الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[106] قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا..}
تاريخ النشر: ٢٧ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1325
مرات الإستماع: 2786

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات والمعاني والمُلح من هذه الآيات في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة)، ولا زال السياق في الرد على اليهود والاحتجاج عليهم، ولكن في هذه المرة فيما يتصل بالقبلة، فالقبلة شعار الملة، فهي أمر له شأن وتحويله يشق على كثير من النفوس، وكان النبي ﷺ قد استقبل بيت المقدس سبعة عشر شهرًا، أو نحوها، ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة فشق ذلك على أقوام، واتخذ آخرون ذلك وسيلة للتشكيك والطعن والتلبيس وإثارة الشبهات، فقال الله -تبارك وتعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142][1].

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ السفه معروف: فهو خِفة في العقل ويؤثر سوء التدبير؛ فصاحبه لا ينظر إلى الأشياء بنظر صحيح، ولا يعتبر ذلك بطريقة كاعتبار أهل العقول والألباب، سيقول هؤلاء من ضعفاء العقول مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، وعلى سبيل التلبيس والتشكيك، ما الذي حولهم وصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهذا يدل على أن هذا القائل أنه ليس من المسلمين حيث قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ فهو خارج عنهم، ولهذا فإن قول عامة أهل العلم أن القائل بذلك هم اليهود، والسياق في هذا، وإن قال من قال بأن ذلك يصدق على اليهود وكل من يتصور منه ذلك كالمشركين والمنافقين.

مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا التي كانوا يصلون إلى جهتها، وهي بيت المقدس، فجاء الرد: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142] فالجهات كلها مُلك لله يوجه عباده إلى حيث شاء منها، وإنما يكون ذلك عن علم وحكمة منه -جل جلاله وتقدست أسماءه، فليس هناك جهة خارجة عن ملك الله والله -تبارك وتعالى- يهدي من يشاء من عباده إلى طريق قويم، وهذا فيه إشعار بأن الشأن كله لله تعالى فينبغي أن تُمتثل أوامره وأن يُنقاد له الانقياد الكامل، وحيث ما وجهنا توجهنا.

ويؤخذ من هذه الآية: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] سيقول، يتصل بالمستقبل، هو إخبار عن شيء سيقع ولم يقع بعد، فهذا فيه من الفائدة توطين النفوس على الصبر والاحتمال، وكذلك أيضًا ما يتصل بالاحتجاج والرد على هؤلاء، فإذا كان ذلك معلومًا لدى المؤمنين قبل أن يقوله هؤلاء فإذا جاء فإن ذلك يكون متوقعًا قد تهيأت نفوسهم وتوطنت أرواحهم لسماعه، فلا يكون ذلك صادمًا للنفوس ومزعجًا لها، فلا يحصل لهم اضطراب ويكون الجواب مُهيئًا؛ لأنهم قد انتظروا مثل هذا الاعتراض والإيراد.

وفي هذا أيضًا من تسلية النبي ﷺ والمؤمنين، فإذا قال الله -تبارك وتعالى- لهم ذلك بأن هذا الاعتراض سيورد ويوجه إليهم فإن ذلك يُخففه في نفوسهم، هذا بالإضافة إلى ما تضمنه هذا الإخبار من كون هؤلاء من المعترضين أنهم سفهاء، أن الذين سيتعرضون على تحويل القبلة هم السفهاء من الناس.

إذًا لن يكون هذا الاعتراض من ذوي العقول الراجحات، وإنما هو من قِبل أصحاب الخِفة في الأحلام والنُهى، فمثل هؤلاء لا يُكترث لاعتراضهم ولا لشغبهم ولا لمقالهم؛ لأنهم لا بصر لهم في الأمور وإنما هم كالدخان يعلو ثم بعد ذلك ما يلبث حتى ينسفل، يهوي إلى قعر الحضيض الداني، فمثل هذا الوصف الذي ذكره الله بهذه الآية يهون هذه المقالة، وإلا فلا شك أن تحويل القبلة شديد على النفوس ما لم تتوطن وتتروض بالإيمان والإذعان لله -جل جلاله وتقدست أسمائه.

