بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
نشرع في هذه الليلة إن شاء الله في الكلام على سورة البقرة من جهة ما يُستخرج من هذه السورة وآياتها من الهدايات.
فأول ما يُذكر في ذلك: هو بعض المقدمات التي تتعلق بهذه السورة، وأول هذه المقدمات ما يتصل بأسمائها، فإن اسمها المشهور الذي يعرفه كل أحد هو "سورة البقرة"، وقد جاء ذلك عن النبي ﷺ والأصل أن أسماء السور -كما هو معلوم- توقيفية، بمعنى أن أسماء السور في الأصل مُتلقاه عن رسول الله ﷺ.
وإن كان من الناحية العملية، أو الناحية الواقعية أن بعض السور سمها بعض السلف، وبعض ما يُذكر على أنه من أسماء السور الواقع أنه من قبيل الأوصاف.
وهذه السورة تُسمى بسورة البقرة هذا الاسم الوحيد، وكذلك أيضًا يُقال له مع سورة آل عمران الزهراوان، وقد يكون ذلك من قبيل الوصف، كما في قول النبي ﷺ : اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران [1].
وأما ثانيًا: ففي الإشارة إلى بعض ما صح من فضائل هذه السورة، كما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة [2].
وقد ذكرنا في بعض المُناسبات أن بناء الفعل هنا للمفعول يدل على أن وقوع القراءة بحد ذاته يكون سببًا لطرد الشيطان، سواء كان ذلك بقراءة أحد من أهل البيت، أو بقراءة مجموعة منهم، يعني: يقرأ هذا بعضًا منها، وهذا يقرأ بعضًا منها لو اقتسموها، وقد يكون ذلك عن طريق المُسجل، قراءة المُسجلة، وإن كان بالقراءة المُباشرة أبلغ؛ لأن النبي ﷺ قال: الذي تُقرأ فيه ، ما قال الذي يقرأ أهله سورة البقرة، فبمجرد قراءة سورة البقرة في مكان في هذا البيت؛ فإن ذلك مؤذنٌ بطرد الشياطين، إلى غير ذلك من الفضائل.
وهذه السورة هي من أجل وأعظم سور القرآن، وهي كما نعلم أطول سوره، وقد كان أصحاب النبي ﷺ إذا حفظ الرجل البقرة وآل عمران جل، أو جد في أعينهم[3].
وذلك لكثرة ما تضمنته هاتان السورتان من الهدايات والعقائد، والأصول الكِبار لهذا الدين، بالإضافة إلى كثرة الأحكام والتشريعات، كما سيأتي إن شاء الله.
ولو نظرنا إلى أحوالهم ونظرهم، وتعاملهم مع هذه السورة، فإننا نجد شيئًا عجبًا، فهذا عمر كما أخرج البيهقي في الشُعب، بقي يتعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا[4].
فهذه المدة الطويلة لا شك أنه كان يتفهم ما فيها من المعاني والهدايات والعقائد والأحكام، وإلا فهو ذو قدرة على حفظها في أيام، ولكن هكذا كانوا يتعلمون القرآن، يتعلمون ألفاظه، ويتعلمون أيضًا ما حواه من الهدايات، بقي هذه المدة، وفرحًا واستبشارًا بحفظها نحر جزورًا بعد ما حفظها اثنتي عشرة سنة.
ويؤخذ من هذا جواز إظهار الفرح بحفظ القرآن والاحتفال بذلك، وما تُقيمه الجمعيات الخيرية، أو الحِلق القرآنية من احتفال بهذه المناسبة هذا أمر لا غضاضة فيه، وليس من البدع.
