بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] وقد بقي الكلام على ما يؤخذ من هذه الجملة الأخيرة في هذه الآية.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] فالله -تبارك وتعالى- ذكر ذلك في صفات المتقين الذين يكون القرآن هدى لهم، وقد جاء الحث على الإنفاق في كتاب الله -تبارك وتعالى- في مواضع كثيرة كما هو معلوم، وذلك لما له من أهمية في جميع المجالات فالله -تبارك وتعالى- قد حث عباده على الإنفاق ثم قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195].
ومن أقوال بعض المفسرين فيها ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]: "إنكم إن امتنعتم عن الإنفاق في سبيل الله غلب عليكم عدوكم فاجتاحكم وأخذ ما في أيديكم، وحصل ما حصل من قتل النفوس وإزهاقها"[1] وأخذ ما بأيديكم من الأموال، وما إلى ذلك، فيحصل بسبب ذلك الامتناع عن الإنفاق التهلكة، يحصل بسبب ذلك الهلكة المُحققة، فلا تقوم مصالح الناس إلا بالإنفاق من رعاية الضعفاء: الفقير والأرملة والمسكين واليتيم وابن السبيل، وكذلك أيضًا مصالح الأمة المتنوعة من الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- وقيام مصالح الأمة في شؤونها التعليمية والصحية وغير ذلك من الأمور التي لابد لها منها، فهذا كله يتطلب إنفاقًا.
وهنا الله -تبارك وتعالى- ذكر في هذا الإنفاق قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] "مما" يعني: ومن ما، فدخلت من هذه التي يقول بعضهم: إنها بيانية.
وبعضهم يقول: إنها تبعيضية، وهذا هو الأرجح، وذلك أنه لا يُطلب أن يُنفق المُسلم كل ما في يده، وإنما هو شيء من بعض مما يملكه وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ أما الزكاة فهي نِسبة قليلة كما هو معلوم، وهذا فيه ما فيه من تخفيف هذا الإنفاق على النفوس؛ لأن النفوس قد أُحضرت الشُح، فيخف ذلك عليها ويسهل فإنما ذلك شيء قليل بالنسبة لما أعطى الله -تبارك وتعالى- عباده وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3].
ثم هذا الإنفاق الذي يُنفقون وهو بعض ما يملكون أخذ منه بعض أهل العلم أنه لا يُطلب من المُكلف شرعًا أن يُنفق كل ما في يده، والله -تبارك وتعالى- لما ذكر الإنفاق على القرابات وما إلى ذلك مما ذكره في جملة الوصايا في سورة الإسراء، قال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29] ملومًا يدخل فيه ما قاله المفسرون: تلومك نفسك، ويلومك من يجب عليك أن تُنفق عليهم أنك لم تُبق لهم شيئًا مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29] يعني أنك تنقطع عن حوائجك ومصالحك؛ لأنه ليس في يدك ما تُنفقه، محسورًا، كما يُقال في الدابة التي أصابها الكلال والضعف لطول المسير بأنها صارت حسيرة،
بها جيف الحسرى[2] |
يعني: الدواب التي انقطعت من طول السفر.
يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] كليل، لا يجد شيئًا من العيوب التي في هذا الخلق الشاسع الواسع الفسيح.
فهنا فهم بعض أهل العلم فهموا أنه لا يُشرع أن يُنفق الإنسان كل ما في يده لهذه الآيات، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- تفصيلاً في هذا، وأن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمن كمُل يقينه بأن الله -تبارك وتعالى- بيده العِوض والأجر يُعجل له ما يُعجل في الدنيا، ويُدخر ما يُدخر في الآخرة، فهو عظيم الثقة واليقين إذا أنفق كل ما في يده فإنه لا يلتفت ولا يتطلع إلى الناس، فمثل هذا يُنفق لو أنفق كل ما في يده فلا يكون بذلك ملومًا، ولا يكون فعله معيبًا، واستدل على ذلك: بفعل أبي بكر لما جاء إلى النبي ﷺ بالنفقة لما دعا النبي ﷺ فقال: ما تركت لأهلك؟، قال: تركت لهم الله ورسوله ﷺ فأقره النبي ﷺ على هذه النفقة، أنفق كل ما يملك، وجاء عمر بنفقة أيضًا فسأله النبي ﷺ: ما تركت لأهلك؟، قال: تركت لهم مثله، يعني: أنه أنفق شطر ماله، فأقره النبي ﷺ مع أن النبي ﷺ قال لغيره في الوصية: الثُلث والثلث كثير [3] وعلل ذلك ﷺ بأنه: إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس [4].
