، يعني: الاعتداء في الدعاء بمعنى أن يسأل الإنسان أمرًا ممتنعًا كونًا قدرًا، أو شرعًا، أو عادة، هذه إحدى الصور، وإلا فصور الاعتداء كثير، لكن إذا سأل العبد أمرًا وعد الله به أهل الإيمان فطلب إنجازه هذا ليس من الاعتداء في الدعاء، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أن المقصود بهذا الدعاء هو تعجيل ذلك وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ.

وعلى كل حال قد يكون ذلك موقوفًا على جملة من الأمور، والأسباب التي منها الدعاء، حينما يقول الإنسان مثلاً: "اللهم اغفر لي" فالله -تبارك وتعالى- وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة، لكن سؤال المغفرة مشروع، وقد يكون من أسباب المغفرة هذا السؤال، الله وعد رسوله ﷺ بالمنزلة الرفيعة، والدرجة العالية، ومع ذلك نحن نسأل بعد كل أذان اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته[2].

وهذا أمر مُتحقق بلا شك، لكن نحن نتقرب إلى الله بهذا، فهذه عبادة نؤجر عليها، مأمورون بها، ويكون ذلك سببًا لنيل شفاعته -عليه الصلاة والسلام-، هذا بالإضافة إلى أن ذلك قد يكون إنما قدره الله على جملة من الأسباب، ومنها دعاء المؤمنين.

الرجل الذي سأل النبي ﷺ أن يكون رفيقًا له في الجنة، قال له النبي ﷺ: أعني على نفسك بكثرة السجود[3]، فهذا كله مما يمكن أن يكون جوابًا بمجموعه، فهو تضرع بلا شك، وكذلك قد يكون موقوفًا على تحقق شروط وانتفاء موانع، وكذلك أيضًا بالنسبة للمعين فإن ذلك لا يُدرى هل هو حاصل له ولا بد أو قد يتخلف عنه لأمر يرجع إلى السبب الآخر الذي ذكرنا، وجود الشروط وانتفاء الموانع.

وبعضهم رتب ذلك على سببه، يعني: حقق لنا وهيأ لنا الأسباب التي يحصل بها هذا الجزاء والعطاء من الهداية، والإيمان وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ؛ لأنها متوقفة على هذا فإذا تحقق؛ فلا بد أن يؤتوا ذلك، فإذًا هيأ لنا من الأسباب ما ننال به هذه المطالب، ما وعدتنا على ألسنة رُسلك، وسؤال التعجيل أيضًا ظاهر كما كان النبي ﷺ يسأل ويُلح أنجز لي ما وعدتني[4]، وهو أعلم الناس بربه -تبارك وتعالى-.

والإنسان لا يدري عن حقيقة ما هو عليه، فالنيات يدخلها ما يدخلها، والأعمال يدخلها ما يدخلها من التقصير والنقص والمُخالفات، وما أشبه ذلك، فالعبد لا يكون ناظرًا إلى نفسه، وعمله أنه بلغ المرتبة الكاملة التي يستحق عليها العطاء والجزاء وتحقيق الوعد، لكن يسأل ربه أن يتجاوز عنه، وأن يغفر له خطأه وسهوه وعمده وزلته، وما إلى ذلك، وهذا كما في آخر سورة البقرة معلوم أن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ومع ذلك علمنا الله -تبارك وتعالى- هذا الدعاء نرده بهاتين الآيتين العظيمتين رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا، الإصر: الأحمال الثقيلة، والتكاليف الشاقة التي كانت على الأمم السابقة، ومعلوم أن ذلك لم نُكلف به، وكذلك أيضًا الخطأ والنسيان، ومع ذلك ندعوا، فهذا على كل حال مما علمنا الله إياه.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ، وهذا الوعد أصدق ما يكون؛ لأنه جاء على ألسنة الرُسل، وهم أصدق الخلق.

وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عرفنا الخزي أنه الذل والمهانة والفضيحة، وما أشبه ذلك إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، هناك أخبروا عن هذا، وقلنا: إن تلك الآية مُضمنة للدعاء، وليست بصريحة، لكن هنا جاء صريحًا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ هناك الخزي إذا أخذ الإنسان، إذا فُضح في الموقف كما أخبر النبي ﷺ: لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرف به، يُقال: هذه غدرة فلان[5].

