الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[12] قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ..}
تاريخ النشر: ٠١ / شعبان / ١٤٣٦
التحميل: 2025
مرات الإستماع: 1935

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث فيما يُستخرج من الفوائد والهدايات فيما ذكره الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات الكريمات من سورة البقرة، ولم يزل الحديث متصلاً بالآيات التي تتحدث عن المنافقين.

قال الله -تبارك وتعالى- عن أهل النفاق بعد أن بين وصفهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۝ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:8، 12].

هذا كان جوابهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض.

فما جوابهم إذا نُصحوا، ووجه إليهم الخطاب بأن يؤمنوا إيمانًا صحيحًا كما آمن أهل الإيمان من صحابة رسول الله ﷺ ؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] إذا قيل لهؤلاء المنافقين آمنوا كإيمان الصحابة الإيمان الصحيح الذي يكون إقرارًا وتصديقًا وإذعانًا، وإيقانًا بالقلب، مع الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، استنكفوا، وقالوا: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ كما آمن ضعفاء العقول، فنكون نحن وهم في السفه سواء، فرد الله -تبارك وتعالى- عليهم بأن السفه متوجه إليهم، بل هو مقصور عليهم، وهم لا يعلمون أن ما هم فيه هو الضلال والسفه والخُسران.

فهذه الآية يؤخذ منها من الهدايات: أن من الحكمة في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يُذكر للمدعو والمُخاطب والمُطالب بالإيمان، أو التزام شرائع الله -تبارك وتعالى- وحدوده، أن يُذكر له من استجاب؛ ليكون له ذلك أسوة ومُنشطًا، ومقويًا لقلبه ونفسه من أجل الامتثال، فإذا قيل للإنسان افعل كما فعل الآخرون؛ حيث سلكوا هذا الطريق والتزموا شرائع الله -تبارك وتعالى- فيكون ذلك أدعى للقبول والامتثال؛ لأن النفوس قد جُبلت على تشبه بعضها ببعض، كما قالوا: الناس كأسراب القطا، جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فإذا رأى في الخارج من آمن؛ فإن ذلك يكون دعوة صامتة للإيمان، فإذا وجد من يدعوه إليه، فإن ذلك يكون مقويًا لهذا الداعي الذي يراه في الخارج مع ما يوجد في نفس الإنسان من مقتضى الفطرة، وما يوجد من داعي الله -تبارك وتعالى- في نفس المؤمن.

فهؤلاء خوطبوا بمثل هذا آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [سورة البقرة:13] لا داعي للتلون، ولا داعي لمثل هذا الكذب الذي ادعوا معه الإيمان مع أن ذلك لا حقيقة له.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الحكمة كمال النظر، وحُسن النظر في الأمور، إنما يكون ذلك بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- والاستقامة على صراطه المُستقيم، ولزوم شرعه، هذا هو الحصافة، وكمال الرأي، وحُسن النظر، وكمال العقل أن يكون الإنسان بهذه المثابة، أما من تنكب الطريق، وأعرض عن الإيمان، وخالف شرع الله -تبارك وتعالى- فهذا هو السفيه الذي لا يعرف مصلحته، الذي لا يجاوز نظره أنفه، فنظره قصير، ينظر إلى مطامع قريبة، إلى حظوظ عاجلة، إلى شهوات مُتقضية، ولكنه لا ينظر إلى المدى البعيد هناك الدار الآخرة.

ولذلك ذكر العلماء - رحمهم الله - أمثالاً لهذه القضية، من ذلك: ما ذكره ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- مثّل هذا بطريقين:

أحدهما: ضيق، ولكنه يُفضي إلى موضع واسع فسيح، يلتذ الإنسان بالوصول إليه والإقامة به.

والآخر: واسع، ومليء بمُشتهيات النفوس ومُتطلباتها، ولكنه يُفضي إلى دار ضيقة كأيبة.

فما هو مُقتضى العقل؟ ما هو حُسن النظر في مثل هذا؟ الذي يختار الطريق الواسعة التي تُفضي به إلى موضع في غاية الضيق، يُقيم فيه أبدًا، هذا لا عقل له، ولا رأي عنده، أما الذي يؤثر سلوك الطريق الضيقة التي فيها ما فيها من العنت والمشقات حتى يُفضي به ذلك إلى قصور واسعة، ونعيم مُقيم ولذات لا تنقضي، يعيش فيها أبدًا، هذا الذي يقتضيه حُسن النظر.