لكن لو أن الواحد أراد أن يُقيم حفلاً لحفظه للقرآن يتكرر في كل سنة في هذا التوقيت، في هذه المناسبة، فيكون ذلك من قبيل البدع، ففرق بين أن يُقام ذلك مرة بهذه المناسبة، كأن يحتفل الإنسان أنه تخرج من المدرسة، أو من الجامعة، أو نجح في الاختبار، أو تفوق أو أنه قد حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، هذا لا إشكال فيه، لكن أن تحول هذه المناسبة إلى عيد يعود ويتكرر، بكل تاريخ، أو وقت يوافق هذا الزمان الذي حفظ فيه، فيحتفل ثانية فهذا لا يجوز، أما الذي تُقيمه الجمعيات الخيرية، يُقام حفل سنوي في تاريخ معين، أو مُتقارب فهم لا يُقيمونه لنفس الحفظة الذين حفظوا في العام الماضي يحتفلون بهم مُجددًا، وإنما يحتفلون بآخرين، فهذا لا إشكال فيه، بل هذا الفضل من الله -تبارك وتعالى- هو الذي ينبغي الفرح به لا بحطام الدنيا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس: 58].
وذكر الإمام مالك -رحمه الله- في الموطأ أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مكث على سورة البقرة ثمان سنين، يتعلمها[5].
هذه المدة أيضًا طويلة، وهذا يدل على شرف هذه السورة، وكذلك يدل على عِظم ما تضمنته، والشاعر المعروف الذي كان من شعراء الجاهلية، ثم بعد ذلك هداه لله للإسلام "لبيد بن ربيعة" وهو من أشعر الشعراء، وقد جاء عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال:
ولولا أن الشعر بالعلماء يُزري | لكنت اليوم أشعر من لبيدِ |
يعني: يُضرب به المثل في الشعر، بعدما أسلم - رحمه الله، ورضي عنه - كان يقول: ما كنت لأقول بيتًا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران[6].
تصور هذا شاعر مُجيد، مشهور، أُشتهر بالشعر، فإذا تخلى عن الشعر يكون قد تخلى عن سبب شهرته، ومعرفة الناس به، إنما عرفوه بهذا الشعر، فلما تعلم سورة البقرة وآل عمران كان يقول: "ما كنت لأقول بيتًا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران".
الشيخ محمد الصالح العثيمين من المعاصرين على سبيل المثال استخرج من سورة البقرة من الفوائد المتعلقة بالاعتقاد، أو الأحكام، والآداب ما يزيد على ألفين وخمسمائة فائدة.
لا تستغربون إذا كان صاحب التفسير الكبير يقول: بأنه يستخرج من البسملة فقط ألف مسألة، ومن سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة[7].
والعلماء -رحمهم الله- استخرجوا من أشياء مثل حديث: يا أبا عمير، ما فعل النغير [8] حديث قصير، يُداعب فيه النبي ﷺ صبيًا، بعضهم استخرج منه نحو مائة مسألة، فمثل هذا الغوص، وهذه القدرة على الاستنباط إذا كان من هذا الحديث فقط فلا يُستغرب أن يُستنبط هذا العدد، وأكثر من هذه السورة العظيمة، حيث تضمنت هذه السورة الواحدة جميع ما يحتاج إليه الناس في دينهم، في أصوله وفروعه، وقد افتتحها الله -تبارك وتعالى- بالإيمان بالكتب والرسل، ووسطها بالإيمان بالكتب والرسل، وختمها بالإيمان بالكتب والرسل، وذلك أن الإيمان بالكتب والرسل هو عمود الدين وقاعدته وجِماعه كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في الجواب الصحيح[9] فهي تؤكد هذه القضية وتُرسخها.
وكذلك فيها من التفاصيل الكثيرة مما يتصل باليهود؛ حيث قص الله من قصصهم على نبيه ﷺ وعلى هذه الأمة أكثر مما ذُكر في غيرها من السور، أكثر مما ذُكر في سورة آل عمران، في سورة آل عمران تحدث في سياق طويل عن النصارى.
