بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالله -تبارك وتعالى- بعد أن تحدى الناس أن يأتوا بمثل هذا القرآن: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:23] فإذا أعلنوا عجزهم وإفلاسهم فإن ذلك يقتضي منهم أن يُذعنوا للإيمان وأن يتبعوا النبي ﷺ وأن يؤمنوا بالقرآن، فقد قال الله -تبارك وتعالى- في الآية بعدها: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] فإن عجزتم وستعجزون أيضًا ولابد في المستقبل فاتقوا النار بما تُتقى به من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والإيمان بالنبي ﷺ وبالوحي المنزل هذا القرآن، وبهذا تُتقى النار، الإيمان والعمل الصالح، هذه النار التي تتوقد وتضطرم بالناس والحجارة وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24].
هذه الحجارة سواء قيل: الأصنام، أو قيل: بأنها حجارة، أو أحجار الكبريت؛ لأنها أشد اشتعالاً واضطرامًا وتوقدًا، أعدت للكافرين بالله ورُسله، فإن كفرتم فهي موعدكم.
فهذه الآية دلت على معجزة أخرى، يعني: دلت الآية السابقة وما ينضم إليها من هذه الآية على أن القرآن مُعجز، وهذه الآية أيضًا دلت على معجزة أخرى، وهي أنه أخبر خبر مؤكدًا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [سورة البقرة:24] فجزم بأنهم لن يستطيعوا وهم في مقام التحدي، لن تفعلوا ذلك في المستقبل، وهو خطاب لجميع الناس من أولهم إلى آخرهم، ولا يختص ذلك بالذين كانوا زمن النبي ﷺ فهذا القرآن لا يمكن أن يُعارض بمثله أبدًا.
وكذلك وقع الأمر فإنه لم ينبري أحد لمعارضته بمثله، ولا يمكن لأحد أن يأتي بذلك، فهذا إخبار عن أمر مُستقبل قطع به وجزم به؛ ومع ذلك لم يقل أحد أُخرم هذا الخبر وآتي بمثل القرآن.
ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24] فجاء بهذا الإيجاز بطريق هو من قبيل الكناية: فَاتَّقُوا النَّارَ يعني: بترك المعاندة والمُكابرة بهذا الكفر والجحود، والقول على القرآن بأنه من قبيل الشعر أو السحر أو الكِهانة، أو أنه من قبيل الأساطير أساطير الأولين اختلقها النبي ﷺ أو كانت تُملى عليه من قِبل غيره، فاتقاء النار يعني ترك هذا العناد، فأفادت مع هذا الإيجاز تهويل وتفظيع شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه، وبإبراز ذلك في صورته مُضيفًا إلى ذلك تهويل صفة النار وتفظيع أمرها.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [سورة البقرة:24] لم يقل فآمنوا به: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24] يعني: فدعوا الكفر واللجاج والعناد والمُكابرة الذي يورثكم عذاب الله -تبارك وتعالى- لكنه قال مُباشرة: فَاتَّقُوا النَّارَ [سورة البقرة:24] جاءت العبارة مضمنة لهذا المعنى -والله تعالى أعلم .
ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24] فهذه عقوبة أخرى للمكذبين والكافرين والجاحدين وذلك أن أجسامهم تكون مصدرًا لعذابهم؛ لأن النار تتوقد بها، وفرق بين أن يَصلى الإنسان النار -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- وأن يُقاسي حرها فيكون ما تتوقد به النار غير هذا المُعذب بها، لكن أن يكون هؤلاء الذين يُعذبون هم مصدر توقدها، وقودها الناس يعني في منزلة الحطب فيُعذبون وهم هم الوقود أيضًا مع الحجارة فهذا لا شك أنه أشد وأفظع وأعظم في التهويل والتخويف والوعيد.
