الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[57] قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ..}
تاريخ النشر: ١٢ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 1157
مرات الإستماع: 1454

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لم يزل الحديث متصلاً بهذه الآيات التي تذكر خبر بني إسرائيل، في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [سورة البقرة:83].

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ واذكر إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، أو واذكروا يا بني إسرائيل إذ أخذنا عليكم الميثاق، والميثاق: هو العهد المؤكد؛ وذلك بهذه الأمور المذكورة في هذه الآية، التي أولها هو الأصل الكبير الذي عليه مبنى الأعمال كلها، وهو لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- وهو أصل الأصول، وهو الحق الأعظم والأكبر، والمقدم على سائر الحقوق، وهو حق الله -تبارك وتعالى- أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا كما في حديث معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- لما قال له النبي ﷺ: أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فذكر حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا[1] يعني: بأن يوحدوه.

ثم ذكر الحق الثاني بعد حق الله : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا بأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانًا، ثم بعد ذلك ذكر الحق الثالث وهم القرابات وَذِي الْقُرْبَى وهم تربطك بهم قرابة، وهذه القرابة إنما سببها ومنشؤها إنما هو الأبوان فهما سبب القرابات، فما كان من جهة الأصول فهم الآباء والأمهات وإن علو، الأجداد والجدات، وما كان من جهة الفروع فالأعمام والأخوال والإخوة والأخوات، كل ذلك يتفرع عن الوالدين.

ثم بعد ذلك يأتي الحق الرابع، وهو أولئك الذين مات آباؤهم، وهم صغار: اليتامى، وهو من مات أبوه قبل أن يبلغ.

ثم بعد ذلك يأتي الحق الخامس: المساكين، وهم الفقراء الذين لا يجدون كفايتهم، ثم بعد ذلك جاء بأمور تشمل الجميع وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فهذا لا يختص بأحد دون أحد، كما سيأتي.

ثم أمر بالأصول الكبار، والشرائع العظام وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [سورة البقرة:83].

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ هذا فيه ما يسمى بالالتفات وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فهو يتحدث عن قوم غُيب، ثم وجه الخطاب إليهم مباشرة، بأسلوب الخطاب لا تَعْبُدُونَ ولم يقل: لا يعبدون إلا الله، وإنما قال: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فالتفت من الغائب إلى الحاضر، وهذا الالتفات هو من ضروب البلاغة، وصروفها المعروفة، وفيه تنشيط للسامع، وتنويع لأساليب الكلام كما لا يخفى، وفيه أيضًا مواجهة لهم بهذه القضية الكبرى، قضية التوحيد، بأسلوب الخطاب، فناسب أن يتنوع الخطاب بدلاً من الغائب إلى المخاطب.

وقال -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ولم يقل: لا تعبدوا إلا إياي، وإنما قال: إِلَّا اللَّهَ فأظهر في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار، يعني العرب تذكر الضمائر اختصارًا للكلام، فإذا كان الكلام يُفهم بالضمير، فإنها تأتي بالضمير، وتكني به عن الاسم المظهر اختصارًا، فإذا أظهر في مقام يصلح فيه الإضمار فهذا يكون لمعنىً، وهو لا شك أنه أبلغ في الفخامة، مما لو قال: لا تعبدوا إلا إياي، قال: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فأظهر لفظ الجلالة في هذا الموضع.

بالإضافة إلى كون هذا الاسم الكريم يتضمن الأوصاف الكاملة جميعًا لله فهي مضمنة في صفة الإلهية؛ لأنه لا يكون إلهًا إلا من كان ربًا قادرًا عليمًا حكيمًا غنيًّا مريدًا إلى آخر صفاته -تبارك وتعالى؛ ولهذا قال كثيرون: بأن هذا الاسم (الله) هو الاسم الأعظم، وأن جميع الأسماء الحسنى تعود إليه لفظًا، بمعنى أنها تعطف عليه ولا يُعطف على شيء منها، كما أنها تعود إليه معنىً يعني من جهة المعنى ترجع إليه، فإن الإله المألوه هو الذي لا يصح أن يُعبد أحدٌ سواه، وهو الذي ينبغي أن يكون رازقًا غنيًّا سميعًا بصيرًا عليمًا حكيمًا، وما إلى ذلك.

