الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
(090) قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا...} الآية 84
تاريخ النشر: ٢٧ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 355
مرات الإستماع: 722

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما أنكر الله -تبارك وتعالى- وعجب من حال هؤلاء من أهل الكتاب: أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون [آل عمران:83]، قال الله -تبارك وتعالى- آمرًا نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وذلك موجهًا إلى أمته: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون [آل عمران:84]، قل لهم: آمنا بالله، صدقنا وأقررنا وأذعنا، أذعنت قلوبنا، وانقادت جوارحنا، آمنا بالله وما أُنزل علينا من الوحي والكتاب والقرآن الكريم، وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ، ما أُنزل عليهم من الكتب والصحف والوحي، والأسباط هم قبائل بني إسرائيل، وذلك أنه كان فيهم أنبياء، وهؤلاء الأسباط يتفرعون من أولاد يعقوب ، ولا يُراد بهم في هذا الموضع أولاد يعقوب؛ لأن أولاد يعقوب ما كانوا أنبياء سوى يوسف ، -والله أعلم-، بما وراء ذلك، لكن هذا هو المشهور عند أهل العلم، وهو القول الراجح إن شاء الله.

وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ، فذكر خصوص هؤلاء الأنبياء الذين سماهم؛ لأنهم من أنبياء بني إسرائيل أعني من ذُكر بعد إبراهيم وإسحاق، وهؤلاء يُقرون بنبوتهم ويعترفون بهم سوى ما يُنكره اليهود من نبوة عيسى وهو من أنبياء بني إسرائيل، فبعد هذا التخصيص جاء بالإجمال والعموم: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون، لا نُفرق بالإيمان فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، ونحن له منقادون بالطاعة مقرون له بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ، فهو عبد مأمور يأمره ربه -تبارك وتعالى- بما شاء، ولا ينبغي أن يُرفع فوق مرتبته -عليه الصلاة والسلام- فيقع الغلو كما وقع لأهل الكتاب.

وقوله: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، هذا رد على هؤلاء من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا الإيمان الصحيح وكفروا بما أُنزل على النبي ﷺ، وكفر طوائف من أهل الكتاب بما أُنزل على عيسى .

قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، "وما أُنزل علينا" هذا يشمل الوحي المتلو، والوحي غير المتلو وهو سنة رسول الله ﷺ التي تشرح القرآن.

فهذا الإيمان متحقق في النبي ﷺ وأصحابه، ولكن الله أمر بذلك: قُلْ آمَنَّا، فهذا مثل هذا الخطاب القاعدة أن الخطاب في مثل هذا إذا كان متوجهًا إلى من لم يكن داخلاً فيه فإنه أمر له بالدخول فيه، يعني: إذا أُمر غير المسلم بالإيمان فهو أمر له بالدخول في الإيمان، وإذا وجه إلى من هو داخل فيه فإنه أمر بالدوام والاستمرار على ذلك.

ويؤخذ من ذلك أيضًا أن الإيمان لا يكفي فيه اعتقاد القلب بل لابد فيه من النُطق باللسان، فالقول يكون باللسان والقول المعتبر في مثل هذا أن يكون باللسان مع مواطأة القلب، هذا بالإضافة إلى عمل الأركان، ولذلك قال في آخر هذه الآية: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، منقادون بكليتنا بقلوبنا وجوارحنا وألسنتا.

كذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ، فهنا قدم الإيمان بالله على غيره وهذا لأنه الأصل والأساس، فلا يصح الإيمان بالأنبياء والكتب إلا بالإيمان بالله فهو الأصل فقدمه، وهذا ظاهر قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ، فـ"قل" هذا خطاب موجه لواحد وهو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، و"آمنا" هذا خطاب موجه للجمع.

