الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[107] قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا..}
تاريخ النشر: ٢٩ / محرّم / ١٤٣٧
التحميل: 1143
مرات الإستماع: 2722

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- لما ذكر القبلة وتحويلها، وما يكون من قالة السوء التي تصدر عن السفهاء من الناس: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فرد عليهم: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142].

وهؤلاء الذين قالوا ذلك واعترضوا على تحويل القبلة هم اليهود كما هو معلوم، وما ذكره بعض أهل العلم من أن ذلك يُراد به أهل الإشراك، أو أهل النفاق يمكن أن يكون قد صدر عنهم فهم مظنة ذلك، والمقصود أن كل معارض لأحكام الله -تبارك وتعالى- وشرائعه فهو سفيه، فهؤلاء اعترضوا على تحويل القبلة فسماهم سفهاء، وإذا كان من اعترض على قضية واحدة استحق هذا الوصف فكيف بمن اعترض على الشرع كله؟! فكيف بمن بدله وغيره بقوانين وضعية! ونُظم أرضية صنعتها حُثالة عقول البشر!!.

قال الله بعد أن ذكر هؤلاء السفهاء وما سيقولون، ذكر أهل العدالة وهم من يقابلون هؤلاء من أهل السفه وخِفة العقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143].

وَكَذَلِكَ أي: وكما هديناكم إلى الطريق الصحيح إلى الدين الحق إلى الحنيفية جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا خيارًا عدولاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ تشهدوا على الأمم في الآخرة أن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل لهم الرسل وأنهم بلغوهم البلاغ المبين وَيَكُونَ الرَّسُولُ في الآخرة، كذلك شَهِيدًا عَلَيْكُمْ [سورة الحج:78] أنه بلغكم رسالته ربه -تبارك وتعالى.

أما القبلة فقال الله -تبارك وتعالى- في هذه القبلة: وَمَا جَعَلْنَا يعني: القبلة الأولى التي كنت عليها وهي التوجه إلى بيت المقدس ثم حولناك إلى الكعبة إلا ليظهر ما علمناه في الأزل إِلَّا لِنَعْلَمَ يعني: علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء، فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فنظائر هذا في كتاب الله إذا قال الله لنعلم كذا وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [سورة محمد:31] الله يعلم من يكون من المجاهدين والصابرين، ولكن المقصود العلم الذي ترتب عليه الجزاء؛ لأن الله لا يُجازي العباد ولا يُحاسبهم بمقتضى هذا العلم حتى يظهر ذلك في الخارج، يعني: حتى يظهر منهم الفعل الذي يترتب عليه الجزاء حَتَّى نَعْلَمَ فهنا العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب وهو العلم المُتعلق بما صدر عنهم، متعلق بالوقوع لنُميز من يتبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيث توجهت، ومن هو مُزعزع الإيمان ضعيف اليقين فينقلب مرتدًا على عقبيه، وهذه القضية وهي تحويل القبلة لا شك أنها أمر شاق على النفوس إلا على الذين هداهم الله ومن عليهم بالإيمان والتقوى.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ وذلك الصلاة إلى البيت المقدس قبل تحويل القبلة فإن تحويلها لا يكون إلغاءً للصلوات التي كانت إليها قبل هذه النسخ، فهذا من رأفته ورحمته -تبارك وتعالى- بعباده.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة وهي الآية الوسط التي في المنتصف منتصف سورة البقرة، حتى هذه الكلمة وَسَطًا جاءت في منتصف هذه السورة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] وهذه الآية وصف هذه الأمة بالوسطية ولتكون شهيدة شاهدة على الأمم، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يكون عليها شهيدا هذا يدل على تشريف هذه الأمة، وعلى منزلتها ومكانتها الرفيعة التي جعلها الله بها، فوصف الأمة بالعدول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: عدولاً خيارًا فهذا وصف من الله -تبارك وتعالى- تعديل لهذه الأمة، فهذا لا شك أنه شرف لها، عدولاً خيارًا، الوصف بالخيرية.