وتأمل أيضًا أنه ذكر هنا الناس قبل الحجارة: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24] باعتبار أن الناس ربما يكون والله أعلم هم محل التكليف، فالتكليف متوجه إليهم، والنار إنما هي موعد هؤلاء المكذبين والكافرين فهي أُعدت للكافرين كما قال الله -تبارك وتعالى- وإنما توضع فيها وتُلقى فيها هذه الأصنام على القول بأن الحجارة المراد بها الأصنام يكون ذلك لمزيد تبكيتهم، هم وما يعبدون من دون الله -تبارك وتعالى- حصب جنهم، وإلا فهذه الأحجار قد لا تشعر بالنار أو بالعذاب أو نحو ذلك، ولكن كما قال بعض أهل العلم: بأن ذلك يكون تبكيتًا لعابديها، وإذا قيل: بأن هذه الأحجار هي حجارة أو أحجار الكبريت فهذا يعني أن هذه النار تتوقد بطريقة لا تخطر على بال، هم يعرفون أحجار الكبريت في الدنيا وما تفعل فكيف بتلك التي في نار جهنم.
فابتدأ بالناس ربما لهذا المعنى أو باعتبار أن الناس هم الذين يشعرون ويتألمون ويُحسون ويُقاسون حرها، أو باعتبار أن أكثر من يُلقى فيها هم الناس، إذا قيل: بأن ذلك يعني يُراد به أعني الحجارة يعني الأصنام فيكون الناس يعني العابدين أكثر من المعبودات التي هي الأصنام، وذلك أيضًا في التوقد إذا قيل: بأن الأحجار هي الأصنام فهذه الأجسام من البشر وما فيها من الجلود واللحوم والشحوم كل هذا يتوقد ويشتعل ويضطرم نارًا -نسأل الله العافية- وهذا أمر فظيع في غاية الفظاعة، وإذا أردت أن تعرف فظاعته -نسأل الله العافية.
فانظر إلى من أصابته لفحة من النار، حينما تذهب إلى هذه المستشفيات في تلك الأجنحة المُخصصة لهذه الأنواع من الأوصاب والمصائب تجد أن بعضهم قد تضخم وجهه، وقد تقشر جلده، وتغيرت معالمه حتى لا يُعرف، وإذا نظرت في هذه الحال وما قرره الأطباء فيها لربما يقولون هذه لفحة لمدة ثواني فقط، يعني: أنه ليس من الحرق الذي يكون من المستوى الثاني أو الثالث وإنما هي لفحة فقط فيتحول إلى هذه الهيئة، فكيف لو أنه احترق احتراقًا يصل إلى لحمه ونحو ذلك فهذا أمر لا يُقادر قدره، وما يُقاسيه أولئك وما يُعانونه من الآلام الشديدة وما يكون له من التبعات يعرفه -نسأل الله العافية- من ابُتلي بذلك، هذه في لفحة من عذاب الناس، وكثير من هؤلاء الذين يموتون في الحرائق هؤلاء في أغلبهم يموتون قبل أن تصل إليهم النار، يختنقون فيموتون ولا يشعرون بالحرق، ثم بعد ذلك تحرقهم النار، وإذا رأيت ما بقي من الإنسان بعدها رأيت أمرًا لا يستطيع الإنسان أن يُمعن النظر إليه، هذا في الدنيا، هذه النار التي لا تُذكر بالنسبة لنار جهنم، فهي جزء يسير من تلك النار.
وهذا أيضًا: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ [سورة البقرة:24] والإعداد يدل على عناية بالمُعد، وهذا يدل على أنها موجودة ومخلوقة وهذه عقيدة أهل السنة في ذلك، وقد رآها النبي ﷺ وأخبر عن ما شاهده أيضًا، رأى فيها بعض من يُعذبون رأى فيها عمرو بن لُحي الخُزاعي، وهو أول من غير دين إبراهيم وأول من جلب الأصنام لجزيرة العرب، وأول من سيب السائبة[1].
وكذلك أيضًا رأى فيها صاحب المِحجن[2] إلى غير ذلك مما تعلمون.