فالمقصود أن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمن كان قوي اليقين بحيث إذا أنفق لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس أن يعطوه أن يمنحوه فإن هذا لا بأس أن يُنفق كل ما في يده، ومن ضعُف يقينه فإنه يُنفق شيئًا لا يحصل عليه به ضيق، - والله تعالى أعلم .
المقصود أن الشريعة لم تُكلف الناس حرجًا، ولم تُطالبهم بجميع أموالهم، وجاء التعبير هنا: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] مما رزقناهم فأضاف ذلك إليه، أنه هو الذي رزق، وهو الذي أعطى، فهو المُمتن على عباده فهذه النفقة التي يدعوهم إليها أو يُثني عليهم بها أو يجعل ذلك صفة من صفات المتقين الذين ينتفعون بالقرآن، إنما هو مما رزقهم الله فإذا استشعر العبد هذا المعنى أن هذه النفقة التي يُخرجها هي رزق من الله هي بعض الرزق التي أعطاه الله له، فالله يرزق عباده ثم بعد ذلك أيضًا يُرشدهم ويدعوهم إلى النفقة في سبيله ويأجرهم على ذلك أعظم الأجور، بل هم الذين ينتفعون بهذه النفقة، فيحصل لهم بسبب ذلك تطهير النفوس من الشُح والبُخل، ويحصل بذلك تطهير المال مما شابه، ويحصل فيه البركة لهذا المال.
وهذه الأموال ليست بقوة الإنسان، ولا بذكائه، ولا بحذقه بطرائق الكسب وما إلى ذلك إنما هي أرزاق يهبها الله لمن شاء من عباده، فينبغي إذا رزق الله عبدًا أن يكون سببًا في التوسعة على إخوانه الذين قد ضاقت معايشهم، وألمت بهم المُلمات، ويحمد العبد ربه على أن فضله وصار هو المُعطي، وذلك من جملة شكر الله -تبارك وتعالى- على هذه النِعم والأرزاق.
ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] باعتبار أن هذه الآية لا تختص بالزكاة كما قاله بعض أهل العلم فيؤخذ من هذا أن سائر النفقات لا تُقدر النفقات الأخرى غير الزكاة لا تُقدر، الزكاة قد قُدرت بمقادير معلومة في أصناف المال المُخرج، وأما في غير الزكاة فإن ذلك يكون بما يتيسر للإنسان سواء قل ذلك اتقوا النار ولو بشق تمرة[5] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة:7، 8].
وعائشة -رضي الله عنها: "تصدقت بعِنبة وقالت: كم فيها من مِثقال ذرة"[6].
فالإنفاق في سبيل الله لا تحقرن من المعروف شيئًا، فهذا يكون بالقليل ويكون بالكثير لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ [سورة الطلاق:7] يعني: ضُيق عليه رزقه، فليُنفق مما آتاه الله، فالله -تبارك وتعالى- يُنمي هذه الصدقات ولو كانت قليلة فلا يحقر المؤمن شيئًا من ذلك.
ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] هنا حُذف المُتعلق فلما يذكر المُنفق عليهم ولم يُذكر أيضًا الأموال المنفقة أو لم يذكر ما يُنفق، فهؤلاء مما رزقناهم يُنفقون، يُنفقون على الوالدين، يُنفقون على الأولاد، على الزوجات، فهذه نفقات يؤجر عليها الإنسان وقد قال النبي ﷺ: حتى اللُقمة تضعها في فيّ امرأتك يكون لك بها أجر[7] فيؤجر الإنسان على نفقته على أولاده على أهله، على والديه، على قرابته، ويكون ذلك من قبيل الصِلة، ومن قبيل أيضًا النفقة والصدقة ونحو ذلك.
