بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نواصل الحديث -أيها الأحبة- عن هذه الهدايات التي تُستخرج من هذه الآيات الكريمات، من سورة البقرة، فقد كان الحديث عن الآيات التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها خبر آدم مع إبليس، وأن إبليس أبى أن يسجد لآدم وأما آدم فقد كانت معصيته من نوع آخر، فإبليس ترك المأمور، وآدم فعل المحظور، وقلنا: بأن أهل العلم أخذوا من ذلك أصلاً وهو أن جنس ارتكاب المحظور أسهل من جنس ترك المأمور، وأن ذلك باعتبار الجنس لا باعتبار الأفراد من الأعمال، ومثلت لهذا بأمثلة.
كما أن قوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] يدل على أن هذه الحياة مؤقتة، فينبغي أن يُتعامل معها على هذا الأساس لا يكون الإقبال عليها، وعلى حطامها، وعلى التطاول في البيان، والتكاثر من عرضها الزائل أن يصير بحال كأنما يُخلد الإنسان فيها، إنما هو متاع إلى حين، يتمتع به الإنسان بُرهة من الزمن، ثم يتلاشى كل شيء، يذهب الشباب ونضارته، وتذهب جِدة الأشياء ورونقها، وما فيها مما يجذب النفوس ويأسرها لأول وهلة، ثم بعد ذلك يصير ذلك الشيء قد تقادم عليه الزمان، وملته النفوس، وما عاد له ذلك البريق الذي يستهوي الناظرين.
فهكذا الحياة بعد أن يكون الإنسان شابًا يافعًا، ثم بعد ذلك يقوى ويشتد شبابه، حتى يكون إلى سن يكون فيها راشدًا، ثم بعد ذلك يبدأ بمرحلة الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم بعد ذلك يصير إلى حال من الضعف، حيث تضعف حواسه، وتضعف مداركه، ويصير إلى حال في الغالب ربما يُعاني أنواع الأوجاع والعِلل والأوصاب، وربما سأم الحياة إن لم يكن موفقًا قد شُغل بذكر الله وطاعته، أما ذاك الذي قد قضى العُمر في ذهاب ومجيء في طلب الدنيا، والاشتغال بها، والتمتع بأنواع اللذات والنُزه، وما إلى ذلك، ولم يُفتح عليه في باب الذكر والعبادة والطاعة، فإن مثل هذا تتلاشى قواه، فتذهب تلك اللذات، ولا يكون لها في نفسه وقع، فيسأم، وكما قيل:
سئمت تَكاليفَ الحياة ومن يعش | ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم[1] |
وكقول الآخر الذي سأم الحياة:
ألا موت يُباع فأشتريه | فذاك العيش مما لا خير فيه |
ألا رحم المُهيمن رأس حر | تصدق بالوفاة على أخيه[2]. |
وكما قال الآخر:
يسُر المرء طول عيش | وطول عيش قد يضره |
تفنى لذاذته ويبقى | بعد حلو العيش مره |
وتسوئه الأيام حتى | ما يرى شيئًا يسُره[3] |
فيكون في حال من الاكتئاب والضيق والضجر، لا يحتمله أقرب الناس إليه، وما عاد يهوى الخُلطة بالآخرين، بعد أن كان يملأ صدور المجالس، هذه طبيعة هذه الحياة لمن فتح الله بصيرته، ونظر إلى ما وراء هذا البهرج، الذي يغُر الكثيرين، فهو متاع إلى حين.
أيضًا تأمل هذا الموضع وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سورة البقرة:36] هذا يدل على أنه في مكان آخر غير الأرض، فالذين يبحثون عن كوكب آخر بزعمهم يمكن أن يجدوا فيه ما يُقيم العيش، وما يحصل به الحياة، فهؤلاء يبحثون عن سراب، فالله -تبارك وتعالى- قد هيأ هذه الأرض للعيش فيها، فقال: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] لا نستطيع أن نعيش على كوكب آخر غير الأرض، فتلك غير مُهيأة، وإنما هيأ الله الأرض، وجعل فيها المعايش والأقوات، وبارك فيها من أجل أن تكون صالحة لذلك.
