الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[9] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ..} إلى قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
تاريخ النشر: ٢٨ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 2372
مرات الإستماع: 1931

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- وصف المؤمنين الذين يهتدون بالقرآن، وهم أهل التقوى، قابل هؤلاء بأضدادهم وهم الكفار، فهذه هي الفئة الثانية التي ذكرها الله ووصفها في صدر هذه السورة الكريمة سورة البقرة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] هؤلاء الذين يُصرون على الكفر والضلالة، وقد قضى الله -تبارك وتعالى- بعدم اهتدائهم، يستوي الحال: حال الإنذار وترك الإنذار في حقهم فهم لا يؤمنون.

هؤلاء الكفار ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو وتقدست أسمائه، الذي يعلم الخفايا والخبايا وما تُكنه الصدور وتنطوي عليه القلوب، فذكر أن هؤلاء لا يُجدي معهم دعوة ولا نُصح، ولا يفيد معهم ولا يُجدي الإنذار إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] وفي هذا تسلية للنبي ﷺ من أجل أن لا يبتأس ولا يحزن لعدم إيمانهم، فقد أخبره الله -تبارك وتعالى- سلفًا بأن دعوته لن تُجدي مع هؤلاء الناس، وإنما غاية ما هنالك أن ذلك يكون فيه من إقامة الحجة عليهم وقطع المعاذير، أما القلوب فإنها مُغلقة مُغلفة كما سيأتي قد طبع الله عليها وختم كما ختم على الأسماع وجعل على الأبصار غشاوة.

فإذا علم النبي ﷺ مثل ذلك لم يثقل عليه إعراضهم، وقد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله -تبارك وتعالى- ينهاه ربه عن الحُزن لعدم إيمان هؤلاء الكفار: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [سورة الكهف:6] أي: مُهلك نفسك عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] وإذا عرف المؤمن ذلك فإنه يكون أيضًا مُتسليًا بمثل هذه الآية، فلا يبتأس ولا يحزن حينما يبقى فئام من الكفار لا يستجيبون لدعوة الإسلام، والله -تبارك وتعالى- قد قضى أن أكثر الخلق لا يؤمنون، وقال لنبيه ﷺ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الأنعام:116] فهؤلاء يبقون على كفرهم ولكن المؤمن يؤدي رسالته ودعوته ويبقى أجره وافيًا عند الله -تبارك وتعالى- لا ينقص، النبي ﷺ أخبرنا: "أن النبي يأتي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد"[1].

وأخبرنا عن نوح أنه ما آمن معه إلا قليل، مع طول المدة التي بقيها في قومه بقي ألف سنة إلا خمسين عامًا، قبل الطوفان يدعوهم ومع ذلك لم يستجيبوا، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا ينقصهم نُصح وصدق في الرغبة في هداية قومهم، ولا ينقصهم العلم بمُقتضيات الدعوة ومُتطلباتها، ولا ينقصهم البيان والأساليب الصحيحة التي تُعرض بها الحقائق، ومع ذلك يبقى من أعمى قلبه غير مُستجيب لهذه الدعوة.

وفي قوله -تبارك وتعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:6] يعني: يستوي الحال: الدعوة وترك الدعوة، وذلك أن القلوب لم تعد محلاً قابلاً للدعوة فلا يصل إليها خير؛ لأنها صارت مُغلفة وقد طُبع عليها وخُتم فلا يصل إليها التذكير والوعظ.

وقوله -تبارك وتعالى: أَأَنذَرْتَهُمْ [سورة البقرة:6] لاحظوا هنا أنه عدل عن المصدر لم يقل: سواء عليهم الإنذار وعدم الإنذار، وإنما قال: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [سورة البقرة:6] فعدل إلى الفعل أنذر لما فيه من إيهام التجدد، والفعل يفيد ذلك.

أَأَنذَرْتَهُمْ هذا الإنذار يتكرر ويحصل مرة بعد مرة ومع ذلك لا يُجدي، ثم أيضًا تأمل دخول الهمزة هنا: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [سورة البقرة:6] وكذلك: أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [سورة البقرة:6] لتقرير معنى الاستواء بالحالين وتأكيده، الحال مستوية سيان الإنذار وعدم الإنذار.

لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] فهذا التركيب يدل على العموم، لا يؤمنون بحال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات، فهم باقون على هذه الضلالات والكفر لا يُفارقونها بحال من الأحوال.

