الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[43] قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ..}
تاريخ النشر: ١٥ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1770
مرات الإستماع: 1547

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث فيما يستخرج من الهدايات من هذه الآيات التي خاطب الله -تبارك وتعالى- بها بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة سورة البقرة.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].

يخاطبهم ويذكرهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه- بنعمه، واذكروا حين أنزلنا عليكم المن والسلوى فبطرتم النعمة كما هي عادتكم، وأصابكم السآمة والملل من هذا الطعام الطيب الهنيء الذي يحصل لكم من غير كد ولا تعب، فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام متحد لا يتغير مع الأيام، فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول، والخُضر، والقثاء، وهو معروف، أكثر المفسرين على أنه الخيار الصغار، القثاء، وهكذا أيضًا العدس والبصل، كل ذلك معروف.

فقال موسى منكرًا على هؤلاء العتاة: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا، وتتركون هذا الطعام الهنيء الطيب الذي لا تعب فيه، ولا يحتاج إلى زرع وسقي؟ اهبطوا من هذه البادية، وكان ذلك في تيههم إلى أي مدينة، أو قرية، فإن المدينة والقرية كل ذلك يقال لشيء واحد في لغة القرآن.

اهْبِطُوا مِصْرًا فهنا جاءت مصروفة منونة؛ إذ ليس المقصود بها البلاد المعروفة بلاد مصر، وإنما اهْبِطُوا مِصْرًا من الأمصار، قرية من القرى، فهنالك تجدون هذه المطلوبات من البصل والعدس والقثاء والفوم، وما أشبه ذلك، فذلك يزدرع في القرى، تجدون فيها بغيتكم، وما سألتم، فهؤلاء طلبوا هذا الأدنى، واستعاضوا به عن الأعلى، فكان عاقبة ذلك أن ضربت عليهم الذلة فلزمتهم، وهذا يدل عليه التعبير بالضرب ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فصار ذلك وصفًا لا يفارقهم، الذل يلوح في وجوههم ويملأ نفوسهم البائسة، وقلوبهم الخالية الخاوية.

وهكذا أيضًا المسكنة؛ حيث صار هؤلاء في حال من فقر القلوب، وفقر النفوس، الأمر الذي يحملهم على الهلع والجشع؛ طلبًا للأموال، وتهافتًا عليها.

وكذلك ما مني به كثير من هؤلاء من الفقر، فصار ذلك أيضًا سمة لهم، ورجعوا مع ذلك أيضًا بغضب من الله -تبارك وتعالى؛ لإعراضهم عن دينه، ومحادتهم له ولرسله وأنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- ولكفرهم بنعمه، مع كفرهم بآياته، إضافة إلى قتلهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عدوانًا وظلمًا.

يؤخذ من هذه الآية ما ذكرناه سابقًا من جهة توجه هذا الخطاب إلى أولئك الذين عاصروا نزول القرآن وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ مع أن القائل لذلك هو أجدادهم، وقلنا: بأن النعمة الواصلة إلى الآباء لاحقة للأبناء، كما أن المذمة والعيب الذي يلحق الآباء؛ فإنه يلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وكان هؤلاء على طريقة آبائهم، فصح أن يوجه إليهم مثل هذا الخطاب، خوطبوا بأفعال الأجداد.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ وهذا يدل أيضًا على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل، وتتعاون وتتعاضد على مصالحها، حتى كأن متقدمهم ومتأخرهم، كل هؤلاء كأنهم شيء واحد، فلذلك يخاطَب المتأخرون بما جرى على يد المتقدمين، فالحادث من بعضهم كأنه قد حدث من جميعهم، إذا كانوا على طريقتهم.

ويؤخذ من هذه الآية: عتو هؤلاء اليهود، عتو بني إسرائيل، وما كانوا عليه من الجفاء، ومن ذلك أنهم خاطبوا نبيهم موسى : يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [سورة الأعراف:134] يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55].