وفي قوله: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جاء بأسلوب الحصر، وبأقوى صيغة من صيغه، فصيغ الحصر كثيرة، وهي متفاوتة في قوتها ومرتبتها في الدلالة على الحصر، أقواها النفي والاستثناء الذي جاء به كلمة التوحيد، أجل كلمة (لا إله إلا الله)، فهنا لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فهذا معنى لا إله إلا الله، وهو لا معبود بحق إلا الله، فهنا جاء بهذا الأسلوب القصر بالنفي والاستثناء (لا) و(إلا) وهذه الصيغة هي صيغة خبر لا تَعْبُدُونَ ولو كانت صيغة نهي لقال: لا تعبدوا، فيكون الفعل مجزومًا، فدل على أن (لا) هذه نافية، وليست ناهية؛ لأن الفعل بعدها لم يُجزم، فهو خبر مضمن معنى النهي، وهذا أقوى وأبلغ، كأنها قضية مقررة مفروغ منها، فلا تحتاج إلى نهي مباشر وإنما جاء بأسلوب الخبر؛ وذلك أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء، وأنها قضية نفذت وانتهت.

وحينما قدّم حق الله -تبارك وتعالى- بالعبادة دل على أن حق الله -تبارك وتعالى- فوق جميع الحقوق، فإذا أمره أبواه بأمر وأمره الله بأمر فينبغي أن يُقدم أمر الله لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق[2] حق الله مقدم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: فالله أحق بالوفاء[3] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- فحقوق الله: الديون التي على العبد من قضاء لرمضان، وكفارة، سواء كان ذلك في نذر، أو كان كفارة يمين، أو كفارة ظهار، أو كفارة القتل الخطأ، أو غير ذلك من الكفارات، ينبغي على العبد أن يبادر بها، وألا يتساهل في ذلك، فيكون مؤديًا لحقوق الله .

وكذلك سائر الأمور التي تعبَّده الله بها، ينبغي عليه أن يسارع، وأن يبادر، وأن يمضي فيها، فإن المسارعة والمبادرة قد لا تُمدح -يعني العجلة- في شيء، كما تُمدح وتكون كمالاً فيما يتصل بالمبادرة بتحقيق أمر الله وطاعته وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [سورة طه:84] فالأناة مطلوبة، وهي جزء من أجزاء النبوة، كما صح عن النبي ﷺ والنبي ﷺ قال لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة[4] ولكن إذا جاء أمر الله -تبارك وتعالى- فلا تحسن الأناة، إذا نادى المنادي قال: الله أكبر، حي على الفلاح، فهنا لا مجال للأناة، بل المبادرة والمسارعة لتحقيق أمر الله .

في هذه الأيام هناك جدل يدور بين الناس: هل الأفضل في صيام الأيام الست أن يصوم من اليوم الثاني من شوال أو أنه يجعل ذلك مفرقًا في أيام الاثنين والخميس والأيام البيض، ونحو هذا؟ ما هو الأفضل؟ وما هو الأكمل؟

والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا يختلف، وأنه ليس له حكم متحد، فمن الناس من يصوم في اليوم الثاني من شوال محبة واستجابة ومبادرة ومسارعة إلى محاب الله بنفس رضية، ومحبة ومشتاقة للطاعة والعبادة، فهذا لا شك أنه أفضل؛ لأنه مبادرة في الطاعات والعبادات.

ومن الناس من يبادر إلى ذلك لأنه يشعر أن ذلك من قبيل الحمل الثقيل، والعبادة الكريهة إلى نفسه، يريد أن يتخلص منها بأسرع وقت، وأقرب زمان، فيصوم من اليوم الثاني، يقول: من أجل أن أتخلص، فمثل هذا ينبغي أن يُراعى، فمثل ذلك كما قال الشاطبي -رحمه الله- لا يسوغ بحال من الأحوال، فإن من مقاصد الشارع حينما كلفنا في هذه الشريعة أن يُقبل العبد عليها بمحبة، أن يقبل عليها بنفس رضية، ومشتاقة للطاعة والعبادة؛ ولهذا جاءت النصوص بأن يتحمل الإنسان من العبادات والطاعات ما يطيق، وقال النبي ﷺ: فإن الله لا يمل حتى تملوا[5] ولهذا كان التحمل لأنواع من العبوديات في أنواع من النوافل والتطوعات إذا كان ذلك يشق على المكلف مشقة يجعل من العبادة عبئًا ثقيلاً، يكرهه الإنسان، ويستثقله، فإن ذلك ليس بمقصود للشارع، وإنما يحتاج أن يقصر دونه إلى حال يُقدم على العبادة، مع الاستشراف والمحبة، فهذا من مقاصد الشريعة، وذكر أمثلة لذلك.

