الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[157] قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ..} الآية:197
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1566
مرات الإستماع: 1415

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197].

فلما أمر بإتمام الحج والعمرة لله -تبارك وتعالى، وذكر الأحكام المتصلة بالحج، ذكر ميقاته، فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، على قول كثير من أهل العلم، فهو شهران وعشرة أيام.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني من أوجب على نفسه الحج بدخوله في النسك بالإحرام، فيحرم عليه محظورات الإحرام، وما ذكره الله -تبارك وتعالى- من الجماع الرفث، ومقدمات الجماع ودواعيه القولية والفعلية، كما يحرم عليه الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- بأنواع المعاصي، وهي الفسوق، فهو الخروج عن الطاعة، كذلك يقال له في لغة العرب، يقال: فسقت الفأرة من جُحرها إذا خرجت للإفساد، فهو خروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى.

وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ الجدال الذي لا يوصل إلى مطلوب، ولا يبتغى به إقرار الحق، ودفع الباطل، وإنما الجدال الذي يكون سببًا لحضور النفوس، ويراد به الغلبة، ويوغر الصدور، ونحو ذلك، فهذا ممنوع منه في حال الإحرام، بل هو مذموم في كل حال؛ ولذلك فإن الجدال لم يذكر في كتاب الله -تبارك وتعالى- في الغالب إلا مذمومًا، كقوله: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ [سورة الرعد:13] وإنما جاء الأمر به وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125] بهذا القيد، بالتي هي أحسن، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن [سورة العنكبوت:46] وهذا قليل في كتاب الله ، وإلا فالغالب أنه جاء على سبيل الذم.

ثم قال: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [سورة البقرة:197] أي: وما تفعلوا من خير مطلقًا من أنواع البر والطاعة ومن محاب الله -تبارك وتعالى، فيجازي كلاً على عمله، ثم أمر بالتزود، فقال: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى خذوا لأنفسكم زادًا من الطعام والشراب الذي تحتاجون إليه لسفر الحج، وخذوا زادًا أيضًا من التقوى بالأعمال الصالحة التي تقربكم إلى الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.

وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197] فهذا أمر منه -تبارك وتعالى- بتقواه، وخاطب به أصحاب العقول الراجحات يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ أي: يا أصحاب العقول.

فيُؤخذ من قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ على هذا القول المشهور أنه في شهرين وعشرة أيام، يكون عبّر عنه بالجمع، فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ وهو شهران وبعض الشهر، فهذا معروف في مخاطبات العرب وطرائقها في الخطاب أنها تجبر الكسر، فإذا كان الحج في شهرين وعشرة أيام فيجبرون ذلك، فكأنه صار في ثلاثة، فهذا جواب ذكره طائفة من أهل العلم، كأبي جعفر ابن جرير -رحمه الله[1]، وذكر غيره أن مبنى ذلك على أن أقل الجمع في اللغة اثنان، وقد سبق ذكر ما يدل على ذلك في بعض المناسبات، كقوله -تبارك وتعالى- في ميراث الأم فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ [سورة النساء:11] يعني لأم الميت السُّدُسُ وبالإجماع أنها تحجب حجب نقصان، من الثلث إلى السدس بوجود اثنين من الأخوة فأكثر، فقال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [سورة النساء:11] فالأخوان يحجبانها من الثلث إلى السدس، فأطلق عليهم صيغة الجمع إِخْوَةٌ وهذا معروف، ومنه قول صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري[2]

يعني الإمام مالك -رحمه الله، وهذا عليه جماعة من أهل اللغة والأصوليين والفقهاء: أن أقل الجمع اثنان.

ويُؤخذ من الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ أن الحج هو العبادة الوحيدة التي حُدد لها أشهر، مع أن الإنسان يمكن أن يأتي بالحج في ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، لكن لما كانت هذه فريضة العمر، ويأتيها الناس من كل فج عميق، ومن نواحي بعيدة، فيأتون ويمكثون في بيت الله -تبارك وتعالى- قبل الحج وبعده، وسع الله -تبارك وتعالى- لهم فيه، فكان في شهرين وعشرة أيام.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني: لو أنه أحرم في أول ليلة من شوال، يعني حينما ظهر الهلال المؤْذِن بدخول شهر شوال، وخروج شهر رمضان، يعني بعد غروب الشمس انقضى رمضان، ودخل شوال، فدخل معه موسم الحج، فلو أنه إذا عُلم دخول شهر شوال بعد المغرب ليلة عيد الفطر، قال: لبيك حجة، ينعقد إحرامه بالحج، بحسب ما أحرم به، فلو قال: لبيك حجة يقصد الإفراد مثلاً، أو القران، فإنه لا يتحلل إلا في يوم النحر، فإن قال: لبيك عمرة، وهو يريد بذلك التمتع، ولم يرجع إلى بلده، فإنه يكون حاجًا متمتعًا، فيمكث حتى يأتي بالحج، فيحرم في اليوم الثامن من ذي الحجة.

وهكذا ينقضي موسم عظيم، وهو شهر رمضان، وبمجرد ظهور الهلال يدخل موسم عظيم، ولو نظرنا إلى السنة في التاريخ الهجري الذي وضعه عمر ، ووافقه عليه الصحابة ، تبدأ السنة في شهر محرم، وتنتهي في شهر ذي الحجة، فتجد أنها تبدأ بأفضل الشهور أن يصام بعد رمضان شهر الله المحرم، وهو شهر حرام، وليس من أشهر الحج، وفيه يوم إذا صامه يُكفِّر سنة ماضية.