والعلماء -رحمهم الله- أجابوا عن هذا بأجوبة متنوعة بعضهم يقول: أن ما بعده أنه خطاب للنبي ﷺ: قُلْ آمَنَّا، فبدلاً من أن يقول: قل آمنت فجاء بصيغة الجمع تعظيمًا للنبي ﷺ ومعلوم أن الواحد قد يُخاطب بصيغة الجمع من باب التكريم والتعظيم، فهذا وجه يحتمله هذا الموضع، والله تعالى أعلم.

ويحتمل أنه قال له: قُلْ آمَنَّا، باعتبار أنه المُبلغ عن الله ، وأما "آمنا" فهذا باعتبار أنه مخاطب لهؤلاء الناس يُطالبهم بالإيمان ويدعوهم إليه فجاء بصيغة الجمع.

ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار أصحابه: قُلْ آمَنَّا، يعني: قل أنت ومن معك آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم، الآية، فهذا يحتمل.

ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار آخر، وذلك أنه خاطبه أولاً لتشريفه، ولكن لما كان الخطاب بالإيمان لجميع الناس جاء بصيغة الجمع، فجمع في هذه الآية بين الأمرين، والله تعالى أعلم.

وكذلك أيضًا: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ، فهنا أيضًا يمكن أن تكون صيغة الجمع باعتبار أنه يمكن أن يكون ذلك باعتبار أنه المُبلغ، وآمنا يكون ذلك بيانًا لمنزلته وتفخيمًا لشأنه، والله أعلم.

ويؤخذ من هذ الآية الكريمة أيضًا أن هذه المذكورات جاءت مرتبة ترتيبًا في غاية المناسبة، فذكر الإيمان بالله كما ذكرنا باعتبار أنه الأصل فذكره أولاً، ثم بعد ذلك ذكر الإيمان بما أُنزل: وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، وجاء التعبير بهذه الصيغة: وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، ليشمل الوحي المُنزل بنوعيه، وذلك سبيل النجاة والسعادة في الدارين.

وكذلك أيضًا أبهم في قوله: وَمَا أُنزِلَ، فبُني للمجهول وذلك أن المُنزل معلوم وهو الله -تبارك وتعالى-، والتعبير بلفظ الإنزال فيه إثبات صفة العلو لله -تبارك وتعالى-، وأن القرآن مُتلقى عن الله.

ويؤخذ من هذه الآية أن الله قال: وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، إلى آخر ما جاء فيها، وذلك ليشمل المُنزل حقيقة من الله؛ لأن هؤلاء قد حرفوا وبدلوا في كتبهم، ولم يقل: آمنا بكتبكم؛ لأن هذه الكُتب قد دخلها ما دخلها من التحريف، وإنما الإيمان بما أنزل الله  على هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فقدم ما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- بعض أهل العلم يقولون: باعتبار أن هذا الكتاب هو المُهيمن وهو المُبين لحقيقة ما نزل على هؤلاء الرُسل، والمُبين للتحريف والباطل الذي أدخلوه فيها، فما وافقه فهو صحيح، وما خالفه فهو مُبدل مُفترًا على الله ، فالمُنزل على محمد ﷺ أيضًا هؤلاء مُطالبون بالإيمان به، وهو الكتاب الخاتم، فينبغي عليهم أن يؤمنوا به، فهو فرض الوقت بالنسبة إليهم، وهو الكتاب الذي لم يتعرض للتبديل والتحريف.

كذلك أيضًا ذكر بعض الأنبياء -عليهم الصلاة السلام- باعتبار أنهم الحملة لهذا الوحي، والنقلة إلى البشر وهم المُبلغون عن الله -تبارك وتعالى- وسمى هؤلاء على سبيل الخصوص يمكن أن يكون ذلك باعتبار أن هؤلاء يعترف بهم بنو إسرائيل، يعرفونهم فإبراهيم هو أبو الأنبياء، وهؤلاء يعظمونه وكلٌ يدعيه، وإسماعيل يعرفونه، وإن لم يكن من أنبيائهم، وكذلك أيضًا إسحاق فهو نبي من أنبياء بني إسرائيل باعتبار أن بني إسرائيل يؤمنون به بهذا الاعتبار، ويعقوب هو إسرائيل، وهؤلاء أهل الكتاب يُعظمونه، وكذلك أيضًا موسى وعيسى، فموسى هو كبير أنبياء بني إسرائيل، وعيسى قد كذبه اليهود، وغلا فيه النصارى، فهؤلاء الأنبياء معرفون عند المخاطبين فخصهم بالذكر، يعني: لم يذكر الأنبياء قبلهم كنوح ، أو هود، أو صالح، أو لوط، ونحو ذلك، وإنما هؤلاء الأنبياء الذين تناسل منهم بنو إسرائيل أو كانوا فيهم، يعرفونهم ويُعظمونهم في الجملة سوى ما كان من اليهود في شأن عيسى .

