الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(231) قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ..} الآية:270
تاريخ النشر: ٢٩ / شعبان / ١٤٣٧
التحميل: 983
مرات الإستماع: 1102

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة البقرة:270]، فهذا عود للحديث عن الإنفاق، وكما ذكرنا أن الآية السابقة جاءت في ثنايا الحديث عن الإنفاق وبينا وجه المناسبة بينها وبين الموضوع الذي تتحدث هذه الآية عنه، فهنا عاد الحديث إلى الإنفاق الحديث المُباشر الذي يُبين الله فيه التفاصيل والتشريعات والمرغبات، وكذلك أيضًا التحذير مما يجب الحذر منه مما يتصل بهذا الباب.

وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ما بذلتم ودفعتم وأعطيتم من مال أو غيره، كثير أو قليل، سواء كان ذلك على سبيل الفرض أو كان ذلك على سبيل التطوع.

أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ما أوجبتم على أنفسكم من النذور والنفقات التي يُلزم المُكلف بها نفسه من غير إلزام الشارع ابتداء فذلك هو النذر، سواء كان ذلك من المال أو من غيره، فقد يكون النذر بصيام أو صلوات، أو يكون النذر بحج، أو عمرة، أو بمال يُنفقه، أو بغير ذلك.

فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، فهو المطلع على الظواهر والبواطن، مطلع على الأعمال ولا يخفى عليه من أحوال خلقه قليل ولا كثير، مطلع على نفقاتهم وعلى نذورهم، وعلى نياتهم ومقاصدهم، ثم بعد ذلك يُجازيهم على ذلك.

كذلك أيضًا جاء تذليل هذه الآية: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، أولئك الذين يحملون المقاصد الفاسدة والنيات المنحرفة في نفقاتهم وأعمالهم ونذورهم وكذلك أهل الإشراك، وكذلك أيضًا أولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل كل هؤلاء من جملة الظالمين، وَمَا لِلظَّالِمِينَ، الذين يمنعون الحقوق الواجبة لله -تبارك وتعالى- ولخلقه، هؤلاء ليس لهم أنصار ينصرونهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- ويُخلصونهم منه فيكون هؤلاء قد أُسلموا إلى جزاءهم المحتوم وأسلمتهم أعمالهم ونياتهم الفاسدة.

يؤخذ من هذه الآية: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، فهذه الآية جاءت كالتذييل لما ذُكر قبلها، فالله -تبارك وتعالى- قبل ذلك قد بين وجوه الإنفاق وما يُرغب فيه، وبين حال تلك النفقات التي يُخرجها أصحابها بمقاصد فاسدة وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، فهذا كله مما ذكره، كذلك أيضًا في هذه النفقات التي يتخير صاحبها الفاسد والرديء من ماله فيُخرجه وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [سورة البقرة:267]، بعد أن أمرهم بالإنفاق من الطيب من أموالهم: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [سورة البقرة:267].

ثم ذكر عدته وعدة الشيطان: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:268]، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [سورة البقرة:269]، جاء هذا التذييل والتأكيد هنا أن النفقات التي تُخرجونها معلومة وأن ذلك لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- فلا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه وأحوالهم وأوصاف نفقاتهم ومقادير ذلك، فهنا وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [سورة البقرة:270]، فما هذه تفيد العموم فكل نفقة ينفقها الإنسان الله يعلمها، سواء كانت هذه النفقة كثيرة أو كانت هذه النفقة قليلة، سواء كانت هذه النفقة جيدة من نفيس ماله وسنامه أو كانت هذه النفقة من رديئه أو من أوساطه، فهذا يبعث المؤمن على البذل والحياء من الله -تبارك وتعالى؛ لأن الله مطلع على نفقته هذه التي يُخرجها قلّت، أو كثرت، جادت أو كانت بأضداد ذلك، فإن الله يعلمه.

ثم تأمل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فنفقة هنا نكرة جاء في هذا السياق الذي تدل فيه على العموم أي نفقة، ثم سُبقت أيضًا بمن التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، دخول "من" على النكرة في سياق الشرط أو النفي أو النهي أو الاستفهام تفيد العموم، فإذا سُبقت بمن فإن ذلك يجعلها نصًا صريحًا في العموم يعني أنها أقوى في العموم، فهنا جاء هذا الأسلوب القوي الذي يُبين أن الله لا يخفى عليه قليل ولا كثير، وَمَا أَنفَقْتُمْ، ما قال وما أنفقتم نفقة أو نذرتم نذرًا فإن الله يعلمه، هذا يدل على العموم، لكنه حينما قال: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، فهذا نص قاطع في العموم أنه لا يخفى على الله منه شيء، والجزاء بمثاقيل الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة:7، 8].

وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ، وهذه هي الآية الوحيدة في كتاب الله التي تُشعر أو قد يُفهم منها أن النذر مما يُرغب فيه، لكن هذا المعنى يحتمل؛ لأن المقصود هنا بيان أنه لا يضيع عند الله شيء، وإلا فقد صح عن النبي ﷺ فيما يتعلق بالنذر أنه إنما يُستخرج به من البخيل الشحيح[1]، ولذلك قال الفقهاء بأن النذر يُكره ابتداء يعني أن يُنشئ الإنسان نذرًا، أن يوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشارع؛ لأنه قد يعجز عن ذلك، ولكن الذي جاء صريحًا في الثناء هو قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [سورة الإنسان:7]، فالوفاء بالنذر عبادة جليلة تدل على صلاح وتقوى ومراقبة لله -تبارك وتعالى- لأن الناس لا يطلعون على هذا، والإنسان في كثير من الأحيان حينما تتحقق مطالبه أو تندفع عنه المكاره ينسى لكنه في لحظات الشدة قد يصدر عنه مثل هذا النذر فإذا تحقق مطلوبه ضعُف، وتراجع، وبدأ يسأل عن كفارة اليمين، ونحو ذلك.

فهنا: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ، وجاء النذر بنفس الأسلوب الذي جاء في النفقة مع أن النذر من جملة النفقات إن كان ذلك النذر من قبيل نذر الصدقة، نذر إخراج المال فيكون بهذا الاعتبار من قبيل عطف الخاص على العام؛ لأن النذر من جملة النفقات، بهذا الاعتبار.

أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، قوله: فَإِنَّ هذا يدل على التوكيد وهو بمنزلة إعادة الجملة مرتين، كأنه يقول: الله يعلمه، الله يعلمه، فإذا قال ذلك العظيم الأعظم لا شك أنه يدل على عِظم الجزاء إذا قال الكبير لمن يعمل له في الخدمة ونحوها إذا قال له: كل ما تعمل فإني أعلم به، كل ما تبذل أنا عالم به، لدي علم بأعمالك وبذلك وجهدك الذي تقوم به، فمعنى ذلك أنه سيُجازيه الجزاء الأوفى على هذا، وهذا لربما يكون أبلغ من قوله: سأُجازيك عليه، لكن حينما يقول: أنا عالم به يذهب الذهن كل مذهب ماذا عسى أن يكون هذا الجزاء والعطاء الذي يقابل هذا العمل، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، والعطية تكون بقدر المعطي، والله هو الكريم الأكرم، فإذا جاد العبد جاد الله عليه أضعاف أضعاف أضعاف ما بذله، ومن ثَم فالمعاملة مع الله ليس فيها خسارة، هي معاملة رابحة.

وكذلك أيضًا قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ هذا يبعث على الطمأنينة في النفوس، نفوس المنفقين أن هذه النفقات لم تذهب ولا حاجة لإخبار الناس عن هذا البذل وهذا الإنفاق، حينما يقول الله : فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، إذًا ما الحاجة لعلم الآخرين، قد يُعلم الإنسان الآخرين كما ذكرنا في بعض المناسبات؛ لأنه يُخرج المال والمال عزيز على نفسه، وهو شقيق الروح فإذا أخرجه تسللت النفس من مسارب خفية تبحث عن سلوة وتبحث عن الأعواض تبحث عن العِوض ما يعوضها بدل هذا المال الشاق، فيبدأ الإنسان يتحدث عن نفقته بطريق أو بآخر، بأسلوب صريح يقول: أنا قدمت، أنا بذلت، أنا تبرعت، أنا أنفقت، أنا أقمت هذا المشروع، أو كان ذلك بطريق غير صريح كأن يتحدث مثلاً أنه يعرف فلانًا وفلانًا وفلانًا من رؤساء الجمعيات وهو رجل من الأغنياء رجال الأعمال، وأنه على علاقة وطيدة بهم منذ زمان طويل، فهذا يعني أنه يتواصل معهم بالبذل والإنفاق.

هذه رسائل تصل والنيات عند الله ، نحن لا نقول في نية أحد شيئًا، ولكن ينبغي على العبد أن يحذر، وأن يخاف من أن يضيع عمله ونفقته، فقد يُنفق المال الكثير ثم لا يؤجر بل يكون عليه من الوزر ثم كذلك أيضًا يذهب عليه هذا المال، فإذا بذل الإنسان لا حاجة لإخبار الناس، كذلك في سائر الأعمال لا حاجة لأن يتحدث الإنسان أنه اعتمر وأنه ذهب في ليلة من ليالي هذا الشهر، أو أنه في العشر الأواخر قضاها بجوار بيت الله الحرام، لا حاجة لهذا، وقد اُبتلي الناس بذلك كثيرًا في هذا الوقت، في السابق كان الرجل لربما يتحدث مع الرجل أو مع الرجلين لكن الآن يمكن أن يضع في هذه الوسائل مع الصور والتوثيق يصور من المكان الذي يسكن فيه، ومن الفندق الفخم الذي يسكن فيه ويصور نفسه وهو على الصفا، وهو أيضًا في حال الطواف والسعي، ويصور نفسه عند الإحرام، ولربما يصور نفسه وهو يوزع أيضًا الإفطار على المعتمرين، أو على الناس هنا وهناك، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ.

