الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(190) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ..} الآية:234
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الآخرة / ١٤٣٧
التحميل: 926
مرات الإستماع: 1155

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في هذه الآيات من سورة البقرة، وهي قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:234] جاء بيان أحكام العِدد للمُطلقات، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- عِدد المُتوفى عنهن، فالمرأة التي توفي عنها زوجها عدتها تختلف عن عدة المُطلقة، فالمُطلقة إذا كانت ممن يحيض فثلاثة قروء، وإن كانت صغيرة، أو آيسة، فثلاثة أشهر، وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل، أما التي قد توفي عنها زوجها فإنها تتربص أربعة وعشرًا، وعلى قول الجمهور إن كانت حاملاً فبوضع الحمل، ولو أنها وضعت الحمل في اليوم الذي توفي فيه زوجها بعد وفاته بساعة، أو نحو ذلك، تكون قد انقضت عدتها.

فقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي: يموتون ويتركون الزوجات، فعليهن أن يتربصن، أي: أنهن مأمورات بأن يتربصن، بمعنى ينتظرن، فالتربص هو الانتظار هذه المدة، وهي أربعة أشهر، وعشرة أيام، فتلزم الموضع الذي بلغها وفاة زوجها، وهي فيه، ولا تُفارق هذا المكان هذه المدة، وتترك الزينة بأنواعها، من اللباس، والأصباغ، والحُلي، هذه الأنواع الثلاثة في الزينة، يعني: لا تلبس ثيابًا مُزينة، وكذلك أيضًا الزينة بالأصباغ، كالحناء، والكُحل، وما يُسمى اليوم بالمكياج، وكذلك أيضًا الحُلي بأنواعه من الذهب والفضة، وغير ذلك مما تتزين به المرأة، كل ذلك يُترك هذه المدة، ولا تتزوج، ولا تُخطب، ولا تواعد على النكاح.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ المقصود: انقضاء المدة، وليست مقاربة الانتهاء، كما في الطلاق فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ هناك إذا قاربن انقضاء العدة، أما هنا إذا انقضت العدة تمامًا، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ يعني: من الزينة، والخروج، وإذا أردت أن تتزوج، على أن الذي يتولى التزويج هو الولي، كما هو معلوم.

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ والله خبير بما يعمله العباد، فالخبير هو الذي يعلم خفايا الأشياء، وبواطن الأمور، و(ما) تفيد العموم، أي: كل ما تعملون، والعمل يصدق على ما يكون من عمل القلب، وعمل الجوارح، وأقوال اللسان، فكل ذلك من العمل، وكذلك الترك هو من جُملة الأعمال؛ ولهذا جاء ختم هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني: يعلم الخفايا والبواطن، وبالنسبة لهؤلاء النساء اللاتي توفي عنهن أزواجهن، فهو يعلم فعلهن، وما يحصل من مواعيد مع الرجال كأن يتزوجها فلان سرًا، أو ما كان من قبيل المُقارفات المحرمة من الفواحش، أو ما كان من الخروج عن حدود الله من التزين، والخروج للتنزه، والزيارات، ونحو هذا، أو كان ذلك من قبيل الولي، فإنه ربما يصدر عنه تسلط عليها في هذه المدة، بغير حق، أو بعد انقضاء مدة العدة.

فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ فإذا انقضت عدتها لا ينبغي له أن يمنعها من التزين، ويقول: ينبغي أن تلزمي الحداد على هذا الزوج، أو كيف تتزينين؟ أو كيف تلبسين الجميل وتخرجين وقد مات زوجكِ؟! وربما يُطالبها بذلك أهل الزوج، فهذا كله لا يسوغ.

وقد كانت المرأة في الجاهلية -أيها الأحبة- إذا مات زوجها بقيت حولاً كاملاً، في حجرة قذرة صغيرة نائية لا تواكل، ولا تُجالس ولا تغتسل، ولا تُغير الثوب الذي عليها، فضلاً عن الزينة، وما إلى ذلك، فتبقى بنفس الثوب ولا تغتسل، ولا تمس الماء سنة كاملة، وهي مدة الحِداد فإذا انقضت هذه المدة كانت في حال يُرثى لها، من الأذى والقذر والوسخ، والحالة النفسية السيئة، حتى ذكروا في أخبار العرب، وذكر هذا بعض المفسرين: أنهم كانوا إذا انقضت مدة السنة، يأتون بطائر ويُدلك به جسدها، فيموت من شدة القذر والأذى والنتن، هكذا كانت المرأة في الجاهلية.