وفي هذا أيضًا سيقول السفهاء، إثبات علم الله -تبارك وتعالى- فيما يتصل بالغيوب المستقبلة، يعني: قاله قبل أن يقولوه فهذا وقع كما أخبرهم الله .

وكذلك أيضًا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:142] هذا يدل على عناية الله بهذه الأمة، فهو يُشرع لهم ويُخبرهم عن ما سيقول الخصوم والأعداء كل ذلك رعاية لنفوسهم وأرواحهم من أجل أن يكون سيرهم على صراطه المستقيم مُسددًا قويمًا من غير اضطراب ولا تردد، هذا بالإضافة إلى أن قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] يدل على حال هؤلاء من المعارضين لشرائع الله أنه لا يُعارض شريعة الله وحكمه إلا سفيه، فإن أحكام الله -تبارك وتعالى- على وفق الحكمة التي تُصدقها العقول الصحيحة، وتُقر بها الفِطر المستقيمة هذا فيما للعقول فيه إدراك، وما لا تُدركه العقول ولا تصل إليه فإنه لا يكون مُصادمًا لها بحال من الأحوال.

ولهذا قالوا بأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بمحارات العقول، ولم يأتوا بمحالات العقول، جاءوا بمحارات، يعني: أمور قد تتوقف بها العقول؛ لأنهم يأتون بأمور من الغيب لا تصل إليها العقول؛ لأن العقول في هذا الإطار المحدود من عالم المادة، ولا تتوصل إلى الغيوب، ولم يأتوا بمُحالات العقول، يعني: لم يأتوا بشيء يُصادم العقل ويُناقضه، العقل الصحيح، ولهذا فإنه لا يوجد نص من الكتاب أو السنة يُعارض العقل الصحيح أبدًا، إذا كان الحديث ثابتًا صحيحًا لا يوجد فهو يوافقها.

ولهذا ليس من الصواب أن يُقابل بين العقل والشرع، يُقال: دل على هذا العقل والشرع، الدليل العقلي والدليل الشرعي، لا لا؛ لأن الدليل العقلي هو من جملة أدلة الشرع فالأدلة الشرعية منها ما هو أصلي الكتاب والسنة الوحي، وما يرجع إلى ذلك وهو دليلان الإجماع والقياس، هذان يعودان إلى الأصل الذي هو الكتاب والسنة، فهذان دليلان أصليان يرجع إليهما دليلان آخران الإجماع، والقياس، وكل إجماع له مُستند من الكتاب أو السنة، والقياس مبانه على أصل دل عليه الكتاب والسنة، فيُلحق الفرع بالأصل، ودليلان فرعيان مُكملان وهما العقل والفطرة.

فهذه كلها الأربعة يُقال لها: أدلة شرعية، وإنما تكون المُقابلة بين العقل والنقل، فيقال: دل على هذا العقل والنقل، ولا يُقال: الشرع والعقل؛ لأن العقل ليس بقسيم للشرع بل هو من أدلة الشرع، ولهذا كتب شيخ الإسلام كتابه المشهور مطبوع في أحد عشر مجلدًا "درأ تعارض العقل والنقل" فبين فيه بيانًا شافيًا بأن العقل يوافق النقل ولا يُخالفه، وكذلك تكلم على هذا المعنى الحافظ ابن القيم في عدد من كتبه، ولك أن تُطالع ما جاء في كلامه الطويل المُفصل في "إعلام الموقعين" بكلام بديع حينما يرد على الموغلين في القياس، أو الذين يردون النصوص من الكتاب والسنة بحجة أنها تُخالف الأصل، أو الأصول يعني القياس، فبين أن ذلك جميعًا مما يحتجون به أنه يوافق القياس، بل قالوا بأنه لا يوجد نقل ثابت عن أحد الصحابة يُخالف العقل.

