الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[137] قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ..} الآية:183
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 923
مرات الإستماع: 1766

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183] تحدثنا حديثًا مفصلاً عن آيات الصيام، وما يُستخرج منها من الفوائد، والهدايات، والأحكام، ولا بأس أن أُلم هنا بشيء من الفوائد، والهدايات، فنسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ يا أيها الذين انقادت قلوبهم، وأقرت وأذعنت بما يجب الإقرار به، والتصديق والانقياد كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فرضه الله -تبارك وتعالى- كما فرضه على الأمم قبلكم، من أجل أن تتقوا الله -تبارك وتعالى، من أجل تربية التقوى في نفوسكم، ومن أجل أن يقوم في النفوس ما يحجزها عن معصية الله -تبارك وتعالى، ويحملها على طاعته، ومن أجل أن تُعمر القلوب والجوارح بطاعة الله، وتُنزه عن مساخطه.

فيُؤخذ من هذه الآية من الفوائد توجيه الخطاب لأهل الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهم المتأهلون كما ذكرنا في موضع سابق في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] فهنا كرر النداء ثانية لأهل الإيمان اعتناء بهم؛ ولأنهم المتأهلون للقبول عن الله -تبارك وتعالى، ولسنا بصدد الحديث عن الكفار هل هم مُخاطبون بفروع الشريعة، أو ليسوا بمخاطبين.

فالمقصود أن الكفار لو صاموا رمضان، فإن ذلك لا يُقبل منهم؛ لأن شرط ذلك هو تحقيق الإيمان، فهنا وجّه الخطاب للمؤمنين، فهم مخاطبون بالصوم، وأما الكفار فإنهم يُعذبون، ويُضاعف لهم العذاب بسبب تركهم شرائع الإسلام، والعمل بفرائضه مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [سورة المدثر:42، 43] فذكروا هذه التروك لهذه الأعمال والفرائض البدنية والمالية.

ثم أيضًا هنا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ والكتب يدل على الفرضية، وهذا مثال لأجلى صور التعبير بالكتب مُرادًا به الفرض والإيجاب، والذي فرضه هو الله -تبارك وتعالى، فجاء الفعل مبنيًا للمجهول؛ لأن الذي فرضه وكتبه معلوم لدى المخاطبين، وهو الله ، فهو المُشرع وحده. 

وكذلك بعض أهل العلم ذكر ملحظًا في هذا، وهو أن التكاليف الشاقة يُعبر عنها بمثل هذا، يعني: بالبناء للمجهول كُتُبَ عَلَيْكُم والله هو الذي كتبها، بخلاف ما يكون به الاستبشار، ونحو ذلك، فيأتي مبنيًا للمعلوم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21] فإذا كان الشيء مُحببًا لدى المُخاطبين أضافه -تبارك وتعالى- إلى نفسه، وجاء الفعل بالبناء للمعلوم كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21] لكن كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيام، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:180] باعتبار أن بذل المال والوصية به أمر يشق على النفوس، فهذا ملحظ ذكره بعض أهل العلم، كأبي حيان -رحمه الله- صاحب (البحر المحيط) قد يكون صحيحًا، أو قريبًا من الصواب، والله تعالى أعلم، والمسألة تحتاج إلى مزيد من الاستقراء والتأمل.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فقدَّم هنا الجار والمجرور فلم يقل: كُتب الصيام عليكم؛ وذلك بأن هؤلاء قد خوطبوا بالصوم، وفُرض عليهم، وتعلَّق بذمتهم، فقدّم ما يتعلّق بهم على غيره كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فبدأ بمن شُرع له الحكم، وقدّمه على الحكم المشروع كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فهو يُخاطبهم من أجل الإذعان، والاستجابة والانقياد، فإن هذا من الإيمان الذي يتحقق به الكمال في إيمانهم، حتى يستتم، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، يعني: أن الله كمّل شرائع الإيمان شيئًا فشيئًا، ولم يفرض ذلك جميعًا، وإنما شيئًا بعد شيء حتى بلغ ذلك التمام والكمال، فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [سورة المائدة:3] فلما أذعنت نفوسهم بالصلاة والزكاة خاطبهم بالصوم، فلما أذعنت نفوسهم به خاطبهم بعد ذلك بالحج.

ولما فُرض الصيام، بادر المسلمون إلى الصوم مع أنه عبادة شاقة، وهو حبس النفس وفِطامها عن مألوفاتها ومحبوباتها من الطعام والشراب والنِكاح يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي[1]، فهذا أمر يشق على النفوس؛ ولذلك تجد الكثيرين في أوائل أيام شهر رمضان ربما يحصل لهم شيء من التعب والمُقاساة والمُعاناة لمن لم يعتد الصوم، فتلقى المسلمون ذلك، وأذعنت به نفوسهم، وصاموا، وقارِن هذا مع حال بني إسرائيل حينما قيل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] فماذا كان من العنت في ذبح بقرة من أجل أن يتعرفوا على أمر طلبوه، وهو أن يعرفوا من قتل هذا القتيل.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أن الصيام بالنسبة لأهل الكتاب كان بالرؤية، وليس بالحساب، وهذا بناء على أحد الأوجه في التفسير في المراد بهذا التشبيه، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فهو يحتمل أن يكون هذا التشبيه في أصل الفرضية، فُرض عليكم الصوم، كما فُرض على الذين من قبلكم، لكن بالنسبة للعدد، وصفة الصوم قد تختلف، وهذا قال به طوائف من أهل العلم، وهو أن التشبيه في أصل الفرضية، وبعضهم يقول: إن هذا التشبيه هو في العدد، فكان الواجب عليهم أن يصوموا شهرًا، وبعضهم يقول: كان الواجب عليهم أن يصوموا رمضان، ولكنهم بدلوا وغيروا، وزادوا فيه، وجاء في هذا جملة من الآثار، حاصلها: أنه مرض أحد رُهبانهم، أو أحد أحبارهم، وأنه لما شُفي زاد في الصوم عشرة أيام، ثم مرض ملك من ملوكهم، فزادوا في الصوم عشرة أيام، فصاروا يصومون خمسين يومًا، فشق عليهم ذلك، حيث يدور في الحر والبر، ونحو هذا على التاريخ بالأهلة، فنقلوه إلى وقت لا يتبدل، ولا يتغير في وقت الاعتدال.