فهذه الحياة الدنيا وما فيها من الشهوات هي سجن المؤمن، يحتاج إلى صبر قليل، ولا يدري متى يُقال له ارحل، فإذا صبر قليلاً أفضى به ذلك إلى روح وريحان، وجنة عرضها السماوات والأرض.

أما إذا توسع في هذه الدنيا، وترهل مع لذاتها وشهواتها، ومطامح النفوس فيها؛ فإن ذلك يُفضي به بعد ذلك إلى ضيق وعذاب، وألم وحسرات لا تنقضي.

هذه هي الحقيقة التي يحتاج المرء أن يُدركها إدراكًا صحيحًا، ويعمل بمُقتضاها، الشهوات التي نحبس النفوس عنها، فِطام النفوس عن هذه اللذات المُحرمة هو هذا الطريق الضيق الذي يُفضي بك بعد ذلك إلى السعة، ومن توسع اليوم بالمحرمات كان ذلك سببًا لضيق يجده في عاقبته ومآله ومصيره.

فالسفيه هو الذي لا يعرف المصلحة الحقيقية، فيؤثر ما يضره على ما ينفعه، فمثل هذا يحتاج إلى حجز عن هذه المقارفات من أجل أن يسلك الطريق الصحيح.

هؤلاء أهل النفاق يستنكفون حينما يُخاطبون بالإيمان أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ هذا استفهام إنكاري يقصدون به الاستنكاف والاستهزاء، فهم يتبرؤون من الإيمان على أبلغ وجه، باعتبار أنهم لا يريدون الاستواء مع هؤلاء الذين وصموهم ووصفوهم بالسفه، وهذا كما هو ظاهر يدل على كِبر وغطرسة، وتعالٍ على الحق وأهله، والنبي ﷺ حينما فسر الكبر قال: هو بطر الحق، وغمط الناس [1] بطر الحق، يعني: رد الحق، وغمط الناس، يعني: احتقار الناس، هو لا يرى الناس إلا أمثال الذر، وهو الذي له شأن وفهم، وعقل ومنزلة، فهذا قد يؤدي به هذا الكِبر إلى رد دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما فعل اليهود، وكما فعل كثير من الكفار، فكانوا يستنكفون من اتباع النبي ﷺ وبحثوا عن اسم لربما تنقبض منه النفوس: ابن أبي كبشة، فقالوا: قد أمِر أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر.

ابن أبي كبشة، لم يقولوا محمد بن عبد الله الاسم المعروف، ابن أبي كبشة، هكذا الإسقاطات؛ لإيجاد ما يكون سببًا لانقباض النفوس عن القبول والاتباع والاقتداء، هؤلاء الكفار الذين قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31] يعني: هذا اليتيم، لماذا يُختار ليكون هو النبي؟

وفرعون كان يقول لقومه الذين استخفهم: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52] هكذا الاحتقار والتكبر، هذا الاحتقار، وهذا التكبر أوقع الكثيرين قد لا يملكون مُلك فرعون، ولكنهم أُعجبوا بعلوم، أو أُعجبوا بذكاء، أو بعقول لم تُسعفهم؛ ولذلك ينبغي أن نُدرك جيدًا أن العقل قد يكون جناية على صاحبه، وأن الذكاء قد يكون جناية على صاحبه، فهم أوتوا ذكاء، ولم يأتوا زكاء، كما قيل عن الفلاسفة، وكثير من المُتكلمين ممن ضلوا عن الاعتقاد الصحيح، كانوا من أذكياء العالم، لكن هذا الذكاء لم يُسعفهم.

واليوم تجد الكثيرين ممن قد يكون له فضل ذكاء، فيترفع عن أن يكون أسوة غيره، فيكون مُقتديًا، مُتبعًا، مُلتزمًا شرائع الله مُهتديًا بنصوص الوحي من الكتاب والسنة، كما كان عليه طوائف من أهل الكلام الذين كانوا يستنكفون من اتباع النصوص، ويسمون أهل السنة، وأهل الحديث بالحشوية، يعني: هم في حشو الناس، أو أنهم أصحاب حشو، فهؤلاء في نظرهم أنهم لا يفهمون، ولذلك كانوا يقولون عن الصحابة  كما قال عمرو بن عُبيد المُعتزلي، يقول عن عبد الله بن عمر : بأنه حشوي، إلى هذا الحد؟!

