بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الهدايات الداخلة تحت قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] فهذه أوصاف للمتقين الذين يكون القرآن هدى لهم فهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب، والإيمان بالغيب هنا يحتمل أن يكون بمعنى التصديق، والإذعان، والإقرار، والانقياد لكل ما كان من الغيب، إذ يدخل فيه الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ويدخل فيه الإيمان بالملائكة، ويدخل فيه الإيمان بالكتب، ويدخل فيه الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- ويدخل في ذلك أيضًا الإيمان بكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به مما لا يتوصل الناس إليه بعقولهم ومداركهم، أو لا يتوصلون إلى تفاصيله، فذلك يكون الواجب فيه الإذعان، والإيمان والتسليم، والتصديق لكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به، فما كل شيء تُدركه الحواس، وما كل شيء تصل إليه العقول، فإن هذه العقول والمدارك محدودة، وإنما يُتلقى ذلك من قِبل الوحي، فخبر الجنة والنار وما أعد الله -تبارك وتعالى- فيهما والقيامة والحساب والجزاء إلى غير ذلك.
فالغيب المُطلق مما يكون في الغد هذا من الغيوب، فما أخبر الله مما يكون في المستقبل متى تكون الساعة، هذا كله نؤمن به، ونُصدق بكل ما أخبر الله عنه، وكذلك الغيوب الماضية مما أخبر الله وقص كما سمعتم في هذه الآيات الكريمة من سورة الكهف خبر هؤلاء الفتية، الذين قص الله خبرهم على نبيه ﷺ.
وكذلك أيضًا سائر الأخبار والقصص فيما قص الله من أخبار الأنبياء والرُسل -عليهم الصلاة والسلام- مع أُممهم وأقوامهم، إلى غير ذلك من الأمور والغيوب الماضية، فهذه كلها نؤمن بها ونُصدق هذه الأخبار تصديقًا جازمًا لا يتطرق إليه شك.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] يعني: أنهم إذا كانوا في حال الخلوة غابوا عن الأنظار يكونوا على حال من الاستقامة وحفظ حدود الله -تبارك وتعالى- الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني: ليسوا كالمنافقين يعلنون بالعلانية، ولكنهم إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [سورة البقرة:14] وذلك كما قال الله -تبارك وتعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [سورة ق:31- 33] فهذه الآية من "سورة ق" قطعًا هي في هذا المعنى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [سورة ق:33] إذا غاب عن الأنظار فإنه يكون حافظًا لحدود الله مُراقبًا له وهذا هو الإيمان الذي ينفع صاحبه ويزجره عن ما لا يحل، فلا يكون حاله إذا خلى بحدود الله ومحارمه انتهكها.
أما آية البقرة فإنها تحتمل المعنيين وإن كان ظاهر السياق، إنما هو في المعنى الأول: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] فيدخل فيه الإيمان بالله ويدخل فيه الإيمان بما يجب الإيمان به مما ذكرته آنفًا، ولكن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وغير مُمتنع -والله أعلم- أن تُحمل الآية على المعنيين لكن لو أردنا الترجيح فإنها تكون في المعنى الأول، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، ولكن لما ذكر الله -تبارك وتعالى- شاهد المعنى الثاني: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [سورة ق:33] فدل على أن هذا من الأوصاف المعتبرة للمتقين وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [سورة ق:31] من هؤلاء؟
هؤلاء هم أهل التوبة المتكررة، الأواب الرجاع الحفيظ الذي يحفظ حدود الله فيقوم بما أوجب الله عليه، وهو أيضًا حافظ لحدود الله فيُجانب مساخطه وما حرم عليه، فلا يكون قائمًا بالطاعات والواجبات إذا كان مع الناس وبحضرتهم ومُجانبًا لمساخط الله إذا كان في حال خلوة، أما إذا خلى ضيع أمر الله وارتكب نهيه، هذا لا يكون لأهل الإيمان الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
والإيمان بالغيب هو الحد الذي يتميز به أهل الإيمان، أهل الإقرار والانقياد والإذعان، هؤلاء يؤمنون بالغيب ولا يقفون عند حدود العالم المادي المُشاهد المحسوس، هذه العقول ماذا عسى أن تُدرك؟! وإلى أي حد يمكن أن تصل؟!
