الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[37] قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً..} إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
تاريخ النشر: ٠٩ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1396
مرات الإستماع: 1815

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسنواصل الحديث فيما يستخرج من الهدايات من هذه الآيات التي ذكر الله فيها خبر بني إسرائيل في سورة البقرة، فالله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر منته عليهم بإنجائهم من آل فرعون وإغراق آل فرعون، حيث فرق الله البحر لما ضربه موسى بعصاه، فلما نجوا ذكر الله -تبارك وتعالى- خبرهم بعد هذا الإنجاء، هذه النعمة العظيمة التي تستوجب الخضوع والشكر للمنعم المتفضل وتقدست أسماؤه.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:51] بعد أن أنجيناكم من آل فرعون اذكروا حين واعدنا موسى أربعين ليلة وذلك للميقات الذي وقَّته له ربه -تبارك وتعالى- وأنزل عليه فيه التوراة، هذا الكتاب الذي هو هدىً ونور، فإذا بهم ينتهزون الفرصة في غياب موسى في هذه المدة القصيرة، ثم يتخذون هذا العجل معبودًا وإلهًا من دون الله.

فالعجل الذي صنعه لهم السامري من ذلك الحلي الذي كان مع نساء بني إسرائيل، يقولون: كان النساء من بني إسرائيل يستعرن الحلي من نساء بني فرعون، من نساء الفراعنة في مناسباتهن ونحو ذلك، فجاء هذا الخروج وما حصل معه من غرق آل فرعون فكان هذا الحلي معهم فنظروا كيف يصنعون به، فجاء السامري وفعل به ما فعل، صنع منه عجلاً، وأخذ قبضة من أثر الرسول أثر الملَك، يقال: إنه أخذ قبضة من حافر فرس الملَك فألقاها على هذا العجل فصار له خوار، ففتن به هؤلاء، عجل من ذهب فعبدوه، وهذا أعظم الظلم: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ بعبادته واتخاذه إلهًا، كيف يكون العجل الذي لا حياة فيه ولا نفع ولا ضر ولا يسمع ولا يبصر كيف يكون إلهًا؟

ولهذا في جميع المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- إذا ذكر العجل: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ فإنه يحذف المتعلق بعده، يحذف المعمول، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهًا، وقد ذكر بعض أهل العلم قديمًا وحديثًا كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله[1] وقبله قال ذلك أبو السعود في تفسيره المعروف "إرشاد العقل السليم"[2] قالوا: إن علة هذا الحذف أنه لا يُعقل ولا يُتصور أن يكون العجل إلهًا، كيف يكون العجل إله؟ فيحذف في جميع المواضع ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ يعني: إلهًا، لكنه حذف هذا في هذا المفعول الثاني، يعني المفعول الأول ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ هذا المفعول الأول، الثاني: تقدير إلهًا، فحذفه؛ لأن ذلك لا ينبغي أن يُذكر، كيف يكون العجل المصطنع بهذه المثابة؟! كيف يكون إلهًا يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى؟!

والله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى في سورة طه لما ذكر فعل السامري قال: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ۝ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [سورة طه:87، 88] كثير من المفسرين يقولون: إن قوله: فَنَسِيَ يعني: أن موسى نسي إلهه هذا، فذهب يطلبه عند الطور، إلى هذا الحد من صفاقة الوجه والبجاحة والكفر والعتو، وهارون كان معهم بين أظهرهم لم يذهب مع موسى، موسى قال له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142] هذا يدل على أنه يوجد في بني إسرائيل الذين أنجاهم الله وأرجلهم لم تجف من البحر يوجد فيهم مفسدون وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فلما عبدوا ورجع موسى إلى قومه بعد ذلك في حال من الغضب: غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [سورة الأعراف:150] ألواح التوراة وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [سورة الأعراف:150] وفي الآية الأخرى ما يدل على أنه أخذ برأسه ولحيته؛ لأنه قال: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [سورة طه:94] لكن انظروا إلى التعليل، قال: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [سورة طه:94] أصلح.

وفي الآية الأخرى: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ [سورة الأعراف: 150] فهذه الأمور الثلاثة: اسْتَضْعَفُونِي هؤلاء أنجاهم الله قبل قليل من البحر وأغرق آل فرعون، المفروض أن يكون هؤلاء في غاية الخضوع والإخبات والشكر والاستسلام والانقياد: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي استضعفوا نبيهم هارون وَكَادُوا يعني قاربوا قتله، أنجاهم الله من هنا وعبدوا العجل من هنا؛ ولا اكتفوا بذلك استضعفوا نبيهم، وكادوا أن يقتلوه.

