بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لا زال الحديث عن هذا المثل المضروب في هذه السورة الكريمة سورة البقرة، الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- للمنافقين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17].
تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة:17] فهذه الإضاءة التي حصلت هي كما أشرنا في مضامين الكلام في الليلة السابقة هو هذا الانتفاع المؤقت الذي حصل لهم بسبب إظهارهم الإيمان، والإتيان بحرف الجر الباء ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يُشعر أن هؤلاء لم يبق لهم شيء من ذلك النور، ولا مطمع لهم فيه بحال من الأحوال، ذهب الله بنورهم، ذهب به بالكلية، لم يُبق لهم شيئًا، ولذلك انظروا إلى هذا التعقيب بعده وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] والجزاء من جنس العمل، لما اختار هؤلاء طرائق الظلام، وسلوك المسالك المُنحرفة والمعوجة عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بتركهم في ظلمات لا يُبصرون، فسلب عنهم النور، وهذا يقتضي سلب الهداية بالكلية.
فهذه الهداية منحة ربانية، ولها أسباب تكون من العبد، فمن أقبل على أسباب الهداية بصدق ورغبة، وعامل الله -تبارك وتعالى- مُعاملة صادقة لا التواء فيها، ولا اعوجاج؛ فإن مثل هذا يُرجى له أن يُسدد ويوفق ويُهدى، وأما من حاد عن الطريق، واختار مسالك الانحراف والضلال؛ فإن هذا يكون عاقبته سلب النور، والبقاء في حالة من الضلالة يتردد فيها حيث ما توجه.
ثم إن هذا أيضًا فيه إشارة إلى سر انقطاع تلك المعية الخاصة التي تكون لأهل الإيمان، المعية بالحفظ والكلاءة والرعاية، والتسديد، والنصر والتأييد، وما إلى ذلك، فالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، الله مع الصابرين.
فذهاب هذا النور مؤذن بانقطاع معيته؛ لأن الله لا يكون مع هؤلاء من أهل الضلال والظلام، بل هم أعداؤه، والله -تبارك وتعالى- يُنزل بهم بأسه ورجزه وعذابه، فقطع ذلك عن المنافقين، فليس لهم نصيب من قوله -تبارك وتعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [سورة التوبة:40] ولا من قوله: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:62].
وإذا انقطع العبد عن ربه -تبارك وتعالى- وانقطع عنه ذلك المدد من النور والهدى فلا تسأل عن حاله بعد ذلك، ولذلك ينبغي على العبد أن يخاف من الزيغ، وأن يتباعد من أسباب الغي والضلال جاهدًا؛ وذلك بالبُعد عن أصول الشر التي ترجع إلى أصلين معروفين: الشبهات، والشهوات، ولهذا قالوا: من عرض نفسه للفتنة أولا، لم ينجُ منها آخرا، الذي يُعرض نفسه للفتنة فتنة الشبهات، فيتتبع هنا وهناك، ويقرأ ويُتابع حسابات في وسائل الاتصال هذه، التي اُبتلي بها الناس في مثل هذه الأوقات، أو يتتبع المواقع والمدونات التي تُثير الشبهات وتُشكك في الإيمان، وتُزعزعه في النفوس، أو تدعوا إلى أنواع الضلالات وتُزينها؛ فإن مثل هذا لا يؤمن عليه من أن يزيغ قلبه، قد يكون في البداية يُريد النظر، ويكون ذلك من غلبة الفضول، فيكون كالعابث، لكنه ما يفتأ أن يتسلل ذلك إلى قلبه، ثم بعد ذلك لا يستطيع الخروج والخلاص منه، قد يقع في الإلحاد، قد يشك في ثوابت الإيمان، قد يقع في بدعة وضلالة من الضلالات.
وكذلك أيضًا أبواب الشهوات، حينما يُعرض نفسه لهذه الشهوات فينظر إلى هذه الصورة، أو يدخل في مواقع سيئة؛ فإن قلبه قد يُقلب، فيضل ويُريد أن يرجع ويتوب، ولكنه لا يستطيع، من عرض نفسه للفتنة أولا لم ينجُ منها آخرا، فيبتعد الإنسان عن الشر، وأسباب الشر، وأسباب الغي، وأسباب الضلال، ويسأل ربه أن يُثبت قلبه على الحق، وأن يهديه، وأن يدله على مرضاته، وأن يسلك به صراطه المستقيم، فإن الموفق من وفقه الله .
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] قد يظن الظآن، أو يتوهم المتوهم أن هؤلاء من المنافقين قد تُركوا فسلموا في الدنيا، ولكن الواقع أنهم لم يسلموا، يكفي في مُصابهم أن الله -تبارك وتعالى- سلب عنهم النور، نور الهداية، وأن الله -تبارك وتعالى- قد تركهم في ظلمات لا يُبصرون، فهذا الترك يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد تخلى عنهم، تخلى عنه هداية هؤلاء، وعن إنزال ألطافه بهم، فصاروا في حال من الضياع والتيه، فلم يرجع هؤلاء إلى حق ولم يشعروا بما هم فيه من الباطل.
فإذا ترك الله العبد ونفسه، فلا تسأل عن حاله بعد ذلك، الغي، والضلالة، والانحراف، والضياع بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى ودلالة، الضياع بجميع صوره وأحواله.
هذا التشبيه بصاحب النار الذي استوقدها، يكون باعتبار أن انتفاع هؤلاء في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وأن عذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، هذا ذكره بعض أهل العلم وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ.