انظروا في مثل هذه الأوقات، لو أن أحدًا قبل نحو عشرين سنة يحمل الجهاز المحمول ويتحدث يقول: لا يوجد إرسال، لا يوجد شبكة، جاءت الشبكة، يوجد هنا نِت، لعد الناس ذلك من قبيل التخليط فيقولون: لا نرى شبكة، ولا نرى إرسالاً، ولا نرى شيئًا، تتحدث عن ماذا، نقول: هناك أشياء غير محسوسة، فنحن لا نرى هذه الأمور، لكن نحن نرى آثارها، ونشعر بها، ومن ثَم فإننا لا نشك فيها طرفة عين، فما كل ما لا نُشاهده ويغيب عن الحواس يكون منفيًا ومعدومًا، هناك أشياء كثيرة نحن لا ندرك حقيقتها ولا كُنهها، النفس التي بين جوانح الإنسان، الروح التي تعمر البدن ما حقيقتها؟ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء:85] الذي عليه الجمهور في تفسير هذه الآية عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا الروح من أمر ربي أنها من أمور الغيب، لا مجال للعقول بإدراكها، مع أنها قضية لا نُشاهدها، نرى هذا الإنسان الذي يضحك ويتحدث ويُفكر ويمرح ويحزن ويفرح يذهب ويجيء فإذا فارقت الروح الجسد في لحظة تحول إلى جماد، ما الذي حدث؟ أين هذه الروح لما نُشاهدها تخرج؟
ولو فتشت في جسد هذا الإنسان تبحث عن روحه فإنك لن تجد شيئًا تُحسه، فالماديون لا يؤمنون بالغيب، وأهل الإيمان يؤمنون بالغيب فهذا حد وفارق أساس بين المؤمنين وغير المؤمنين.
وهناك طوائف أرادوا أن يتوسطوا بين أهل الإيمان وهؤلاء من أهل المادة، إما بقصد تقريب حقائق الدين إلى هؤلاء الكفار، وإما أن يكون ذلك للوثة عند هؤلاء تجعلهم قد لا يُذعنون ولا يُسلمون بما لا مجال لإدراكه في معايرهم المزعومة الداخلة تحت الحس والتجربة، فيؤولون الحقائق الغيبية، الملائكة، الجن، الأمور التي أخبر الله عنها، الطير الأبابيل، المُعجزات، كل ذلك يجترئون عليه ويُحرفونه تحريفًا مؤداه الإنكار والنفي والتكذيب، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
ولذلك ذكر هذه الصفة أول ما ذكر في صفات المتقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] أول قضية، ولذلك ينبغي أن يكون هذا هو الأساس والمُنطلق قبل مناقشة التفصيلات، أن يكون الإنسان مُتحققًا بهذا الإيمان، وليس للعقل أن يكون حاكمًا على هذه الأمور، فيقول إن عقلي لا يُدرك هذه الأشياء ولا يصل إليها، وما مقدار هذا العقل، وما الذي يمكن أن يصل إليه هذا العقل، نحن في أشياء نوقن بها ونعلمها، نعلم أن الكرة الأرضية على هيئة الكرة، وأنها كما هو معلوم، وأن من الناس من يكون في أسفلها، ومن يكون في أعلاها، وقد نكون نحن الآن في هذه اللحظة في أسفلها، هؤلاء الذين يكونون في أسفلها مُقتضى النظر العقلي في بادئ الرأي أنه يكون مقلوبًا وأن كل شيء ينطرح ويسقط ولا تقل الجاذبية فالناس لا يرون أنفسهم تكون وتصير رؤوسهم إلى أسفل مع كون أرجلهم إلى الأعلى، فهل تستطيع أن تُفسر هذه القضية بما يُقنع الناس ويُدركونه إدراكًا قريبًا إلى أفهامهم؟
كيف يكون هذا الناس في أسفل الأرض في أسفل الكرة الأرضية وهم يرون أنفسهم في أعلاها! مع أن هذه قضية مُدركة للناس من جهة العلم، يعني: أنهم يعلمون بذلك، لكن كيف يكون ذلك بالنسبة إليهم متصورًا؟!، فهناك أشياء نحن قد لا نتصورها ونقف دونها، فالعقل لا يُدرك كثيرًا من الأشياء التي يُقر بها الإنسان، ولا يشك فيها، فأخبار الله وأخبار رسوله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى أولى بالتصديق من أخبار غيرهم من أصحاب العلوم المُتنوعة؛ لأن هذا خبر من خلق: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14] الذي يعلم دقائق الأشياء الخبير الذي يعلم الخفايا خفايا الأمور.