وكذلك أيضًا أن هذه الأمة تكون شاهدة على الأمم جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عدولاً خيارًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فكون هذه الأمة شاهدة على الأمم الأخرى يدل على أن هذه الأمة أفضل من سائر الأمم حيث جُعلت شاهدة عليها، وهذا المُزكي لغيره أو الشاهد هو بمنزلة من العدالة لا يحتاج معها إلى تزكية.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن هذه الأمة أفضل الأمم على الإطلاق؛ لأنها أمة بشهادة الله هي الوسط جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فهي خير أمة أخرجت للناس كما قال الله صراحة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] وهذه الخيرية تكون بماذا؟

قال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] فهنا قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وصف هذه الأمة، وأخر الإيمان بالله مع أن الإيمان بالله هو الأصل، ولما ذكر أهل الكتاب قال: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:113، 114] فبدأ بالإيمان في وصفهم وأخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال بعض أهل العلم في وجه هذا: إنه قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق هذه الأمة لأنه أبرز أوصافها، أما الإيمان فتشترك مع سائر الأمم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند سائر الأمم؛ ولذلك قال الله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79].

وقال: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] فدل هذا على أنهم مُطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه في هذه الأمة أعظم وأشمل وآكد فقدمه، فهو مزية تميزت به هذه الأمة، فهذه الأمة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر استحقت الخيرية تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] تفسير لقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عدولاً خيارًا فيأخذون على يد السفيه، ويُعلمون الجاهل، وتستقيم بذلك الأحوال، ويُعرف الحق من الباطل فلا يندرس الحق ويضيع بسبب سكوت العالم ومُقارفات الجاهل، فينشأ الصغير على المنكر ويألفه، ويظن أنه من المعروف.

ومن هنا ليس لأحد أن يعتقد أو يقول أو يتفوه بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في خصوصيات الآخرين، أو أنه افتئات عليهم، أو أنه لربما اشتغال بما لا يعني، اشتغال بأمر الناس، هذا الكلام غير صحيح، بل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصح الجاهل وتعليم الناس الخير والحق، وبهذا يحصل الكمال فإذا وجد النقص سُدد لكن بالطريق الصحيح، وتؤتى البيوت من أبوابها.

أما تعطيل هذا الباب فهذا لا يمكن، وذلك من الواجبات بالإجماع على خلاف بين أهل العلم هل هو من فرض الكفاية أو من فرض العين بناء على معنى "من" في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:104] علق الفلاح بهؤلاء.

فبعض أهل العلم قال: الفلاح هو مطلوب أهل الإيمان، وإذا كان لا يتحقق الفلاح إلا بهذا فهذا واجب، فتكون "من" بيانية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [سورة آل عمران:104] كما يقول الإنسان لأولاده أريد منكم أولادًا بررة، يقصد الجميع.

وبعض أهل العلم يقول: "من" تبعيضية: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ [سورة آل عمران:104] يعني: أن يكون بعض الأمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فهذا على كل حال أقول استحقت به الأمة الخيرية صارت أمة وسطًا تشهد على سائر الأمم يوم القيامة، إما إذا ترهلت الأمة وضيعت أمر الله -تبارك وتعالى- وتركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظهر فيها المنكر والفاحشة وتشبهت بأعدائها وأضاعت هويتها، فإنها بذلك تكون قد تركت من الأوصاف التي تميزها والتي ترفعها والتي استحقت بها التفضيل والخيرية بقدر ما حصل لها من التضييع، هذه الآية يؤخذ منها عدالة هذه الأمة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ والشهيد قوله مقبول الشاهد شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وإنما يُقبل قول العدول.

وكذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] اللام هذه يمكن أن تكون للتعليل، ويمكن أن تكون للعاقبة لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فجاء بحرف "على" الدال على الاستعلاء وذلك أن الشهيد كالرقيب والمُهيمن فهو بمنزلة أعلى من المشهود له أو عليه.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا لاحظ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] وفي حق الرسول ﷺ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] لاحظ حرف "على" المتعلق لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ لم يقل لتكونوا على الناس شهداء لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] فأخر الجار والمجرور "على الناس" وفي شهادة النبي ﷺ على هذه الأمة: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ لم يقل: ويكون عليكم الرسول شهيدا، فلاحظ التقديم والتأخير في الموضعين.

فيمكن أن يؤخذ من هذا -والله تعالى أعلم- أن الغرض في الأول: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة الحج: 78] إثبات شهادة هذه الأمة على الأمم.

وفي الثاني: اختصاص هذه الأمة بشهادة النبي ﷺ وهذا شرف ليس بعده شرف، النبي ﷺ هو الذي يشهد عليهم، أما الأمم الأخرى فتشهد عليهم هذه الأمة لا تشهد عليهم أمة، هذه الأمة لا تشهد عليها أمة أخرى إنما الذي يشهد عليها هو رسولها ﷺ.