ثم ذكر العلة في ذلك -عدم الاستجابة- فقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:7] ختم عليها بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- قد طبع على هذه القلوب فلا يصل إليها التذكير، وغطى ختم أيضًا على الأسماع فلا ينفذ منها شيء، وجعل على هذه الأبصار أغطية وغِشاوة فلا ترى الحق، فهذه الثلاث -نسأل الله العافية- حصل لها حجب كامل، الثلاث هذه هي المصادر التي يحصل بها العلم، والمعرفة، والفهم، والاعتبار، والاتعاظ وما أشبه ذلك، هي هذه الثلاث.

فالسمع والبصر ميزابان يصبان في القلب وهو موضوع الفكر والعقل، فهذه الأشياء التي يسمعها الإنسان من آيات الله المتلوة والمواعظ والتذكير حينما تصل إلى القلب فتجد محلاً قابلاً فإنه يستجيب ويتأثر ويحصل له الاهتداء والإيمان إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد قضى له ذلك، وأما إذا كان هذا القلب قد طُبع عليه وخُتم وصار في أغلفة وران على هذا القلب ما يكسبه صاحبه من الآفات والذنوب والجرائر والجرائم فإن هذا القلب -نسأل الله العافية- لا يصل إليه الهدى أصلاً، ولا يتأثر بل يكون قاسيًا كما قال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] أشد قسوة.

وقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة البقرة:74] حِجارة، وكما سيأتي في الكلام على هذا الموضع إن شاء الله، لم يقل كالحديد، الحديد إذا وضع في النار والمعادن تذوب، أما الحجارة فإنها لا تذوب في النار فشبهها بالحجارة، كالحجارة، والعرب لا زالت تُشبه القسوة بالحجارة، يُقال: قلبه حجر، فهؤلاء قد تحجرت قلوبهم، وقد ختم الله -تبارك وتعالى- على القلوب والأسماع، فهذه الآية: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [سورة البقرة:7] والوقف هنا، فالختم على القلوب والأسماع، وأما الأبصار: وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] يعني: جعل على أبصارهم غشاوة، فالغشاوة تكون على الأبصار بخلاف الختم والطبع، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [سورة الجاثية:23] فتلك الآية توضح هذه.

فهؤلاء حينما تعطلت هذه الأسماع وهم لهم آذان لا يسمعون بها، يعني: السماع الذي ينفعهم، ولهم أيضًا أبصار لكنهم لا ينتفعون بهذه الأبصار أي لا يُبصرون بها، لهم أعين لكنها لا تُبصر ما ينفعها لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179] فهذه الأعين والآذان التي لا تسمع ما ينفع ولا تُبصر ما ينفع، كذلك أيضًا تلك القلوب لا يعقلون بها، لهم قلوب لكن لا يعقلون بها ما ينفعهم، هي مثل: قلوب البهائم لا تُقبل على ما ينفعها ويرفعها، فإذا كان الإنسان نسأل الله العافية يحمل سمعًا كهذا، وبصرًا كهذا، وقلبًا كهذا، فأنى له أن يؤمن، لا يمكن بحال من الأحوال.

ونحن نُشاهد كثيرًا من الكفار يُسلمون لله -تبارك وتعالى- هنا يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [سورة البقرة:6] بعض الكفار مثل جُبير بن مُطعم سمع النبي ﷺ يقرأ آية واحدة كان النبي ﷺ في سورة الطور في صلاة المغرب، وقد جاء جُبير بن مُطعم في المدة التي كانت بعد بدر يُطالب بفكاك الأسرى أسرى المشركين، فسمع النبي ﷺ يقرأ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [سورة الطور:35] يقول: "فكاد قلبي أن يطير"[2] فلما رجع إلى مكة أعلن إسلامه وهاجر إلى النبي ﷺ سمع آية، وهذا ما زال يحدث إلى يومنا هذا.

إذن من هؤلاء الكفار الذين ذكر الله -تبارك وتعالى- حالهم هذه وهي أسوء حال؟

هؤلاء كما قلت في مضامين الكلام السابق الذين يُصرون على الكفر ممن قضى الله عليهم الضلالة فلم يوفقهم للهدى، فهؤلاء لا ينفع ولا يُجدي معهم النُصح والموعظة، ومن هنا نأخذ ما ينبغي للمؤمن من أن يُلاحظ قلبه وسمعه وبصره، هذا السمع هل يسمع ما ينفعه، وهذا البصر هل يوجه إلى ما ينفعه، ثم إذا وصل ذلك المسموع أو المُشاهد المُبصر إلى القلب هل ينتفع به، هذه الآيات التي نسمعها والمواعظ التي تطرق آذاننا هل يحصل استجابة وتحريك لهذه القلوب وانتفاع فيكون حال المؤمن بعدها أفضل من حاله قبلها؟