وذلك كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بأن سورة البقرة نزلت أول مقدمه ﷺ إلى المدينة، وكان الذي يجاورونه فيها هم اليهود، وكان هذه السورة في المدينة بعد القرآن المكي الذي كان يتنزل في الكلام عن حقائق الإيمان بالله -تبارك وتعالى- واليوم الآخر، وما إلى ذلك مما كان يُنكره المشركون، فجاءت التشريعات مبسوطة في هذه السورة، وجاء الحديث عن اليهود الذين كانوا يجاورون المسلمين في المدينة النبوية، بينما تأخر نزول سورة آل عمران، وهي تتحدث في سياق طويل عن النصارى؛ وذلك أن النصارى كانوا بعيدين عن المدينة، وقد قدِم وفدهم متأخرًا عن رسول الله ﷺ من نجران.
وكذلك أيضًا لما كان أكثر دعاءه ﷺ في أول الأمر للمشركين في السور المكية جاء الحديث في سياقات كثيرة في الرد عليهم، ومجادلتهم، وبيان تهافت دعاويهم وعقائدهم، وفساد ما هم عليه من الإشراك؛ لأنهم يجاورونه في مكة، في المدينة أصبح الذين يجاورونه اليهود، فجاء الحديث في سورة البقرة مفصلاً عن اليهود وعن أخبارهم، وعن أحوالهم مع المسلمين.
وكذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- في آخرها أحكام الأموال، وجعلها على ثلاثة أصناف: عدل، وفضل، وظلم، فالعدل البيع، ذكر فيها أحكام البيع، والظلم الربا، فجاء فيها بيان حرمة الربا، والفضل هو الصدقة، وجاء في سياق طويل في الكلام على الصدقات، وفضل الصدقات، وما يؤثر عليها أو يُبطلها.
وكذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها ما يتصل بالمعاملات المالية من البيع والدين، ونحو هذا كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله[10].
فهذه السورة لو أردنا أن نستعرض الموضوعات التي تحدثت عنها فهي في غاية الكثرة، تحدثت عن تقرير أصول العلم وقواعد الدين.
افتتح الله -تبارك وتعالى- بذكر كتابه الهادي للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين، هذه جُمل خبرية ذكرها الله في صدر هذه السورة.
ثم ذكر بعدها الجُمل الطلبية، فكان أول أمر في القرآن الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش وبناء السماء، وإنزال الماء، وإخراج الثِمار رزقًا للعباد، ثم قرر الرسالة، وذكر الوعد والوعيد، ثم ذكر مبدأ النبوة والهدى، وما بثه في العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعليم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة لآدم لما شرفه الله -تبارك وتعالى- عليهم بما شرفه من العلم، ثم ذلك أيضًا تقرير لجنس ما بعث الله به نبيه محمدًا ﷺ من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء، ثم انتقل إلى خطاب بني إسرائيل كما ذكرت في سياق طويل، وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوة موسى وهو كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- قرين النبي محمد ﷺ [11].
فذكر الله -تبارك وتعالى- آدم الذي هو أول نبي، وذكر موسى الذي هو نظير آدم عليهما السلام، وذلك أنهما احتجا كما قال النبي ﷺ : احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى [12]. يعني: كيف يلومه على أمر قد قُدر عليه.
كذلك أيضًا فيما يتعلق بالاعتذار حينما تُطلب منهما الشفاعة، فآدم اعتذر بالأكل من الشجرة، وموسى اعتذر بقتل النفس قتل ذلك القبطي، فغفر الله له وغفر لآدم أكله من الشجرة، فتاب عليه، وذكر خبره في هذه السورة.
وكان في قصة موسى أيضًا الرد على الصابئة، ومن شابههم ممن يُقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاءوا به، ففي قصة موسى مما يدل على الإلزام بالاتباع، وكيف أن بني إسرائيل حينما أبوا اتباعه حل بهم ما حل من الطرد واللعن وكذلك ما وقع أيضًا لفرعون وقومه.
