بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله: أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نوصل الحديث -أيها الأحبة- فيما يستخرج من هذه الآيات التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- ليدلل على أحقيته بالعبادة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة البقرة:29] أنكر عليهم كفرهم، وعبادة غير الله جل جلاله وتقدست أسماؤه كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28] ثم قال في هذه الآية: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:29] فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق لأجلكم كل ما في الأرض من النعم والمنافع التي تنتفعون بها، ثم استوى إلى السماء أي: ارتفع وعلا، فخلقهن هذا الخلق الذي هو في غاية الإحكام والاستواء.
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فعلمه محيط بكل شيء، وهذا توجيه للعباد من أجل أن يعتبروا ويتفكروا وينظروا في دلائل قدرته -تبارك وتعالى- ووحدانيته هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:29] فالذين لا يعرفون الله -تبارك وتعالى- ويعبدون غيره من الأصنام والمعبودات الباطلة، كالبقر والشجر، ونحو ذلك، هؤلاء لا غرابة حينما تتعطل أذهانهم وأفهامهم عن إدراك مثل هذه الحقائق والالتفات إلى مثل هذه المواطن التي يحصل بها الاعتبار، ويستدل بها على هذا الخالق، وأنه هو الواحد الذي لا يصح أن يتوجه إلى غيره، ولا أن يعبد غيره.
فأولئك لا غرابة حينما تتعطل أذهانهم وأفهامهم فلا تجول في هذا الخلق لتستدل به على هذه المعاني الكبار، ولكن الغريب أن تتعطل أذهان وأفهام أهل الإيمان، ومن يقرؤون مثل هذه الآيات، فيبقون في حال من العجز والحجب، فلا يستدلون على هذه الموجودات وما صرّفت فيه على هذه المعاني العظيمة، وفي أوائل هذا الكتاب مثل هذه الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فكل ما في هذه الأرض من المعادن والأشجار والنباتات والثمار والمياه وما إلى ذلك خلقه الله للعباد.
ومثل هذا التعبير خَلَقَ لَكُمْ يدل على أن ذلك من أجل مصالحكم ومنافعكم؛ ولتقوم حياتكم؛ ولتستقيم وتستقر معايشكم، ثم يُؤخذ من هذه الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ أن الأصل -كما يقرره الأصوليون والفقهاء- أن كل ما في الأرض من أشجار ومياه وثمار وحيوان وغير ذلك الحل، فالذي يحرم شيئًا من ذلك فإنه يطالب بالدليل على التحريم، فإذا وجد الدليل على تحريم شيء من ذلك وقف عنده، فإن لم يوجد نظر في الضرر، فما كان من الأشياء الضارة التي يغلب ضرها على نفعها فإنها تحرم؛ لأن هذه الشريعة -كما هو معلوم- وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [سورة الأعراف:157] وإلا فالأصل في الأشياء الحل من المطعومات وسائر أنواع المنافع، والأصل في المعاملات الحل، والأصل في المطعومات الحل، والأصل في المنافع الحل، فهذا أصل مقرر معلوم لدى أهل العلم، بخلاف الذبائح، فإن أهل العلم يقولون: الأصل في الذبائح المنع، يعني إلا ما تقرر ذكاته، وأنه ذكر اسم الله عليه وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121] وهكذا لما ذكره الله الموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع، إلى آخره، قال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3].
ثم أيضا تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [سورة البقرة:29] هذا فيه إثبات الأفعال الاختيارية والصفات الاختيارية لله -تبارك وتعالى- فهذا الاستواء هو فعل من أفعاله، وكذلك أيضًا التسوية، فسواهن سبع سماوات، فالله يفعل ما شاء، متى شاء، كيف يشاء، فله الكمال المطلق من كل وجه، وهذا الخلق وهذه التسوية كل ذلك يدل على علم محيط دقيق، وعلى قدرة كاملة، فإنه لا يمكن خلق مثل هذه السماوات بهذا الإحكام يمر عليها هذه الأزمان الطويلة من غير فطور، ولا خلل، ولا تحتاج إلى صيانة فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:3، 4] يرجع إليك البصر خاسئًا لا يجد خللاً، ولا فطورًا.