وصفوهم بهذا، كأنهم في حشو الناس، كأنهم ليسوا بأهل تحقيق؛ ولذلك إذا تلطف الواحد من أولئك واعتذر لأصحاب رسول الله ﷺ يقول: قد شغلوا بالجهاد، والغزو مع رسول الله ﷺ ولم يتفرغوا لتمحيص هذه المعاني، يعني: حتى جاء هؤلاء فتفرغوا لها؛ ولهذا تجد في عباراتهم أن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، عندهم أن مذهب السلف هو التفويض، كانوا يعتقدون أن السلف مفوضة، ولم يكن السلف كذلك، كانوا يعتقدون أن السلف فوضوا معاني هذه النصوص في الصفات لله -تبارك وتعالى- ثم جاء هؤلاء من أهل الكلام فحققوا المعاني بزعمهم.

مثل هؤلاء لم تنفعهم عقولهم، وقد ذكرت في بعض المناسبات ما هم فيه من الحيرة، وما كانوا يقولون عند موتهم، الواحد منهم يبكي، ويضع الملحفة على وجهه، ويقول: لا أدري ما أعتقد، والآخر يقول:

نهاية إقدام العقول عِقال وغاية سعي العالمين أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال على شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال

هذا الذكاء، وهذا الحِذق، وهذا الفهم بزعمهم أودى بهم إلى هذه الحال.

واليوم تجد لربما كثيرًا من هؤلاء الفتية الذين لربما يتمتعون بشيء من الذكاء، فلا يريد الواحد منهم أن يكون كغيره من الناس من آحاد طلاب العلم، يقرأ النص، ويبحث عن النص الشرعي، والحديث والآية، وما أشبه ذلك، وما عرفوا قدر الآيات والأحاديث، وما فيها من الهدايات والمعاني البديعة العجيبة، والحِكم البالغة، فيظنون أن الهدايات والمعاني هي في قول فلاسفة معاصرين في كتب تُعرب، ثم تُنقل على عِلاتها، فيأتون بهذه العبارات، قال فلان، وقال فلان، من هؤلاء الفلاسفة الغربيين.

ويُرددون كلامًا أحسن حالاته أنه كلام إن كان من قبيل الحق، فهو يحمل قشة من المعنى، تجد ما هو أعمق، وأنفع وأبرك أكثر بركة منها في بعض آية، وهذا يبني كتابًا كاملاً في هذه القضية التي يُدندن حولها، ويدور حولها، وأقول هذا الكلام من واقع معرفة في بعض الكتب، ولست ولله الحمد من المُكثرين، ولكني أحيانًا إذا أردت أن أتحدث عن موضوع، أو نحو ذلك حاولت أن أقرأ كل ما كُتب فيه، فيكون من جملة هذه الكتابات تلك الكتب المُترجمة، التي والله يا إخوان إني أُشفق على مؤلفيها، وإن كانوا من الكفار أرحمهم، معنى قشة، معنى ضحل.

والله يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [سورة المائدة:2] ويقول: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8] ويقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [سورة المائدة:8] فالعدل مطلوب مع العدو، والصديق، والمؤمن والكافر، فنحن لا نغمط الناس حقهم، لكن بالنظر إلى الهدايات والمعاني التي في القرآن، وما في الوحي الذي يشرحه من سنة رسول الله ﷺ هذا لا شيء، الكلام الطويل الذي يُكثرون منه.

فأقول: إذا كان هذا الذكاء لا يُسعف صاحبه فيرد الوحي من أجل أن يكون له مزية على غيره كما فعل أسلافه من أهل الكلام، الذين قال عنهم شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما تحدث عن طريقة الحِوار والرد والمناقشة، والمُناظرة بأنه يُرد من أقرب طريق، وبنصوص الوحي، وما أشبه ذلك، يقول: لكن من النفوس ما يكون مريضًا، مُعتلاً، فلا ينفع معه إلا الدواء المُر لاستخراج علته، فمثل هذا قد لا يقبل أن تورد عليه النصوص، قال الله، قال رسوله ﷺ فيمكن أن يُرد عليه، وأن يُجادل بعبارات ومُصطلحات وألفاظ صعبة وعِرة المسالك، فلربما يقبل مثل هذا؛ لأنه يريد أن يكون له مزية على غيره وأن يُخاطب بخطاب لا يفهمه عامة الناس، أو طلاب العلم، هذا الذكاء يضر صاحبه.