ثم أيضًا قال الله -تبارك وتعالى- بعد هذه الآية: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25] وَبَشِّرِ هنا أمر بالبشارة، وكثير من أهل العلم يقولون بأن البشارة هي إخبار بما يسُر، قيل لها ذلك لظهور أثر ذلك في بشرة المُبشر، بشر أهل الإيمان والعمل الصالح خبرًا يسرهم ويُبهج نفوسهم، بأن لهم في الآخرة جنات، حدائق ذات أشجار، وفيها من القصور والأنهار التي تجري تحت قصورها وأشجارها ما لا يُقادر قدره، كلما رزقهم الله فيها نوعًا من الرزق والفاكهة المُستلذة قالوا: قد رُزقنا هذا النوع من قبل، فإذا ذاقوه وجدوه شيئًا جديدًا في طعمه ولذته، هذا فيه قولان معروفان للمُفسرين:
بعضهم يقول: هذا الذي رُزقنا من قبل يعني في الدنيا، الهيئة هيئة ما عهدوا في الدنيا والطعم يختلف.
والقول الآخر: بأن ذلك يُقصد به ما رزقوا به في الجنة، فالصور تتشابه ولكن الطعوم تختلف: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25] زوجات مُطهرات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية، وهم فيها أيضًا دائمون لا يحولون ولا يزولون، ولا يعرض لهم الموت والفناء ولا يخرجون من هذه الجنة.
يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- أمرًا لنبيه ﷺ : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة البقرة:25] مشروعية البِشارة التبشير، والنبي ﷺ قد وصفه الله -تبارك وتعالى- في غير ما موضع من كتابه أن الله أرسله مُبشرًا ونذيرا، يُبشر المؤمنين ويُنذر الكافرين، فهذه البُشرى لا شك أنها تسُر وتنُشط أهل الإيمان، وتدفعهم إلى العمل والاستزادة والجد والاجتهاد في طاعة الله -تبارك وتعالى- وهذا أمر ينبغي أن يُعتبر فإن التبشير له أثر لا يُنكر، ولذلك من الخطأ في التربية والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وإلقاء الخطب ونحو ذلك أن يعمد الإنسان إلى التحذير والتخويف ونحو ذلك ويدع التبشير.
وهكذا فيما نتناقله من الأخبار في هذه الوسائط والرسائل، أحيانًا قد لا ننقل إلا ما يسوء، سواء كانت هذه الأخبار صحيحة أو غير صحيحة، بل قد يكون ذلك ثقافة لدى بعض الناس، وهذا خطأ، حتى إنه يُخيل إليك أن البعض لكثرة ما يصدر عنه ذلك إذا رأيته قد أرسل رسالة وأنت لا تعلم محتواها عرفت أنه قد أرسل لك بلاء وغمًا جديدًا، هو غم يتجدد وهذا خطأ ومن قلة الفقه، وله من الآثار السيئة ما لا يخفى لاسيما في مثل هذه الأوقات، أيًا كانت هذه الأخبار، فإن كان ذلك مما يُغير النفوس ويورث الغل، ويوغر الصدور فهذا يكون القلب فيه موضعًا لما يُلقى فيه من بذور الشر والفتنة، ويكون صاحب هذا القلب يكون عُرضة بعد ذلك لكل آسر وكاسر، يعني: أنه صار مُهيئًا لما في قلبه من غل على من ينبغي أن يكون الرجوع إليهم وممن ينبغي أن يستجيب لهم وأن يُطيعهم ممن ولاهم الله -تبارك وتعالى- أمره، كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء:59].
فهذا هو الذي قال الله عنه بأنه خير وأحسن تأويلا، أحسن عاقبة، لكن إذا كان الإنسان يُرسل بلا روية فإن ذلك لا يورثه خيرًا، هذا في هذا النوع من الأخبار التي تُغير القلوب، فيبقى هذا الإنسان ناقمًا على العلماء، وعلى من بسط الله يده ومن ثَم يكون عُرضة لكل رزية وبلية.