وليس ذلك فحسب، بل إنها حين تنقضي العدة يأتي أحد هؤلاء من ذوي الزوج، أخوه، أو أبوه، أو نحو ذلك من عصابته، ثم يُلقي عليها ثوبًا، فإذا ألقى عليها ثوبًا، فمعنى ذلك أنه ملكها، وأنه أولى بها، فلا تتزوج، وليس لها حق أن تتصرف في نفسها، ولا لأهلها حق في أن يزوجوها، فكأنه قد سبق إليها، هكذا كانت المرأة مُبتذلة، مُمتهنة، فجاءت هذه الشريعة بهذه الأحكام والشرائع الكاملة التي جاء فيها حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وإذا كانت المرأة في حال من الحمل، فإنها تبقى مُدة حملها طالت أو قصُرت، لكن لها أن تغتسل إن شاءت كل ساعة، وتُغير ثيابها، وإذا احتاجت إلى عِلاج فإنها تذهب إلى المستشفى، وإذا كانت بحال تتطلب أن تخرج لطلب الرزق، إذا كان لا يقوم غيرها مقامها في ذلك، فإنها تخرج مُحتشمة مُستترة، وهكذا تجلس مع من يزورها من النساء، وتجلس مع محارمها، وتجلس مع أهل بيتها، ولا تبقى في حال من العُزلة.

فقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ هذه الآية مثل قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ جاء بصيغة الخبر، وهو مُضمن معنى الأمر، يعني: يجب عليهن أن يتربصن، لكن الصيغة ليست صيغة أمر، وإنما هي صيغة خبرية، ومثل هذه -كما قلنا- تدل على مُبالغة في تأكيد التربص والأمر به، كأنه أمر قد قُضي وحُسم، فأخبر عنه إخبارًا، فما على المرأة إلا أن تستجيب وتمتثل.

ثم أيضًا لاحظ هذه العبارة يَتَرَبَّصْنَ تدل على بذل جهد وتصبر؛ وذلك أن المرأة في حال الحِداد ربما تتطلع إلى الخروج، وربما تتطلع إلى شيء من الترفيه، وإلى شيء من التنفيس والإجمام، بل ربما تتطلع إلى أن تتزوج بعد هذا الزوج الذي توفي، فجاء التعبير بهذه الصيغة يَتَرَبَّصْنَ مما يدل على أن ذلك يحتاج إلى شيء من توطين النفس، والتصبير لها على هذا البقاء والانتظار هذه المدة، وهي مدة الحِداد التي قُصدت بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وذلك حفظًا لحق الزوج وحرمته، واستبراءً للرحم.

وقد جاء عن سعيد بن المسيب -رحمه الله، وهو من فقهاء التابعين في الحكمة من هذه المدة، وهي أربعة أشهر وعشرًا: أن فيها يُنفخ الروح في الولد في الجنين، ويتبين ويتأكد الحمل[1]، فقالوا: بأن الولد يرتكض في البطن ويتحرك ويضطرب إذا بلغ هذه المدة أربعة أشهر وعشرة أيام، وتشعر بالحركة، وهنا لا يبقى لبس في موضوع الحمل، فيصير هذا الأمر في غاية الجلاء والوضوح، ومن ثَم فإنها لا تتزوج، وهي حامل، وقد مثَّل النبي ﷺ ذلك بالذي يسقي زرع غيره[2]، وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- عن الوطء في حال الحمل: بأنه يزيد في سمعه وبصره وعقله[3] يعني الجنين، وطء المرأة الحامل سواء كان الذي يطأها هو زوجها، فذلك يزيد في سمعه وبصره وعقله، خلافًا لما كان يعتقده أهل الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون بأن وطء المرأة في حال الحمل يجعل الولد ضعيفًا، ينبوا السيف في يده عن الضريبة؛ ولهذا كانوا يمدحون الشجعان الأقوياء من المقاتلين فيقولون:

فوارس لم يُغالوا في رضاعٍ فتنبوا في أكفهم السيوف[4]