فهنا يقولون له: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ نادوه باسمه، وهذا أمر لا يليق، وكما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [سورة النور:63] فمثل هذا لا يليق.

ثم أيضًا انظر إلى جفاء هؤلاء: ادع لنا ربك، يعني: كأنه ليس برب لهم، ما قالوا: ادع ربنا، ادع إلهنا، أو ادع لنا الله، وإنما قالوا: ادع لنا ربك، فكأنه ليس برب لهم، فهذا من سوء أدبهم مع الله -تبارك وتعالى- وسوء أدبهم مع أنبيائه ورسله، كما قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] اذهب أنت وربك، فهذا جفاء مركب، تخلفوا عن إجابته، وقالوا له: اذهب وأنت وربك، كأنه ليس برب لهم.

ولاحظوا هنا أنهم حينما قالوا لموسى : فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا هذا أمر متاح، يستطيعون دخول قرية من القرى، ويجدون فيها بغيتهم، فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يتوجه موسى إلى ربه -تبارك وتعالى- من أجل أن يجد هؤلاء العدس والبصل والفوم، وهذه المطالب المنسفلة بالنسبة لما عندهم من المنّ والسلوى، فيؤخذ منه أنه لا حاجة إلى الوساطة في أمر متاح متهيء لكل طالب له، كأنه يقول: لا حاجة أن أدعو الله أن يخرج لكم ذلك؛ لأنكم تجدونه بمجرد دخول هذه القرى والأمصار، فهو يزرع فيها، بخلاف قول الحواريين لعيسى حينما طلبوا منه أن يدعو ربه قالوا: أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [سورة المائدة:112] من السماء، فهذا لا يجدونه في ناحية أو قرية.

فحينما وعظهم عيسى وأصروا طلبهم قال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [سورة المائدة:114] أما موسى فإن الله لم يذكر أنه سأل ربه ذلك؛ لأن هذا الأمر متوفر موجود لكل طالب له.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن اختيار الأفضل من المآكل والمشارب لا عيب فيه، إذا لم يصل إلى حد المباهاة والإسراف والتبذير وتضييع الأموال، أو التكلف، فلما قالوا: فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا قال موسى : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعني: الذي هو أفضل، وهو خير لكم، وهو المن والسلوى، كان الأولى بكم أن تبقوا عليه، وليس أن تستعيضوا عنه بالفوم والبصل، وما إلى ذلك.

ولكن هؤلاء يظهر من ذوقهم هذا، واختيارهم أن هؤلاء لم يكن لهم من العقول ما يسعفهم لاختيار الأفضل، ولا من القلوب ما تطمئن به نفوسهم إلى ما ينفعها ويصلحها في عاجل أمرها وآجله.

وفي خبر فتية أصحاب الكهف، قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [سورة الكهف:19] يعني: الفضة الدراهم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:19].

فقوله -تبارك وتعالى- في خبر أصحاب الكهف: فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا هذا فيه قولان مشهوران للمفسرين:

القول الأول: أن المقصود أَزْكَى طَعَامًا يعني: الأطيب، حتى قال بعضهم: إن هؤلاء كانوا من أولاد الكبراء، فطلبوا شيئًا يليق بحالهم أَزْكَى طَعَامًا.

وبعضهم يقول: بأن المراد بقوله: أَزْكَى طَعَامًا يعني: أبعد عن الشبهة والحرام، يعني: الطعام الذي لا شبهة فيه، فهو حلال من غير اشتباه، وهذا هو الأقرب؛ فإن هؤلاء الذين تركوا كل شيء فرارًا بدينهم، لا يظن بهم أنهم يبحثون عن لذائذ الطعام.

وإنما أوردت ذلك لفائدة أن هذا قول مشهور، معتبر، قال به جمع من السلف فمن بعدهم أن قوله: أَزْكَى طَعَامًا يعني: الأطيب، فهو يصلح شاهدًا بهذا الاعتبار لما هاهنا.