إذن قضية الإيمان بالغيب هي قضية أساسية، قضية أساسية، ولا يصح إيمان العبد إلا إذا آمن بالغيب، لا يمكن وإنما يكون الوحي من قبيل الغيب، ويكون أيضًا الإيمان بكثير من هذه الحقائق التي جاء بها الوحي إنما هو من قبيل الغيب.
فالإيمان بالغيب هو مُفترق الطرق، الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بالمحسوسات هؤلاء في الواقع يُدركون بعد ذلك أن هذا الحِس يُخطأ أيضًا، فهو يرى الأشياء على غير حقيقتها، يرى النجم من بعيد صغيرًا غائرًا، ويرى الإنسان على هيئة الشجرة، ويرى العصى في الماء مُنكسرة، ويرى السراب يحسبه ماء وليس كذلك، فالبصر يحصل له من الخِداع وكذلك سائر الحواس يتوهم سماع أشياء وأصوات قد لا يكون الأمر كما سمع، وقل مثل ذلك في بقية حواسه.
فالحس يُخطأ كما أن العقل يُخطأ ولا أدل على ذلك من كون هؤلاء أصحاب العقول الذين يزعمون أنهم أصحاب مقاييس عقلية اختلفوا غاية الاختلاف، فلو كانوا يرجعون إلى شيء يصح الاعتماد عليه في هذه الأبواب لما وقع بينهم هذا الاختلاف والتراشق والتكفير كل طائفة تُكفر الأخرى، والمعتزلة فِرق، والمتكلمون على مختلف أصنافهم هم على فرق كثيرة، يختلفون والأشاعرة مدارس، وهكذا.
فأين هذه العقول؟ وأين أولئك الذين يزعمون أنهم أصحاب يقينيات؟
ثم أيضًا هذا الإيمان بالغيب هو حظ القلب، التسليم والانقياد.
ثم ذكر إقامة الصلاة فهذه حظ النفس والبدن، ثم ذكر الإنفاق: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] فهذا حظ المال فجاء ذلك مُرتبًا بهذه الطريقة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] فهنا في الصلاة إذا ذكرها ذكر معها الإقامة، ولم يقل في موضع واحد الذين يؤدون الصلاة، إنما وَيُقِيمُونَ الصَّلاة.
فإقامة الصلاة أن يأتي بها مستوفية لشروطها، وأركانها، وواجباتها، بخشوعها، وحضور القلب فيها، فهذا وصف لهؤلاء، وقال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] فالحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فالحكم تنهى عن الفحشاء والمنكر، والوصف الإقامة، فبقدر إقامتها يكون أثرها من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا ضعُفت هذه الإقامة ووقع الإخلال بها حصل بعد ذلك الضعف في آثار هذه الصلاة.
وهنا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [سورة البقرة:3] ذكر الصلاة بعد الإيمان بالغيب، فهي أهم المُهمات، هي الرُكن الأول بعد الشهادتين، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فحينما ذكر هذا في صفة المتقين هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] الذين يهتدون بالقرآن فالذي لا يؤمن بالغيب، ويقول: أُحاكم هذه النصوص إلى رأسي أو إلى عقلي أو إلى دماغي أو إلى ما شاء من العبارات، وأين توهم عقله في أي ناحية من جسده؟! فمثل هذا في واقع الأمر لم يُحقق الإيمان بالغيب، ولذلك هؤلاء لا ينتفعون بالقرآن الانتفاع المطلوب، تجد هؤلاء يبحثون عن تغريدات وكلمات، وكتب مترجمة، قال فلان، وقال موريس، وقال جُورج، وقالت ميري، هذا الذي يتناقلونه ويجدون فيه لربما شيئًا من الترفع والتعاظم حينما ينقلون، ويستشهدون بعبارات مثل هؤلاء.
أما إذا نظرت في حالهم مع القرآن فكما هو حال كثير من المُتكلمين وبُعدهم عن الوحي وجهلهم به، ذاك الذي يقرأ: "المص" يريد أن يقرأ: ألف لام ميم صاد.