فهذه الشريعة لم تأتِ بشيء يُخالف العقول، لكن قد يتصور أن من مُقررات العقل ما يُخالف النص والواقع أن هذا الذي يُعزى إلى العقل أنه ليس بصحيح أصلاً في أصله، أو يُقال: هذه قواعد عقلية أو نحو ذلك، أقيسة عقلية، أصول عقلية، الواقع أنها باطلة أنها غير صحيحة أصلاً في نفسها، وشيخ الإسلام -رحمه الله- كان يُبين هذا ويهدم هذه الأصول العقلية بطريقة إقناعية قوية، أتمنى أن هؤلاء من المفتونين بالعقل من الشباب وغيرهم ممن ينتسبون إلى الثقافة ونحو هذا أنهم يطلعون على بعض كلامه، أو يُقرب كلامه بطريقة مُبسطة يفهمونها؛ ليعرفوا أن في الزوايا خبايا.

فالشاهد أنه يؤخذ في هذه الآية أن من عارض الوحي وأمر الله -تبارك وتعالى- فإنه سفيه، ولو ادعى أن هذه المعارضة يقتضيها العقل، فإن العقل في الواقع لا يُعارض ذلك، والله -تبارك وتعالى- حكم على هؤلاء بالسفه، وإذا حكم الله على أحد بالسفه فهو سفيه بامتياز: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14] فهذا كما يُقال في القبلة كذلك يُقال في غيرها في سائر المعارضات، وفي هذا أيضًا عناية الله بهذه الأمة حيث هداهم إلى قبلة أبيهم إبراهيم إلى أول بيت وضع للناس في الأرض.

ثم أيضًا طريقة الرد في القرآن فإن مناهج الجدل والرد في القرآن متنوعة، فتارة يورد من الحُجج العقلية في مضامين الرد، وتارة يكتفي ببيان أن الأمر له، وأن الحكم له وحده دون أن يدخل في هذه التفاصيل، وهذا من هذا النوع: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142] فليس لنا إلا التسليم، لماذا الكعبة؟ ما هي المُبررات؟ ما هي المُعطيات؟ لم يقل لهم اخترنا الكعبة أولاً من أجل كذا، ثانيًا من أجل كذا، ثالثًا من أجل كذا، وتُرك استقبال بيت المقدس أولاً من أجل كذا، ثانيًا من أجل كذا، رابعًا عاشرًا، إلى آخره، لا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142] انتهى.

وهؤلاء المعترضون سفهاء والسلام، وانظروا أيضًا في الربا حينما قلبوا القياس مُكابرة فقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275] هؤلاء المشركون، والأصل أن يُقال: إنما الربا مثل البيع لأن البيع مُلحق به فيُلحقون به الفرع المتنازع فيه وهو الربا، مُتنازع فيه بين أهل الإيمان وأهل الإشراك، لكن هؤلاء لشدة المُكابرة جعلوا الربا أصلاً والبيع فرعًا، وقالوا: إنما البيع مثل: الربا، فجاء الرد، ولم يذكر لهم مفاسد الربا، المفاسد الاقتصادية، المفاسد الاجتماعية، والمفاسد الشرعية الدينية، والمفاسد الأخروية، والمفاسد التربوية والنفسية، وإنما قال لهم: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275] فالجواب: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا هذا الجواب.

إذن ليست كل قضية يحتاج معها إلى طُرق عقلية وإقناعية وما إلى ذلك، فهذا الذي يُحاج يُجاب عنه وعن حجاجه بالطرق المناسبة في كل مقام، بحسب القضايا العارضة، وبحسب أيضًا هؤلاء المعترضين، ومن الناس كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن المسائل ما جوابه السكوت[2] من المسائل إما لأن هذا الإنسان لا يريد الحق أصلاً أو أنه يُريد تقرير الباطل، أو أن هذا الإنسان هو يريد الظهور والشهرة فيُدفن؛ لأنه لو رُد عليه تحقق مُراده واشتهر وانتفش فيُكبت، أو لأن هذه القضية لا تستحق أصلاً الوقوف معها، أو غير ذلك من الأسباب التي قد يكون السكوت هو الأولى في ذلك المقام، فيترتب على الرد أحيانًا من المفاسد الكبيرة.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية أصل الرد أنه مشروع في الأصل إذا دعت الحاجة إليه كالشبهات، أن يُرد على المُلبسين والمُبطلين كما رد القرآن على كثير من دعاوى هؤلاء من اليهود وطوائف المشركين، لكن ليس ذلك يعني أن يُرد على كل مُجادل ومُبطل وإنما ذلك يختلف كما سبق، لاسيما في مثل هذه الأوقات مع وسائل الاتصال، فإن الكثيرين لربما يسعى الواحد منهم إلى تحقيق الشهرة فهو يريد أن يقول: اعرفوني، كذاك الذي بال في بئر زمزم ولما سُأل عن هذا قال: أردت أن أُذكر، يريد أن يتحدث الناس عنه ولو بهذا الفعل المشين.