فالمقصود أن تناول الطيبات، وأكل الطيبات، أمر لا إشكال فيه، وقد تحرج بعض السلف من ذلك، أو من التوسع فيه، تأولوا قوله -تبارك وتعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [سورة الأحقاف:20] هذا خوطب به أهل النار، فإذا كان ذلك من غير إيمان، ولا شكران، وأعظم الشكر هو توحيد الله، والتوجه إليه وحده بالعبادة، فإذا كان يقابل هذا الإنعام والإفضال والتمتع بالطيبات أن يتوجه بالشكر إلى غير المنعم المتفضل، بأن يعبد غيره، فهذا لا شك أن صاحبه يحاسب، ويعذب على كفره، ويعذب على هذه النعم والطيبات التي تمتع بها، ولم يؤدِ شكرها.

وكان عمر بن الخطاب له مذهب معروف في هذا، وهو ترك التوسع في ملذات الدنيا، وكان يتأول مثل هذه الآية.

ولكن الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم: أن تعاطي الطيبات، وتناول الطيبات، من المأكول، والمشروب والملبوس، والمركوب أن ذلك لا غضاضة فيه، وأنه لا تنقص به مرتبة العبد، وأجره عند الله .

واحتجوا لهذا بأدلة منها: أن النبي ﷺ قال: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب. ..[1].

وكان يحب ﷺ العسل والحلوى، والحلو، والبارد، وما أشبه ذلك، هذا كله من الطيبات.

ولبس ﷺ حلة جميلة -كما هو معلوم- فلم يمتنع النبي ﷺ من هذا.

والشاطبي -رحمه الله- في كتابه الموافقات تكلم على هذه المسألة، وذكر مذاهب السلف فيها، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك لا يكون نقصًا في مرتبة العبد.

وكان الحافظ ابن القيم -رحمه الله- له مذهب أيضًا في هذه المسألة، وهو: أن التوسع في الطيبات، والملذات، أو فعل بعض المحرمات من الشهوات أن ذلك يكون نقصًا في مرتبة صاحبه.

هو الذي ورد أن الذي يشرب الخمر في الدنيا، ويموت ولم يتب أنه لا يشرب من خمر الجنة إذا صار إلى الجنة، لكن هل يقاس على هذا الأشياء الأخرى المحرمة من الشهوات؟ هذا أمر لا يدخله القياس، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- لم يقصر ذلك على الخمر، وأخبر النبي ﷺ أن الذهب والحرير حرام على الرجال، وأنها لهم في الدنيا يعني الكفار، ولنا في الآخرة، فقال: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة[2].

فابن القيم -رحمه الله- يرى أن من يلبس الذهب والحرير في الدنيا أنه لا يلبس من الحرير والذهب في الجنة إذا دخل الجنة، طبعًا هو لا يقصد بذلك أن الإنسان يبقى في الجنة منغصًا غير منعم لا؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فكل واحد يرى نفسه أنه أكمل الناس نعيمًا، فهو لا يشعر بالحرمان والنقص.

فلا شك أن تناول الطيبات من مأكول، وملبوس، ومشروب، ونحو ذلك، أن هذا لا يكون نقصًا في مرتبة العبد ودرجته في الآخرة، ولكن ينبغي أن يلاحظ في هذا معنىً أشار إليه جمع من أهل العلم، ومن تتبع كلام السلف وجد ذلك أيضًا كثيرًا في عباراتهم وكلامهم، وهو أن كل أحد له ما يصلح لمثله، فالإمام العالم الذي يقتدى به ونحو ذلك لا يصلح له ما يصلح لآحاد الناس.

وهكذا أيضًا الإكثار والتوسع؛ ولهذا كان الشاطبي -رحمه الله- يرى أن التوسع والإكثار من الذهاب إلى المتنزهات، يكون سببًا يوجب سقوط عدالة من فعل ذلك، وترد به شهادته، مع أنه مباح، هذا أمر مباح، لكنه يكثر منه.