أما الأمم الأخرى فإن هذه الأمة هي التي تشهد عليهم: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ فهذا قدم ما يتعلق بهم؛ لأنهم يتشرفون بهذا على الناس، وأما فيما يتعلق بشهادة النبي ﷺ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] فشهادته ﷺ تشريف لهم، وذلك أن المِنة تحصل من الجهتين كما ظهر -والله تعالى أعلم.

ويؤخذ من هذه الآية أن الله -تبارك وتعالى- يمتحن عباده بالأحكام الشرعية كما يمتحنهم -تبارك وتعالى- بالأحكام القدرية الكونية، بالأحكام الشرعية الإيجاب والتحريم والنسخ وما إلى ذلك، كما قال الله : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] فامتحنهم بتحويل القبلة، فالله يبتلي عباده ويمتحنهم بالأحكام التي يُشرعها لهم فما على العبد إلا أن يُذعن ويُسلم ويستسلم لأحكام الله لا يعترض ويقول: هذا الحكم أنا غير مُقتنع به، هذا الحكم ما استوعبته ولا استطاع عقلي أن يتقبله، وما عقلك! وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] هنا لا مجال لئن يقول الإنسان: أعرض على عقلي كما يقول بعض الناس، أعرض النصوص على عقلي فما قبله عقلي قبلته.

إذن صار العقل هو المتبوع، صار العقل إله من دون الله صار معبودًا، الله يقول: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [سورة الفرقان:43] إذا كان الهوى يصير إلهًا يُعبد؛ لأنه متبوع، فالعقل كذلك قد يكون صنمًا، هذا الذي يقول: لا أقبل من الوحي ولا غير الوحي إلا ما أعرضه على عقلي، فما دخل عقلي وقبله عقلي قبلته.

إذًا صار الأصل والمعبود والمُتبع هو العقل وليس الوحي، والله يقول لنبيه ﷺ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سورة سبأ:50] هنا قدم الجار والمجرور "فبما" للحصر، لا يوجد اهتداء إلا بما يوحي، لم يقل: إلا بما يُملي عليّ عقلي، ما هو العقل؟ ما قيمة العقل الذي يُعارض النقل والوحي؟ وكم يضيع بسبب هذه من خلق، ولربما يتلقون هذا بدورات لا تؤجر عقلك، لا تُلغي عقلك، أعرض كل شيء على عقلك، مساكين فيتلقفون ذلك ويتبنون مثل هذه الأفكار المنحرفة التي قد تذهب بآخرتهم -والله المستعان.

فالله -تبارك وتعالى- يبتلي العباد بالأحكام، المرأة قد تقول: لماذا نحمل حجابًا؟! لماذا لنا نصف الميراث؟! لماذا نؤخر؟! لماذا نُصلي خلف الصفوف؟! لماذا نُمنع من مخالطة الرجال؟! لماذا نؤمر بالقرار في البيوت؟! لماذا دية المرأة نصف دية الرجل؟!

يُقال: الله يبتلي عباده وهو عليم حكيم، حكم عدل، أحكامه في غاية العدالة، ومبناها على العلم والحكمة، يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك:14] سواء أدركنا هذا أو لم نُدرك حكمته نحن نُدرك أن الذي شرعه حكيم، وهذا الكون في تسييره حينما يخطف الله من بين أيدينا من نُحب، أو حينما يبتلينا بما نكره، أو نحو ذلك، لا يعترض الإنسان ويقول: يا رب أنا مُطيع وتقي والبلاء يُساق إليّ سوقًا، وآخرون لا يعرفون الله ويعيشون في بحبوحة من العيش، هذا لا يقوله من عرف ربه معرفة صحيحة، إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل[1] وقال سبحانه: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة آل عمران:196، 197] فالابتلاء يُساق لأهل الإيمان في أنفسهم وفي أموالهم، ونسأل الله أن لا يجعل مصيبتنا في ديننا.

إذًا أحكام الله القدرية وأحكامه الشرعية يجب التسليم والرضا بذلك كله، هذا هو حال المؤمن لا اعتراض ولا امتعاض، إنما يثق، والإنسان حينما يركب في الطائرة بين السماء والأرض يأكل ويمرح ويأنس وهو مُطمئن وقرير العين، وليس بمشغول بسير هذه الطائرة، وما عسى أن يصنع هذا القائد لهذه الطائرة مع أنه لا يعرفه لكن هو عنده ثقة أنه ما وضع في هذا المكان إلا من هو أهل له، فيركب وينام أو يقرأ صحيفة، ويأكل ويشرب وهو قرير العين؛ لأنه مطمئن أن هذا الذي يقود الطائرة أنه أعلم بعمله، لا يحتاج أن يأتي إليه ويقول له: انتبه احذر، أمامك كذا.