يقول: هؤلاء لم يُغالوا في رضاع، يعني: أن آباءهم لم يطأوا الأمهات، وهن في حال الإرضاع، فهذا في حال الإرضاع، فكيف وهو حمل في بطن أمه، فكانوا يعتقدون هذا، وقد همَّ النبي ﷺ أن يمنع من وطء النساء في حال الإرضاع، اجتهادًا منه ﷺ بسبب ما كان شائعًا من ثقافة في ذلك الوقت، وهذا من الأمور الدنيوية، والنبي ﷺ قد يجتهد في الأمور الدنيوية، فهمَّ أن يمنع من هذا، من أجل أن لا يُخرج الولد ضعيفًا، فأُخبر أن فارس والروم يفعلونه، ولا يضر أولادهم، يعني: أن الواحد منهم يطأ المرأة في حال الإرضاع، ولا يضر الولد، وهم أقوياء لا يتأثرون بذلك، فتركه النبي ﷺ.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فلا جناح عليكم، يدل على أنه إن فعلن شيئًا من الزينة، أو المُخالفة في هذا الباب، قبل انقضاء العدة، فإن الأولياء يُسألون عن ذلك، هذا مفهوم المخالفة، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فإذًا إن فعلنه قبل انقضاء العدة، فعليكم جُناح، يعني حرج، فدلَّ ذلك على أن الولي يجب عليه أن ينظر فيما ولاه الله -تبارك وتعالى، ويمنع المرأة مما لا يجوز فعله، وأن يحملها على ما يجب فعله، فهو مُخاطب بذلك، فالبنت أو الزوجة التي ترفض الحجاب الشرعي، وتريد أن تخرج متزينة، أو تخرج بحجاب لا يفي بمقصود الشارع، ثم بعد ذلك يقول هذا الزوج: هي تأبى، وتمتنع، فيُقال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [سورة النساء:34] فيجب عليك أن تقوم عليها بما أمرك الله به، وأن تحملها على ذلك، فإن أبت فامنعها من الخروج، ولا يجوز أن تُمكنها من الخروج بهذه الألبسة الفاتنة، وبهذه العباءات التي لا تبرأ الذمة بها، أو أن تخرج المرأة سافرة عن وجهها، أو نحو ذلك، فهذا كله من دواعي الافتتان بها.

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ هكذا يُربي القرآن المُراقبة في نفوس أهل الإيمان، فهناك أشياء قد تخفى على الناس، فهذه المرأة قد تتزوج سرًا، وقد تواعد أحدًا من الخُطاب، وقد يُرسل لها رسالة في هاتفها يواعدها بالزواج، ثم بعد ذلك ترد عليها بالإيجاب وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فهذا يجب حفظ حدود الله به، هناك أشياء لا يطلع عليها الولي، ولا يطلع عليها الناس، وقد سهُل مثل هذا في مثل هذه الأوقات، عبر هذه الوسائل في التواصل.

ففي هذه الآية، ورد فيها التعريض في خطبة النساء، وهذا يدل على ما كان عليه الناس قبل هذا العصر، فقد كان يُنظر إلى ما يُرغب في المرأة من الجمال، ونحو ذلك من دواعي التزوج بها، ولا ينظرون إلى كون هذه المرأة من قبيل البكر، أو الثيب، وإنما ينظرون إلى أوصافها، فيتسابق الخطاب إلى خطبتها، وهنا جاء الأمر بالتربص، والنهي في الآية التي بعدها عن التصريح والمواعدة، وأذن لهم بالتعريض، فمن لم يعرف تلك البيئة يتعجب من مثل هذا، والمرأة اليوم إذا مات زوجها، أو طُلقت لا يكاد يتقدم لها أحد للأسف، أما في السابق فالأمر بخلاف ذلك، يتسابق إليها الرجال، ولو نظرتم في التراجم والسير في النساء تجد المرأة ربما تزوجت أربعة، أو خمسة، كلما مات زوج، أو اسُتشهد في غزوة، تقدم لها الثاني، والثالث، والرابع، ولا تبقى كاسدة.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/ 92).
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (11146) والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (18304).
  3. حكى هذا القول في المبدع في شرح المقنع (6/ 73) لكن ليس لأحمد.
  4. البيت بدون قائل في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 506).

مواد ذات صلة