فمثل هذه القضايا، حتى ما يبلغ حد الإسراف قد يكون بالنسبة لهذا من قبيل الإسراف، وبالنسبة للآخر ليس من قبيل الإسراف، فالإنسان الذي يكون دخله مثلاً ثلاثة آلاف، ويذهب يشتري جهازًا نقالاً هاتفًا نقالاً بأربعة آلاف، فهذا إسراف، وتبذير، وتضييع، وسوء تدبير في المال، يترك أولاده وأهله لا يجدون شيئًا من حاجاتهم الضرورية من أجل أنه يشتري هذا الجهاز، فمثل هذا لا يليق، وهو من الإسراف، لكن آخر هذه الأربعة آلاف ليست بشيء بالنسبة إليه، فهذا لا يكون إسرافًا.

إنسان دخله سبعة آلاف، ويشتري سيارة بأربعمائة ألف هذا يكون في حقه من الإسراف والتضييع وسوء التدبير، لكن إنسان يملك الملايين فالأربعمائة ألف ليست بشيء بالنسبة إليه، فإذا أشترى مثل هذه السيارة لا يكون في حقه من قبيل الإسراف، فالمسألة نسبية.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن الذي يستبدل الأدنى بالذي هو خير، أنه يستحق التوبيخ، فموسى وبخهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61].

وقد ذكرت نماذج من حياتنا المعاصرة، حيث نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير في اللباس، وفي الطعام، وفي المراكب، وفي المساكن، تجد هذا المساكن، البحث الآن عن الأشياء القديمة والطين، وسكنى أشياء تركها الناس منذ عشرات السنين، وتجد هذا في اللباس، انظر إلى بعض ألبسة النساء تلبس لباسًا لربما كانت تلبسه تلك التي تكون ضعيفة محتاجة قبل ثلاثة وسبعين سنة في هجرة من الهجر، والألوان متغيرة، وكأنه قد وقع عليها شيء قد انمحى بعض الألوان، بل لربما كان ذلك على هيئة المشقق، كأنه يظهر فيه آثار تشقيق قد بلي من طول العهد والمكث، تشتريه بأموال طائلة، لربما تتزين به، وتتجمل، وهو في غاية القبح لدى أصحاب الفطر السوية، والأذواق المعتدلة، ألوان غير متناسقة كان الناس يلبسونها لحاجتهم، ومسغبتهم، وشدة ما هم فيه من الفقر.

وتجد البحث عن المأكولات القدمية جدًا، التي كان الناس يأكلونها أيام الفقر من أجل أن تقيمهم، ومن أجل أن يتحمل الواحد منهم في العمل الشاق في أرضه، ومزرعته، أو مع دوابه، أو نحو ذلك سائر النهار، وأصبح اليوم من التفكه بعد أن فاضت علينا نعم الله -تبارك وتعالى- فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكرها.

ويؤخذ من هذه الآية أن علو همة المرء أن ينظر دائمًا إلى الأكمل والأفضل في كل الأمور، فلا يهبط، ولا ينزل، وهذا يؤخذ من ظاهر قوله: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] إذا كان هذا في مطعوم، فكيف يقال إذن في معالي الأمور؟ كما قيل:

قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

إنسان الله أعطاه إمكانات وقدرات، وعنده خيارات في التعليم، التعلم، والعمل، والمهن، والمزاولات، ثم يختار تخصصًا دون، أو مهنة دون، أو نحو ذلك لعناد، أو نزوة في نفسه، أو سوء تدبير، ولا يقبل نصح الناصحين، ووعظ الواعظين من أهله وقرابته، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يستفيق بعد فوات الأوان، ويجد نفسه في موضع لا يحسد عليه أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61].

وهكذا تجد الرجل لربما يدرس العلوم الشرعية، ويتخرج فيها، ثم بعد ذلك يتحول إلى شيء آخر، بدراسة علوم ضارة، تضره في دينه، أو تضره في دنياه أو نحو هذا، فيقال له: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] بعد العلوم الشرعية أصبحت إلى هذه الحال، فلربما سافر، ودرس علومًا لا تنفعه، ولا ترفعه، ولا أعني العلوم المادية النافعة، وإنما علوم قد تكون محرمة يدرسها، ويشتغل بها.

