الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[141] تكملة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ...} الآية:185
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 915
مرات الإستماع: 1534

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث فيما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:183-185] بلغنا هذا الموضع من آيات الصيام.

فيُؤخذ من هذه الآية قوله -تبارك وتعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فإذا كان الله -تبارك وتعالى- لا يريد فيما أمرنا به ما يعسر علينا، فكيف يُريد ما يكون ضررًا، وفسادًا لنا؟!

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ قدّم هنا الجار والمجرور المُتعلق بالمكلفين مما يدل -والله تعالى أعلم- على العناية بهم، وأن هؤلاء هم المقصود بالتيسير والتسهيل والتخفيف يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فإذا كان فيما كلفنا به يُريد اليُسر، فكيف يتوهم أحد أنه يُريد الضرر ، فكل ما شرعه الله لعباده فهو خير لهم، ولو أن الأفهام لم تبلغ في مداركها حكمة الله -تبارك وتعالى- في بعض التشريعات، فينبغي على المؤمن أن ينقاد ويُسلم، وأن يستحضر هذا المعنى جيدًا، وأن الله -تبارك وتعالى- يُريد بعباده اليُسر، ولا يُريد بهم العُسر، فتشريعاته -تبارك وتعالى- كلها في غاية الحكمة، وهي مما يدخل في طوق العباد، مما يُطيقون، فلم يُكلفهم بما يعسر عليهم، أو يلحقهم بسببه مشقة وكُلفة غير معهودة، فيكون ذلك عسيرًا عليهم.

وهكذا أيضًا يُؤخذ من قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إثبات صفة الإرادة لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، وإثبات التعليل والحكمة في أفعال الله ، فهو في هذا التشريع بهذه الصفة يريد اليُسر، ولا يُريد العُسر.

فهنا في هذه الآية لما شرع الصوم، وجعله لازمًا على القادرين من غير تخيير، كما في الآية التي قبلها، وهذا لا يخلو من مشقة على المكلفين، ومع ذلك قال بعدها: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فيُؤخذ من هذا أن اليُسر هو ما شرعه الله لعباده، لا أن يكون اليُسر بالخروج من ربقة التكليف، وأن تُنتهك حدود الله، وأن تُضيع محارمه بحجة أن الدين يُسر؛ ولهذا لما شرع الله هذا التشريع قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فاليُسر هو في لزوم ما شرعه، وأمر به، وجاء السياق بهذا التركيب يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ قد يقول قائل، أو يفهم أحد: أن الله يُريد اليُسر، وهذا اليُسر قد يُداخله شيء من العُسر، فجاء النفي وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فشرعه -تبارك وتعالى- مبني على التيسير؛ ولهذا كان من القواعد الخمس الكُبرى: أن المشقة تجلب التيسير، ورفع الحرج أيضًا، وما يدخل تحت ذلك من القواعد المتنوعة، مثل: إذا ضاق الأمر اتسع، ونحو ذلك.

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ يقول ابن عباس -رضي الله عنهما: "حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يُكبروا الله، حتى يفرغوا من عيدهم"[1]؛ لأن الله تعالى يقول: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إكمال عدة رمضان، ثم التكبير برؤية هلال شوال، فيكون التكبير مشروعًا إذا رُؤي هلال شوال، يعني من ليلة العيد، فيكون هذا التكبير شِعارًا للمسلمين، ترتفع به أصوات الرجال في مساجدهم ومجامعهم وأسواقهم وطُرقاتهم، ونحو ذلك، فهذا التكبير مطلوب.

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ فينبغي أن يكون ذلك شعارًا وظاهرًا يرفع المؤمن صوته به، وهكذا مُصلى العيد، حتى يخرج الإمام، فيُكبر الناس في طريقهم إلى العيد، فلما كان العيد موضع الفرح والسرور والبهجة، وكان مما رُكب في طبع النفوس أنها قد تتجاوز في أحوال الفرح الحد الذي رُسم لها، إما غفلة، وإما بغيًّا، جاء الأمر هنا بالتكبير: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ففرحة العيد لا تحمل على معصية الله -تبارك وتعالى، وتجاوز حدوده، وإنما يتذكر المؤمن أن الله أكبر من كل شيء، فهو أكبر من مطلوبات النفس، ومن شهواتها، ومحبوباتها، وأكبر من لذاتها، وأكبر من محابه، وأكبر من الناس أجمعين، فيخافه، ويلزم طاعته في العيد، وفي غير العيد، فالله -تبارك وتعالى- أكبر من كل شيء، فيمتلأ القلب من إجلاله وتعظيمه ومهابته والخوف منه دون ما سواه.