فالذكاء يضر أحيانًا، يضر أحيانًا في هذا، يضر أحيانًا فيما يورثه أحيانًا من فساد العلاقات الاجتماعية، أنه يتعامل مع الآخرين بشيء من الترفع والاستنكاف والاستكبار، قد يضر المرأة أحيانًا، فترد الأكفاء باعتبار أنها ذكية، وأنها تملك ذكاء خارقًا، أو نحو ذلك، كل ما تقدم لها شخص ردته بحاجة أنها تريد من يساويها في الذكاء وتبقى.

والأخطر من هذا كما قلت أن يُرد الحق بسبب هذا الذكاء، فهؤلاء الذين ردوا دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ماذا كانوا يقولون؟ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111] وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [سورة هود:27] فكانوا ينظرون إلى هؤلاء أنهم لا يفهمون.

وهكذا في قول بعض هؤلاء الكفار لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [سورة الأحقاف:11] يعني: هم يعتقدون أنهم لفضلهم في ذكائهم وفهمهم إن كانوا يفهمون أن لو كان في هذا من الخير ما فيه لما سبقهم إليه هؤلاء السُذج البُسطاء، فهؤلاء السُذج البُسطاء هم الذين أفضت بهم سذاجتهم وبساطتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وأحيانًا يكون هذا الاحتقار بسبب الشهادات العالية التي يُحصلها الإنسان، فيحتقر الحق ممن جاء به، ولا يقبل من الناس شيئًا، أحيانًا يكون بحِذق في بعض العلوم، فلا يرى الناس شيئًا؛ ولذلك تجدون في كلام بعض أهل العلم كالإمام أحمد وغيره لربما بعض العبارات التي قد يُفهم منها كراهية التعمق في بعض علوم الآلة كاللغة؛ لأن ذلك قد يورث صاحبه شيئًا من الزهو والترفع، فإذا تكلم مُتكلم عنده رأى أن كلامه ليس بشيء؛ لأن هذا الكلام لم يكن بالقوالب التي تليق بمثله أن يُخاطب بها، هكذا بزعمه، فيُرد الحق بسبب هذا، يقيس الناس بحسب ما يرى من حذقهم في كلامهم وخطابهم وصحة منطقهم من جهة القوالب اللفظية فقط لا من جهة المضامين والمعاني، فهذا خطير.

وانظروا ماذا قال الله -تبارك وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] جاء بهذه الصيغة أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فجاء بأداة التنبيه هذه (ألا) وجاء بـ "إن" المؤكدة، وضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ ليؤكده هُمُ السُّفَهَاءُ وأدخل على السفهاء "أل" التي تُشعر بالاختصاص، أو الحصر كأنهم حصلوا الوصف الكامل من السفه وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].

لاحظ هنا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].

فهنا نفى عنهم العلم، وفي الإفساد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:11، 12] لاحظ في الإفساد قال: لا يشعرون، وهنا في السفه قال: لا يعلمون، فما الفرق بينهما؟

يمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم- بأن الفساد لما كان ظاهرًا يراه كل أحد فهو ملموس يُدرك بالحواس أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:12] فالفساد أمر مُدرك بالحواس يشعر به كل أحد، لكن هؤلاء لتبلد إحساسهم صاروا لا يشعرون، مع ظهوره وانكشاف فسادهم فهو ظاهر لكل أحد، ومع ذلك لا يشعرون.

أما السّفه فإنها قد تظهر آثاره سوء التصرف أن يختار الإنسان غير الأنفع له، غير الأصلح أن يبحث عن أشياء تضره فيُقبل عليها، فهذا سفه، فهذا إنما يُدرك بآثاره، فهذا يحتاج إلى علم من أجل أن يُميز به الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] هو لا يعلم أنه سفيه، ولو كان يعلم ما ينفعه مما يضره لأقبل على الإيمان، لكنه لا يعلم، فظن أن هذا الإيمان الذي قبله المؤمنون وسلكوا طريقه أنه هو السفه، وما علم أنه هو السفيه لكنه قد أوغل بجهله فصار في عمى عن ما ينفعه وأقبل واشتغل بما يضره، هذا هو حاله، بينما هم في الإفساد وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ فالإفساد ظاهر، مُدرك بالحواس، فهؤلاء لا يشعرون به، والله المستعان.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم: (91). 

مواد ذات صلة