ومن هذه الآية يؤخذ أيضًا المِنة على أبينا آدم بأن الله -تبارك وتعالى- قد أسجد له الملائكة، ثم بعد ذلك حينما امتنع إبليس طرده وأبعده وحينما عصى آدم ربه قبل توبته، واجتباه، وامتن عليه، كما قال الله : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:37] فالمِنة الواصلة لأبينا آدم هي لاحقة للذرية؛ لأن القاعدة: أن المِنة الواصلة للآباء لاحقة للأبناء؛ ولهذا نجد كثيرًا ما يمتن ربنا -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل بِمنن أدركت آباءهم وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] مع أن ذلك كان لآبائهم وأجدادهم، ولكن لما كانت هذه المِنة واقعة للآباء صارت لاحقة للذرية.
كما أن المذمة أيضًا التي تلحق الآباء تلحق الذرية إن كانوا على طريقتهم؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وما أشبه ذلك مما ذكره الله وقصَّ علينا من خبر بني إسرائيل ومساوئهم وجناياتهم، وإنما وقع ذلك من أجدادهم، فخوطب به أولئك الذين عاصروا النبي ﷺ حينما نزل القرآن، فالمذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إن كانوا على نفس الطريق.
ثم تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [سورة البقرة:37] فتلقى آدم كلمات بالقبول، ألهمه الله -تبارك وتعالى- إياها، توبة واستغفارًا، وهي قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23] فهذه هي الكلمات، والقرآن يُفسر بعضه بعضًا، فقبل الله ذلك من آدم وتاب عليه، وغفر ذنبه، والله -تبارك وتعالى- هو التواب الرحيم.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37] فهذه نعمة ومنة، وهي أن الله -تبارك وتعالى- ألهم أبانا آدم الكلمات؛ ليتوب عليه، فهذا يدل على سعة فضله، ورحمته على عباده، في حال معصيتهم، فكيف تكون الحال مع المُطيعين المُتقربين المُستجيبين لله -جل جلاله، وتقدست أسمائه.
ويُؤخذ من هذا -أيها الأحبة- أن الله -تبارك وتعالى- إذا فتح قلب العبد للتوبة، ووفقه لمعرفة تقصيره ومُخالفته ومعصيته، فإن هذا طريق إلى التوبة والاستقامة والهداية.
إن الكثيرين حينما ينحدرون فيُضيعون أمر الله -تبارك وتعالى- وينتهكون حدوده، لا سيما في مثل هذه الأوقات، قد يُلبسون ذلك بلبوس الشُبهات، فيستحلون ذلك، ويُجادلون عنه، ويرى الواحد أنه لم يفعل ما يُلام عليه، ولم تحصل منه جناية حتى يتوب، فمثل هذا كيف يُسدد ويوفق ويُهدى، وهو يرى أنه على هدى، وهو مُقيم على معصية الله -تبارك وتعالى؟!
لكن قد يحصل للعبد ضعف، وتراجع وغفلة، وقد تغلبه نفسه، ثم يحصل له إفاقة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] فحُذف المُتعلق هنا، تذكروا ماذا؟ تذكروا تقصيرهم، وعظمة الله، والجزاء والحساب، والوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى- والطريق التي تركوها تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201].
والفاء تدل على التعقيب المُباشر، فهو يرجع مُباشرة، ولا يُمهل؛ لأنه -كما قيل: الفُرصة لا تطرق بابك مرتين، ويُخشى على الإنسان حينما يحصل له مثل هذه النفحات، ثم يُدير ظهره إليها أن يُخلى بينه وبين نفسه وهواه، فيضيع، ويكون بعد ذلك كمن قال الله -تبارك وتعالى: وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] يعني: إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] يُمد هؤلاء من أوليائهم بالغي، فلا يحصل منهم ارعواء، ولا تراجع، ولا توبة، ولا تفكير في التوبة؛ لأنه لا يرى أن به بأسًا، بل هو على حال من الكمال والتكميل.