فإذا وجد الإنسان أنه لا تتغير حاله عند سماع الموعظة، أو الآيات، أو في مجالس الذكر فعليه أن يخاف، وأن يُراجع قلبه، يحضر خُطب الجُمع ومجالس الذكر ويسمع الآيات تُتلى في الصلاة وفي خارج الصلاة ومع ذلك لا ينتفع، يرى الآيات ويمر بالعِبر والعِظات ولكنه لا يعتبر ولا يتعظ، فهذا يدل على خلل في القلب يُخشى معه أن يُطبع على هذا القلب فلا ينتفع، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] فإذا ترك الإنسان الاستجابة والمُبادرة إلى أمر الله -تبارك وتعالى- والانقياد التام لأوامره، واجتناب مساخطه فإنه قد يُطبع على القلب.

النبي ﷺ أخبرنا عن الفتن: تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأيما ما قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين: أسود مِرباد كالكوز مُجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر مُنكرًا إلا ما أُشرب من هواه، وأبيض كالصفاة لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض[3].

فهذه الفتن التي تُعرض على القلوب كعرض الحصير هي ما نُشاهده ما نمر به من أطماع، وما يحصل فيه من فتن للنفوس بشيء من عرض الدنيا محرم، أو كان ذلك عبر شهوات، أو عبر مشاهدات يراها الإنسان، فإذا تحركت دواعي النفس لطلب المعصية سواء كان ذلك صورة محرمة يُشاهدها، أو مالاً يأخذه أو غير ذلك فليتذكر قبل أن يُطلق بصره أو أن يمد يده هذا الحديث: تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، فإذا فتحت هذا المشهد فهذه نُكتة سوداء، المشهد الآخر نُكتة سوداء، المشهد الثالث نُكتة سوداء، حتى يسود القلب، فيصير بحال لا يعرف المعروف ولا يُنكر المُنكر، وبهذا نعرف من أين يؤتى الإنسان، وأن هذه الجِنايات والمُقارفات هي التي تؤدي به إلى حال كهذه، فالمؤمن يخاف ويحذر ويحتاط.

وهنا أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر الختم جمع القلوب: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة البقرة:7] وأفرد السمع: وَعَلَى سَمْعِهِمْ وجمع الأبصار: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] فما وجه إفراد السمع وجمع القلوب والأبصار؟

يمكن أن يُجاب عن هذا فيُقال: إن السمع هنا جنس فيصدق على الواحد والكثير، ويمكن أن يُقال: إن السمع مُفرد مُضاف إلى معرفة وهو الضمير وذلك للعموم فيؤول المعنى إلى شيء مُتحد، والعلماء - رحمهم الله - يُجيبون عن هذا بأجوبة كقول بعضهم: بأنه وحد السمع؛ لأن لكل واحد منهم سمعًا واحدًا، كما يُقال: أتاني برأس الكبشين، يعني: رأس كل واحد منهما، يُقال ذلك إذا أُمن اللبس، ختم الله على سمعهم يعني: باعتبار كل فرد، فأفرده، بهذا الاعتبار.

وبعضهم يُجيب عن هذا بأن السمع مصدر في أصله، وأن المصادر لا تُجمع فيُقال: رجلان صوم، ورجال كذلك فروعي الأصل، لكن لما ذكر الآذان في موضع آخر قال: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [سورة فصلت:5].

وبعضهم يُجيب بجواب آخر يقولون: هناك مُقدر محذوف مُضاف يعني: وعلى حواس سمعهم، فالجمع هو المحذوف المضاف والسمع مُضاف إليه، لكن الأصل عدم التقدير.

وبعضهم يُجيب بجواب آخر: أن ما قبل لفظ السمع وما بعده ذُكر بلفظ الجمع وذلك يدل على أن المُراد كذلك من السمع الجمع لكن من باب التفنن في العبارة، أُفرد فحصلت هذه المُغايرة.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا أيها الأحبة أن هذه الموانع التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- تمنع من الإيمان والاهتداء فلا يصل إلى هذه القلوب ما ينفعها، ولا تنتفع الأسماع والأبصار، فيكون الإنسان في حال لا يُرجى معه الخير له، وذلك بسبب كفرهم وفساد بواطنهم، والله عليم حكيم.