ثم انظر إلى قوله: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ له أعداء ممن؟ من أتباعه من قومه من الإسرائيليين، أعداء ليسوا من الفراعنة، الفراعنة هلكوا، هؤلاء من بني إسرائيل أعداء، وهذه من أعجب الأشياء، حدثاء عهد بالنجاة، الخلاص الأكبر يوم عيد، الإنجاء من آل فرعون، يوم نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء يُصام، ويفعلون بعده مباشرة هذه الشنائع الكبار: يعبدون العجل، ثم يستضعفون نبيهم، وأوشكوا أن يقتلوه، وله أعداء منهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ يعني إن رأوه يجره موسى برأسه ولحيته يتهكمون ويضحكون ويقولون: انظروا، ما رأيكم المشهد إذا كان بهذه المثابة، وفي حال كهذه من قرب العهد بالنجاة، ومعهم هؤلاء الأنبياء، وليسوا علماء ولا دعاة، ومع ذلك يفعلون هذا الفعل وأعداء وشماتة وأذى واستضعاف وهموا بقتله.

إذًا ماذا يقول بعد ذلك أهل العلم والدعاة إلى الله حينما يصل إليهم الأذى من السفهاء، هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في مقام كهذا ومع ذلك هذا الصبر وهذا الاحتمال، فغيرهم من باب أولى أن يلحقهم الأذى والشماتة وما إلى ذلك مما يكون لهم من الأعداء والخصوم، هذه سنة الله في هذا الخلق.

أنا أقف كثيرًا عند هذه الآية: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ أي أعداء؟! حدثاء عهد بنجاة ووجد فيهم هذا؟! هذا له دلالات عميقة في سنة الله في الخلق، وفي عتو بني إسرائيل إذا كانوا مع هؤلاء الأنبياء كبير أنبياء بني إسرائيل بالاتفاق وهو موسى وكتابهم الأساس الأصل الذي تعبدهم الله بالعمل به وبشريعته هو التوراة، فإذا كان هذا في عهد موسى وهارون ماذا إذن يكون حال اليهود بعدهم؟! ماذا يقول اليهود في هذا العصر وفي الأعصار التي قبله بعد مبعث النبي ﷺ حيث لا نبي بعد رسول الله ﷺ؟! يعني قبل النبي ﷺ كانت تسوسهم الأنبياء، بعد النبي ﷺ لا يوجد نبي فهم مطالبون بالدخول في هذا الدين، واتباع الرسول ﷺ ولا يوجد عندهم إلا أحبار السوء، كما وصفهم الله -تبارك وتعالى: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة التوبة:34].

فإذا كان الأمر بهذه المثابة في وقت الأنبياء الكبار يفعلون هذه الأفاعيل يعبدون العجل، يعني ما بعد هذا شيء، وهموا بقتل نبيهم واستضعفوه ماذا يفعل هؤلاء وهم ليس بين أظهرهم أنبياء ولا علماء على استقامة.

ثم تأمل هذه الآية ونظائرها في موضع آخر يقول: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [سورة البقرة:93] أشربوا يعني: صارت هذه العبادة ليست مجرد تمثيلية، أو مشهد عابر أو نزوة لا أُشْرِبُوا فإذا كان معبود بهذه المثابة عجل تُشرب القلوب محبته فكيف بالله إله الحق المنعم المتفضل أُشْرِبُوا.

فالأهواء تكون مسيطرة على قلوب أصحابها إلى حد الإشراب، يعني ليست المسألة مجرد عناد أو مماحكة أو نحو ذلك لا وَأُشْرِبُوا إشراب، إذن الضلالة قد تُشربها القلوب إشرابًا فتتخلل جميع هذه القلوب فلا تترك فيها موضعًا إلا خالطته، وإذا كان الأمر إلى هذا الحد فإنه كما قيل: الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، هذا السر كيف تسيطر العقائد والأفكار على قلوب أصحابها، وتقودهم وينقادون وراءها مرخصين الأنفس والأموال في سبيلها وسبيل نصرتها، وهنا تأتي خطورة الضلالات والأهواء والبدع أُشْرِبُوا.

