الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[50] قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ..} إلى قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
تاريخ النشر: ٢٣ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1266
مرات الإستماع: 1625

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث بالكلام على ما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل، وما كان من عنتهم مع أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- وذلك في خبر موسى معهم حينما أمرهم بذبح البقرة ليضربوا القتيل بجزء منها فيحيا بإذن الله فيدلهم على قاتله حيث تدارءوا في ذلك، فحينما بادروه وقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] بدأوا بسؤلات العنت، والطبيعة كما قيل: غلابة قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68].

هنا يسألون عن العمر، هل هي بقرة كبيرة أو صغيرة، هل هي بكر أو فارض أو متوسطة بين بين، ففهم مرادهم فقال: إِنَّهُ يَقُولُ وهذا يبين أن ذلك كان بأمر من الله وبوحي منه وأنهم يعلمون ذلك: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ما قالوا: ما هي يا موسى، وإنما قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ثم أجابهم: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ فهذا صريح بأن ذلك من الله وأنه معلوم لديهم، ومع ذلك يقولون: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] ليست بفارض أي: مسنة كبيرة، ولا بكر يعني: صغيرة فتية، وإنما هي متوسطة بينهما فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بادروا سارعوا إلى الامتثال.

هذا معنى الآية على سبيل الإيجاز، ونحن نذكر المعنى موجزًا من أجل ألا يبقى إشكال في المراد ثم بعد ذلك نستخرج الفوائد وهي المقصودة.

يؤخذ من هذه الآية استكبار هؤلاء اليهود وما كانوا عليه من الصلف كما أشرنا سابقًا، فقد خاطبوا نبيهم بهذا الخطاب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ما قالوا: ادع ربنا، كأنه ليس بربٍ لهم ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ومثل هذا في خطاب الناس فيما بينهم حينما يتخاطبون بمثل هذا هو مؤشر ومشعر بدرجة القرب والارتباط، فحينما يقول الإنسان لذويه أو لقرابته أو لأصحابه أو نحو ذلك يخاطبهم يقول لهم: ما فعلتم من كذا، أو ما حصل لكم من كذا، أو ما أردتم من كذا، أو ما فاتكم من كذا، كأنه ليس بجزء منهم، وإنما من كان قريبًا، من كان ذا وشيجة قوية فإن ذلك يكون بمنزلة النفس الواحدة كما ذكرنا في بعض المناسبات فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] يعني: يقتل بعضكم بعضًا، نزلهم منزلة النفس.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] يعني: لا يأكل مال أخيه، فنزل منزلة النفس وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [سورة المجادلة:8] على القول الآخر المشهور في الآية: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ أي: يقول بعضهم لبعض سرًا، فهنا في مثل هذه المخاطبات حينما يخاطب غيره ويقول: نحن فيما حصلنا، أو فيما أردنا، أو فيما غفلنا عنه، أو فيما فاتنا، أو فيما عوقبنا به، أو فيما فرطنا، أو نحو ذلك، يتكلم بهذه الطريقة، لكن حينما يوجه إليهم الخطاب فهذا، فكيف إذا كان ذلك فيما يتصل بمعبودهم .

ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ما قالوا: ادع الله أو ادع ربنا، وإنما: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وهم في مقام حاجة وفي حرج يتدافعون ويتدارءون قتيلاً قتل يريدون أن يعرفوا قاتله، وأن يدفعوا عن أنفسهم التهمة ولكن هكذا كانوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [سورة البقرة:68] يعني: وسط، وخير الأمور الوسط.

وهذا الموضع يذكر فيه العلماء لونًا من الأمثال يسمونها الأمثال الكامنة، بالميم والنون الكامنة، بمعنى أن هذا الكلام يكمن فيه مثل، فهنا: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ يكمن في هذه الجملة مثل معروف عند الناس وهو أن خير الأمور الوسط، وكان الحسين بن الفضل معروفًا باستخراج الأمثال من القرآن، لديه سرعة بديهة وقدرة على هذا الاستخراج، وسواء كانت أمثال العرب أو أمثال العجم، العرب عندهم أمثال، أمثال فصيحة وأمثال عامية ويوجد فيها مؤلفات معروفة، ويوجد لدى الأمم أمثال، هناك أمثال إنجليزية، وأمثال روسية، وأمثال هندية، وأمثال صينية، وأمثال، لو وضعت الآن طلبت في النت وقلت مثلاً: الأمثال الصينية يأتيك سرد من الأمثال.

وبعض هذه الأمثال تحمل دلالات ومعاني جيدة، فكل الأمم عندهم أمثال، بصرف النظر عن هذه الأمثال هل هي دقيقة أو صحيحة سواءً عند العرب أو عن غير العرب، القضية لا تتوقف على عرب أو عجم، لكن أحيانًا يولد الناس بعض الأمثال ويتلقفونها ويتلقونها كأنها وحي منزل، وهذا هو الخطير، وتكون تحمل دلالات سلبية غير صحيحة، فيأخذونها على أنها مسلمات، خاصة الأمثال العامية، وهي ليست بصحيحة.