في كل كبد أجر[8] فكيف إذا كان ذلك في القرابة، فلا يستثقل المرء النفقة على الأولاد أو النفقة على الزوجات، أو النفقة على القرابات فهذه من أحسن النفقات ومن أجلها وأرجحها، وقل مثل ذلك فيما يُنفق في قِرى الضيف ونحو هذا، فمن الناس من يستثقل هذا، بل من الناس من يستثقل النفقة التي تكون من قبيل الصدقة المُباشرة في سبيل الله -تبارك وتعالى- ويعد ذلك مغرمًا كما ذكر الله في صفة المنافقين، فهي عنده غير مخلوفه وعلى غير معاوضة، ومن ثَم فهو يشعر أنها قد اُقطعت من ماله وليس لها عائدة تعود عليه؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالأجر والثواب، وإنما يفعل ذلك ليدفع عن نفسه تهمة أو نحو هذا - فنسأل الله العافية.
هذا ليس عنده شيء من اليقين، لكن المؤمن حينما يُقري ضيفه أو نحو ذلك فإنه يشعر أن هذه عبادة يستشعر أنها عبادة ويتقرب إلى الله فيها، وأن ذلك يعود إليه بالأجر والثواب والبركة، وكذلك حينما يُنفق في وجوه البر المتنوعة، فالله -تبارك وتعالى- لم يذكر هنا المُنفق عليهم، كما لم يذكر أيضًا الأموال المُنفقة، ما هي الأموال التي تُنفق؟ ما هي الأشياء التي تُنفق، فهنا يكون المُنفق هو المال، ويدخل في الإنفاق وإن كانت هذه الآية في المال ولكن ذلك يؤخذ ويُعتبر بأنواع من الدلالة أن الذي رزق الله العبد قد يُرزق الجاه فيُنفق من هذا الجاه فيكون يشفع للناس وما إلى ذلك، وقد يُرزق العلم فيبذل هذا العلم للناس وينتفعون به؛ فالعلم رزق من الله -تبارك وتعالى- والجاه رزق من الله وهكذا مما رزق الله فالعبد يُنفق ويبذل ولا يبخل بشيء من ذلك، فهذا الإنفاق أسبابه كثيرة والمُنفق أنواعه وصنوفه كثير، وكذلك هؤلاء الذين يُنفق عليهم أهل الإنفاق أهل الاستحقاق، هؤلاء كُثر، فهو يبذل ويُقدم ويرجو ما عند الله -تبارك وتعالى- في ذلك كله ولا يرجو منهم جزاء ولا شكورا.
وهنا أنه قُدم المعمول في قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] مما رزقناهم، قدمه على قوله: يُنفقون، الفعل وذلك للاهتمام به ومن عادة العرب أنهم يقدمون المُعتنى به والأهم وما إلى ذلك؛ فإن تقديم ما حقه التأخير يدل على الاهتمام والمزية ونحو ذلك، فهذا يدل على أنه أهم، وذلك أيضًا يُفيد الاختصاص، يعني: لم يقل يُنفقون مما رزقناهم، قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فهذا يُشعر كأنه يُشعر أيضًا بالعِلية، وما يكون ذلك ما يسهل به الإنفاق أن ذلك رزق من الله قبل أن تُفكر أنه قد خرج من يدك ونحو ذلك، فهذا امتنان من الله -تبارك وتعالى- على عباده.
وفيه حُسن الترتيب في هذه المذكورات، فالله -تبارك وتعالى- لما ذكر صفة المتقين الذين ينتفعون بالقرآن قدم الأهم الذي لا يمكن أن ينفك بحال من الأحوال في لحظة من اللحظات، فقال: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:2، 3] وهذه قضية مُلازمة لكل مؤمن للغني والفقير والعالم والجاهل للكبير والصغير فالمؤمن يؤمن بالغيب فهذا أصل كبير لا يثبت الإيمان ولا يصح إلا به، ويدخل في هذا الغيب الإيمان بالله، والإيمان بملائكته، ما إلى ذلك من أنواع الغيوب، فقدمه.
ثم بعد ذلك ذكر الصلاة فهي لازمة للمُكلفين في أوقات مُحددة، ليست كالإيمان بالغيب الذي ينبغي أن يكون مُلازمًا للعبد في كل أحواله في قيامه وقعوده وذهابه ومجيئه في ليله ونهاره، إنما الصلاة تكون في أوقات قد حددها الشارع وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [سورة البقرة:3] وهذه الصلاة يمكن أن تكون الصلاة المكتوبة، وهذا هو المُتبادر، ويمكن أن يدخل معها أيضًا صلاة النافلة.