وانظر إلى هؤلاء الذين يموتون ميتة السوء -نسأل الله العافية- في هذه الجرائم القبيحة التي نسمع عنها بين حين وآخر، وآخر ذلك قبل يومين، هؤلاء كيف يلقون بأنفسهم في هذه الأعمال والجرائم ويموت هذه الميتة التي هي أسوأ الميتات، ويظن أنه على شيء، هو يعتقد أنه بهذا الفعل يصل، وأن ذلك من أعمال البر التي يتقرب بها إلى الله في رمضان أو في غير رمضان، هكذا تفعل الضلالة والهوى في قلب الإنسان فيموت في سبيل ضلالته -نسأل الله العافية.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة:51] كان الميعاد كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في سورة الأعراف ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف:142] فهنا ذكر المنتهى، وهناك ذكرها مفصلة، والمفسرون يذكرون أشياء في سبب زيادة عشرة أيام لا حاجة لذكرها هنا، فالله أعلم بذلك.

وهنا أنه عبر بالليالي: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك لأن الليالي سابقة للأيام، والعرب تعبر بالليالي وتريد بها الأيام، فهنا أربعين ليلة يعني بأيامها، والليلة تتعلق باليوم الذي بعدها، وهذا يترتب عليه أحكام شرعية في قضايا تتعلق بالعِدد، عدة الوفاة، عِدد الطلاق، يتعلق به آجال والديون وما إلى ذلك، الشهور دخول الشهر وخروج الشهر يكون من هذه، ولذلك فإن العرب يؤخرون بالليالي؛ لأنها قبل الأيام، وقد تكلمت على هذا المعنى في الكلام على الاعتكاف[3] متى يبدأ الاعتكاف، وما أقل وقت للاعتكاف؟

قال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:51] وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة:51] بعض أهل العلم يقولون: إنه خص الليالي ذكر الليالي باعتبار المناجاة، هي وقت المناجاة، فذهب إلى ميقات ربه، فذكر الليالي مع أن معها أيام إلا أن المناجاة فيها ألذ، المناجاة في الصلاة والعبادة ألذ.

انظروا عبدوا العجل، ومع ذلك: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:52] عَفَوْنَا عَنْكُمْ العفو يعني المحو، محو أثر الذنب، جريمة كبيرة عبادة عجل واستضعاف نبي، وهموا بقتله، ومع ذلك عفا عنهم، هذا الإجرام وقبِل توبتهم بعد عودة موسى : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: من أجل أن تشكروا الله -تبارك وتعالى- ولا تتمادوا في الكفر.

فانظر إلى سعة حلمه -تبارك وتعالى- وانظر إلى عظيم جوده وكرمه وعفوه ومغفرته، فهؤلاء عبدوا العجل، ومعهم الأنبياء، هؤلاء -عليهم السلام- وقد أنجاهم فقابلوا النعمة بالكفران، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- عفا عنهم، فلا يتعاظمه ذنب  فمهما عظمت ذنوب العبد ينبغي أن يتوب، وليس بينه وبين الله واسطة، وليس بينه وبين المغفرة إلا التوبة الصادقة، والله وعد من تاب أن يقبل توبته وأن يتوب، بل يفرح بتوبة عبده، ويكفي في ذلك الوصف الذي ذكره النبي ﷺ: أشد فرحًا من ذاك الذي أضل راحلته ثم بعد ذلك أيس منها فنام تحت شجرة ينتظر الموت، راحلته عليها طعامه وشرابه، فقام وإذا بناقته عند رأسه، فمن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح[4].

هذه حاله توصِّف فرحًا لا يمكن أن يقادر قدره، حياة جديدة، ولد من جديد، أخطأ معه هذا الخطأ، ومع ذلك الله غني عن عباده، يفرح بتوبتهم مع كمال الغنى، وكمال فقرهم، وكثرة ذنوبهم، وتباطؤهم في الإقبال عليه والطاعة، انظروا إلى حالنا وكسلنا وتثاقلنا في طاعتنا وعبادتنا وصلاتنا، هذه الصلاة وصلاة الفرائض، ونحو ذلك، ولربما يستطيل بعضنا الشهر، يرى أنه طويل؛ رمضان، يرى أنه طويل.

نسأل أن يعفو عنا، وأن يلهمنا شكره، وذكره، وأن يعيننا على طاعته وحسن عبادته.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا تقبل منا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا، وإخواننا المسلمين، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسِّينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 82). 
  2.  تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) (1/ 131).
  3.  على الرابط التالي: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ lecture/ 2219 
  4.  أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم (2747). 

مواد ذات صلة