إذا كان هذا في قائد طائرة لا تعرفه ويُخطأ ويُصيب بشر ويُصيبه الذهول، ويمكن أن ينام، أو يموت، أو يُغمى عليه تصيبه نوبة صرع أي شيء إغماء ومع ذلك أنت قرير العين، فكيف بالله الذي يُدبر أمر هذا الكون لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [سورة طه: 52] لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] اطمئن تمامًا، اطمئن تمامًا هذه الأقدار التي يسوقها لك يسوقها عليم حكيم على كل شيء قدير، هو أعلم بخلقه هو الذي خلقهم وأوجدهم فلا تشغل بالك في هذه الأمور، عليك بطاعة الله، والتسليم، والإذعان، والرضا، أما لماذا وكيف ولماذا لا يفعل كذا ولماذا يفعل كذا، هذا ليس لك، ليس من عملك هذا اطمئن، الذي يُدبر هذا الكون حكيم وعليم فلا تقلق، لا تنزعج، اختار لك مرض، اختار لك ابتلاء، اختار لك كذا، لا تقلق، أهم شيء أن يكون الذي بينك وبينه عامر هذا أهم شيء وما وراء ذلك لا شأن لك به -والله المستعان.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [سورة البقرة:143] اختار الله مدة للتوجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا تمحيصًا للنفوس، يُمحصها من كل رواسب الجاهلية ومن علائقها التي كانت تتعلق بها، ليُمحص النفوس لتكون مُتبعة لأمر الله كانوا في الجاهلية يُعظمون البيت فتحويلهم إلى بيت المقدس هذا بحد ذاته امتحان للنفوس وتنقية لها من مألوفاتها وعاداتها؛ لتكون تابعة لأمر الله .

كان النبي ﷺ في مكة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ويُصلي، في المدينة يستقبل بيت المقدس والكعبة خلفه، ثم يظهر بعد هذا كله بعد النسخ والتحويل من هو المُرتاض بالإيمان الذي ارتاضت نفسه ومن هو المُضعضع المُزعزع الذي يذهب هنا وهناك ويتشكك لأدنى امتحان إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143].

وهذا يدل أيضًا: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] أن بعض الأوامر الشرعية أو النواهي شاقة على النفوس لكن ما الذي يهونها؟ الإيمان والهداية وترويض النفس على الطاعة وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً هي أمر شاق تحويل القبلة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] فدل على أنه بقدر هداية الإنسان بقدر ما يحصل له من الهداية بقدر ما يحصل له من الرسوخ والثبات فلا يتضعضع ولا يتزعزع فتذهب عنه هذه المشقة.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] صلاتكم إلى بيت المقدس، لا يضيع، فدل على أن العمل من جملة الإيمان، وأهل السنة يستدلون بهذه الآية على هذا المعنى.

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143] فهذا تذييل يؤكد هذا المعنى أن الله لا يُضيع عمل المؤمن ولا يذهب هباءً، وفيه أيضًا إظهار للمنة والرأفة هي رحمة رقيقة أرق الرحمة يُقال لها: رأفة، فالحكم المنسوخ يُلغي العمل بالحكم في المستقبل وليس مُلغيًا لما مضى من أعمال العاملين على وفق ما أمر الله -تبارك وتعالى.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ [سورة البقرة:143] فجاء بالاسم مُظهرًا لم يختصر وجاء بالضمير، لم يقل: وما كان الله ليضيع إيمانكم إنه بالناس لرؤوف رحيم، فالإظهار في موضع يصح فيه الإضمار يكون لنُكتة، يكون لمعنى لملحظ، فهنا إظهار في هذا الموضوع للتعظيم: وَمَا كَانَ اللَّهُ فهذا أعظم وأفخم مما لو قال: إنه بالناس لرؤوف رحيم.

وتقديم الناس: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ قُدم على متعلقة وهو لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ لم يقل: إن الله لرؤوف رحيم بالناس، وإنما قال: بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ يدل على عناية بهؤلاء الناس إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ فقدمهم فهذا يدل على شدة تعلق رحمته بهم ولصوقها وعلوقها بهم، فالله أرحم بعباده من الوالدة بولدها لاحظ هذا التقديم، وما أفاده.

هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم (2398)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4023)، وأحمد في المسند، برقم (1481)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين" وبوَّب الإمام البخاري في صحيحه (7/ 115) "باب أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" وجود إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (143)، وصححه في صحيح الجامع، برقم (992). 

مواد ذات صلة