الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[120] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى..}
تاريخ النشر: ٢١ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1071
مرات الإستماع: 2086

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وذلك بإخفاء الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- ويدخل في ذلك أهل الكتاب بما كانوا يُخفونه مما عرفوا من دلائل نبوة محمد ﷺ وما جاء به أحبار اليهود وعلماء النصارى، وهكذا كل من كتم الحق الذي عرفه بعدما أظهره الله -تبارك وتعالى- للناس، هؤلاء يلعنهم الله يطردهم من رحمته، ويلعنهم اللاعنون من الملائكة والناس حتى الدواب تلعنهم أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فهذا مما يدخل في جملة اللاعنين.

وقد جاء أيضًا أن الدواب والجُعلان كذلك أيضًا هي تشكو من عصاة بني آدم لما يحصل بسبب عصيانهم من الجدب والهلاك والآفات، وما إلى ذلك، ولهذا كان العالم الذي يُعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، قال أهل العلم: والسبب في ذلك أن هؤلاء إذا عرفوا ما جاء به الشرع انكفوا عن الإفساد وفعل ما لا يحل، فسلمت النفوس، والأموال وسلمت الدواب، ولم يحصل الإفساد في الأرض، ولم يمتنع القطر؛ لأن الناس قد أدوا حق الله عليهم، وأخرجت الأرض بركتها، وما إلى ذلك، فيستغفر له كل شيء؛ لأنه يدل الناس على هذا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [سورة البقرة:159] هؤلاء الذين يكتمون هذه البينات ذمهم الله -تبارك وتعالى- وتوعدهم باللعن أيًّا كانت دوافعهم، فدوافع هؤلاء الذين يكتمون قد تكون مادية دنيوية لما يتقاضونه من الرُشى والأموال، أو كان ذلك بسبب المحاباة وإيثار رضا المخلوقين على رضا الله -تبارك وتعالى- أو غير هذا من الدوافع كإرضاء الجماهير كما يقال، والسير في ركاب الناس، وما يطلبونه مما يوافق أهواءهم، ولهذا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن مدار هذه العِلل والدوافع ترجع إلى عدم الرسوخ في الإيمان، وكذلك إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق، هذا ذكره الأستاذ: محمد الخضر حُسين[1].

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: لعن كاتم الحق، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بذلك، هؤلاء عليهم لعنة الله، هذا الحق الذي بينه في كتابه، فهذا خلاف مقصود الشارع من البيان، فقد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن، يعني: الحق أظهره الله، فلم يكن ذلك عن خفاء، أو لبس أو اشتباه، فمن سكت عن بيان الحق فهو كاتم له، ومن حرفه وبدله وغيره يكون قد كتم الحق وأيضًا حصل لبس الحق بالباطل، يعني: هذا أشد.

فكل مُحرف للحق يكون كاتمًا له وزيادة، وكذلك من يذم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ويُضيف إليهم الكذب، فهذا من أسوء هؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

ويؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أن على أهل العلم أن يُبينوا للأمة الحق كما جاء في الشرع؛ فإن وظيفتهم هي حفظ علم الدين مع البلاغ، فإذا لم يبلغوهم ذلك، أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الجناية، فيتعدى ضرر ذلك إلى الناس جميعًا بل إلى غير الناس كما ذكرت فتلعنهم البهائم وغير البهائم.

يقول شيخ الإسلام في موضع آخر: "فلعنهم اللاعنون حتى البهائم"[2] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

يؤخذ من هذه الآية: أن هذا الكتمان أنه في غاية السوء، وذلك أنه كان بعد البيان، بعد أن بينه الله -تبارك وتعالى- للناس، ولا عذر لهم بحال من الأحوال أنهم لم يستبينوا الحق على الوجه المطلوب، أو نحو ذلك.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: تعبير هنا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ بالفعل المضارع لدلالة على أن ذلك هو ديدنهم، وأنهم مستمرون عليه، وأن ذلك يتكرر فلم يُعبر بلفظ الماضي فيوهم ذلك أن هذا قد وقع من قوم في الزمان الماضي، فتحدث القرآن عنهم، وإنما يتحدث عن الذين يكتمون، فالذين يكتمون هؤلاء يوجدون في كل زمان، فهم متوعدون بذلك، ففيه إقامة الحجة على الحاضرين.

ولاحظوا التعبير في اسم الإشارة للبعيد في قوله: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فهذا أبعث للسامع في تأمل حالهم، والالتفات إليهم وفيه من تحقير شأنهم لبُعد هؤلاء عن رحمة الله -تبارك وتعالى- ولاحظ هنا هذه الجُمل في الخبر أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل واللاعنون، وإنما قال: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ للتوكيد والتعظيم فأتى بالفعل المضارع يلعنهم المقتضي للتجدد لتجدد مقتضيه وهو قوله: يَكْتُمُونَ.

وفي قوله -تبارك وتعالى: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ التفات مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ هذا في المُتكلم، لم يقل: أولئك نلعنهم، وإنما قال: فأولئك يلعنهم الله، بصيغة الغائب، فمثل هذا الالتفات إلى الغائب من المُتكلم كأنه يُشعر بالسخط عليهم والإعراض عنهم، فجاء بضمير الغائب إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هذا المُتكلم أَنزَلْنَا نحن يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ما قال نلعنهم، فتحول في الخطاب من المُتكلم إلى الغائب، وذلك لإظهار السُخط عليهم والله تعالى أعلم، وأبرز لفظ الجلالة أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل: نلعنهم، فأظهر هنا في موضع يصح فيه الإضمار، وهذا يفيد تربية المهابة، وفيه من الفخامة ما لا يكون في الضمير.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يقول مجاهد -رحمه الله: دواب الأرض تقول: إنما مُنعنا المطر بذنوبكم[3].

فهذا كله يترتب على هذا الكتمان، وهذا يدل على أن بقاء الإنسان سلبيًا لا ينفع، ولا يبذل، ولا يُقدم العلم الذي علمه، أن ذمته بذلك لا تبرأ بحال من الأحوال، فهو مؤاخذ على هذا، والطريق إنما هو ببذل العلم ونُصح الخلق، والبلاغ للناس، والقيام بما أمر الله -تبارك وتعالى- به، أما أن يبقى العالم كعامة الناس لا يُنتفع بعلمه، ولا يبذله، ولا يُعلم الناس ما علمه الله ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؛ فإنه لا يسلم بهذا، فهو متوعد باللعن، قد يكون كافًا في حاله، غير مُقارف للمنكرات والموبقات، حفظ لسانه من أعراض الناس، ولكنه لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يُبلغ، بل يكتم فمثل هذا تُلاحقه اللعنة مرتين.

هنا في الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159] وكذلك أيضًا في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79].

ويقول: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ المائدة:63] فلا تبرأ الذمة بما قد يتوهمه الإنسان، أو يُزينه لنفسه أنه لا شأن له بالناس، فينطوي على نفسه، ويكون حاله كحال العامة لا يُنتفع بعلمه، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر فإنه متوعد باللعن، والله المستعان.

هذا ما يتعلق بهذه الآية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1. موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (1/ 285).  
  2.  مجموع الفتاوى (28/ 187). 
  3.  تفسير ابن كثير (1/ 473). 

مواد ذات صلة