ثم أيضًا ذكر النفقة بعد ذلك: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] لأنه ليس كل أحد يملك المال، ثم إن النفقة هذه إن حُملت على الزكاة فهي تكون في وقت مُحدد فيما يُطلب فيه دوران الحول يُشترط فيه، فإن ذلك يكون في السنة مرة واحدة، وإذا كان ذلك من غيره كالزروع ونحوها فإن ذلك مما يجب فيه الزكاة فإن ذلك يكون في إبانه كما هو معلوم.
ثم أيضًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] عُبر بالفعل المضارع ينفقون فهذا يدل على أن النفقة تتجدد، يعني: هو لا يُخرج الزكاة مثلاً إن قيل هذه الآية في الزكاة لا يُخرجها مرة واحد ثم يقول بعد ذلك أنا أخرجت قبل عشر سنوات أموالي بالملايين، زكاتي بالملايين، لو أردت أن أُخرج كل سنة هذا المِقدار ما يبلغ مثلاً عشرة ملايين أو يبلغ سبعين مليونًا أو نحو ذلك، هذا أموال كبيرة لا أُطيقها، أنا أخرجت قبل عشر سنوات زكاة غيري لا يُخرج أبدًا، من الناس من يتحدث بهذا المنطق، كأنه يمتن على الله -تبارك وتعالى.
وبعضهم قد يقول: أنا أخرجت هذه السنة مليون ريال ولربما كانت زكاته عشرات الملايين، وكأنه يمتن على الله ويقول: نفسي لا تُطيق، وغيري لا يُخرج شيئًا، فهذا لا يُعذر به الإنسان، كذلك في الصدقات والنفقات ولاحظوا حينما ذكر الله كما سيأتي في هذه السورة في آيات الإنفاق في أواخرها قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:274] يُنفقون أموالهم بالليل والنهار، يعني: متى ما وجدت الحاجة لا ينتظر إلى الوقت الآخر، إذا كانت الحاجة في الليل لا يقول: تعال بكرة الصباح في الصباح يكون خير، لا، يُخرجها في الليل، وإذا كانت الحاجة في النهار أخرجها في النهار، ولربما بعضهم يريد أن يؤخر إلى الليل يقول: لأنه أستر فأريد أن أُخرج هذه النفقة والمُساعدة لهذا المحتاج المسكين دون أن يراني الناس، أُخرجها إذا سكنت الرِجل وهدأ الناس.
يُقال: لا، تُخرجها في وقت حاجتها إن كان في ليل أو نهار، إن كان ذلك في مقام العلانية أخرجها في العلانية، وإن كان ذلك في مقام السر أخرجها في مقام السر، فلا يؤخر ذلك من أجل أن يُخرجها سرًا، فإن دعت الحاجة علانية أخرجها علانية، فذكر الله جميع هذه الأحوال، فالمؤمن يُنفق ثم يُنفق ثم يُنفق، وينبغي على العبد أن يُراجع نفسه في نفقاته عبر العام، ما الذي أخرجه خلال سنة، فمثل هذا يستبين للعبد به حاله، وهل هو من أهل هذه الأوصاف، وكما ذكرنا في البداية أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر أن هذا القرآن هدى للمتقين، ثم ذكر هذه الأوصاف قلنا: إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فمن أراد الاهتداء بالقرآن فعليه أن يتحقق بالتقوى، أن يكون ممن يؤمن بالغيب إيمانًا كاملاً، وكذلك أيضًا أن يُقيم الصلاة على الوجه المشروع كما أمر الله -تبارك وتعالى- مستوفية للشروط والأركان والواجبات، كذلك أيضًا فيما يتعلق بالإنفاق فالذين يتحققون بهذه الأوصاف يكون القرآن هداية لهم.
نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- انظر: تفسير القرطبي (2/ 362)، وتفسير ابن كثير (1/ 529).
- انظر: تفسير القرطبي (1/ 190)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 20).
- أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، برقم (5354)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1629).
- تمام الحديث السابق.
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).
- تفسير ابن كثير (8/ 462).
- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2742)، برقم (5354)، في كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).
- أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244).