وذكر بعضهم: أن استخفاء كفرهم كالنور، وأن فضيحتهم كالظلمة، وذكر آخرون: أن ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [سورة المنافقون:3] والذي يظهر والله أعلم، أو ما يُمكن أن يُقال: لو قاله قائل أنه قريب أن هؤلاء -كما سبق- إنما ادعوا دعوى لا حقيقة لها، وهذا الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، فذلك كالذي استعار هذه النار فأضاءت ما حوله وما أضاءت نفسه، وما استنار قلبه وباطنه، ثم بعد ذلك انتفع فيها بعض الانتفاع، حقن دمه، وأحرز ماله، ثم بعد ذلك سُلب هذا النور، فبقي الإحراق، وذهب الإشراق، ذهب النور، وبقيت الظلمة والحرارة والنار، حرارة النار، والظلام وذهب عنه النور الذي يُبصر به الأشياء، فدل ذلك على عمى هؤلاء المنافقين، فإن الضلال يكون عمى -كما هو معلوم- وقد وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الضُلال في كتابه بأنهم عُمي صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18] فهذه الأبصار إنما يُبصرون بها المُتشخصات، لكنهم لا يُبصرون بها الحقائق، والبصر الحقيقي هو بصر القلب.
إن يأخذ الله من عيني نورهما | ففي فؤادي وقلبي منهن نور |
عقلي ذكي وقلب غير ذي دغل | وفي فمي صارم كالسيف مشهور |
إذا رزق الله المروءة والتقى | فإن عمى العينين ليس يضير |
فالعمى عمى القلب، وليس عمى البصر، ولهذا عقب الله ذلك بهذه الآية: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].
هؤلاء وصلوا إلى حال من الغي والضلال فطبع على قلوبهم، فصاروا بهذه المثابة، فهم صُم عن سماع الحق، لا ينتفعون به، بُكم عن النُطق به، عُمي عن إبصار الهُدى، مهما كان ظهور أعلامه، وبراهينه وشواهده، فهم يعمون عن ذلك كله، ومن كان بهذه المثابة لا يرجع إلى الإيمان، ولهذا قال: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18] لا يرجعون إلى الحق، فإذا خوطبوا، إذا وجه إليهم الخطاب، فإن هذا الخطاب يطرق أسماعًا قد صُمت، وحينما تظهر دلائل الحق وشواهده، فإن هؤلاء لا يرونها، خفافيش أعماها النهار بضوئه، فهؤلاء أصحاب بصائر خُفاشية يُعشيها النهار بضوئه، فلا يرون الحق الذي يراه أهل الإيمان، ومهما يُقدم لهم من الدلائل والبراهين؛ فإن ذلك لا يُحرك فيهم شعره، فمن استحكمت ضلالته فلا سبيل إلى هدايته، ومن أضله الله -تبارك وتعالى- فلا هداي له، وهذه حقيقة ينبغي أن نُدركها؛ ولذلك فإن بعض الخطاب حينما يوجه إلى من زاغ قلبه، واتبع هواه، فإن ذلك يكون من قبيل العبث، كالذي يصيح في واد، وينفخ في رماد، إلا أن ذلك يكون فيه ما فيه من إقامة الحجة على هؤلاء، ولكنهم لا ينتفعون به؛ لهذه الأمور الصمم والبكم الذي فيهم، فهذا الأبكم هو لا ينطق بالحق، ولا يتكلم به ولذلك لا يُستغرب حينما يلهج بالباطل صباح مساء، ويفيض هذا الباطل على قلمه وكتاباته، إنما الذي يُستغرب لو أنه تكلم بالحق أو كتبه.
فمن رُزق الهداية فينبغي أن يتمسك بأهدابها، ويخاف أن يُسلب ذلك منه، وأن يشتغل بإصلاح نفسه، ولا يكون شغله بغيره ويغفل عن قلبه وحاله، وتفقد عمله وخطراته، ونياته ومقاصده.
هكذا يفعل الضلال بأهله، لاسيما من ترك الحق عن معرفة، بخلاف من ترك الحق عن جهل به؛ فإنه قريب المأخذ يمكن أن يُبين له ويرجع، ولكن الانحراف إنما يرجع إلى أصلين، أو ثلاثة:
الأول: سوء القصد، فهذا سيء القصد مهما رأى من الدلائل والشواهد والبراهين، هو يأبى الحق، لسوء قصده، فهو لا يقبله.
الثاني: سوء الفهم، قد يبحث ويقرأ ويُطالع، ولكنه يخرج بنتائج مقلوبه، الدليل الواضح الظاهر يفهم منه خلاف المقصود، عكس المقصود، فهذا لا طب فيه.
الثالث: الجهل، وهذا أمر قريب، يمكن أن يُعالج بالعلم، لكن صاحب القصد الفاسد، والفهم الفاسد هذا يُجادل، فإذا تكلم أهل العلم سخر منهم، وسخر من فهومهم وعلومهم ومعارفهم وأقوالهم وفتاواهم؛ لسوء قصده، أو لسوء فهمه، وقد يجتمع في العبد وهذا يجتمع في العبد هذا وهذا، نسأل الله العافية، يعني: يجتمع فيه سوء القصد وسوء الفهم معًا، فمثل هذا يطير في الضلالة، ويكون قُحمة في الفِتن، فلا يُبالِ الله به في أي واد هلك رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8].
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.