وكذلك أيضًا أخبر النبي ﷺ عن أولئك الذين يأخذون مما لا يحل أخذه من الغلول، ونحو هذا وما في حكمه، أنه يأتي يحمل يوم القيامة هذا الذي غله، فهذا يحمل شاة تيعر، تفضحه بأعلى صوتها، وهذا يحمل بقرة لها خوار، وآخر يحمل ناقة أو نوقًا أو آلاف من النوق، لها رُغاء يحملها، وهذا يحمل من الأراضين إلى السابعة طوقًا حول عُنقه، هذه فضيحة، ويُنادى لأهل الغدر هذه غدرة فلان ابن فلان، نسأل الله العافية، يعني لو حصل لغادر في الدنيا مثل هذا، غدر، أخذ من المال العام، ونحو ذلك، وشُهر به، وكُتب في الصفحة الأولى بالخط العريض هذه الخيانة؛ لكان ذلك ذهابًا لشرفه، أليس كذلك؟!

فكيف بيوم القيامة، والخلائق جميعًا من الأولين، والآخرين يُشاهدونه، قد يكون ما غل إلا هذه مثل هذه، ويفتضح.

فالمقصود أن هذا الخزي يكون بهذه الصور، وبغيرها، العذاب، الإلقاء في النار، فهذا أعظم الخزي، وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُون [الزمر:47]، حينما يُخذلون فلا يجدون من يقف معهم وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار [آل عمران:192]، كما في الآية السابقة.

فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ يُفرق بين العابدين والمعبودين، وكل واحد يتبرأ من الآخر، هؤلاء يقولون: مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُون [يونس:28]، ثم في النهاية إبليس في النار يقوم خطيبًا، ويقول: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22]، الآية، فهذا لا شك أنه حسرة وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآمال التي قد توجد أنهم يخرجون من النار يجاء بالموت يوم القيامة، كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار... فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت[6] عندها تنقطع الآمال بالنجاة، فلا سبيل إلى موت يستريح معه الإنسان.

لاحظ الأمنية يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، يتمنون الهلاك.

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أماني[7]

هذه الأمنية التي يتمنونها يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، حينما يرى البهائم تقتص، يقتص بعضها من بعض لكمال عدل الله ، ثم يُقال لها كوني تُرابا فيقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا، يتمنى أن يكون مثل هذه البهيمة التي تحولت إلى تراب، هذا مُنتهى ما يدعوا به، ويتمناه أليس هذا من أعظم الخزي -نسأل الله العافية-، سواد الوجوه، والزُرقة يَوْمَ تَبْيَضُّ، وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ، وُجُوهٌ [آل عمران:106]، هذا الذي جاء ووجهه أسود، هذا خزي سواد، هذا الوجه يدل على ما في داخل القلب من الذُل والمهانة، ونحو ذلك، فيسود الوجه، وكذلك الزُرقة بعضهم يقول: الزُرقة المقصود بها هنا وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، يعني: زُرق العيون، فبعضهم يُعلل ذلك بأحوال تقوم في قلبه، يعني: من شدة ما يجد، من شدة ما يُعاني، من شدة ما يُكابد، يتغير لون العين، فهذا كله من الذُل والمهانة.

وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد، وجاء التأكيد هنا لهذه الجملة بـ"إنّ" إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد فهذا مما يستدعون به الإجابة، وتحقيق المطلوب، هذا بالإضافة إلى أن ذلك إذا استشعره المؤمن أن الله لا يُخلف الميعاد فإن ذلك يدعوه إلى الثقة بوعد الله -تبارك وتعالى-، وأنه لا يتخلف فلا يسوء ظنه بربه لكن عليه أن يُحقق الشرط.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا المسلمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمنا بحرمتك يا أرحم الراحمين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، برقم (1763).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم (614).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، برقم (489).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، برقم (1763).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، برقم (1736).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2849).
  7. انظر: الأمثال السائرة من شعر المتنبي، لابن عباد، (57).

مواد ذات صلة