كما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فجاءوا بأسلوب الحصر، وهي ثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر عند الأصوليين واللغوين إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حصروا أنفسهم في الإصلاح، يعني: ليس فقط أنهم على حال من الصلاح، بل قد زادوا على ذلك، فصاروا إلى حال من الإصلاح إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فالإنسان أحيانًا يعمى عن عِلله وأدواءه، فيُخلى بينه وبين نفسه فيضل، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الحشر:19] فهنا إذا فُتح على قلب الإنسان في التوبة، وبصره الله بما كان عليه من الغفلة والمعصية والانحراف، فينبغي أن يُبادر إلى التوبة النصوح، والتوبة النصوح هي على اسمها، تكون مستوفية لثلاثة أوصاف أو شروط:
الأول: أن تكون شاملة.
الثاني: أن تكون هذه التوبة صادقة خالصة لله رب العالمين، ليس من أجل الناس، ولا الخوف من الناس، ولا لأنه وقع في يد الهيئة، أو غير ذلك.
الثالث: أن تكون هذه التوبة جازمة، لا تردد فيها، فلا يقول في نفسه: إنه متى لاحت له فرصة أعاد الكرة للمعصية، فهذه ليست بتوبة صحيحة.
وهذا يدل أيضًا على أن التوبة ليست بعمل صعب، فالله -تبارك وتعالى- ألهمه هذه الكلمات، وتاب عليه، وهي كلمات، فيحتاج من المرء أن يصدق مع الله ويندم على ما مضى، ولا يحتاج إلى وسائط، كما هو عند النصارى، فإنهم لا يتوبون إلا على يد مخلوق يُقررهم بكل جناياتهم مُفصلة، على كُرسي، يسمونه كرسي الاعتراف، يجلس عليه الرجل والمرأة على حد سواء، ويذكر مُفصلاً كل ما اقترفت يداه، ثم بعد ذلك يمُن عليه بالتوبة، أما هذا الدين الذي لم يتطرق إليه التحريف والتبديل، فيكفي أن العبد يندم ويعزم أن لا يعود، ويصدق مع الله -تبارك وتعالى- في هذه التوبة، وإن كان ثمة مظالم للعباد، فإنه يرد هذه المظالم مع إقلاعه عن المعصية إن كان مُقيمًا على شيء من ذلك، فيتخلص العبد من أوضارها، وتعود صفحته بيضاء نقية، ليس فيها شوب ولا كدر.
المخلوق قد تُسيء في حقه، قد يحصل منك جناية، ويبقى لك سجل عند هذا المخلوق، يُذكرك به في كل مناسبة، أما الله -تبارك وتعالى- فإنه يستر عبده، ثم بعد ذلك يمحو خطيئته؛ ولهذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن حال آدم بعد الأكل من الشجرة والمعصية أكمل من حاله قبل المعصية[4] وذلك أن العبد المؤمن الصادق حينما تقع منه المعصية، فإن ذلك يبعثه على المزيد من الطاعات والبذل للترقي في المدارج العالية، في سُلم العبودية؛ لأنه كلما تذكر هذه المعصية جد واجتهد؛ لأن الحسنات يُذهبن السيئات وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114] اصبر على التوبة، واصبر على الطاعة والحسنات، وعن المعاصي، ثم بعد ذلك تجد الألطاف الربانية تحف بك من كل جانب، فهنا ينبغي على العبد أن يُبادر، وهذا شهر الرحمة والمغفرة، فالتوبة فيه أيسر وأقرب، والنفوس فيها مُهيأة، والشياطين مُصفدة، وليس أحد يُبرئ نفسه من الذنوب والمعايب والخطايا.