ولاحظوا هذا التعقيب: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فهذا التكليف فيه مشقة، وهو الصيام، فهنا ناسب أن يُعقب بترجي التقوى، إذا كان تيسيرًا ورُخصة ناسب أن يُعقب بترجي الشكر، ففي الآية الأولى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني بالصوم، وهنا لما كان هذا الموضع موضع ذكر التيسير عقبه بالشكر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فرخص للمريض والمسافر الفطر، وذكر صراحة أنه يُريد بعباده اليُسر، ولا يُريد بهم العُسر، فهذا يقتضي شُكره على ذلك، وشكره على هدايته -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

وحينما نتأمل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ما هداكم، هداكم لماذا؟ هداك للإسلام، وللشهر، ولتفاصيل الأحكام المُتعلقة بالصيام وغيره، هداك لذاك كله هداية إرشاد، وهداية توفيق: أن صمت الشهر طائعًا مُنقادًا، فهنا يتلاشى الالتفات إلى النفس والعُجب والزهو، ورؤية العمل، وإنما يستحضر فضل الله -تبارك وتعالى- عليه أن الله هو صاحب الفضل والمنة، فهو الذي هدى، ومن ثَم فإن العبد مهما فعل في صومه، وجد واجتهد بقراءة القرآن والصدقات وقيام الليل، وما إلى ذلك، هو يتذكر أن الله هو الذي هداه لذلك، فيحتاج إلى أن يشكر على كل عبادة وهداية هداه الله إليها، ومن هنا لا محل إطلاقًا للغرور والإعجاب بالنفس، والإدلال بالعمل على الرب -تبارك وتعالى، فما منك شيء، وإنما الفضل لله وحده، وانظروا إلى الأنصار حينما خاطبهم النبي ﷺ: ألم أجدكم ضُلالاً فهداكم الله بي[2]، إلى آخر ما ذكر -عليه الصلاة والسلام- فكانوا يقولون: لله المن والفضل، وهكذا يكون المؤمن، ينبغي ألا يلتفت إلى عمله وجُهده وبذله، وإنما يلتف إلى أن الله قد هداه وحباه ووفقه، فهو يحتاج إلى شكر لتثبت هذه النِعم، وتُستجلب الزيادة.

ويتضح مما سبق أن هذه الهداية تشمل هداية العلم بالأمور التي ذكرناها، وهي هداية الإرشاد إلى الشهر، وإلى أحكام الصوم، وأيضًا هداية التوفيق، وهي هداية القلوب، فتكون عاملة بطاعة الله، مُستجيبة لأمره، فمن صام رمضان، وأكمله، تحققت فيه الهدايتان، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه[3]، وقال: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء[4] فكم من محروم من ذلك كله؛ لأنه لم يُهد للإسلام، وكم من محروم من ذلك لكونه لم يوفق للصيام والقيام، بل انتهك حدود الله -تبارك وتعالى، وأفطر من غير عذر، ولم يُراعِ حرمة الشهر.

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تقومون بشُكره -تبارك وتعالى، و(لعل) هنا -كما عرفنا- للتعليل، أي: من أجل أن تشكروا الله -تبارك وتعالى، أن نشكره على إرادة اليُسر بنا، وأن نشكره على أنه لا يُريد بنا العُسر، وأن نشكره على إكمال العدة، وأن نُكبره على ما هدنا، فهذه كلها نِعم تتطلب شكرًا، والشكر هو ظهور أثر النِعمة على المُنعم عليه بالقلب باستحضار النِعمة، وباللسان باللهج بذكرها وذكر المُنعم، وكذلك بالجوارح بالعمل بطاعة الله -تبارك وتعالى، واجتناب مساخطه؛ ولهذا يقول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المُحجبا[5]

يعني: يقول لمن تفضل عليه، وأحسن عليه، أفادكم هذا الإحسان إلي ثلاثة أشياء: يدي، فصارت تعمل بالخدمة، ولساني: بالثناء، والضمير المُحجبا: بقيام ذلك في القلب.

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ من نظر إلى الثمرات العظيمة المُترتبة على الصيام مع أنه عبادة شاقة، يجد المصالح التي تتحقق منه من تهذيب النفوس والأرواح، وإصلاح القلوب والجوارح، مما مجموعه حصول التقوى، ويُدرك أن هذه نعمة عظيمة، وأن شهر رمضان هو شهر تهذيب خاص، تُصقل فيه القلوب والأرواح، ويتزود فيه العاملون، وقد هُيئت لهم فيه الأسباب بشهر تتنزل فيه الرحمات، وتُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفد الشياطين، فهو شهر أُنزل فيه القرآن، فضله الله على شهور العام، فهو نعمة؛ ولهذا جاء في الحديث: ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له[6]، جبريل يقول ذلك للنبي ﷺ، والنبي ﷺ يؤمن على قوله.

ويؤُخذ من هذه الآية فوائد أخرى غير ما ذكرت، ولكن أكتفي بهذا القدر.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 479).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه برقم (1061).
  3. أخرجه سنن الترمذي في أبواب الدعوات برقم (3522) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم باب فيما أنكرت الجهمية برقم: (199) وصححه الألباني.
  4. أخرجه الترمذي في أبواب القدر باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم (2140) وصححه الألباني.
  5. البيت في غريب الحديث للخطابي (1/ 346) وربيع الأبرار ونصوص الأخيار (5/ 277) بلا نسبة.
  6. أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات برقم: (3545) وقال الألباني: "حسن صحيح".

مواد ذات صلة