يعني مثلاً من الأمثال الذي عند الناس بما يتعلق بالنساء: "شاوروهن وخالفوهن" من قال هذا؟ ليس بوحي وليس بصحيح، وكم من امرأة كانت ذات رأي رشيد أرشد من كثير من الرجال، فكيف يُجعل هذا على أنه مثل، فيتلقاه من لا بصر له ويعمل بمقتضاه، "لا تأمن الأنثى الخؤون.." إلى آخر ما قال القائل، هذا الكلام غير صحيح، معاذ الله، المرأة مثل الرجل، فالخيانة توجد في بعض الرجال وتوجد في بعض النساء، وتوجد الأمانة في الرجال وتوجد في النساء: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [سورة النساء: 34] فهذا من الأمثال الفاسدة.

وبعضهم يُلقن ولده أو من يشير عليه برأي غير سديد إذا تزوج أو كان مقبلاً على الزواج ويعطيه أحيانًا في مضامين ذلك من هذه الأمثال، انتبه ترى كذا، وترى كذا، وترى كذا، والدليل هذا المثل الأعوج من كلام بعض العامة، وهو مثل مبني على تصور وفهم غير صحيح، فانتبهوا لهذا؛ لأنه يسير الكثيرين، وكما قيل: الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، لما ترسخ عنده هذه أنها قاعدة يبدأ يتعامل بمقتضاها، ويصعب تغيير سلوك هذا الإنسان؛ لأنه قد بناه على تصور فاسد، ويتصور عن مثلاً تعامل الرئيس مع مرؤوسيه، التعامل مع بعض الناس مع العمال أو مع غيرهم، بتصورات فاسدة، فيظلم ويتصرف بشيء من العسف والقهر ونحو ذلك بناء على تصور فاسد.

رأيت بعض الناس قد ينتسب للعلم عنده هكذا تصور، أن المرأة والطالب لا يمكن أن - لا أحفظ العبارة لكن هذا معناها - أن هؤلاء انتبه أن يعني تلقي لهم بالاً[1] وهذا من أفسد الكلام، الإنسان يكون علاقته بأهله وبذويه وقراباته من أخواته ونحو ذلك أحسن ما يكون، وخيركم خيركم لأهله[2] المشكلة لما يكون عند الإنسان هذا التصور يبدأ يتعامل بنوع من الظلم الذي يصعب تغييره وإزاحته؛ لأنه سيطر على فكره هذه التصور الفاسد والمثل الأعوج.

وهكذا علاقة الإنسان مع طلابه يعاملهم بالرحمة ويحبهم، يحب لهم الخير، وإن قسى عليهم، فإنما يقسو عليهم وهو محب وقلبه يتألم؛ لأن مقصوده هو نصح هؤلاء، هم تمامًا مثل أولاده بل مثل نفسه، يضع نفسه مكان من يخاطبه قبل أن يتكلم وقبل أن يتصرف، يضع نفسه مكان المقابل، ما هي مشاعره؟ ماذا يريد؟ ولذلك يقول لهم: لا حاجة أن تأتي وتقول: أنا جئتك من طرف فلان، طرف فلان أو من طرف لست من طرف أحد حقك محفوظ على التمام.

فالحسين بن الفضل هذا كان يستخرج الأمثال فقيل له: هل تجد في كتاب الله "خير الأمور أوساطها"[3]؟ قال: نعم في أربعة مواضع، هذه الآية: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] وكذلك: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] الاعتدال في النفقة، وأيضًا: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:110] التوسط، وأيضًا: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء:29] هذه أربعة مواضع.

فهذه كلها يسمونها الأمثال الكامنة، يعني يكمن فيها مثل وهو خير الأمور الوسط، الأمثال التي عند الناس يتكلمون بها هذه لا يوجد شيء منها في القرآن وحاشا وكلا فالله أجل وأعظم من أن يتمثل بكلام أحد من الناس قاله في مناسبة، كما ذكرنا في الكلام على الأمثال، الأمثال التي نتداولها هذه الأمثال عند الأدباء كما يقال هي عبارة قيلت، عبارة موجزة معبرة قيلت في مناسبة فصارت تقال في نظائرها، بحيث صارت سارية في الناس متداولة منتشرة يضربونها في مناسبتها أو ما يقارب هذه المناسبة.