وكذلك أيضًا فيها الرد على أهل الكتاب مما جاء في مضامينها من الأمر بالإيمان بما جاء به النبي ﷺ وتقرير نبوته، وذكر حال من عدل عن النبوة إلى السحر كما وقع ذلك لابني إسرائيل، لما نبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم، كانت النتيجة أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، فاستعاضوا بالسحر عن الوحي والهدى والنبوة.
وذكر -تبارك وتعالى- في هذه السورة أيضًا النسخ الذي يُنكره بعضهم، وذكر أيضًا النصارى، وأن الأُمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم.
كذلك أيضًا بين في هذه السورة شرائع الإسلام التي على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم الذي هو إمام الحُنفاء، وذكر بناء البيت الذي بتعظيمه يتميز أهل الإسلام، وكذلك أيضًا ذكر استقباله وقرر ذلك؛ فإنه شعار المِلة بين أهلها وغيرهم، ولهذا يُقال: أهل القِبلة، المُنتسبين إليها من هذه الأمة، ولا يُقال ذلك لغيرهم.
وكذلك ذكر من المناسك ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، والعُمرة لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود أيضًا شُرع فيه.
وكذلك أيضًا هذه الأمور لا تتقيد به، ولا بمكان ولا بزمان، ولكن الصلاة تتقيد باستقباله فذكر -تبارك وتعالى- هذه الأنواع الخمسة من العكوف والصلاة والطواف والعمرة والحج، والطواف يختص بالمكان فقط كما سبق.
ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من السعي بين الصفا والمروة، وأنه لا حرج لمن سعى بينهما خلافًا لما كان يتوهمه من يتوهمه يظنون أن ذلك من أمور الجاهلية.
وكذلك أيضًا جاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت، بل وبالقلوب وبالأبدان والأموال بعد ما أومروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر بعد ما أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، وأقام دعائم الدين؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل المِلل كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: لا يُخالفون فيه فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه[13].
وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البُشرى للصابرين؛ فإنها أُعطيت ما لم تُعطى الأُمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المُتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن -تبارك وتعالى- بين الحج والجهاد، لدخول كل منهما في سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله.
وكذلك الحج في الأصح كما قال: الحج من سبيل الله.
وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب، وذلك بذمه -تبارك وتعالى- بكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل دينًا غير هذا الدين، ففي أولها: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [سورة البقرة:22] وفي أثنائها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا [سورة البقرة:165] فالأول نهي عام، والثاني نهي خاص، وذكرها بعد البيت؛ ليُنتهى عن قصد الأنداد المُضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر، ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك وأنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات.
ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر في المطاعم؛ لأن الرسول ﷺ بُعث بالحنيفية السمحة، وشعارها وهو البيت، ذكر سماحتها في الأحوال المُباحة، يعني: الأصل في المطعومات الحِل، وفي الدماء ما شرعه من القصاص، تناول ذلك وبينه، ومن أخذ الدية.
ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان وما يتصل به من الاعتكاف، ذكره في عبادات المكان، وعبادات الزمان فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحبابًا، يعني أن من أهل العلم من يقول إن الاعتكاف إنما يكون في رمضان، وبعضهم يقول: إنما يكون مع الصوم، وبعضهم يُقيده بوقت، يعني: بيوم وليلة، أو بليلة، أو بيوم، أو بما يكون طويلاً في العُرف، يعني: أنه يكون من قبيل المُكث الطويل، فذلك هو العكوف.
وكذلك أيضًا وسط ذلك بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تُشرع في جميع الأرض، والعكوف يكون بينهما.
ثم أتبع ذلك بالنهي عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المُحرم نوعان: نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا، والمغصوب، فأتبع المعنى الثابت بالمُحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر في أثناء عبادات الزمان المُنتقل الحرام المُنتقل، ولذلك أتبعه بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [سورة البقرة:189] الآية، وهي أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعل هذه الأهلة مواقيت للناس في أمر دينهم ودُنياهم، وللحج.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: تحجه الملائكة والجن، فكان هذا أيضًا في أن الحج مؤقت بالزمان كأنه مؤقت بالبيت المكاني.