فالإنسان لو جاء بأكبر الخبراء من المهندسين، وبأفضل المواد التي تستعمل في البناء، وجاء بأكبر الشركات ذات الخبرة الطويلة في البناء والعمارة، فإن هذا البناء بعد مدة وربما يسيرة تظهر فيه العيوب والشقوق، ثم بعد ذلك يبدو عليه الضعف، وتتقادم عليه السنون، حتى بعد ذلك يبدو واهنًا آيلاً للسقوط، فهذه الأبنية التي يبنيها الناس لو سألنا أهل الخبرة في العمر الافتراضي لهذه الأبنية التي نشاهدها، فعندهم أن متوسط أعمار هذه البنيات بما يقرب من ثلاثين سنة فقط، هذا العمر الافتراضي، وتجد الإنسان يبذل فيها، ويعقد عليها الآمال، ويبني ربما المدة الطويلة، وينفق الأموال الطائلة، ومداها هو هذا، لكن انظر إلى خلق الله -تبارك وتعالى- وما فيه من الإحكام، فلا يحتاج إلى تجديد ولا ترميم ولا يحتاج إلى استدراك لجوانب من النقص، وإنما هكذا منذ خلقه الله وهو يجري بنظام دقيق، وفي غاية الإحكام، فهذا خلقه .
ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30] واذكر أيها الرسول يمكن أن يكون هذا الخطاب موجها للنبي ﷺ وهو خطاب لكل أمته؛ لأن الأمة تخاطب -كما هو معلوم- بشخص قدوتها ومقدمها ﷺ واذكر إذ قال ربك للملائكة، ويصلح أن يكون ذلك خطابًا لكل أحد إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا؛ لعمارتها خليفة، وليس المقصود بذلك أنه يكون خليفة عن الله، فإن الله أعظم وأجل من ذلك، ومن هنا فإن العبارة التي قد يعبر بها بعضهم يقول: الإنسان هو خليفة الله في أرضه، فهذه عبارة غير صحيحة، وإنما خليفة أي يخلف بعضهم بعضًا، وقيل غير ذلك، لكن هذا هو الأقرب من هذه المعاني.
يقول الله -تبارك وتعالى- واذكر أيها الرسول إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها، فسأل الملائكة ربهم -تبارك وتعالى- سؤال استرشاد، وليس بسؤال اعتراض، فإن الملائكة أعلم بالله -تبارك وتعالى- وأخوف وأتقى من أن يسألوه سؤال اعتراض أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [سورة البقرة:30] هذا سؤال واستفهام، فهم يسترشدون ويسألون عن الحكمة في خلق هؤلاء البشر الذين من شأنهم الإفساد في الأرض، وإراقة الدماء ظلمًا وعدوانًا، ونحن طوع أمرك ننزهك التنزيه اللائق بك، ونمجدك، ونقدسك، فقال الله -تبارك وتعالى- لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:30].
فيُؤخذ من هذه الآية كما قال بعض أهل العلم كالقرطبي: أن هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، وتجتمع عليه الكلمة، وتنفذ به الأحكام[1] وهذا لا شك أنه من الفروض الواجبة على الأمة، ولا تستقيم حياتهم ومعايشهم، بل لا يقوم دينهم إلا بهذا، وإلا بقوا فوضى، فتضيع الضرورات الخمس، كما هو معلوم، فنحن نشاهد في البلاد التي تتحول إلى فوضى، فإن أديان الناس تتضرر، والناس لا يأمنون في عبادتهم، ولا يخرجون إلى مساجدهم، ولا يحكم فيهم بشرع الله فتضيع الحقوق.
وكذلك أيضًا لا يأمنون على دمائهم، ولا على عقولهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، الضرورات الخمس جميعًا تضيع وتذهب.
وكذلك أيضًا دل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] هذا قبل خلق آدم، فالله أخبر الملائكة قبل خلقه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فهذا يدل على أن الله قد قدر وعلم أن آدم ﷺ سيخرج من الجنة، ويهبط إلى الأرض إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ولم يقل: في الجنة، والله حينما خلق آدم أسكنه الجنة، ونهاه عن الأكل من الشجرة، كما هو معلوم، فأكل منها، وأطاع عدوه إبليس، وحصل ما حصل، ثم نزل بعد ذلك، وأهبطه الله إلى هذه الأرض، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله:
فحيا على جنات عدن فإنها | منازلك الأولى وفيها المخيم |
ولكننا سبي العدو فيا ترى | نرد إلى أوطاننا ونسلم[2] |
وإنما نحن سبي العدو أي: سبانا إبليس من الجنة إلى هنا، فيا ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم.