ومن الأمثال التي قد تقال في مناسبات مثل: ذلك الرجل الذي خطب امرأة في الصيف فرفضت، وكان الرجل ذا يسار وغنى وصاحب دواب، فجاءت إليه في الشتاء، والشتاء حاجة وشدة وجوع ليس كالصيف، من جهتين أن الأرض تكون ممحلة عادة وإنما يكون الثمر عادة في الخريف والصيف حيث تطيب الثمار، الخريف يكون بعد الصيف يعني في آخر الصيف تكون الثمار، ولذلك فإن الخريف أفضل من الربيع، والناس يعبرون يقولون: عمر فلان قد بلغ العشرين ربيعًا، لا تجد في النصوص يسير الراكب تحتها ما قال: عشرين ربيعًا قال: عشرين خريفًا[4] مائة سنة لا يقطعها[5] فتقول أنت في حديث: يسير الراكب كذا، تقول مثلاً، في الأحاديث: هذا حجر ألقي -يعني في النار- منذ سبعين خريفًا[6] فالتعبير يأتي بالخريف، لا يأتي التعبير بالربيع، الذين يعبرون بالربيع من المتأخرين نظروا إلى الأزهار والأزهار إنما ينتفع بالنظر إليها، وما يبعث ذلك على البهجة، لكن الحاجة والجوع والشبع ونحو ذلك والغَناء إنما يحصر بالثمار بأنواعها.

فالعرب تستعمل الخريف في التعبير عن العام؛ لأنه وقت الوفرة، فإذا قيل لك: كم تبلغ من العمر؟ تقول: أبلغ العشرين خريفًا مثلاً، الخريف تتساقط فيه أوراق الشجر لكن يكثر الثمر، والعبرة بالمعاني وليست بالصور.

المهم هنا هذه المرأة جاءت في الشتاء في وقت الحاجة تطلب المساعدة فقال لها: الصيف ضيعتي اللبن، فصارت مثلاً، صارت مثلاً تقال في هذه المناسبة وما شابهها، يطلب إنسان من آخر شيئًا فيمتنع ثم يحتاج المطلوب منه ويأتي فيقول له: الصيف ضيعتي اللبن، يعني أن منعك الأول تسبب عن حرمان الآن، هكذا يستعملون هذا المثل.

فهذه الأمثال لا يوجد شيء منها في القرآن؛ لأن الناس يتمثلون بكلام قاله قائل في مناسبة، الله أعظم وأجل من أن يتمثل بكلام أحد من الناس، لكن يوجد في القرآن هذا النوع الذي اسمه الأمثال الكامنة، أن المضمون ينطبق على أو يصدق على أو يوافق مثلاً تعرفه العرب، وكذلك يوجد في القرآن النوع الآخر من الأمثال التي تقرب المعقول بصورة المحسوس مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة:17] إلى آخره، وهذا هو المشهور في أمثال القرآن.

وهنا قال: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وسط بين ذلك فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] فارض: كبيرة، ويقولون: فاطر للناقة الكبيرة، أو التي تقادم عليها الزمن فاطر.

وبعض الناس إذا أراد أن يقول: أنا مفطر قال: أنا فاطر.

فالحاصل أن هذه الآية يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] المبادرة دون تلكؤ ولا تردد ولا انتظار، ولهذا موسى قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [سورة طه:84] المبادرة والاستجابة في الإقبال على الله كل شيء تذم العجلة، والتأني خير، لكن إذا جاء أمر الله فهنا لا مجال للتأني، أذن المؤذن لا داعي للانتظار، تبادر مباشرة لطاعة الله دخلت العشر، لا داعي للتباطؤ والتسويف، تستطيع اعتكف مباشرة من مغرب ذلك اليوم، وقل مثل ذلك في المطالب الشرعية.

فانظروا إلى هؤلاء اليهود كيف أبطأوا ثم بعد ذلك لم ينتهوا، فأعادوا السؤال ثانيةً يسألون عن اللون؟ فقالوا وبنفس الأسلوب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] بقرة صفراء شديدة الصفرة فاقع لونها، تسر من نظر إليها، والصفرة معروفة فإذا قيل ذلك في الألوان أو لون البقر بقرة صفراء لاسيما إذا وصفت بالفقوع أصفر فاقع فهي الصفرة المعروفة، ولا يصح أن تفسر بالسواد.

والقول: بأن الصفرة هنا صفرة سواد قول غلط في التفسير، وهو قول شاذ غير صحيح، إنما الذي عليه ما يشبه الإطباق أن الصفرة الصفرة المعروفة ووصفها بالفقوع، وأن الصفرة لا تقال مرادًا بها السواد إلا في ألوان الإبل فقط، ألوان الإبل، يقول الله عن النار أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ۝ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [سورة المرسلات:32، 33] جمالة على قول لربما هو الأشهر في التفسير أنه الجمال الإبل (صُفرٌ) ما المقصود بالصُفر هنا؟ سود.