فذكر إقام الصلاة، فالذي لا يُصلي عفيف الجبهة؛ مثل هذا لا يكون القرآن هدى له، لا ينتفع به هو بعيد عن القرآن، لربما إذا كان يصوم ويُصلي في رمضان ذهب يبحث هنا وهناك، أو يأتي إلى مطوع المسجد كما يقولون، ويقول له: أريد أن آخذ هذا المصحف لأقرأ فيه، هو ليس عنده مصحف أصلاً، هذا يعيش بعيدًا عن القرآن حياته بعيدة عن القرآن، فإذا جاء رمضان بحث عن مصحف يريد أن يتعبد باعتبار أنه كتاب مُقدس يؤجر الإنسان على قراءته، أما أنه منهج حياة فهؤلاء قد لا يُدركون هذا ولا يتصورونه، وليس الواحد منهم بحاجة بعد ذلك إلى أن يتدبره، وأن ينظر فيه من أجل أن يعيش على هذا النهج، ويستنير بهذا النور، هذا كتاب نزل في مرحلة في نظرهم انقضت، وعلى قوم كانوا يعيشون بأوضاع معيشية بسيطة، أما تعقيدات الحياة في مثل هذه الأوقات فإن القرآن لا تعلق له بها، هكذا يتصور هؤلاء، فمثل هؤلاء لا يهتدون بالقرآن، هذا الإنسان الذي لا يُصلي لا يهتدي، ولا ينتفع بالقرآن وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [سورة البقرة:3] يُقيمها، ودل ذلك على هدى للمتقين؛ فبقدر إيمانه بالغيب ينتفع بالقرآن، بقدر إقامته للصلاة ينتفع بالقرآن حتى نعرف من أين نؤتى؟! وكيف نصل أيضًا؟!، لمن أراد الوصول، إقام الصلاة، هذا الإنسان الذي يُحافظ عليها ويأتي بها كما أمر الله -تبارك وتعالى- مستوفيًا لما ذُكر، مثل هذا ينتفع كثيرًا بالقرآن، ويكون القرآن حياة له.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] جاء بمن الدالة على التبعيض؛ لأن ليس كل ما عند الإنسان من مال هو مُطالب أن يُنفقه، وإنما يُنفق بعضه، هذه النفقة بعضهم حملها على النفقة الواجبة من الزكاة، ومن النفقات الواجبة على الزوجات، والأولاد، ومن يجب عليه الإنفاق عليه من قرابته ونحو ذلك.
وبعض أهل العلم قال: إن الله أطلق ذلك، فحُذف المتعلق فيدخل فيه النفقات الواجبة بأنواعها، ويدخل فيه النفقات المُستحبة، وهذا أقرب - والله أعلم - وكأن الذي حمل الأولين على المعنى الذي قالوه من أن ذلك في الواجبات أن الله يقرن بين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة كثيرًا، فقالوا: هذا يُلحق بنظائره، وليس هذا موضع تفسير ولكن الله حينما أطلق هذا كان المعنى فيه - والله أعلم - أوسع، فهذا مقام ثناء على هؤلاء.
ثم ذكره بعد إقام الصلاة وأيضًا بعد الإيمان بالغيب فهؤلاء الذين ينفقون مما رزقهم الله -تبارك وتعالى- ؛ لأنهم يؤمنون بالغيب، الذي يؤمن بالغيب يعلم أنها مخلوفة، أعني النفقة وأن العِوض يأتي بعدها مُباشرة، وأن الأجر يكون مُدخرًا في الآخرة، وأنها مُضاعفة، فالله يعدنا مغفرة منه ورحمة، ويعدنا الخلف والعِوض فهو يُخلفه، والشيطان بمُقابل ذلك يعدنا الفقر، ويأمرنا بالفحشاء.
فهذه وعود الله وهذا وعد الشيطان، فمن ضعُف يقينه وإيمانه بالغيب أولئك الذين لا تتجاوز أنظارهم آنافهم، نظره قصير يريد النقد لا النسيئة، يريد الشيء العاجل لا يريد شيئًا مُدخرًا عند الله -تبارك وتعالى- فهذا إذا أراد أن يُخرج الريال يعلق بيده، يعني: الآخذ لربما يحاول أن يستخرجه فهو مُلتصق بيده لشدة حرصه عليه، فإذا أراد أن يتصدق بدأ يبحث عن الفئات الأقل في جيبه أو في محفظته من أجل أن يتصدق بها، لكن لو كان ذلك في طمع في الدنيا في مُساهمات أو غير ذلك لذهب يقترض، ولربما باع سيارته، أو باع بيته من أجل أن يضع ذلك في مُساهمة لربما لا يربح منها شيئًا بل لربما يخسر ويذهب المال، أما الضمان من الله -تبارك وتعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:261] من الذي يُعطي إلى سبعمائة، من؟! في المُساهمات والتجارات؟ لا يوجد أحد، ولو وجد أحد يفعل هذا لباع الناس ثيابهم من أجل الدخول في مثل هذه المُساهمات والتجارات.