النوع الآخر من هذه الأشياء التي قد يبعثها الإنسان ويُرسلها من غير نظر صحيح هو تلك الأخبار التي قد يحسُن دفنها ووأدوها في مثل هذه الأوقات، أوقات الفتن وما يُراد للناس من أن تقع الفتنة بينهم، فالواجب أن يفوت الفرصة على هؤلاء الأشرار، هذا هو الطريق الصحيح، أن يفوت الجميع الفرصة على هؤلاء، وأن يعرفوا أن هؤلاء يُريدون بهم فتنة وشرًا، فإذا وجدوا استجابة فقد حصل مقصود أولئك، فمقتضى العقل والنظر الصحيح أنهم لا يستجيبون لمثل هذه الدواعي دواعي الشر والفتنة، فما الطريق إلى ذلك؟
الطريق إلى ذلك من أهم ما ينبغي اعتباره في هذا الجانب هو أن ندفن ونأد الأخبار لا أن تطير كالشرر في كل مكان، بمجرد ما يصدر هنا رسالة أو هناك أو يُسمع خبر لم يُتحقق منه بعد وأهل الإيمان يقولون: اللهم سلم اللهم سلم، ويطير الناس بالخبر وكأنهم قد ظفروا بشيء -نسأل الله العافية- فهذا لا يصح وليس ذلك من مُقتضى العقل ولا يصح إرسال مثل هذه الأشياء ولا إذكاء مثل هذه الشرور بل تُدفن، ويُقال للناس: دعوا هذا الأمر، دعوا الاشتغال بهذا، دعوا هذه الرسائل، دعوا نشر هذه الأخبار التي لا تورث خيرًا، هذا هو الصحيح لا أن نطير بها، ونُطيّر هذه الأخبار إلى كل ناحية في لحظات تعتلج كما يُقال: الجروبات، وتويتر، ويحتدم قبل أن يُعرف حقيقة هذا الشيء، وحتى إذا عُرف ما الفائدة من إضرام هذه القضية وتكبيرها وتضخيمها ونحو ذلك.
وكذلك أيضًا تلك الأخبار التي تجلب الغم أحيانًا صور حوادث مؤلمة وما إلى ذلك ويصور الناس في حادث، الناس في مصيبة، وهؤلاء يصورون، يكاد يتوقف الطريق وتُفاجأ أن هؤلاء يصورون هذا الحادث، يصورون هؤلاء الموتى، يصورون هؤلاء الذين ابتلوا بالمُصيبة -نسأل الله العافية- فمثل هذا حينما يُرسل ويُنقل لا شك أنه يورث إيلامًا للنفوس، فالعقل لا ينظر إلى هذا، ولا يتتبع مثل هذا، ولا يجلب الهم لقلبه بمثل هذه المشاهد والمناظر المؤلمة، ويسأل ربه العافية للجميع، ويدعوا لإخوانه المسلمين، أما أن يورد ذلك على قلبه فينكأ القلب بجراح بعدها جراح بعدها جراح، فهو إما أن يموت هذا القلب ويتبلد، فلا يُحس ولا يشعر، وإما أنه يتألم ويكتأب ويبقى في حسرة دائمة وليس في يده حل، ليس في يده حيلة، إنما هو كي وجراح مرة بعد مرة يفعله بنفسه، فهذا غير صحيح.
ثم أيضًا تأملوا جلالة المُبشر ومُنزلته: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:25] المُبشر هو النبي ﷺ وهو أصدق البشر -عليه الصلاة والسلام- وهو أعظم رسول يُبشر أهل الإيمان بأمر الله يُبشرهم بأمر عظيم: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة البقرة:25] الأمر يسير الإيمان والعمل الصالح، فهذا هو المطلوب، وليس ذلك بأمر يُعجز البشر، ويخرج عن طوقهم وإمكاناتهم بل هو أمر ميسور لهم، والله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، إلا ما آتاها.