فالصفرة إذا قيلت في ألوان الإبل خاصة عند العرب كما يقوله ابن جرير[7] وغيره، فالمقصود بها السود، هذا الشرر كأنه جمالة لضخامته سود، طيب النار ما لونها؟ سوداء مظلمة كما جاء في الحديث: أنه أوقد عليها مائة عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها مائة عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها مائة عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة[8] والنار الحمراء كما هو معروف أقل حرارة، ومن نظر إلى نار الحداد فإنها تتحول إلى لون الزرقة والبياض فهذا أشد من الحمرة أقوى، فهذا يذيب الحديد، فكيف إذا صارت سوداء، إذا كانت زرقاء فهي شديدة الحرارة، فإذا زاد ذلك وتحولت إلى سوداء وهذا لا يعرف في نار الدنيا فهذا أشد.

فهنا قال: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْر يعني: سود، ولهذا يُخطئ من يستنبط من هذه الآية، يعني بعض من يتحدث عن التدبر، يقول: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْر أن الشرر لا ينطفئ كشرر النار العادية المعروفة أنه بمجرد ما يتطاير يذبل وينطفئ، لا، هذا يبقى متوهجًا، فوصفه بالصفرة، يظن أن الصفرة هنا بمعنى اللون المعروف لون الشرر الذي عندنا في الدنيا، وهذا معنى غير صحيح، وهذا التدبر مبني على تصور فاسد للآية، وبعض أنواع الاستخراجات والتدبرات في المعاني مبنية على تصور غير صحيح لمعنى الآية أصلاً.

ويقول الشاعر يصف إبلاً يقول:

  هن صفر أولادها كالزبيب.

هن صفر يعني سود وأولادها كالزبيب، الزبيب بين بين يعني يضرب إلى السواد لكنه دونه، أولادها كالزبيب، فهذا في كلام العرب يذكرون الصفرة ويقصدون بها السواد، هذا خاص بألوان الإبل، فإذا قال في البقرة:صفراء، فهي الصفرة المعروفة، فإذا وصف ذلك أيضًا بالفقوع فهذا آكد، فلا يقال: فاقع في الأسود، أسود فاقع، وإنما يقال: أسود غربيب، وأسود حالك، وما أشبه ذلك من العبارات التي يذكرها العرب في وصف السواد بالشدة، أسود حالك غربيب، ونحو ذلك من العبارات التي يعبرون بها.

فهنا صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [سورة البقرة:69] لما كانت الألوان أشياء ثابتة في الموصوف قال هنا عبر بالاسم: صَفْرَاءُ ما قال مثلاً: يصفر لونها أو نحو ذلك، فهذه الألوان ثابتة لا تتجدد فَاقِعٌ لَوْنُهَا أكده بهذا، وهذا آكد من قوله: صفراء فاقعة، فاللون هو اسم للهيئة وهي الصفرة.

تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] جاء الوصف هنا بالفعل "تسر" صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا لون ثابت فعبر بالاسم، وفي هذا الموضع تَسُرُّ عبر بالفعل، فهذا يدل على التجدد والحدوث، فكل من رآها سره النظر إليها، فهي ذات لون جميل تسر من رآها ونظر إليها، وجمع هنا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وأدخل أيضًا الألف واللام عليه ليدل على العموم والاستغراق، ليوضح أن ذلك ليس بذوق خاص لبعضهم، وإنما كل من نظر إليها سرته، فكأن هذا الجمال وهذا الحسن مما تتفق عليه أذواق الناس تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

أحيانًا بعض الناس يجذبه بعض الأشياء، وتعجبه وتسره بالنظر إليها، لكن الآخرين لا يوافقونه على هذا، فهذه قضايا ذوقية، أما هذه البقرة فهي تسر من نظر إليها وشاهدها، ولاحظ هذا التشديد تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يتقبل منا ومنكم وأن يعفو عنا وعنكم وعن إخواننا المسلمين.

  1. تراجع من الأصل 
  2.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في فضل أزواج النبي ﷺ برقم (3895)، وابن ماجه، أبواب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم (1977)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3314). 
  3.  انظر: الموسوعة القرآنية (2/ 296). 
  4.  أخرجه الآجري في الشريعة (2/ 1038)، برقم (625)، بلفظ: طوبى: شجرة في الجنة لا يعلم ما طولها إلا الله  يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ولم أقف على لفظ: عشرين خريفا
  5.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3251)، وبرقم (3252)، وبرقم (6552)، في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، برقم (2826). 
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2844). 
  7.  تفسير الطبري (24/ 139). 
  8.  أخرجه الترمذي، في أبواب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ برقم (2591)، وصحح وقفه على أبي هريرة والحاكم في المستدرك، برقم (8540)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2125). 

مواد ذات صلة