ونلحظ هذا التواضع من آدم وزوجه، حيث اعترفوا بالخطيئة فقالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [سورة الأعراف:23] وهنا: يتلقى هذه الكلمات من الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "إذا كانت خطيئة الرجل في كِبر فلا ترجه، وإذا كانت خطيئته في معصية فارجه، فإن خطيئة آدم في معصية، وخطيئة إبليس في كِبره"[5] إبليس استكبر، والمُتكبر يصعب عليه جدًا أن يرجع، وأن يرضخ للحق ثانية، وإنما يبقى في حال من التعالي.
ولذلك انظروا فيما قصَّ الله من خبر المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سورة المنافقون:5] فعبد الله بن أُبي لما قال ما قال في غزوة بني المُصطلق، قال: أوقد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8][6] وأنكر هذا المُنافق مقالته، حينما سأله النبي ﷺ فجاء الوحي مُخبرًا عن قيله، فلما قيل له: اذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك، لوى عُنقه تيهًا وكِبرًا، فمثل هذا لا يوفق ولا يُسدد؛ ولذلك مات على النفاق؛ ولما زاره النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه، قال: هذا ابن زُرارة كان مؤمنًا صادقًا ومات، هكذا يفهم ذلك البهيم، أن المسألة مسألة موت، يموت الأنبياء، ويموت الصديقون والصالحون، فالموت للجميع كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة آل عمران:185] ولكن يصدرون مصادر شتى، وشتان بين موت المنافق، وموت المؤمن.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا هذا اللطف من الله -تبارك وتعالى- بآدم حيث لم يتركه يواجه عاقبة المعصية، بل علمه كيف يرجع ويتوب، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان مع إخوانهم، إذا وقع من أحد معصية وتقصير، فينبغي أن لا يكون ذلك هو نهاية المطاف معه، فيُترك ويُنبذ ويُلاحق بهذه المعصية، ولو صحت توبته، هذا الإنسان ربما يُعامل معاملة تبقى أبد الدهر؛ وذلك في خطأ وقع منه أو معصية، أو غلبة النفس والهوى والشيطان في ساعة ضعف، فيُلاحق بذلك، ويُذم ويُعاب، ثم لربما يُقطع قطيعة كاملة؛ لأنه في نظر بعضنا دنس، بينما نجد أن الله -تبارك وتعالى- يتلطف مع آدم وقد عصى، ويُقربه للتوبة، فالله رحيم، فهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان رُحماء، إذا كان الله -وهو الغني عن خلقه- يفرح بتوبة العبد، فما بالنا لا نقبل من المُسيء صرفًا ولا عدلاً؟! للأسف لو نظرنا في تصرفاتنا إزاء من أخطأ وعصى نجد أننا ربما غلب علينا هذا اللون في تعاملنا ومواقفنا، والله المستعان.