ففي هذه الآية تدل على أن الله قد قدر على آدم خروجه، وأنه سيكون خليفة في الأرض، فهذا يدل على علمه المحيط الشامل، وأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ فيه إثبات القول لله وتقدست أسماؤه، فالله -تبارك وتعالى- يقول ويتكلم كلامًا يليق بجلاله وعظمته، وهذا الكلام يكون بحرف وصوت، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ويتكلم بكلام حقيقي لا يشبه كلام المخلوقين.
ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ إسناد القول هنا إلى الرب -تبارك وتعالى- في غاية المناسبة؛ لأن هذا الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- هو من معاني ربوبيته، وتصريفه لأمر الخليفة، خلق آدم وأوجده، والملائكة يتساءلون عن سبب خلق آدم، وأن الله أراد أن يكون خليفة في الأرض، فكل هذه من معاني ربوبيته وتدبيره وتربيبه لخلقه، كيف شاء؟ ثم أيضًا فيه التفات، وعرفنا الالتفات في تنويع الخطاب، فإن الله -تبارك وتعالى- قال قبلها: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة البقرة:29] فهنا خطاب للجميع، ثم بعد ذلك صار الخطاب إلى الواحد، وهذا نوع من أنواع الالتفات، حيث خرج من الخطاب العام كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [سورة البقرة:28، 29] ثم قال: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ولم يقل: وإذ قال ربكم.
كذلك أيضًا تأمل قول الملائكة -عليهم السلام: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة:30] يفسد فيها، ما الذي أعلمهم بهذا؟ الله أعلم، ومن أهل العلم من يقول: يحتمل أن يكون الله أعلمهم حينما أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة: أن من طبيعته كذا وكذا، ويحتمل أنهم لما عرفوا صفة هذا المخلوق، وأنه مجوف، عرفوا أنه يكون موضعًا للشهوات، ونحو ذلك، فتقع منه نوازع الشر والمخالفة، ويحتمل أن يكون ذلك بناء على ما شاهدوا من الجن، باعتبار ما يذكر من أن الجن كانوا قبل الإنس في الأرض، وأنهم أفسدوا إلى آخر ما ذكر، فقاسوا الإنس على الجن، فيحتمل هذا ويحتمل غيره.
لكن هنا قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ذكروا قضيتين: الإفساد، وسفك الدماء، مع أن سفك الدماء هو من جملة الإفساد، ولكنه ذكر مستقلاً لشدته وخطورته وعظمه، فهذا كما قال الله في الآية الأخرى لما ذكر قصة ابني آدم قال: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32] وأقوال المفسرين في آية المائدة معروفة مشهورة متنوعة، منها: أن العدوان على نفس واحدة كالعدوان على جميع النفوس؛ لأن النفوس في ذلك متحدة، وأن إحياء النفس الواحدة كإحياء جميع النفوس؛ لأنها متصفة بالصفة الواحدة، وهي صفة الإنسان، فهؤلاء سواء من هذه الحيثية، والمحافظة على روح إنسان كالمحافظة على جميع الأرواح، وقطع ذرائع الإتلاف والإفساد والعدوان على النفوس يكون تحقيقًا لسلامة جميع النفوس، التي لا يحل قتلها إلا ما جاء استثناؤه عن الشارع، وليس ذلك أيضًا لكل أحد لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة[3] ولا يكون هذا أيضًا لآحاد الناس.
