الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[155] تكملة قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ..} الآية:196
تاريخ النشر: ٠٤ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1632
مرات الإستماع: 1484

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196].

شرعنا في الكلام على أول هذه الآية الكريمة، وعرفنا أن قوله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ يدل على الإخلاص لله -تبارك وتعالى، فهذا تذكير بالتوحيد قبل الشروع بذكر الأحكام التفصيلية، هذا تذكير بالإخلاص وتنصيص على أهميته في الأعمال والعبادات، لاسيما الحج والعمرة.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لا لغيره، وعرفنا ما يدخل في معنى الإتمام، أن يؤتى بهذه العبادات تامة من غير إخلال، وأن يستمر من دخل في الإحرام والنسك فلا يقطع ذلك إلا بالإحصار، إذا حصل له الإحصار فعند ذلك يكون كما أمر الله -تبارك وتعالى- يذبح فدية أو هديًا كما قال الله -تبارك وتعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، ويوزع في المكان الذي هو فيه ثم يحلق أو يقصر، فمن إتمام الحج والعمرة ظاهرًا الاستمرار في أعمالهما والبقاء على الإحرام، وكذلك إتمام أعمال الحج والعمرة على الوجه المشروع، وأما باطنًا فيكون ذلك بالإخلاص للمعبود -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

كما يؤخذ من هذه الآية الكريمة: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لاحظ أنه قال هنا: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ما قال: فإذا أحصرتم، والفرق بينهما أن "إن" تقال فيما يقع قليلاً أو نادرًا، وأما "إذا" فتكون لما يقع كثيرًا، وهذا باعتبار أن الإحصار إنما يكون وقوعه قليلاً فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فالأصل عدم الإحصار، ومن هنا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشرع في النسك عند الإحرام أن يشترط من غير عذر، يعني إذا كان الإنسان في حال من العافية والصحة والقوة والنشاط أنه ليس له أن يقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. قالوا: ولأن النبي ﷺ أيضًا لم يفعل ذلك، ولم يرشد إليه أصحابه، وإنما ذكره لمن كانت شاكية، والمسألة فيها كلام معروف لأهل العلم، ومنهم من رخص في ذلك مطلقًا.

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، هذا يدل على التيسير وأن مبنى الشريعة على اليسر، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185] كما قال في الصيام، فهذه الشريعة بأحكامها وتشريعاتها مبناها على ذلك، فهنا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ما الذي يتيسر له من الهدي؟ شاة أو بقرة أو بدنة من الإبل كل ذلك يجزيه.

ثم أيضًا تأمل الأمر هنا بالإتمام وكذلك في قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] مع أن الحج قد يكون بالنسبة إليه تطوعًا كذلك العمرة، لكن أوجبه على نفسه بمجرد الدخول في النسك، فمن هنا يجب عليه أن يلتزم ذلك، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197].

في هذه الآية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ذكر أحكامًا تتعلق بالحج وختم ذلك بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ فالعبادات إنما شرعت لتحقيق التقوى، وكما ذكرنا في الصيام: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]، فهذه التقوى إذا حصلت ظاهرًا وباطنًا كان العبد محققًا للعبودية لله -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197] كل ذلك في الحج.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ هذا نهي والأصل أن النهي للتحريم إلا لصارف، فهو يدل على أن حلق الرأس لا يجوز للمحرم إلا إذا بلغ الهدي محله، وذلك في يوم النحر، والتقصير كالحلق لكنه ذكر الحلق وحده قال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ما قال: ولا تقصروا، مع أن التقصير لا يجوز حتى يبلغ الهدي محله، ففهم بعض أهل العلم من ذلك الإشارة إلى أن الحلق أفضل من التقصير، يعني أنه ذكر الحلق ولم يذكر التقصير مع اتحادهما في الحكم لأن الحلق أكمل وأفضل فذكر أكمل الأمرين، وقد قال النبي ﷺ: اللهم اغفر للمحلقين، قالها ثلاث، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، فقال: والمقصرين[1]، فبهذا يُعلم من القرآن على هذا الطريق في الاستنباط أن الحلق أفضل من التقصير، وأما الدليل من السنة فهو ما ذكرته آنفًا.