وكذلك أيضًا قد تجد من يترك صحبة الأخيار الأبرار، ثم بعد ذلك النتيجة يصحب الأشرار، وكما ذكر أهل العلم وتجدون هذا في كتاب (القواعد الحسان) للشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- تكلم بكلام جيد على قاعدة يحسن مراجعتها سماها قاعدة هكذا، ويمكن أن يقال: إنها من القواعد القرآنية؛ لأن ما ذكر في هذا الكتاب (القواعد الحسان) منه ما يصلح على أنه قواعد تفسير، وهذه قد تبلغ لربما العشرين، أو واحدًا وعشرين قاعدة، وهناك أشياء تصلح أن تكون قواعد قرآنية، وهناك أشياء هي عبارة عن فوائد، فالمقصود أنه مما ذكر في هذا الكتاب النافع: أن كل من ترك ما هو بصدده، ما أُمر به، ونحو ذلك؛ فإنه يبتلى بالاشتغال بما يضره أو بضده.

انظروا إلى بني إسرائيل لما أعرضوا عن كتابهم نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:101].

ماذا كانت النتيجة؟ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102].

تركوا الوحي واشتغلوا بالسحر، السحر أحط الأشياء، والساحر كلما أوغل في السوء والنجاسة الحسية والمعنوية فإنه يكون أحذق في السحر، لا يتنزه من النجاسات، يكتب أعز الله كلامه، ومسامعكم يكتب القرآن بدم الحيض، وأشياء لا تصلح أن تقال، كلما أوغل في النجاسة الحسية والمعنوية كان أقدر على السحر، الساحر لا يتنزه من شيء، تركوا الوحي الذي هو أعلى الأشياء، والنتيجة اتباع السحر.

فلذلك ينبغي على العبد أن يقبل على معالي الأمور، أن يقبل على ما دعاه الله إليه، أن يستجيب لداعي الله، وأن يتبع الرسل، أن يكون قدوته هؤلاء الكُمَّل من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وإلا فإنه يضر نفسه، ويؤذي نفسه، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، الشباب الذين لم يقتدوا بالنبي ﷺ بأعمالهم وسلوكهم ومظاهرهم، انظروا كيف تتحول حال الإنسان كلما ابتعد عن هذا النهج والاقتداء، كيف تكون حاله؟ أحيانًا يتحول إلى حالة أشبه ما تكون بحال البهيمة، أو الحيوان، أو الشيطان، يمسخ تمامًا، مثل هذا أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61].

هارون قال لموسى : لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [سورة طه:94].

وهارون من الأنبياء الذين أمر النبي ﷺ بالاقتداء بهم في سورة الأنعام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأنعام:84] إلى أن قال الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [سورة الأنعام:90] الهدى الظاهر وكذلك الهدي الباطن، فمن هذا الهدي الظاهر: إعفاء اللحية لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [سورة طه:94] لو لم يكن له لحية، أو كان يقصها بحيث لا يمكن القبض عليها، كيف يأخذ بها موسى ؟

وعجبًا لأقوام يتركون هدي النبي ﷺ ثم بعد ذلك يقتدون بغيره! أو يحتجون بأقوال من هم دونه، فيقولون: ثبت عن فلان، وثبت عن فلان أنه كان يأخذ، والله جعل الأسوة والقدوة برسول الله ﷺ.

ويؤخذ من الآية أيضًا: أن من اختار الأدنى على الأعلى يكون فيه شبه من هؤلاء الذين وجه إليهم هذا الخطاب أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.

إذا ترك الإنسان قراءة القرآن والإقبال عليه ونحو ذلك، فالبديل الاشتغال بالسماع، إما سماع القصائد الملحنة، أو سماع المعازف والطرب والغناء أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة:61].

أسال الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، نسأل الله لي ولكم القبول. 

  1.  أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3939). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض، رقم: (5426). 

مواد ذات صلة