وجمع في هذه البشارة بين نعيم الأبدان بالجنان وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفوس بالأزواج المُطهرة، ونعيم القلوب وقُرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25] الثمار دائمة، والثمار هي فاكهة فهذه الثمرات حينما تكون متواردة بهذه الطريقة فلا تسأل عن ما يكون من ألوان اللذات والنعيم التي تكون الثمرات قدرًا زائدًا عليها، فهذا يدل على عِظم نعيم أهل الجنة، وأنه لا يُقادر قدره، وقد جاء عن معاذ : "بأن العمل الصالح هو الذي اشتمل على أربعة أشياء: النية، والصبر، والإخلاص، والعلم"[3] يعني: أن يكون العمل على علم وبصيرة مع إخلاص ونية وصبر فلا ينقطع ولا يترك.
ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ نكرها هنا والتنكير يدل على التعظيم، وهذا الجمع أيضًا جنات يدل على أنها جنات كثيرة ومُتنوعة، وتأمل هذه اللذات التي ذكرها الله فيها، فإن مجامع اللذات كما ذكر بعض أهل العلم هي في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي، فالله -تبارك وتعالى- ذكر هذه في هذه البشارة فوصف المسكن بقوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ والمطعم: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [سورة البقرة:25] فحينما يُسرح الإنسان طرفه وينظر جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ الناس يبحثون عن هذا في المُتنزهات والأماكن الجميلة ويُسافرون إليها آلاف الأميال، فإذا وجدوا المناظر البهية والأنهار الجارية والأشجار والمساحات الخضراء وما أشبه ذلك فإن ذلك لربما يشغلهم عن النوم، وعن كثير من الأعمال واللذات؛ لأنهم يتمتعون بهذه المناظر بل إن الإنسان يتمتع بالنظر إلى صورها، الصور يتمتع إليها ويُعلقها الناس في دورهم وبيوتهم، فكيف لو رأوا صورة واحدة من الجنة؟! فإنهم قد لا يحتملون هذا، إذا رأوا مجرى في الدنيا، إذا سمعوا عن واد أنه قد جرى لساعات أو ليوم أو لبعض يوم سافر إليه كثير من الناس وركبوا الأخطار ولربما غرق من غرق، وجاءت التحذيرات ومع ذلك هو شيء لا يُذكر بالنسبة لما في الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لا يحتاجون إلى سفر وإلى مسافات شاسعة وقدر آلاف الأميال من أجل أنهم يذهبون، وإنما تجري من تحتها من تحت القصور ومن تحت هذه الأشجار، ينظرون إليها متى شاءوا ويتمتعون بها كيف شاءوا، وكذلك أيضًا تأمل هذه الأشياء كيف رتبها الله -تبارك وتعالى.
المطاعم: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [سورة البقرة:25] تجد الذي لم ير الفاكهة قط إذا وجدها فإنه يُقبل عليها ويلتذ بها، فإذا تكرر ذلك عليه وكان مبذولاً فإنه لربما لا يلتفت إليه، ولا يجد له طعمًا، كما نُشاهد مع توافر النِعم والخيرات لكن هذه التي في الجنة لا يحصل معها السآمة، والاعتياد كل ثمرة تختلف في طعمها عن ما كان قبلها، فلا يوجد سآمة هذا شيء جديد، دائمًا جديد؛ لأن النفوس قد تسأم مما اعتادت وألفت.
وهكذا هذه المناكح: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [سورة البقرة:25] فبدأ بالمسكن؛ لأنه محل الاستقرار ودار الإقامة، وثنى بالمطعم؛ لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر بعد ذلك الأزواج؛ لأن بها تمام النِعمة والالتئام، فهذا كله كما وصف الله -تبارك وتعالى- وقد أجمع الناس على أن مثل هذا الوصف في الجنات وجري الأنهار كما يقول الطاهر بن عاشور وهو يعيش في بلد توصف بالخضراء تونس الخضراء يقول: "قد اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر"[4] أشجار والأنهار وهذا أمر لا يُنكر، وأتوا بهذه الثمار مُتشابهة كل لذة هناك تجدها أكمل وأجمل.
