الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[109] قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ..}
تاريخ النشر: ٠٢ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 935
مرات الإستماع: 2714

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لا زال الحديث متصلاً بالآيات التي تتحدث عن تحويل القبلة، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:145] ولئن جئت أيها الرسول أولئك الذين أعطوا الكتاب التوراة والإنجيل بكل حجة وبرهان على أن توجهك إلى القبلة إلى الكعبة في الصلاة حق من عند الله -تبارك وتعالى- ما تبعوا قبلتك، عنادًا واستكبارًا، فلا تتعب في إقناعهم، والاحتجاج لذلك.

وما أنت بتابع قبلتهم التي حولت عنها وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لا اليهود يتبعون قبلة النصارى ولا النصارى يتبعون قبلة اليهود، ولئن اتبعت أهواءهم في شأن القبلة وغيرها بعدما جاءك من العلم لأنك على الحق وهم على الباطل إنك حينئذ لمن الظالمين لأنفسهم، فقد وضعت الاتباع والتوجه في غير موضعه.

وهذا خطاب لشخص النبي ﷺ وهو متوجه إلى جميع الأمة باعتبار أن الأمة تُخاطب في شخص قدوتها ومُقدمها -عليه الصلاة والسلام- وهو تهديد ووعيد لمن يتبع أهواء المخالفين لشريعة الإسلام.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد: أن ما يصد اليهود عن الدخول في الإسلام وكذلك النصارى ليس هو الجهل به، وأنهم لا يعرفون دين الإسلام، أو أنهم لم يُقدم إليهم بعرض صحيح، ولكن القضية هي كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ بكل برهان وبكل حجة مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [سورة البقرة:145].

إذن القضية ليست عبارة عن عرض قاصر للإسلام، وليست عبارة عن جهل فيه، وأنه الحق الذي جاء به الرسول ﷺ ولكن هؤلاء لهم موقف من هذا الدين، ومن ثَم فإنهم يرفضون الدخول فيه، فهم يعرفونه لكن يخشونه على مصالحهم وسلطانهم ومن ثَم فإنهم يكيدون له بأنواع الكيد، وبشتى الطرق والوسائل، بطرق مُباشرة وبطرق غير مُباشرة منذ بعث الله نبيه ﷺ تارة يُحاربونه بأنفسهم، وتارة يشعلون حروبًا بالوكالة وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [سورة البقرة:145] هذه حقيقة يُقررها القرآن، نعم يوجد من الأتباع من هم مُضللون، يوجد من لم يبلغه الإسلام بصورة صحيحة، هذا أمر لا يُنكر، ولكن هل الذي يمنع هؤلاء في الجملة هو جهلهم بالإسلام أو أنه لم يُعرض عليهم بطريقة صحيحة؟

الجواب: لا، مع أنه قد يصدر من بعض من ينتسب إلى الإسلام ما يصد الناس عن قبوله، ويحصل بسبب ذلك من الفتنة لهؤلاء الكفار ولبعض المسلمين ممن لا يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ﷺ فيؤدي ذلك بطوائف إلى لربما استحسان هذا الإجرام، ويؤدي بطوائف آخرين إلى نسبة ذلك إلى الإسلام فيتشككون فيه، وهذا كله غلط، وغير صحيح.

فهذا الذي حصل هذه الأيام في فرنسا، هذا من أعظم الصد عن دين الله -تبارك وتعالى- ولو جد الناس واجتهدوا أعني الأعداء ما جادت قرائحهم بأعمال تصرف الناس عن الدين وتصدهم عنه أبلغ من هذا، يعني: مهما قالوا من الخُطب، ومهما حذروا من الإسلام ومهما دقوا نواقيس الخطر أن الإسلام ينتشر في القارة الأوروبية، ومهما ألفوا من الكتب، ومهما شوهوا من حقائق الدين، ومهما أوجدوا من ترجمات معاني القرآن المحرفة التي تُعطي انطباعًا سيئًا عن الإسلام، ومهما بعثوا من المنصرين جيوش المنصرين، ومهما أنفقوا من الأموال كل هذا يطير في الهباء، ولكن مثل هذه التصرفات تكون رسالة قوية موجهة إلى تلك الشعوب أن هذا الدين -يعني لسان هؤلاء الأعداء الذين يشوهون الإسلام- يقولون: انظروا هذا الذي كنا نحذركم منه ها أنتم ترون بأعينكم وتشاهدون حقيقة ما كنا نُحذركم، هذا هو الإسلام -نسأل الله العافية- الجهود التي تُبذل عبر عقود العقود الماضية في الدعوة إلى الإسلام، المراكز الإسلامية، الأموال التي تنُفق، الدعاة إلى الله الذين يقدمون صورة عن الإسلام ويشرحون شرائعه وآدابه وهدايات الإسلام يأتي حدث كهذا يهدمها.

الحاصل والخلاصة أن القرائح قرائح الأعداء لا يمكن أن تجود بكيد للإسلام، وضرب له في مقتل أبلغ من مثل هذه التصرفات التي لا ندري هل تنبعث من حماقات، أو أن وراء ذلك ما وراءه من كيد خفي الله -تبارك وتعالى- أعلم بحقيقته، نحن لا نعلم، لكن الذي نعلمه أن هذا ليس من دين الله في شيء لا من قريب ولا من بعيد، وأن هذا مفاسده خالصة ليس فيها مصالح للأمة، وأن الأمة تدفع الثمن باهظًا يدفعه المسلمون في الغرب ويكونون في حال يُرثى لها، ويدفعه المسلمون في العالم ويؤدي إلى مزيد من تسلط الأعداء والطعن في الدين واستضعاف الأمة وكيل التهم إلى هذا الدين القويم، فإلى الله المُشتكى -والله المستعان.

المقصود أن هذه الآية الكريمة تُقرر معنى لا مرية فيه، هؤلاء لا يتركون أهواءهم مهما قُدم لهم من البراهين: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96، 97] لكن هذا لا يعني أن لا تُقدم الدعوة فإن ذلك فيه من إقامة الحجة، ويفتح الله قلب من شاء، والنبي ﷺ وأتباعه من بعده أمروا بالبلاغ والدعوة إلى الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125] الهداية بيد الله ليست إليك: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة النحل:125] لا تتدخل تقول: هؤلاء لا يؤمنون، هؤلاء لا خير فيهم، هذا الإنسان لا يهتدي، لا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة النحل:125] فدع هذا إلى الله النتائج إلى الله ليست إليك.

قد ترى إنسانًا في غاية العتو وتستبعد إيمانه وهدايته ثم يتحول بعد ذلك إلى شيء آخر يتحمس لهذا الدين وينصره نصرًا لربما لا تؤدي بعضه، فهذا أمر مُشاهد، الذين حاربوا الإسلام وحاربوا النبي ﷺ كيف حولهم الإسلام إلى شيء آخر إلى أنصار، خالد بن الوليد عكرمة بن أبي جهل، من قادة المسلمين، وكم أبلوا! وكم فُتح على أيديهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وكانوا في يوم من الأيام يعادون النبي ﷺ وهذا الدين أشد العداوة، أبو سفيان القائد الأكبر للمشركين تحول إلى الإسلام وهو أول من قاتل المرتدين، كان عائدًا إلى اليمن وفي الطريق قُبض النبي ﷺ فلقي ذا الخمار مرتدًا عن الإسلام فقاتله قبل أن يشرع أبو بكر الصديق بحرب المرتدين، أبو سفيان أول من قاتل المرتدين.

سُهيل بن عمرو العامري الذي أراد عمر أن يقلع ثنيتيه؛ لأنه خطيب مفوه فلما أُسر في يوم بدر عمر عرض على النبي ﷺ أن يخلع ثنيتيه بحيث يصبح ألثغ لا يعرف أن يخطب، فنهاه النبي ﷺ عن هذا وقال: فعسى أن يقوم مقامًا تحمده عليه وفعلاً لما توفي النبي ﷺ قام خطيبًا في قريش وقال: "أيها الناس! يا معشر قريش إنكم آخر من دخل في هذا الدين فلا تكونوا أول من يخرج منه"[1].

فثبتهم فثبتوا فلم ترتد قريش، بينما قبائل العرب ارتدت، هذا سُهيل بن عمرو الذي كان سفير قريش في يوم الحديبية، فلا تبتأس، ولا تيأس، فالهداية بيد الله -تبارك وتعالى- لا تملكها أنت ولا أنا ولا أحد من الناس.

ثم يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [سورة البقرة:145] فأفرد القبلة في قوله: قِبْلَتَهُمْ مع أن النصارى لهم قبلة يستقبلون المشرق، واليهود لهم قبلة يستقبلون التابوت وإذا كانوا في بيت المقدس يستقبلون الصخرة، فوحد القبلة بالنسبة لهؤلاء جميعًا مع أنها مُثناة، يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن كل واحدة من هاتين القبلتين باطلة أصلاً مُخالفة للقبلة الحق فاشتركتا في الاتحاد بالبطلان، فعبر عنهما بالمفرد وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ الباطلة، أيًا كانت وجهتها.

وكذلك أيضًا مقابلة المفرد في قبلة المسلمين مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هذا بالإضافة إلى أمر ثالث وهو أوضح في توحيد القبلة من جهة اللفظ هو أن: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ قبلة مفرد مضاف إلى المعرفة الضمير الهاء وهذا يفيد العموم، الإضافة هذه تفيد العموم، يعني: يصبح بمعنى الجمع، يعني: قبلتهم قبلة اليهود وقبلة النصارى فهو بمعنى الجمع وإن كان لفظه مفردًا، يعني: وما أنت بتابع قبلات هؤلاء.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية المُبالغة في النفي بعدة مؤكدات:

اسمية الجملة: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ [سورة البقرة:145] اسمية الجملة، وتكرر الاسم فيها مرتين مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [سورة البقرة:145] فيما ذكره فيما بعد ذلك.

وتأكيد النفي بالباء في قوله: بِتَابِعٍ فهذا الأمر لن يتحقق، لن يحصل، هذا بالنسبة للمجموع، وإلا فإنه يؤمن من الأفراد كما هو معلوم من اليهود ومن النصارى لكن أن يتحول هؤلاء إلى الإسلام لا، قد تتحول بعض الأمم الوثنية، يعني: في جزيرة العرب أسلم جميع الناس في جميع أنحاء الجزيرة العربية تقريبًا، لكن بقي أهل الكتاب المجاورون للنبي ﷺ في المدينة لم يدخلوا في الإسلام دخل أفراد، النصارى الذين كانوا في نجران لم يدخلوا في الإسلام، اليهود الذين كانوا في خيبر لما فتحت خبير وقبل فتح خيبر وبعد فتح خيبر لم يدخلوا في الإسلام، لكن العرب في مكة الأنصار في المدينة أهل اليمامة، أهل اليمن، وغير هؤلاء كلهم دخلوا في الإسلام، ولما جاء الفتح الإسلامي إلى بلاد الشام ومصر وما وراء ذلك كل هذه الأمم دخلوا في الإسلام، لكن من الذي بقي؟

بقي أهل الكتاب، صاروا أهل ذمة، قد يدخل أفراد لكن هل تحولوا كغيرهم إلى مسلمين وذابوا في هذه الفتوح الإسلامية؟ يعني مملكة فارس بكاملها لما سقطت بأيدي المسلمين تحولوا إلى الإسلام، وهكذا ما وراء ذلك، لكن أهل الكتاب يبقون في هذه الأماكن عبر القرون على دينهم لا يتحولون عنه جملة، لكن قد يُسلم بعض الأفراد، فالذين هم أقرب الناس إلى النبي ﷺ ويرونه صباح مساء في المدينة لم يدخلوا في الإسلام، بينما أهل المدينة دخلوا في الإسلام من غير هؤلاء اليهود.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [سورة البقرة:145] إشارة إلى أن من عرف الله معرفة صحيحة عرف حقيقة دين الإسلام أنه لا يتحول عنه، ولذلك انظروا إلى سؤالات هرقل لأبي سفيان سأله مجموعة من الأسئلة لا يوجد فيها سؤال واحد عن معجزة، هو يسأل أبا سفيان قبل إسلام أبي سفيان، يسأله عن النبي ﷺ وما يدعوا إليه، سأله عن أمور ليس فيها معجزة، فلما أجابه عنها، قال: إن كانت كما يقول فسيملك ما تحت قدمي هاتين، ولولا ما أنا فيه لأتيته حتى أغسل عن قدميه -عليه الصلاة والسلام- هذا هرقل لكنه شح بملكه، حتى تعجب أبو سفيان، قال: قد أمِر أمر ابن أبي كبشة أن يخشاه ملك بني الأصفر، أمر النبي ﷺ أن ملك الروم صار يقول سيملك ما تحت قدمي هاتين، فهؤلاء من ضمن الأسئلة من جملة الأسئلة التي وجهت لأبي سفيان من قِبل هرقل: هل يرتد أحد من أتباعه بعد دخوله في الإسلام بعد دخوله فيه سخطة له؟

فقال: لا، فقال: هكذا الإيمان إذا خالط القلوب، أو كما قال، لا يرتد، لكن هؤلاء الذين يرتدون من بعض المنتسبين إلى الإسلام هؤلاء كما قال بعض أهل العلم بأن هذا الذي يُقدر أنه معرفة عرف دين الإسلام الواقع أنه لم يحصل له اليقين والعلم الصحيح بهذا الدين، إنما هو ظن متصور بصورة العلم، أما العلم الحقيقي يعقبه ارتداد فهذا بعيد وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:145] فمن عرف الإسلام معرفة صحيحة وآمن به إيمانًا صحيحًا واستقر ذلك في قلبه فإنه لا يرتد عنه، لكن كما قال شيخ الإسلام[2] كثير من المسلمين يرثون الإسلام وراثة فمثل هؤلاء لو حصل لهم تشكيك لحصل لهم زعزعة في هذا الإيمان لحصل خلخلة، هذا الذي يحصل الذين أخذوه وراثة، لكن من عرفه بقناعة فإنه لا يرجع عنه أبدًا، لكن إذا كان أخذه وراثة، لا يعلم حقائقه فيكون قلبه محلاً قابلاً للتشكيك -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  أسد الغابة ط العلمية (2/ 585). 
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (7/ 271).

مواد ذات صلة