فالملائكة ذكروا هاتين القضيتين: أن يفسدوا فيها، ويسفكوا الدماء، وأيضًا فالله -تبارك وتعالى- حكم على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس، أو فساد في الأرض، فُقدِّم هناك قتل النفس؛ لماذا؟ لأن قصة ابني آدم في سورة المائدة فيها قتل للنفس، فقدم ما يتعلق بالمناسبة، وهنا ذكر العام؛ لأن بني آدم يصدر عنهم القتل وغير القتل، فدل هذا وهذا، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على أن هذين الأمرين اللذين ذكرهما الله في قصة ابني آدم، وما قضى به على بني إسرائيل، على أن الإفساد في الأرض، ومن أعظمه وأشده: قتل النفوس، من أعظم الجرائم والمنكرات والعظائم[4] بصرف النظر عن مراد صاحبه، سواء فعل ذلك ديانة من عند نفسه، حيث فهم الدين بفهم فاسد، سواء كان ذلك بسبب نوازع الشر في نفسه، أو غير ذلك من الأسباب، يبقى أن هذا من أعظم المنكرات والجرائم، ولا يمكن لأحد أن يدعي الإصلاح والصلاح، ثم بعد ذلك يصدر عنه مثل هذه الأفعال الشنيعة القبيحة، بل ويكثر منه ذلك، حتى يعرف به من بين سائر الناس، سواء كان فردًا أم جماعة، فلا فرق في ذلك، وما نشاهده ويقع في مثل هذه الأيام لا شك أنه من أعظم الفساد في الأرض، والإجرام والسوء؛ ولأن يبقى المرء يعاقر أنواع الشهوات من شرب الخمر، وفعل الفواحش والزنا، وما إلى ذلك، فإنه أسهل بكثير من هذا الذي نشاهده!
انظروا في مثل هذه الأيام كيف شغل الناس بمثل هذه الشنائع، والأعمال القبيحة، والبلد في حال حرب، ثم تأتي هذه الطعنة في الظهر، فتصرف الناس من ميدان المعركة إلى هؤلاء الغادرين الأشرار، فأشغلوا الناس، ولو أن أكبر الأعداء أراد أن ينصرف ميدان المعركة، فإنه لن يفعل أكثر من هذا، ولم يجد من يتبرع له بأكثر من هذا، هذا عند من يعقل ويبصر، ولكن فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46].
فالملائكة قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [سورة البقرة:30] بأنواع المعاصي وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة:30] قالوا هذا - كما سبق - استفهامًا واسترشادًا، وليس من قبيل الاعتراض، ولا الحسد لبني آدم، وإنما هو سؤال استعلام، ولا يحسن أن يقال كما ذكر بعضهم: بأن الله ذكر ذلك على سبيل الاستشارة للملائكة، فالله أعظم من هذا، لكن الذين يذكرون ذلك هم يقصدون به أن ذلك من قبيل تعليم الله لخلقه، إنما الذي يستشير هو من كان ناقص العلم، لا يعلم العواقب، والله أجل وأعظم من أن يستشير أحدًا من خلقه، مهما علت مرتبته، فالله هو الذي خلقهم، وهو الذي علمهم.
لكن من ذكر هذا من المفسرين قصد به أن ذلك لتعليم بني آدم، لكن هذا المعنى لا يصح، وإنما ذكرته لأنه قد يقف عليه بعض من يقرأ في بعض كتب التفسير، ولكنه معنى مردود، وعبارة مردودة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فالجملة هنا جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام، فهم دائمون على ذلك، لا يفترون ولا يضعفون ولا يكسلون ولا يتعبون، كما وصفهم الله -تبارك وتعالى- وتقديم المسند إليه (نحن) على الخبر الفعلي (نسبح) دون حرف النفي، يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام، أي: نحن الدائمون على التسبيح والتقديس، دون هذا المخلوق، وبخلاف هؤلاء البشر الذين يقع منهم ما يقع من الغفلة والتفريط والفساد والإفساد، لكن الله عليم حكيم، فهذه الذرية وجد منهم الأنبياء والرسل والصديقون والشهداء والصالحون، ووجد منهم خلق يدخلون الجنة، ووجد منهم من هم أولياء لله -تبارك وتعالى- ويتميز بذلك أولياؤه من حزبه، وتظهر معاني الأسماء والصفات للرب -تبارك وتعالى- وتظهر جوانب عظيمة من حكمته، إلى غير ذلك مما أراده الله -تبارك وتعالى.
فنسأل الله أن يردنا إلى الجنة، وأن يعيذنا من الشيطان وجنده، وإضلاله، وإغوائه.
اللهم ارحم مواتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خير من دنيانا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- تفسير القرطبي (1/ 264).
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 9).
- أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله - تعالى: وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ .. [سورة المائدة:45] برقم: (6878) ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم برقم: (1676).
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 95).