ثم أيضًا هذه الزوجات قال: مُطَهَّرَةٌ وأطلق، فيشمل جميع أنواع التطهير، مُطهرة في قلبها فهي لا تحمل غلاً ولا حقدًا ولا كراهية، قد يتزوج الإنسان أجمل النساء ولكنها لا يجد أنها تُلائمه؛ لأنها مثلاً تتحامل، حقودة، تحمل الغِل في نفسها، تُسيء الظن بالآخرين، لا يُعجبها أحد، هؤلاء فيهم كذا، وهؤلاء فيهم كذا، أو فيها كِبر، وهذا كثير لربما في ذوات الجمال أنها تتعالى وترتفع حتى على زوجها، هناك مُطهرة القلب طاهر، يجتمع الجمال الظاهر مع الجمال الباطن، قلب نظيف لا غل، ولا حسد، ولا حسابات، ولا كراهية، ولا أحقاد، ولا غير ذلك، ومُطهرة أيضًا في أخلاقها فاللسان لا يصدر عنه إلا كل قول جميل، أطايب الكلام، وأطايب القول.
وبعض الناس لربما يتوهم أنه سمع عن أهل بلد أن رجلاً تزوج امرأة أو آخر تزوج أخرى فسمع منها كلامًا جميلاً تُحسن به التبعل إلى هذا الرجل، ولربما لو تزوج هو أخرى من تلك البلاد لرأى شيئًا آخر، فالناس إذا تسامعوا في هذا تهافتوا عليه الكلام الجميل الذي يأسر القلوب، فهي مُطهرة في لسانها، لا تسمع كلمة تجرح، كلمة تؤذي، كلمة تؤلم، امرأة قد تكون جميلة لكنها تحمل لسانًا يجرح ويؤذي.
وهكذا أيضًا هي مُطهرة في بدنها وجسدها، لا حيض، ولا نفاس، ولا بول، ولا غير ذلك، ولا يخرج منها شيء مما يُستقذر أيًا كان، ولك أن تُسرح طرفك، وكثير من الناس لربما تستهويه امرأة جميلة جدًا ولربما يصير عبدًا لها ويظن أنه سيُحصل السعادة بمجامعها لو أنه ظفر بها، ولو تأمل حينما تكون في الخلاء أو نحو ذلك لربما طابت نفسه، فالناس ينظرون إلى أمور ظاهرة قريبة، ولكنهم ينسون ما وراء ذلك فتُستعبد قلوبهم لما لا يصح أن تُستعبد القلوب له بحال من الأحوال، فهذه مُطهرة من جميع هذه الأدناس، طهارة نقاء كامل، العرق رشح المسك يخرج منهم أثر الطعام والشراب كرشح المسك، لا يوجد دورة مياه، ولا يوجد أذى.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن أشرف عضو في الإنسان الرأس ومع ذا يخرج منه الأذى من خمسة منافذ، هذا أشرف عضو، يخرج منه الأذى من خمسة منافذ، أما أولئك الأزواج المطهرة فليس فيها شيء من هذا، والرجل لربما يدرس سبعة عشر سنة، وكثير من هؤلاء الناس يدرسهم الآن في حال من الجد والاجتهاد استعدادًا لهذه الاختبارات ولربما لو سألته يقول: من أجل أن أُحصل المال، تُحصل المال من أجل ماذا؟ قال: من أجل أن أكل، ثم ماذا؟ قال: أتزوج، وقد لا يستمر مع هذه المرأة، وتذهب هذه الأموال التي أنفقها، وأما نساء الجنة فالعمل الصالح والإيمان بالله -تبارك وتعالى- هذا هو المهر، فتُبذل الأعمار في سبيل جمع شيء من المال ولربما ركبت الإنسان الديون من أجل امرأة من نساء أهل الدنيا قد لا يستمر معها وقد لا تُلائمه، ويذهب جمالها ويذهب شبابها، أما في الجنة فلا شباب يذهب ولا جمال يذهب وهي في غاية الحُسن المُتناهي، فأين المهور؟! وأين الباذلون لها؟!
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [سورة المائدة:103] برقم (4623)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2856).
- أخرجه مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم (904).
- تفسير البغوي (1/ 73).
- التحرير والتنوير (1/ 354).