إذًا لا حاجة لمثل هذه المزاولات، لا حاجة لأن نخبر الآخرين عن أعمالنا عن نفقاتنا عن بذلنا عن حجنا عن عمرتنا وإنما اللائق أن يُخفي الإنسان ذلك، وذلك في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل أنفق نفقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه[2].

فإن استطعت أن تكون بهذه المثابة فافعل، إن استطعت أن لا يطلع مخلوق أقرب الناس إليك على هذا العمل فافعل، بعض الناس يقول: تصدقت عن أبي عن أمي، حفرت بئرًا، بنيت مسجدًا، هل أعلمهم بذلك لإدخال السرور عليهم؟

نقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإدخال السرور عليهم صدقة وبر، ولكن قد يكون إخفاء الصدقة يوصل صاحبه إلى أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن هنا أيضًا نقول: لا حاجة، قد يكون الناس لهم اعتبارات ولهم حسابات لكن لا حاجة للإلحاح والضغط من قِبل المؤسسات المانحة على المُعطين من الجمعيات ونحو ذلك أن يكتبوا إفادات أنهم أقاموا هذه المشروعات باسم هذه المؤسسة، وباسم هذا المحسن، والمنفق والمتبرع ونحو ذلك، ثم يُعلق هذا لربما على جدران المكتب، أو على أرفف المكاتب في هذه المؤسسة أو الجمعية فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ولا حاجة لأن يُخبر من زارها، ومن طاف بها أن يُخبر، ويُقال: قدمنا كذا، وأقمنا المشروع الفلاني، وفعلنا كذا، وهذه شهادة شكر من الجهة الفلانية، وهذه هكذا، وبنينا كذا من المساجد، ونحو ذلك، بعض الناس قد يقول نحن نفعل هذا من أجل أن يثق الناس بتبرعاتهم، ونحو ذلك.

أقول: أجعل هذا بينك وبينهم، لكن أن يُخبر كل أحد وأن تُجعل هذه في حيطان هذه المؤسسة، نقول: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ولذلك أصحاب هذه المبرات ينبغي أن يؤكدوا على هؤلاء العاملين هذا المعنى، وكذلك نقول: المكاتب الخيرية والتعاونية والجمعيات جمعيات البر، ونحو ذلك لا داعي لملأ الدنيا حديثًا وضجيجًا عن أعمالنا ونفقاتنا ونحو ذلك، ونحن نتحدث دائمًا بإنجازاتنا، ونحو هذا، هذا أنا أقول: ممكن يكون لكل أحد بحسبه، يعني: المنفق يقال له هذا المال صُرف في كذا وكذا وكذا وذهب في وجهه الصحيح، أما ما زاد على ذلك قد لا يخلو من إشكال والنيات من أصعب الأمور من جهة الضبط، ولهذا قال بعض السلف نحوًا من هذا، يعني في صعوبة الإخلاص والورع، قالوا: سهل إذا وقع في نفسك تردد من شيء فدعه، والترك سهل، لكن الإخلاص النية تتقلب على الإنسان، توثيق من أجل تحصيل الثقة عند هؤلاء المتبرعين من أجل إذاعة اسم هذه المؤسسة، من أجل نشر الخير، من أجل! تبريرات كثيرة قد نقولها.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الاحتساب، احتساب الأجر عند الله -تبارك وتعالى- في هذه الأعمال والنفقات التي نُنفقها: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، فهذه النفقات يدخل فيها نفقات المال، ويدخل فيها نفقة الجاه، ويدخل فيها نفقة العلم، ويدخل فيها سائر النفقات وما للعموم وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، ونفقة المال تدخل بذلك دخولاً أوليًا؛ لأن السياق فيه في الحديث عن النفقات المالية.

وقوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، فهذا في ضمنه كما ذكرنا الوعد لهؤلاء المنفقين، وكذلك في ضمنه وعيد وإن كان الوعد أوضح، في ضمنه وعيد؛ لأنه قال: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، إذا كانت هذه النفقة من رديء المال، كذلك الرجل الذي جاء بعذق من شيص وعلقه في المسجد قال النبي ﷺ: إن صاحبه ليأكله شيصًا يوم القيامة[3]، ولهذا قال الله كما سبق: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [سورة البقرة:267]، فالله -تبارك وتعالى- يعلم هذه النفقات من كسب طيب أو كانت من كسب حرام أو كانت هذه من أطيب ماله وأفضله أو من أوساطه أو من رديئة هذا الذي لا ينفق إلا من المرذول من المال، فهذا الله يعلمه، فيستحي العبد من ربه -تبارك وتعالى.