وفي تقديم السمع على البصر وهذا كثير في القرآن: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [سورة الإسراء:36] رتبها بهذا الترتيب، ما وجه هذا التقديم تقديم السمع كثيرًا في القرآن على البصر؟

يمكن أن يُذكر في هذا جملة من الأمور فمن ذلك مثلاً: أن يُقال: بأن السمع أنفع من البصر، الإنسان حينما يولد وهو لا يسمع النتيجة التي ستكون حتمية إلا أن يشاء الله أنه لن ينطق، ولذلك فإن الصغير إذا كان في سمعه شيء ضعف ستجد التعثر في لسانه؛ لأنه لا يسمع الكلمات كما ينبغي، وقد لا يُكتشف هذا إلا في وقت متأخر، ومنشأ ذلك السمع، الصُم البُكم، ما سبب علة النُطق عندهم، هل هي اللسان؟

الجواب: أن ذلك كان في السمع فلم يسمعوا كلام المُتكلمين وقول القائلين، ومن ثَم لم يُترجم في نفوسهم فما عادوا يستطيعون الكلام؛ لأنهم لم يسمعوه، واللغات إنما تُتلقى بالسماع، يتلقاها الصغير من أبويه وهكذا، فهذا يدل على شرف السمع على البصر، وأيضًا الإنسان حينما يُقارن بين السمع والبصر، السمع من جميع الجهات، والبصر لا يكون إلى من جهة واحدة الأمام، ثم أيضًا حينما تُقارن تجد أن السمع يُدرك غير المرئيات فهو يسمع أصوات أشياء بعيدة لا يصل إليها بصره، يسمع صوت الطائرة ولا يراها، ولكن البصر له مدى قريب، وأيضًا البصر لا يرى إلا المُتشخصات أما السمع فإنه يسمع صوت الرياح ونحو ذلك مما لا يُشاهد ويُرى، فهذا كله يدل على أهمية السمع وعلى فضله.

إضافة إلى أن الإنسان إذا ذهب بصره ولم يُولد هكذا لكنه كُف بصره بعد ذلك فالعلماء يقولون: إن ذلك يكون سببًا لاستجماع بصر القلب يقوى فيه البصر، فيكون عند الإنسان من التوقد والذكاء والفِطنة ما لا يكون عند المُبصرين؛ لأن القلب يتبع البصر وكما يتبع السمع أيضًا، فهذه المُشاهدات التي يراها ويُبصرها تشوش قلبه وتُفرقه، هذه المشاهد، ولذلك العلماء يقولون: إذا أراد الإنسان أن يحفظ أو يفهم لا يجلس في أماكن خرير المياه والمروج ونحو ذلك؛ لأن قلبه يتفرق في هذه المشاهد، ولذلك بعض الناس إذا أراد أن يحفظ أو يتذكر أغمض عينيه، وبعضهم لربما جلس في زاوية لا يوجد فيها شيء يشوش عليه قلبه، بحيث لا يرى شيئًا سوى هذا الجدار وهذه الزاوية يقترب منها قُربًا شديدًا، ولذلك ترى فيمن فقدوا أبصارهم من الوعي للعلم والإدراك الشديد والحفظ والضبط ما لا يكون عند كثير من المُبصرين.

ولذلك انظروا إلى العلماء الذين فقدوا أبصارهم، والقُراء الذين فقدوا أبصارهم من الحُذاق تجد هؤلاء كثير لا يُحصيهم إلا الله، وفي عصرنا شاهد من هذا، فسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كُف بصره في مُقتبل عمره، ومع ذلك هو بهذه المنزلة من العلم، وشيخه الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- سماحة المُفتي الأسبق كان قد كُف بصره أيضًا، وقرينه الشيخ عبد الله بن حميد أعني قرين الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- هو ممن كُف بصره أيضًا وهو من هو في الفقه والقضاء، هؤلاء لم يكونوا من المُبصرين، وقل مثل ذلك في كِبار القُراء الشيخ الزيات -رحمه الله- وهو الأعلى إسنادًا في هذا العصر توفي قبل سنين كان ممن كُف بصره، فذهاب البصر لا يعني أن الإنسان يتعطل بل ينعكس ذلك على القلب، بل بعض أهل العلم يقولون لو أنه ذهبت عين واحدة فإن ذلك البصر الذي كان فيها يرجع إلى العين الأخرى فيقوى بصرها -والله أعلم.

فهذا السمع والبصر قُدم السمع يمكن أن يُقال أيضًا أنه الوسيلة لتلقي كلام الله وبلوغ دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وما أشبه ذلك.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (2448)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط البخاري"، وأخرجه البخاري بلفظ مقارب، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، برقم (6541). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [سورة ق:39] برقم (4854). 
  3.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين، برقم (144).

مواد ذات صلة