فمن الناس من لا يملك فضائل ولا مقومات وعلوم ومعارف ونحو ذلك، وإنما يملك أن يتسلق بالقدح بالشرع، أو بحملة الشريعة من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- المُبلغين عن الله، أو من أتباعهم من العلماء والهداة، فمثل هذا ينبغي أن يُنظر في حاله فقد يكون الرد عليه سببًا لنشر باطله، يكون مغمورًا فيشتهر، فنكون بذلك مروجين لهذا الباطل ننشره على أوسع نطاق، بعد أن كان محصورًا محدودًا بين أفراد لا يجاوزهم أوصلناه إلى العُمق، إلى أبعد مدى، ننشر ونتناقل فأوصلناه إلى الأسماع فسمعه الصغير والكبير ونحن الحملة والنقلة لهذا الباطل للأسف الشديد، وهذا لا يصح بحال من الأحوال، والعلماء -رحمهم الله- تكلموا عن الرد، ومتى يكون الرد، فذكروا من ذلك أن تكون هذه الشُبهة قد ذاعت وراجعت وانتشرت فخيف على العامة، فهنا يرد من هو مؤهل للرد وليس كل أحد، ليس كل من هب ودب ودرج يرد، ولابد من مواصفات معنية في الرد، وفي اختيار الحال والوقت والأسلوب، واليوم الكل يهرول فراشق بسهم، وطاعن برمح، وضارب بسيف، وحامل لعصا، وغير ذلك مما تُشاهد، فهذا غير صحيح.

كذلك أيضًا تحدثوا عن حال ثانية، وهي ما إذا كان هذا المُبطل قد عرض هذه الشبهة في مجلس وأنت حاضر فتصرف وجوه الناس عنه فإن عرض ذلك فيُجيب من يعرف ويُحسن الجواب، وليست المسألة مُلاسنة ولا مُعاركة وإنما هي إقناع ورد وحُجة بعلم، فلا يتكلم من لا يُحسن.

وذكروا حالة أخرى وهي إذا كان الذي يعرض الشبهة يريد الحق فيسأل فهنا يُستمع إليه ويُجاب عن شبهته بأقرب طريق إذا كان يريد الحق، أما المُلبس والمُبطل فهؤلاء لا يُمكنون من ترويج باطلهم، فإن ذلك في غاية الضرر حينما يُتاح لهم فرصة لبث هذه الشبهات، وأسوء من ذلك إذا كنا نحن الحملة لها، فيُفرق فلا يُقال هذا بإطلاق كل من تكلم بباطل أن يُنشر على أوسع نطاق، هذا لا يصح ولا يُحتج بما جاء في القرآن لنشر كل باطل وإذاعته، فإن المنكر يجب أن يطوى، ومن الأباطيل ما يكون رده بوأده، لكن نحن نبعثه للأسف، ونُذيعه وننشره.

وهكذا أيضًا في قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ معلوم أن هؤلاء السفهاء ليسوا من البهائم وإنما من الناس، لكن هذا فيه فائدة السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ كأنه لا يوجد سفهاء غير هؤلاء، يعني: الصنف الذين هم سفهاء هم الذين سيقولون ذلك، فصار صنف بني آدم ينقسمون إلى سفهاء وعقلاء، فالسفهاء هم أهل المعارضة للشرع.

وهنا هذا الاستفهام: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] هذا الأسلوب استفهام يُقصد به الاستهزاء والسخرية وأيضًا التعريض بالتخطئة: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] فهذا خلاف حال أهل الإيمان: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء:65] هذه حال أهل الإيمان التي وصفها الله -تبارك وتعالى.

فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142] برقم (4486). 
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (11/ 200).

مواد ذات صلة