وبعضهم يقول: إنهم زادوا على الصوم لما نقلوه إلى وقت الاعتدال، زادوا فيه عشرة أيام، فصار خمسين يومًا بعد ما برأ ذلك الحبر، وزاد فيه عشرة أيام، والله تعالى أعلم، لكن أشار إلى هذا المعنى جماعة من أهل العلم، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إلى أن هؤلاء غيروا التوقيت وبدلوا بعد ذلك، فجعلوه في وقت تخيروه، لا يتحول، ولا يتبدل، ولا يتغير إلى وقت الحر، وطول النهار[2].

ويُؤخذ أيضًا من قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أن هذه الفريضة مما يُحبه الله -تبارك وتعالى، فكانت مشروعة للأمم السابقة، فهي من الأصول الثابتة في الشرائع، وهؤلاء الذين كانوا من قبل كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من هم؟ هل هم أهل الكتاب؟ أو سائر الأمم بشرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؟

فهذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الله قد كتب الصوم على سائر الأمم، ثم أيضًا مثل الصوم، وكذلك الاعتكاف والصلاة، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] فالرُكع السجود هذه الصلاة، والاعتكاف معروف، وكذلك الطواف، من لدن إبراهيم ، فكان ذلك في شريعته وملته، فإذا أدركت النفوس ذلك كان ذلك حافزًا لها، ومُحركًا لها على المُسارعة والاستجابة والامتثال.

فحينما يُقال: هذا التكليف الشاق قد فُرض على من قبلكم، فلستم بأول من يُفرض عليه، وهذا الطريق قد سلكه سالكون قبلكم، فأنتم على الطريق، فهنا يحصل التنافس، الأُمم قبلكم فُرض عليهم هذا فأذعنوا وصاموا، فأنتم على الطريق، فيحصل هنا المسارعة والمُنافسة، وبعض أهل العلم يقول: كان أهل الكتاب يزيدون للاحتياط، يزيدون قبله بيوم، وهكذا على مر الأجيال، وتعاقب القرون كثُرت هذه الزيادات، حتى صار صومهم خمسين يومًا؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، من أجل أن لا يكون ذلك ذريعة للزيادة في الشهر، كما وقع لأهل الكتاب، هذا كله يُؤخذ من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183].

وفي قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ذكر العلة؛ ليُخفف ذلك عليكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فهو يقول: هذا من أجل مصلحة كبرى تتحقق لكم، هو مدرسة وتربية للنفوس، يُربيها على التقوى، كُتب من أجل أن تحصل لكم التقوى، فالبطن إذا جاع شبعت الجوارح، فلم تمتد العين للنظر للحرام، ولم ينطلق اللسان بالحرام، وكذلك لا تمتد اليد للبطش الحرام، أو تخطوا الرجل إلى الحرام، فهذا كله بسبب ما يُنميه ويُربيه الصوم من التقوى، فذكر لهم هذه العلة، وذكر لهم أيضًا أنه: أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ فقلله ويسره وخففه، وجعله أيامًا، وهذا كله من رحمته -تبارك وتعالى- بعباده، ولطفه بهم، أن سهل ويسر عليهم هذه العبادة الشاقة، فهذا من كمال رحمته بخلقه، وبهذا نُدرك أن هذه الشريعة مبناها على الرحمة، فحينما يُكلفهم بتكليف مثل هذا يتلطف بهم غاية التلطف يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بهذا الخطاب المُحبب إلى النفوس، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183] أي: لستم أول من يُكتب عليه هذا، من أجل مصلحة عظمى، وهي التقوى؛ وكذلك هو شيء يسير، وأيام معدودات، إلى غير ذلك مما ذكره.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183] أن الله أراد أن يُكمل لهذه الأمة الفضائل التي كانت للأمم قبلها، مع زيادة هذه الأمة على هؤلاء جميعًا.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183] أن هذا مما يحصل فيه تربية الخلائق، من أولهم إلى آخرهم، على الكمالات والتقوى، وزكاء النفوس، وما إلى ذلك؛ لذلك شرعه على الأمم السابقة.

أتوقف عند هذا، وأُكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية.

وأسأل الله  أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب فضل الصوم برقم: (1894) ومسلم في الصيام، باب حفظ اللسان للصائم، وباب فضل الصيام برقم: (1151).
  2. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ط السنة المحمدية (ص:88).

مواد ذات صلة