الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[55] قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..}
تاريخ النشر: ١٠ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 990
مرات الإستماع: 1357

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث في هذه الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة سورة البقرة، فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] كان من جرائم هؤلاء اليهود كما قص الله -تبارك وتعالى- أنهم يحرفون كلام الله بعد سماعهم له، وبعد معرفتهم تمام المعرفة، وعقلهم لمعناه، فهذه جراءة على الله -تبارك وتعالى- توعدهم الله على هذا الجرم بمثل هذه الآية: فَوَيْلٌ والويل المشهور في تفسيره أنه الهلاك يتوعدهم.

وبعضهم كما يقول أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- بأن الويل هو وادٍ في جهنم[1]. وهذا منقول عن جماعة من السلف -رضي الله عنهم وأرضاهم.

المقصود أن هذا وعيد لأولئك المحرفين الذين يكتبون الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على موسى ويبدلون فيه ويغيرون ويحرفون ويضيفون ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- كل ذلك من أجل أن يقبضوا عرضًا من الدنيا قليل، وكل ما في هذه الدنيا قليل، ولا يمكن أن يستعاض بذلك ببذل الحق أو كتمانه أو تبديله وتحريفه وتغييره ولو أعطي الدنيا وما فيها.

فهؤلاء يتوعدهم الله -تبارك وتعالى- على هذا الإجرام وأخذ هذا العرض الذي يكون من قبيل الرشى ونحوها، فتوعدهم على هذه الكتابة وتوعدهم على هذا الأخذ والكسب: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات أن الله -تبارك وتعالى- حينما توعد هؤلاء المحرفين المبدلين الذين يغيرون ألفاظ الكتاب المنزل كذلك الذين يغيرون معانيه ويبدلونه، وكذلك أيضًا أولئك الذين قد يصنفون كتبًا أو ينشئون مقالات كما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- ثم يضيفون ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- وهو مخالف لدينه وشرعه وحقيقة ما نزل على رسوله ﷺ فهؤلاء لهم شبه بأولئك.

ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ معلوم أن الكتابة لا تكون إلا بالأيدي ولكنه ذكر الأيدي هنا من باب التوكيد، وذلك -والله تعالى أعلم- كما مضى في بعض المناسبات أنه من باب زيادة التقريع والتقبيح، كذلك فيه تسجيل على هؤلاء بهذا الجرم، وإلا فالكتابة إنما تكون بالأيدي، وذكر الكتابة يَكْتُبُونَ قد يغني عن قوله: بِأَيْدِيهِمْ ولكنه ذكره؛ ليقرر -والله أعلم- هذا المعنى، فهو مما يحسن فيه التوكيد، يقال: هذا ما كتبته بيدك، هذا ما نقشته بيمينك، هذا سطرته بقلمك.

وهكذا تقول: مشى إليه برجله، وقال بفيه يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] فهذا كله لتحقيق وقوع هذا الفعل وصدور هذا الفعل عنهم، فهم عامدون قاصدون، يعني كما يقال: مع سبق الإصرار على الفعل، لم يكن ذلك عفوًا أو خطأ وإنما كان عن قصد وعمد، وإنما فعلوا ذلك من أجل أن يشتروا به ثمنًا قليلاً.

والتعبير هنا بالقليل لا يقتضي أن الذي أخذوا عليه إنما هو دراهم معدودة، يمكن أن يكون هذا، ولكن لو أنهم أعطوا عليه الأحمر والأصفر فإن ذلك يُعد قليلا، فالدنيا كل ما فيها فهو قليل، لا يمكن أن يُبدل دين الله -تبارك وتعالى- وأن يُبدّل الحق المنزل بشيء من هذا العرض الزائل الفاني، فهؤلاء جعلوا باطلهم شركًا يصطادون به أموال الناس، ويأخذون ما في أديهم، فوقعوا في ظلمهم من جهتين:

الأولى: أنهم كتموا وكذبوا وبدلوا وغيروا، فإن هذا التبديل يقتضي كتمان الحق، وفيه زيادة أيضًا إذ إنهم أضافوا إلى الله -تبارك وتعالى- ما ليس من كلامه، وكذلك أيضًا: ظلموا الناس بأخذ أموالهم بغير حق، فصار الظلم مضاعفًا، بإظهار غير الحق بالكذب على الناس.

والأمر الآخر: هو أخذ ما في أيدي الناس من الأموال بغير وجه حق، وهذا أعظم ممن يأخذ الأموال سطوًا، أو يأخذ الأموال خلسة، أو يأخذ الأموال سرقة، فإن هذا استعاضة بالتحريف والتبديل فالأمر ليس بالشيء السهل.