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة هنا: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، هنا قال: وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، الخطاب هنا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فجاءت الصيغة بــ"على": وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وفي سورة البقرة وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، فبعض أهل العلم يقولون: إن هذا باعتبار وجود المعنيين أنه مُنزل من الله -تبارك وتعالى- على رسوله ﷺ، وباعتبار أيضًا البلاغ فإن "إلى" تدل على هذا المعنى.

وهنا في هذه الآية ذكر الله -تبارك وتعالى-: قُلْ خاطب النبي ﷺ: قُلْ على سبيل الخصوص، فجاءت معها "على" فذلك أنه ينزل عليه الوحي، وهناك: قُولُوا آمَنَّا [البقرة:136]، فجاءت "إلى" وذلك أن الوحي والكتاب والقرآن يأتيهم من النبي ﷺ، وممن يتلقونه عنه ممن أخذه عن رسول الله ﷺ فيأتيهم من وجوه متعددة فجاء التعبير بـ"على"، حينما خوطب النبي ﷺ في هذه الآية من سورة آل عمران: قُلْ آمَنَّا، فكان الوحي ينزل عليه، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84]، وفي البقرة: قُولُوا آمَنَّا [البقرة:136]، فقال: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، فهو وحي واصل إليهم إما من رسول الله ﷺ أو ممن يأخذ عنه، فهو ينزل من أعلى على الرسول ﷺ وينتهي إلى الرُسل.

وهذه الآية يؤخذ منها: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، فذكر لفظ الإيتاء، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وما ذكر هنا الإنزال، وما أنزل على موسى وعيسى، وذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، باعتبار أنه معروف لديهم، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وخصهما بالذكر لما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- على سبيل العموم: وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ، فهذا يشمل موسى وعيسى ومن ذُكر، ويشمل غيرهم، لكن القاعدة "أن ذكر الخاص قبل العام يدل على أهميته"، وتأكد الإيمان به يدل على مزية وعناية فيه، هذا هو الأصل والقاعدة في هذا.

كذلك أيضًا في قوله: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، هنا هذا اللفظ أُوتِيَ يشتمل أو يشمل أو ينتظم الآيات التي أعطيها هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام-، يعني: مثل: العصا تنقلب إلى حية، ويُدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، إلى غير ذلك من الآيات التي أعطاهم عيسى يُبرئ الأكمه والأبرص، وَمَا أُوتِيَ، فيدخل فيه الوحي المُنزل والكتاب، وكذلك أيضًا الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، لو قال: وما أُنزل على موسى وعيسى فإنه لا يدخل فيه تلك المعجزات والآيات.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، ثم بعد ذلك قال: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ، هذا تعريض باليهود والنصارى؛ لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ولا يصح الإيمان إلا بجميعهم، ومن آمن بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وكفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع.

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، هنا قُدم الجار والمجرور وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، هذا من أجل الحصر وذلك يدل على الإخلاص للمعبود ، فإسلام النفس والوجه لا يكون إلا لله ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، أي: منقادون لله -تبارك وتعالى- ولم يُقيد هذا الانقياد بانقياد القلب أو الجوارح، فمثل: هذا يُحمل على العموم، حذف المتعلق يفيد العموم النسبي، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة