الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[116] قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ..}
تاريخ النشر: ١٣ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1011
مرات الإستماع: 2243

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [سورة البقرة:154].

ولا تقولوا معاشر المؤمنين لمن يُقتل مجاهدًا في سبيل الله بأنهم أموات، بل هم أحياء حياة خاصة برزخية كما أخبر النبي ﷺ: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل...[1] ولكنكم لا تشعرون بهذه الحياة الخاصة.

يؤخذ من هذه الآية: إثبات نعيم القبر، فهؤلاء في قبورهم وأرواحهم تتنعم في الجنة، فالقبر يكون فيه من النعيم لأهل الإيمان، ويكون فيه من العذاب لأهل الكفر، وقد يُعذب فيه بعض المؤمنين بذنوبهم، كما قال النبي ﷺ حينما أتى على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة[2].

فهؤلاء كانوا من المسلمين، وحديث البراء الطويل مرفوعًا إلى النبي ﷺ فيه وصف ذلك[3] المقصود أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون موضعًا للعذاب.

وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [سورة البقرة:154] هنا جاء بالخبر مُباشرة، وإلا فتقدير الكلام: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات، ولكن لما كان المعني هو يعني المُعتنى به هو الخبر جاء به مُباشرة، فأوجز وحذف المُبتدأ؛ لأن المُهم في هذه الجملة هو الخبر، لم يكونوا يتصورون أنهم أحياء، فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [سورة البقرة:154].

ثم أيضًا هذه الآية تدل على عناية الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله؛ فإن معية الله -تبارك وتعالى- لهم لا تُنافي أن يتخذ منهم شهداء، بل إن ذلك من ثمرات معيته لهم، فإن من حصلت له هذه الشهادة حصلت له السعادة الأبدية، وحصل له الفلاح الكامل.

ويؤخذ من هذه الآية: أن هؤلاء حينما بذلوا مُهجهم رخيصة في سبيل الله -تبارك وتعالى- عوضهم الله بحياة أكمل، حيث جعل أرواحهم بهذه المثابة بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [سورة البقرة:154] في البرزخ الحياة النعيم والعذاب يقع على الأرواح وقوعًا أوليًا، ويلحق الأبدان من ذلك ومن جراءه ما يكون على سبيل التبع، كما أنه في هذه الحياة الدنيا يقع النعيم والألم على الأجسام والأرواح تبع لها، فالبرزخ عكسه، فالبدن يناله ما يناله لكن على سبيل التبع، وفي الآخرة بعد البعث والنشور يقع الألم والعذاب والنعيم على الأبدان والأرواح على حد سواء كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم، وهذا كمال النعيم.

يعني: لو نظرت في هذه الدار في الحياة الدنيا أكثر ما يعتني به الناس هو نعيم الأبدان بالأكل والشرب والنكاح والاستجمام، وما إلى ذلك من النظر إلى الأماكن الجميلة، ونحو ذلك، فهذا كله نعيم للأبدان، وإنما يكون نعيم الأرواح على سبيل التبع للأبدان.

في الآخرة يكون الكمال في النعيم أو العذاب حينما يقع على الأبدان والأرواح على حد سواء، ولما كان العاقل لا يترك محبوبًا إلا لتحصيل محبوب أعظم منه ذكر الله -تبارك وتعالى- أن من قتل في سبيله أنه يكون بهذه المثابة، تكون له الحياة البرزخية، حياة أفضل من هذه الحياة التي يعيشها في هذه الدنيا، بدليل ما جاء عن النبي ﷺ في ذكر الشهداء حيث إنهم بحالهم التي وصف ﷺ: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: "هل تشتهون شيئا؟" قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا[4]. هذا لما رأوا وشاهدوا من النعيم والجزاء الأوفى، فذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الجزاء من أجل حث النفوس وحظها على البذل في سبيله.

إذًا هذا يدل على أن معيار الربح والخسارة في هذه الحياة الدنيا عند الناس ليس كالمعيار الذي عند الله -تبارك وتعالى- الله يقول لتعزيتهم في يوم أحد: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [سورة آل عمران:140] اتخاذ شهداء بحد ذاته هذا مقصود لله -تبارك وتعالى- فيرفعهم بذلك ويحصل لهم من الأجور العظيمة المذكورة لمن قُتل في سبيل الله، فهذا في ميزان الله -تبارك وتعالى- ربح ومغنم.

ولذلك فإن أصحاب النبي ﷺ في يوم أُحد قتل سبعون، في المقاييس الدنيوية هذه خسارة فادحة، لكن الله ذكر من مقاصد ذلك الذي وقع في يوم أحد قال: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [سورة آل عمران:140].

فهذه الأجسام أيها الأحبة، وهذه النفوس إنما هي مطايا يسير بها السالكون إلى الآخرة، بالعمل في مرضاة الله ولكن هذا حينما يكون العمل على وجه صحيح؛ لأنه قال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة البقرة:154].

فالقتل في سبيل الله لابد أن يكون مستوفيًا للشروط الصحيحة، فمن ذلك أن يكون خالصًا في جهاده مُخلصًا لا يكون جهاده رياءً وسمعة أو حمية جاهلية أو نحو ذلك.

فعن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله ﷺ التقى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال رسول الله ﷺ إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله ﷺ رجل، لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله ﷺ: أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه...[5]. يعني: قتل نفسه

ولهذا سُأل النبي ﷺ الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال: من قاتل، لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله[6].

إذًا هذا هو الضابط في القصد وفي النية، هذا بالإضافة إلى استقامة العمل، أن يكون العمل في أصله مشروعًا فكم من إنسان يظن أنه يُجاهد في سبيل الله وهو يُفسد، ويكون عبدًا للشيطان مُنقادًا له فيما يُزينه له ويُمليه عليه، فيكون قتله وقتاله كل ذلك في سبيل الشيطان، في سبيل الطاغوت، وهذا لابد له من أن يكون العمل مشروعًا، أن يكون العمل على وجه صحيح.

يعني: إذا كان الرجل الذي غلّ شملة وكان على رحل رسول الله ﷺ يعني: يشتغل بالخدمة، يضع رحل النبي ﷺ ويحمله ونحو ذلك على الدابة، فقُتل، فقال الصحابة : هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، قال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم[7].

إذا كان هذا في شملة، فكيف بالذي يخبط خبط عشواء؟ ويكون فعله فسادًا في الأرض يعود ضرره وأثره على أهل الإسلام، بل لربما كان قتله موجهًا إليهم، فهذا من أعظم الفساد في الأرض، وليس من الجهاد في سبيل الله.

إذًا: القضية ليست مجرد نية، أو حُسن قصد، أو دعوى يدعيها الإنسان، أو اعتقاد يعتقده، بل لابد من تصحيح العمل، فإذا صح العمل فلا شك أن القتل في سبيل الله يُعتبر من الربح والغنيمة والمكاسب العظيمة، بخلاف المقاييس والمعايير الدنيوية.

يعني: إذا كان أيوب بقي مدة طويلة وهو في المرض وهو يُعاني ويُكابد ابتلاء من الله، قد يقول إنسان في المعايير الدنيوية: نبي الناس أحوج ما يكونون إليه معافى يُخالطهم ويدعوهم إلى الله لكن المعايير عند الله تختلف، يبتلي أحب الناس إليه ويرفعهم، يوسف أُخذ وألقي في البئر قبل نبوته، ثم بعد ذلك بيع بثمن بخس، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يُباع بثمن بخس! المعايير عند أهل الدنيا تختلف، هؤلاء لا شأن له عندهم وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [سورة يوسف:20] لكن هل هذا يُنقص منزلته عند الله -تبارك وتعالى؟ الجواب: لا، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يُباع بثمن بخس! لم يعرفوا قدره، ثم يُسترق هذه المدة الطويلة، ثم يُسجن هذه المدة الطويلة، والناس أحوج ما يكونون إليه، ومع ذلك يبقى على هذه الحال.

بعضهم يقول: كان بين لقاءه بأبيه وإلقاءه بالبئر مدة تبلغ الأربعين سنة، هذا لا يوجد دليل يُثبته، لكنك إذا حسبت المُدد التي تقضت في أقل التقادير هي لا تقل عن عشرين سنة في أقل التقادير.

موسى يذهب قبل نبوته إلى مدين خائفًا يترقب، ويبقى في أرض مدين يرعى الغنم عشر سنين في مهر امرأة، قد يقول قائل: الناس أحوج ما يكونون إلى دعوته ومخالطته وتربيته، ونحو ذلك، لا أن يبقى هذه المدة الطويلة في صحراء مدين يرعى غنمًا على بُضع امرأة، يعني: مهرًا لها، لكن المعايير عند الله تختلف، قد لا يعرف الناس قدره، ولكن قدره عند الله وافر.

وهذا يحمل أيها الأحبة أن الإنسان لا حاجة لأن يتزين للناس بعمله، ولا أن يُظهر عمله، ولا أن يتجمل به، وإنما يعمر ما بينه وبين الله -تبارك وتعالى- وإن لم يعرفه الناس، وإن لم يُعظم، وإن لم يكن بذي منزلة عندهم، قد لا يأتي الحشود لجنازته، لا يأتي المعزون الكثر لتعزية من أُصيب به من أهله، ولكنه عند الله -تبارك وتعالى- له شأن عظيم.

فنسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون (1887). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الجريد على القبر، رقم: (1361)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم: (292). 
  3.  أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، رقم: (4753)، وأحمد، رقم: (18534). 
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، رقم: (1887). 
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول فلان شهيد، رقم: (2898)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، رقم: (112).    
  6.  أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم، هل ينقص من أجره؟ رقم: (3126)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله رقم: (1904).   
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (115).    

مواد ذات صلة