ثم أيضًا هنا قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ما قال: فويل لهم مما قالوا، وإنما قال: مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وذلك -والله أعلم- أن الكتابة متضمنة للقول وزيادة، فهذا الذي كتبوه يمكن أن يقال عن المكتوب: بأنه قول فلان، هذا قول فلان وقد كتبه، إضافة إلى أن الكتابة أوثق، فالقول قد يذهب ولكن الكتابة تبقى، فهذا جمع بين كذب اللسان وكذب اليد فهو أبلغ؛ لأن كلام اليد كما سبق يبقى رسمه وأما القول فيضمحل أثره، والله تعالى أعلم.

وهؤلاء اليهود قال الله -تبارك وتعالى- أيضًا: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فهنا قال: يَكْسِبُونَ فعبر عن ذلك بالمستقبل، وأما الكتابة فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ كتبت أيديهم بلفظ الماضي، بعض أهل العلم كما يقول الراغب الأصفهاني[2] يقولون: بأن ذلك من قبيل التنبيه على ما قال النبي ﷺ: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة[3].

فهذا الذي أصَّلوه من الباطل، وهذا الذي دونوه وكتبوه من التحريف والتبديل هو من جملة اكتسابهم، فذلك يسري في الناس فيحصل لهم من الآثام المتجددة، والذنوب المتعاقبة ما بقي ذلك ساريًا في الناس، من سن في الناس سنة سيئة فعليه وزرها يعني ما بقيت، فهذا يتردد على الأسماع، ويغتر به طوائف من الناس، ويتناقلونه ويكتبونه فيبقى هذا الوزر يتجدد على هؤلاء: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ الكتابة كانت في الماضي وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فيصير الكسب بهذا الاعتبار ينتظم المعنين:

كسب الآثام والنتائج المترتبة على هذه الكتابة.

وكذلك كسب الأموال.

وأيضًا التعبير بالجملة الاسمية في هذه المواضع الثلاثة فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثم قال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ثم قال: وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فالجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام، فهذا الويل ثابت دائم لهم، فهم متوعدون بذلك.

وكذلك التنكير في قوله: فويل فإن ذلك يدل على التعظيم والتهويل، فإن من الأغراض التي لها التنكير التهويل والتعظيم.

وهذا التكرار في ذكر الويل في الكسب فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ما قال: ومما يكسبون، وإنما قال: وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فكرر الويل ليدل -والله تعالى أعلم- على أن ذلك من قبيل الذنب المستقل المتوعد عليه؛ لئلا يتوهم لو أنه ذكر الويل مرة واحدة، لو أنه قال: فويل لهم مما كتبت أيديهم وما يكسبون، لكان ذلك باجتماع الأمرين: الكتابة والكسب، لكن الواقع أن الكتابة بحد ذاتها، التحريف بحد ذاته ولو لم يحصل معه كسب فهم متوعدون عليه، وهذا الكسب الذي هو من قبيل الرُشى كذلك هم متوعدون عليه، فذكر هذا وهذا؛ ليبين أن كل واحد مستقل بنفسه، وهذا كثير في القرآن.

وكذلك أيضًا هذه الأفعال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ هذا فعل مضارع يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُون وهذا فعل مضارع فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فهذا فعل مضارع، هذه الثلاثة أفعال جاء التعبير فيها بالمضارع لاستحضار الصورة الكائنة الواقعة في الزمن الماضي كأنك تشاهدها، ولهذا يقولون: إن التعبير عن الماضي بالمضارع يكون لتصوير الحال الكائنة في الماضي كأنك تراها، وهذا كثير في القرآن، وقد مضى نظائر لهذا يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [سورة البقرة:49] يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [سورة الأعراف:141] فهذا كأنك ترى التذبيح وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً [سورة يوسف:16] ما قال: باكين، وإنما قال: يَبْكُونَ [سورة يوسف:16] هو في زمن ماضي فعبر بالماضي كأنك ترى دموعهم تتساقط وهم يبكون أمام أبيهم، فإذا عبر عن الماضي بالماضي فذلك لتصوير الحال الواقعة كأنك تشاهدها -والله تعالى أعلم.

هذا ما يتعلق ببعض الهدايات والفوائد من هذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  تفسير الطبري (2/ 169). 
  2.  تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 241). 
  3.  أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (1017). 

مواد ذات صلة