أختم بهذه الجُزئية الاقتران الكثير في القرآن بين إقام الصلاة والإنفاق، أو إقامة الصلاة والزكاة وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] والعلماء -رحمهم الله- ذكروا لذلك أجوبة متعددة:
فمن ذلك ما ذكره بعض أهل العلم أن الصلاة صِلة بين العبد وربه، والزكاة والنفقة إحسان إلى المخلوقين وسعادة العبد دائرة بين الأمرين حُسن الصلة بالله والإحسان إلى المخلوقين، هذا مدار السعادة، ولذلك أقول: ما رأيت أسرع في السعادة وزوال الغم من الإحسان إلى الناس بأنواعه، الإحسان المُباشر الذي تتولاه بنفسك، إذا وجدت ضيقًا فاذهب وابحث عن محتاج ولو أعطيته شيئًا يسيرًا ستجد الأثر المُباشر هناك معالجات بعيدة المدى تقوى في صلاح الحال مع الله وقراءة القرآن، كثرة الذكر، هذه آثارها بعيدة وتحتاج إلى مُجاهدات، وصبر حتى ترتاض النفس، لكن هناك أشياء سريعة لحظية، اذهب وابحث عن محتاج وأعطه، اذهب إلى أسرة فقيرة وقدم لهم واشتر لهم ما يحتاجون إليه، وقل لهم: تفضلوا ويعرفونك ولا يرون من أنت، وستجد الأثر البالغ في السعادة الغامرة، بل في أقل الأشياء: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المجادلة:11] يفسح في الرزق، وفي الصدر، وفي القبر، ويفسح لكم في الأجر، فيجد الإنسان راحة إذا أحسن إلى الآخرين، وإذا لم يفعل وجد ضيقًا وحرجًا في نفسه.
فالنفس تُقعد الإنسان أحيانًا عن مثل هذه المقامات، فهنا ذكر ما يكون عليه مدار السعادة من الصلة بالله والإحسان إلى المخلوقين، هذا وجه.
الوجه الآخر: هو أن الصلة رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، فالعبادات إما مالية وإما بدنية على خلافًا في المُركب هل الحج مُركب منهما، لكن الأصل أنها عبادات إما مالية وإما بدنية، هذا الأصل، فهذه العبادات المالية رأسها الزكاة، والعبادات البدنية رأسها الصلاة فذكر رأس هذه ورأس هذه، وما دون ذلك يُلحق به، فيكون ذلك إشارة إليه، - والله تعالى أعلم -.
وهكذا قول من قال بأن الزكاة هي طُهرة للمال، والصلاة طُهرة للنفس والبدن، فيجمع بين الطهارتين، والله يقول: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] فيحتاج إلى تطهير هذا المال، ويحتاج إلى تطهير هذه النفس.
وهكذا قول من قال: بأن الصلاة شكر لنعمة البدن والزكاة شكر لنعمة المال، باعتبار أن الصلاة هي عبادة بدنية، ولهذا كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: "يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة وهي الإحسان إلى الخلق، وبينهما وبين الصبر تارة ولابد من الثلاثة"[1] الصلاة والزكاة والصبر.
ويقول: "لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم لاسيما كلما قويت الفِتنة والمحِنة فالحاجة إلى ذلك تكون أشد"[2] الحرص على هذه الصلاة والزكاة والصبر، على كل ما يجب الصبر عليه، الصبر على طاعة الله، الصبر في إخراج الزكاة، والنفقات، ماذا قال الله في مدح المنفقين: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:265] وقد تكلمنا على هذا وما يحتمله من المعنى في الكلام على الأمثال في القرآن.
ومن المعاني القريبة له: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:265] أن النفس يحصل لها اضطراب عند الصدقة، يبدأ الإنسان يُراجع حسابات قبل أن يتصدق، تبدأ نفسه تتردد فيحتاج إلى أن يثبت في مثل هذا المقام.
والمقصود أن الصلاة كما يقول ابن كثير -رحمه الله: "هي حق الله وعبادته وهي مُشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعاءه، والتوكل عليه، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المُتعدي إليهم"[3] والشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- علل ذلك يعني هذا الاقتران فقال: "الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة، لكونهما أفضل العبادات، وأكمل القربات، عبادات قلبية، وبدنية، ومالية، وبهما يوزن الإيمان، ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان"[4] هذا ما يتعلق بهذا القدر.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مُهتدين، - والله أعلم - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- مجموع الفتاوى (28/ 154).
- انظر: مجموع الفتاوى (28/ 154).
- تفسير ابن كثير (1/ 168، 169).
- تفسير السعدي (ص: 83).