يقول: ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان، مع أن المكان من تمام الحج والعمرة، وذكر المُحصر، وذكر تقديم الإحلال المُتعلق بالمال، وهو الهدي عن الإحلال المُتعلق بالنفس وهو الحلق، وأن المُتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل، ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء، فإنه أعظم المحظورات، ولا يفسد النُسك بمحظور سواه.
وذكر التمتع بالعمرة إلى الحج لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون مُتمتعًا حتى يُحْرم بالعُمرة في أشهر الحج، وحتى لا يكون أهل حاضري المسجد الحرام، وهو الأُفقي فإنه الذي يظهر التمتع في حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج.
ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام، والوقوف بعرفة، ومُزدلفة، فإن هذا مختص بزمان ومكان، ولهذا قال: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] ولم يقل والعمرة؛ لأنها تُفرض في كل وقت ولا ريب أن السنة فرض الحج في أشهره، ومن فرض قبله خالف السنة، فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر؛ إذ ليس فيه نقض للمشروع وليس كمن صلى قبل الوقت، يعني: العلماء اختلفوا في صحة الدخول في نُسك الحج قبل أشهر الحج، فمنهم من أجازه، ومنهم من منع منه، فشيخ الإسلام يُشير إلى هذا ويقول: يفترق ذلك عن الصلاة قبل دخول الوقت، وذكر على كل حال أحوال هؤلاء، والأقوال في ذلك.
ثم يقول: أمر عند قضاء المناسك بذكره وقضاؤها والله أعلم قضاء التفث والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:203] وهذا أيضًا من العبادات الزمانية المكانية، وهو ذكر الله تعالى مع رمي الجمار، ومع الصلوات، ودل على أنه مكاني قوله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [سورة البقرة:203] وإنما يكون التعجيل والتأخير في الخروج من المكان، ولهذا تُضاف هذه الأيام إلى مكانها فيُقال أيام مِنى، وإلى عملها فيُقال أيام التشريق، كما يُقال ليلة جمع، وليلة مُزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، تُضاف إلى الأعمال، وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة تابعة للمكان.
يقول: فتدبر تناسب القرآن، وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها في موضعين مع ذكر بيته، وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة، فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضًا القتال في المسجد الحرام، والمُقاصة في الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المُتعلق بالمكان، ولهذا قرن سبحانه ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج، وذكر أن البر ليس أن يُشقي الرجل نفسه ويفعل ما لا فائدة فيه من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذي جُعل ميقاتًا للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى.
ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النِكاح، والوالدات، وما يتعلق بالأموال، والصدقات، والربا، والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المُتضمن وضع الآصار والأغلال، والعفو، والمغفرة، والرحمة، وطلب النصر على القوم الكافرين، الذين هم أعداء ما شرعه من الدين في كتابه المُبين[14].
هذا حاصل كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في مضامين هذه السورة وترابط الموضوعات التي فيها.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، رقم: (780).
- جاء عند أحمد (12215)، وابن حبان (744) من حديث أنس قال: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، جَدَّ فِينَا.
- شعب الإيمان (3/ 346)، رقم: (1805).
- موطأ مالك ت الأعظمي (2/ 287)، رقم: (695).
- تفسير القرطبي (1/ 153).
- تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (1/ 27)
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، رقم: (6129)، ومسلم، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه، وجواز تسميته يوم ولادته، رقم: (2150).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 64).
- انظر: مجموع الفتاوى (20/ 554).
- مجموع الفتاوى (14/ 41).
- أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله رقم: (6614)، ومسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام- رقم: (2652).
- مجموع الفتاوى (14/ 43).
- انظر: مجموع الفتاوى (14/ 41- 47).