ومن الناس من يفعل هذا يعني يصوم هذه الأيام الست بعد الثاني من شوال، ويفرقها، من أجل أن يقبل على العبادة بشيء من الشوق بعد ما يستجم بعد رمضان، ويستريح ويتراد إليه النشاط والقوة، ثم بعد ذلك يصوم، لا سيما من كان له عادة، أنه يصوم الاثنين والخميس والأيام البيض، فهو يصوم في كل شهر أصلاً ما بين ثمانية إلى عشرة أيام، فصيام الست ليست بشيء بالنسبة إليه، هي تحصيل حاصل، فمثل هذا ينظر في الأصلح لقلبه وحاله.

ومن الناس من يُشغل في سائر الشهر، إما بأسفار، أو بأعمال، أو وظائف، أو غير ذلك، فهو لا يتمكن إلا في وقت الإجازة، فيصومها في هذه الأيام، أعني في الثاني من شوال، من أجل أن ذلك هو وقت المكنة بالنسبة إليه، فهذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال أين يقع؟ الإشكال في ذاك الذي يصوم من اليوم الثاني من أجل أن يتخلص منها؛ لأنها صارت تمثل بالنسبة إليه عبئًا ثقيلاً، يرهق كاهله ويزعجه، فهو يريد الخلاص منه، فهذا غلط ينبغي على من كانت هذه حاله أن يراجع نفسه، فإن الله غني عنا وعن عبادتنا.

ثم انظروا إلى هذا الحق الثاني الذي ذكره الله : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا فقدّم الجار والمجرور وَبِالْوَالِدَيْنِ ولم يقل: وأحسنوا بالوالدين، وإنما قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ فهذا يفيد الاختصاص والحصر، فقرن حق الوالدين بحق الله وهكذا في سائر المواضع وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23] فالله هو الذي خلق الإنسان، والوالدان هما سبب وجوده، والله -تبارك وتعالى- هو الذي خلقه ورزقه، والأبوان هما السبب في تكميله، وتربيته وتنشئته، وما إلى ذلك، فحقهما بعد حق الله ولو كانا على الكفر والإشراك، فإن العبد مأمور بأن يقوم بحقهما، ولو لم يليا تربيته، يعني بعض الناس قد يقول: أنا تربيت عند جدي، أو تربيت عند خالي، أو تربيت عند قرابتي، أو تربيت في دار الأيتام، ولم أعرف الأبوين منذ ولدت، ولم يعرفاني، يقال: هما سبب وجودك، فحقهما ثابت، فلا يصح إسقاطه بحال من الأحوال؛ ولهذا قرن الله شكره بشكرهما أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [سورة لقمان:14].

وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو إذا كان الله -تبارك وتعالى- يذكر حق الوالدين دائمًا بعد حقه، فهذا يُؤخذ منه أن الحق الأعظم بعد حق الله هو حق الوالدين، إذن لا يُقدم عليهما القرابات، ولا الأصدقاء، ولا الزملاء، ولا الجيران، ولا المعارف، وإنما الوالدان أولاً، هذا شعار، فإذا كان الأصدقاء يريدون الذهاب لنزهة، أو الذهاب إلى أمسية يجتمعون فيها، أو الذهاب إلى سفر، أو نحو ذلك، والوالدان يرغبان في بقائه، أو يحتاجان إليه، أو نحو ذلك، فينبغي أن ينظر إلى ما يطلبه، ويحتاج إليه الأبوان.

وإن كمال البر والبر الحقيقي الأصيل هو الذي لا يحتاج معه إلى أمر ونهي وتصريح وزجر من قبل الأبوين، وإنما ينظر في محابهما ورغبتهما فيبادر إلى تحقيقها، ولا يحتاج إلى تصريح، ولا أمر، ولا يحتاج إلى أن يقال: لا تذهب، أو اذهب، أو افعل، أو لا تفعل، إنما ينظر ما الذي يحبان فعله، وما الذي يكرهانه، فيبادر إلى فعله وامتثاله، يعرف أنهما لا يحبان الذهاب في هذا الاتجاه، أو مع فلان، أو مع هؤلاء الأشخاص، أو إلى تلك الناحية، أو إلى تلك البلاد، أو نحو هذا، فلا يحتاج إلى أن يُكرر عليهما الطلب، فيضجر الأبوان، ثم بعد ذلك يريدان الخلاص منه، فيقولان له على مضض: اذهب، هذا غير صحيح، وليس هذا من البر.

وليست القضية معلقة بإذن، يستخرج بالعناء والعنت والإضجار للأبوين، فهذا من العقوق، إنما البر الحقيقي أن ينظر في رغبتهما قبل أن يأمراه، أو أن يحصل منهما النهي، أو ما أشبه ذلك، فهذا هو اللائق بالأبناء، ونحتاج إلى التنبه لمثل هذه القضية.