ثم أيضًا رخَّص الله -تبارك وتعالى- للمريض ومن به أذىً من رأسه من هوام الرأس أن يحلق فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، فهذا يدل أيضًا على التيسير والتخفيف، وأنه ما جعل علينا في هذا الدين من حرج، فإذا كان الإنسان يحتاج إلى الحلق أو إلى شيء من محظورات الإحرام لعذر معتبر فإنه يفعل ويكون عليه فدية أذى، وفدية الأذى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، هذه فدية الأذى، وفرقنا بينها وبين الهدي فهو للشكران وهذه للجبران، وبين أيضًا الفدية لترك واجب فتلك للجبران تجبر النقص، ففدية الأذى هي التي يخير فيها بين الثلاثة صيام أو صدقة أو نسك، لاحظ هنا ذكر ثلاثة أشياء، الصدقة تكون لفقراء الحرم أن يطعم ستة مساكين، والنسك الذبيحة أيضًا لفقراء الحرم في فدية الأذى غير هدي الإحصار، هدي الإحصار يذبح ويوزع في المكان الذي أحصر فيه، ولو كان خارج الحرم، لكن فدية الأذى هذه تكون لفقراء الحرم، فذكر ثلاثة أشياء اثنين منها تكون للمحتاجين والفقراء، فدل على عناية الشارع بهذا الجانب، وكما قال الله  في سورة الحج: وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [سورة الحج:36] وهكذا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [سورة الحج:28]، فهذا يدل على أن إطعام الطعام والإحسان إلى المساكين والفقراء والمحتاجين من فضائل الأعمال، لاسيما في الحج، فقد شرَّع الله -تبارك وتعالى- من التشريعات ما يكون سببًا للإحسان إلى هؤلاء وسد جوعتهم.

ثم تأمل هذه الآية فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ جاء التدرج فيها من الأسهل إلى ما فوقه، فالأسهل هو الصيام؛ لأنه لا يبذل فيه مالاً، ثم إطعام ستة مساكين، ثم بعد ذلك النسك ذبيحة إما شاة وإما بدنة، ولما أمر النبي ﷺ كعب بن عجرة حيث كانت هوام رأسه تؤذيه ويتناثر القمل على وجه فقال له النبي ﷺ: انسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام[2]، والحديث مخرج في الصحيحين، فهنا أرشده النبي ﷺ إلى الأفضل، وفي هذه الآية ذكر الأسهل والأيسر للناس، وهذا المعنى أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله[3].

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ هذا في الحج فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ المتيسر، فهذا يدل على التيسير كما ذكرنا، وكذلك أيضًا: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ففيه التيسير بذكر البديل وهو الصيام، فإن العجز عن العبادة تارة يكون موجبًا أو مرخصًا للمُكلف بأن ينتقل إلى بدل، من لم يستطع الصلاة قائمًا يصلي جالسًا، ومن لم يستطع جالسًا فعلى جنب، من لم يستطع استعمال الماء فإنه يتيمم، ومن العبادات ما يسقط إلى غير بدل في حال العجز: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286].

فهنا في الهدي فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فأحاله على البدل صيام عشرة أيام، وهذا من التيسير، ومن التيسير أيضًا أنه فرقها ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، فجعل الأقل في الحج؛ لأنه في سفر، وأعمال الحج والمناسك، ثم بعد ذلك إذا رجع صام الأكثر.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ بهذه العبارة الوجيزة يدخل فيه من لم يجد الهدي نفسه، ما وجد شاة أو بقرة أو بدنة من الإبل من أجل أن يذبحها، أو باعتبار أنه لم يجد القيمة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فيدخل فيه هذا وهذا بهذه العبارة الوجيزة، فمن لم يجد الثمن أو لم يجد الهدي فإنه يصير إلى البدل، فهذه الآية تدل على التيسير، وكذلك ما قبله من قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ هذا التدرج فهو في بيان الرخصة، ولهذا تدرج فيه من الأسهل إلى ما فوقه.

قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ثم قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فعطف هنا السبعة على الثلاثة، فلو بقينا مع هذا فقط: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فيحتمل أن تكون السبعة خارجة عن الثلاثة، أو أن تكون السبعة مع الثلاثة التي قبلها فيكون عشرة، يعني الأول فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يعني وما يكمل السبعة، يكمل الثلاثة فيصوم أربعة فيصير المجموع سبعة، هذا قد يُفهم، وأفهام الناس تتفاوت وتختلف، ولهذا قال بعده: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فرفع هذا الاحتمال، فدل على أن السبعة لا تدخل فيها الثلاثة المتقدمة.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية سعة رحمة الله  بأن جعل ذلك على سبيل التجزئة كما جعل الفدية على التخيير أيضًا، كما جعل المكلف أيضًا في الحج مخيرًا بين أن يبقى بعد يوم النحر يومين أو يبقى ثلاثة فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203].

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:196] جملة خبرية لكنها متضمنة معنى الإنشاء يعني الأمر فَصِيَامُ يعني فعليه صيام، ولم يذكرها بصيغة الأمر الصريح، أخذ منه بعض أهل العلم أن ذلك لتأكد ذلك في حقه وتعينه، فصار يكفي الإخبار عنه، هو شيء ثبت في ذمته فأخبر عنه ذكره على سبيل الإخبار، أمر مفروغ منه فذكره بصيغة الخبر، وهذا يقولون: من باب المبالغة في الإيجاب والفرض ولزوم ذلك في ذمة المكلف.

هذا، وأسأل الله  أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم (1728)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم (1302).
  2.  أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  3. تفسير ابن كثير (1/ 536).

مواد ذات صلة