ثم بعد ذلك تختم السنة بهذه المواسم شعبان، يستحب صومه، فهو كالتمرين والنافلة قبل الفرض (رمضان)، ثم بعد ذلك يصوم رمضان وهو أفضل شهور العام، وفيه ليلة القدر، وفيه الليالي العشر الأخيرة منه.

ثم بعد ذلك بمجرد خروجه تدخل أشهر الحج، وإذا دخل ذو القعدة منها دخلت الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثم بعد يختم العام بالحج من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه[3]، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة[4]، ومن لم يحج فصيام عرفة يكفر سنة ماضية، وسنة آتية، فانظروا إلى ألطاف الله، وأفضاله، فأين هذا من الاحتفال بأعياد عباد الصليب؟ الذي يقولون: بأن ربهم ثلاثة، وهذه الثلاثة تمثل إلهًا واحدًا، في معادلة لا يفهمونها، ولم يستطع إلى اليوم أن يدركها وأن يفهمها أحد من الخلق أجمع، فعجبًا من يستعيض عن هذا الهدى الكامل، ويتبع من وصفهم الله بالضلال، فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7].

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الله -تبارك وتعالى- لما نهى عباده عن إتيان القبيح قولاً وفعلاً فَلَا رَفَثَ الجماع ومقدمات الجماع، والكلام فيه بحضرة النساء، فيدخل فيه القول والفعل، سواء كان ذلك مع من يحل له كامرأته، أو من لا يحل له، كما لو كان يتواصل مع امرأة بالحرام.

وَلا فُسُوقَ والفسوق يدخل به جميع أنواع المعاصي المتعلقة باللسان، أو الجوارح، أو القلب، فالتي بالقلب كالكبر، واحتقار الناس، والعجب بالأعمال، والرياء والسمعة، فالرياء والسمعة من الشرك، والعجب يُبطل الأعمال ويحبطها، فهذه من معاصي القلب، وأما معاصي اللسان: فالكذب والغيبة، والتعليق على الناس والسخرية والتندر بهم، والازدراء بالآخرين، والتفكه بذكر جهالاتهم وحماقاتهم، وما شاهده من مزاولاتهم في الحج، والنظر إلى الحرام، سواء كان في جهاز معه، أو كان ذلك في الغاديات الرائحات في فجاج منى، أو في غير ذلك من المواضع، فهذا لا يجوز لا في الحج، ولا في غير الحج، لكنه إذا وقع في الحج يكون ذلك في أرض هي من الحرم غالبًا سوى عرفة، ويكون في موسم هو من أعظم المواسم وأشرفها وأجلها، والله قال عن الحرم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] فهنا عدي فعل الإرادة بالباء؛ لأنه مضمن معنى (الهم) فمجرد الهم فقط بإلحاد بظلم متوعد عليه بالعذاب الأليم، حينما ينوي المعصية والإساءة والظلم، ونحو ذلك، فهذا يدخل فيه أشياء كثيرة مما يقع للإنسان.

وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ الجدال المذموم الذي يورث الكراهية والنفرة والضغائن، وتفرق القلوب، فهذا لا موضع له لا في الحج، ولا في غير الحج، لكنه في الحج يكون النهي عنه أشد وأعظم.

وفي قول الله -تبارك وتعالى: فَلَا رَفَثَ جاء بصيغة النفي، وهو مضمن معنى النهي، يعني لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، فهو نفي مضمن لمعنى النهي، وهذا أبلغ؛ لأنه جاء به على سبيل الإخبار، يعني جملة خبرية وليست جملة إنشائية، كأن هذا قد تقرر وثبت، فيكفي الإخبار عنه، وكأن هذه قضايا مفروغ منها، وأمر مقرّر، عليك أن تستجيب وتمتثل.

ثم هذه الألفاظ جميعًا (رفث) (فسوق) (جدال) كلها نكرات في سياق النفي، وهذا يفيد العموم، فيدخل فيه كل ما كان من هذا القبيل، وهذا يدعو إلى حفظ الجوارح، بحيث يستشعر العبد أنه ضيف على الله -تبارك وتعالى، وفي أطهر البقاع، وأشرف المواسم، فعليه أن يرعى حق مضيفه، وحرمة المكان، وأن يتقي الله -تبارك وتعالى، فلا يرسل لسانه بما حرم الله، ولا يرسل بصره إلى ما حرم الله، ولا يبطش بيده، ولا يخطو برجله إلى شيء يسخطه الله -تبارك وتعالى، فهذا كله -أيها الأحبة- داخل في هذا المعنى، وكثيرًا ما يغفل الناس عنه في حجهم وعمرتهم، يذهب كثيرون في مثل هذه الأوقات إلى العمرة، ولكن ربما يجادل في كل شيء، يجادل عند الحلاق، وفي الفندق، وإذا أراد أن يشتري، ويجادل صاحب الأجرة، وفي المطار، ويجادل الذي يحمل الحقائب، والذين يخدمونه في نزله، إذا تأخروا أو أبطأوا، ويجادل الرفقة الذين معه في كل شيء، فهو يلبس إحرامه، ولكنه أيضًا قد تلفع بألوان المخالفات، نتوقف عند هذا.

وأسأل الله  أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 120).
  2. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 234).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور برقم: (1521) ومسلم في كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة برقم: (1350).
  4. أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها برقم: (1773) ومسلم في الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1349).

مواد ذات صلة