وهذه الحقوق بالنسبة للأبوين تكلمت عنها في مناسبات كثيرة، بكلام فيه شيء من التفصيل، فيراجع في مظانه، وهو حديث ذو شجون.

لكن الله -تبارك وتعالى- هنا حينما ذكر الإحسان قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أطلقه، ولم يخص نوعًا من الإحسان، فذلك يشمل الإحسان بالقول، وهو الكلام الطيب، واللطيف، فيتخير أحسن العبارات، ويشمل الإحسان بالصيغة التي يؤدى بها هذا الكلام، فقد يختار الإنسان الكلمات الجميلة واللطيفة، ولكنه يؤديها بلغة فيها لربما شيء من النهر والزجر، والغلظة والشدة، تنبئ عن نفس محتدمة، ملؤها الضيق، فهذا ليس من الإحسان في القول، هو يقول لأبيه: ابشر، حاضر، ولكنه يؤديها بلغة ملتهبة، فهذا من العقوق؛ ولذلك قال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [سورة الإسراء: 23].

وقد جاء عن بعض السلف: أن نفض اليد في وجه الأب أو الأم من النهر، طيب، ابشر، ضرب الباب وهو خارج، أو قول: أف، هذه لا يعرفها الإنسان إلا إذا جاءه أولاد، وسمع منهم هذه الكلمة، قد يذهب الولد ويبادر ويفعل ما أمر به، ولكنه يجر هذه (الأف) التي تحير العلماء في المراد بها، هل المراد مجرد التأفيف، أو الإشارة إلى أدنى الأذى؟ الواقع أن نفس كلمة (أف) مؤذية، يذهب الأب يزحف ولا يسمع هذه الكلمة، وتذهب الأم تزحف إلى المطبخ، أو إلى غيره، وتُحصل حاجتها، ولا تحتاج إلى أن تقول لهذه البنت العاقة: اصنعي كذا، أحضري كذا، فتقوم متثاقلة، متباطئة، تجر معها هذا التأفيف، فهذا من العقوق، يخرج وهو ضجر ومحتدم النفس، فيصدر منه من التصرفات ما ينبئ عن ذلك، فلا شك أن هذا يؤلم ويجرح مشاعر الأبوين.

فإذا كانت العبارات اللطيفة تكون مع الأصدقاء والزملاء والابتسامات، ونحو ذلك والعبوس والتقطيب والكلام القاسي، ونفض اليد، والزجر، ورفع الصوت عند الأبوين، فهذا لا خير فيه، ولا يوثق بابتساماته، ولا يوثق بلطفه مع أصدقائه، وهو بهذه المثابة، أقرب الناس، وأحق بالبر والإحسان واللطف والمعروف، ويُتعامل بهذه الطريقة، والابتسامات توزع على الأصدقاء؟! هذا لا خير فيه، ولا في ابتساماته، وهكذا ينبغي أن تقاس الأمور، وتعرف مراتب الأشياء والحقوق، ويقدم مَن قدّمه الله -تبارك وتعالى.

فقوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا يشمل الإحسان بالقول، ويشمل الإحسان بالصيغة، واختيار الألفاظ والصيغة التي يؤدى فيها، ويشمل الإحسان بالمعاشرة المخالطة وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [سورة لقمان:15] وفي الحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟"[6] يعني: مصاحبتي، ولين الجانب.

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [سورة الإسراء:24] هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، يعني: واخفض لهما جناحك الذليل، ألن جانبك لأبويك، تذلل وتكلم بصوت منخفض، وبعبارات لطيفة، وكلام جيد، وبمخالطة جيدة وبرفق، فحينما تمشي لا تمشِ أمامه، تفتح الباب ثم بعد ذلك يتقدم، توقره وتعظمه، وتعظم هذه الوالدة، وتفتخر بهم عند أصحابك وزملائك، ولو كانت هيئة الأبوين ضعيفة، ولو كانت هيئة الأبوين رثة، فهذا تاج على رأسك، هو سبب وجودك، ارفع رأسك، فإن هؤلاء هم التاج الذي تفتخر به، لا أن يخجل بعض الناس أمام زملائه من هيئة أبيه، أو البنت تخجل من هيئة أمها التي احدودب ظهرها، وضعفت وانثنت على مر الأيام والليالي، بسبب الضنى الذي يلحقهما بسبب هؤلاء الأولاد والبنات، ضنى على اسمه.