ثم أيضًا إذا كان آدم وهو من هو، الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- بيده، وأسجد له ملائكته، ثم أسكنه جنته، ومع ذلك لم يستغن عن التوبة، فبادر وتاب، فهل يستغني بعد ذلك أحد عن التوبة؟! الكل محتاج إلى التوبة، والنبي ﷺ وهو من هو كان يُكثر من الاستغفار والتوبة، والله -تبارك وتعالى- يُخاطب أهل الإيمان خطابًا عامًا، يشمل الصالح والطالح يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [سورة التحريم:8] فهذا خطاب للجميع، فالكل بحاجة إلى التوبة، الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، العالم والمُتعلم، والأمة أحوج ما تكون إلى التوبة في مثل هذه الأوقات، توبة عامة شاملة؛ لما أُصبنا به من ألوان المصائب والفتن، بلاد ممُزقة هنا وهناك، وقد شُرد أهلها، وتحولوا بعد العافية والغِنى إلى حال من المسغبة والخوف والجوع، تُجمع لهم الأطعمة، ونحو ذلك، ويستوي عندهم شهر الصوم وشهور الفطر، يبيتون طاووين، جائعين، ما الذي أوصل الأمة إلى مثل هذا؟
ولو نظرت إلى من يتصدرون للتوجيه والإصلاح، ونحو ذلك، تجد من التفرق على جميع المستويات، والتشرذم والتطاحن والتباغض، وتناكر القلوب والتدابر، مما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى- والله يقول: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [سورة الأنفال:46] فالفاء للتعقيب المُباشر، والفشل هنا لم يُحدد بلون، وإنما قال: تفشلوا، ولم يقل: تفشلوا في الميدان العسكري الحربي، وإنما قال: فَتَفْشَلُوا يعني: تفشلوا على جميع الأصعدة، تفشلوا في الحرب، وميدانها، وفي الدعوة وقبول الناس لها، وفي برامجكم ومشاريعكم، فكل ذلك يقع حال التنازع والتطاحن والاختلاف، فنحتاج إلى توبة صادقة، وأن يكون شعار الجميع أولاً قبل كل شيء: ما مني شيء، ولا لي شيء، على مستوى المجموع، وعلى مستوى الأفراد.
فإذا كنا نتحدث عن حال الأمة بعمومها، فإذا كان هنا كيانات وهناك كيانات، وكل واحد يقول: مُكتسباتي ومُقدراتي، وسابقتي ورصيدي من الأتباع، وما إلى ذلك، فهذا لا يمكن أن يتأتى معه الإصلاح، الإصلاح يتطلب أن ينخلع الإنسان من هذا كله، ويقول: مصلحة الأمة هي المطلب الأساس، وما عدا ذلك: ما مني شيء، ولا لي شيء، بعيدًا عن كل شعار، وكل لافتة، إنما يكون المطلب هو مرضاة الرب -تبارك وتعالى- ولا يُذكر من يُمثله، سواء كان يُمثل مؤسسة أو جمعية، أو غير ذلك، فالنفوس الكِبار، والقلوب الكِبار هي التي تستوعب هذا المعنى أولاً، ثم بعد ذلك من الناحية العملية يطبقونه ويُمارسونه، أما القلوب المُتناكرة وهذا التدابر الذي نُشاهده، فهذا لا يُمكن أن يأتي معه إلا الفشل، والله المستعان.
على كل حال هذه الآية تدل على أن رحمته سبقت غضبه، ولاحظ هنا في مقام معصية، ومع ذلك الرحمة تسبق، ويجتبي آدم ويُقربه، سبحانه ما أرحمه! وما أكرمه! وما أحلمه!
فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُكرمنا في هذه الليلة الشريفة برحمة منه، ومغفرة، وعتق من النار، وأن يُعتق رقابنا ورقاب والدينا، وإخواننا المسلمين، وأن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، ويُعافي مُبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- البيت لزهير بن أبي سلمى في العين (5/ 372) وجمهرة أشعار العرب (ص: 179) من معلقته المشهورة.
- البيتان لأبي محمد الوزير المهلبي في ثمرات الأوراق في المحاضرات (1/ 80) والتذكرة الحمدونية (5/ 71).
- الأبيات في الأضداد لابن الأنباري (ص: 196) وأمالي القالي (2/ 8) لنابغة بَنِي ذُبيان (الجعدي) مع اختلاف فيها، وردت هكذا:
المرءُ يَهوى أَن يعيـ # ـش وطولُ عيشٍ ما يضرُّهْ
تَفْنَى بشاشتُهُ ويَبْـ # ـقَى بعد حُلْوِ العيش مرّهْ
وتَصَرَّفُ الأَيامُ حتَّى # ما يَرَى شيئاً يَسُرُّهْ
كم شامتٍ بي إن هَلَكْـ # ـتُ وقائل لله دَرُّهْ. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 299).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (18/ 40).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/ 404).