والأبوان لا أجد لهما مثال إلا البيضة، فيها هذا السائل يكبر فيها هذا الفرخ، حتى يمتص كل ما فيها فتجف، ثم تنفقس البيضة، ويخرج للحياة، ويترك البيضة خالية فارغة جافة ما فيها شيء، قشرة، فهكذا الأولاد يكون في البداية الأب بقوته، والأم بنشاطها وحيويتها ونضارتها وشبابها، وينظرون إلى هؤلاء الأولاد، هي قطعة من أرواحهم تمشي على الأرض، فيقومون على رعايتهم، وعلى تربيتهم وتنشئتهم، فإذا ما شبوا يبدأ الضعف والذبول بهذين الأبوين، فإذا استقل هؤلاء الأولاد بأنفسهم، وثم يتزوجون، ويكون لهم أولاد، وتبدأ الدورة من جديد، وإذا بهذين الأبوين قد ذبلا، وتحولت هذه البطاقة -بطاقة العائلة- التي بدأها الأبوان بمفردهما، ثم بعد ذلك بدأت تمتلئ بالولد، ثم الثاني، ثم البنت، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم العاشر، إلى ما شاء الله، ثم بعد ذلك تبدأ بالنقص، كل واحد يستقل بنفسه، وهذه البنت تتزوج وتضاف إلى زوجها، ثم بعد ذلك يرجع الأبوان إلى حالهما الأولى، لكن شتان بين كونهما بمفردهما أول مرة، قبل مجيء الأولاد في النشاط والحيوية والشباب والقوة، ثم بعد ذلك يأتي الانفراد الثاني في حال الضعف.

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا [سورة الإسراء:23] خص حالة الكبر لأنهما أحوج إلى الرعاية والصبر والإحسان لضعفهما، وكثرة العلل والأمراض، والفراغ، وكثرة الاشتغال بما لا يعني، وكثرة السؤال الذي يفضي إلى الإضجار والإملال والسآمة أحيانًا من قبل هؤلاء الأولاد، اصبر لا تقل: أف، واخفض جناحك، وطأطئ رأسك عند أبويك، لا ترفع رأسك عندهما، ولا ترفع يدك، ولا تشير في وجههما، ولا تتقدم عليهما في المشي.

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الإحسان في المعاشرة والصحبة، الإحسان بالمال، قد يكون الأب محتاجًا، وقد يكون أغنى منك غير محتاج، والأم قد يقول الإنسان: مكفية، لكن هناك أشياء تدل على أصالة الولد، الأم تتصدق وتعطي الصغار وتفرحهم، فيكون بيدها شيء تتصرف فيه، لا يقال: كل شيء موفر في البيت، فإذا جاء الولد بأول راتب حينما عمل قدمه بين يدي أمه في علبة وفي طبق جميل، وقال: تفضلي أنتِ التي ربيتِ وتعبتِ وسهرتِ، وأنتِ التي كنتِ تشبرينني يومًا بعد يوم، حتى تألقت وشببت عن الطوق، ثم صرت أعمل وأكتسب، فالفضل لله ثم لكما، ثم في كل شهر يعطيها شيئًا مجزئًا، يدل على أصالة هذا الولد، وعلى كريم معدنه، وأنه لا ينسى هذا العهد، ولا ينسى الإحسان بحال من الأحوال، فالأم قد لا تحتاج إلى هذا المال، ولكنها تعرف بذلك أصالة هذا الولد، وكريم معدنه، فهذا أفضل ما يُنفق من الأموال، وليس بمغرم ولا خسارة، ولا نقص، بل هو زيادة وبركة وكمال، والله المستعان.

أقل الأحوال ألا يكون الذي يُعطى للأم أقل مما يُعطى للزوجة، أقل شيء أن يكون مساويًا لما يُعطى للزوجة، وإلا فاللائق أن يكون أكثر، وكثير من الناس يعطي لزوجته، ولكن لا يعطي لأمه شيئًا، وهكذا في ضروب الإحسان المتنوعة، فهذا حق يأتي بعد حق الله، إذن لا تقدم عليهما أحد، الزملاء سيذهبون، والوالدان يحبان بقاءك في البيت، سمعًا وطاعة، وبكل رضا وفرح، وليس بضجر، وإذا جلست تكون مقطبًا مستاءً متكدر النفس، فيقولان: اذهب لسنا بحاجة إلى مثل هذا التقطيب والعبوس والضجر، نحن بحاجة إلى من يدخل السرور علينا.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي ﷺ أمته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- برقم: (7373) ومسلم في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار برقم: (30). 
  2.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (381) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (7520). 
  3.  أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، والرجل يحج عن المرأة برقم: (1852). 
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه برقم: (17).
  5.  أخرجه البخاري في كتاب التهجد برقم: (1151) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره برقم: (782). 
  6.  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة برقم: (5971) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به برقم: (2548). 

مواد ذات صلة