ثم أيضًا جاء ذلك صريحًا بقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، يدخل فيه أهل الإشراك فهم أعظم الظالمين كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، ويدخل فيه أهل الرياء فإن هؤلاء من الظالمين؛ لأنهم قد طلبوا المحمدة من الناس والتفتوا إليهم، وتطلعوا إلى ما عند المخلوقين وأعرضوا عن الخالق، وَمَا لِلظَّالِمِينَ، فهذا الذي ينفق ويريد من الناس أن يثنوا عليه وأن يطروه وأن يذكروه، هذا من جملة الظالمين، هؤلاء ليس لهم أنصار، هم يتطلعون، ولاحظ الجزاء من جنس العمل، هم يريدون من هؤلاء الناس أن يكونوا لهم عونًا وردئًا وقوة وسببًا للرفعة والتمكين حيث يريدون الحظوة في نفوس الناس، يريد أن تكون له مكانة في المجتمع فيُظهر هذه الأعمال ولكن الواقع أنه لا يجد أنصارًا، فيبقى أسيرًا يأسره عمله السيء.

وكذلك أيضًا: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، أخذ منه بعض أهل العلم أن من دعا على أخيه المسلم بغير وجه حق فإنه ظالم، والله يقول: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، وقال: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:21]، والدعاء يُستجاب ما لم يكن بإثم أو قطيعة رحم، فإذا دعا الإنسان ظلمًا على غيره فإن ذلك لا يُستجاب، ينبغي على المسلم أن يتوقى دعاء الناس عليه وأن يحترز من ذلك بترك موجباته، ولكن لو أن أحدًا يدعوا على الناس ظلمًا فإن ذلك يرجع إليه، ولا ينالهم شيء من ذلك: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، وقد يقع هذا كما يحصل السؤال عنه حينًا بعد حين من الوالد لولده أو من الوالدة لابنتها، فبعضهم يسأل يقول: لم أدع شيئًا مما أستطيعه من البر إلا فعلته، ولكن أُقابل بالدعاء عليّ، دعاء يكسر الحجارة فهل يصيبنا هذا الدعاء؟

نحن نقول: يتوقى الإنسان دعاء الوالدين، ودعاء الوالد على ولده مستجاب، لكن إذا كان بهذه الطريقة الولد قد فعل ما يستطيع، البنت فعلت ما تستطيع لم يكن هناك تقصير إلا أن هذا الوالد لا يعجبه شيء ولا يُرضيه شيء ثم يدعو على هذا الولد، يعني بعضهم يُحسن يقول: أُحسن وأُقابل بدعاء عليّ وبركل، وبتصرفات يستحي العاقل من مجرد حكايتها، يقابله بوجهه بهذه الأمور المستقذرة وهو يُحسن إليه، ويُقبل رجله ويركله، مثل هذا الله حكم عدل فمثل هذا أرجو أن لا يُستجاب دعاءه في ولده إذا بذل وسعه بالبر والإحسان وتجنب أسباب السخط والاستفزاز والتقصير في حق أبويه.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الأخذ بيد السخي والكريم كلما عثر، الله أرحم بعباده، إذا كان الظالم كما قال الله في ختم هذه الآية: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، فمفهوم المخالفة أن غير الظالمين أن أهل الإيمان والطاعة والبر لهم أنصار، فالله ينصرهم، وهذا أيضًا يؤخذ منه تحري العدل والبر والطاعة؛ فالظلم عند أهل السنة والجماعة هو وضع الشيء في غير موضعه، وهذا أصل معناه في لغة العرب، كل من وضع شيئًا في غير موضعه فقد ظلم في اللغة.

وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليمُ[4].

يعني: هي تقول: ظلمت لكم سقائي هو ضرب اللبن قبل أوانه قبل أن يروب، فذلك يضيع زبده فهو ضرب في غير موضعه، فهذا تقول: ضربت لكم سقائي سقاء اللبن، وهل يخفى على العكد، العكد عصب اللسان، وهل يخفى على العكد الظليم، يعني: اللبن الذي ضُرب قبل أن يروب فذهب زبده، فهذا وضع الشيء.

كذلك أيضًا يقال: للقبر الذي لم يكن موضع للحفر يقال للحفرة هذه مظلومة، باعتبار أنه حفر في غير موضع حفر قبل ذلك، وهكذا أيضًا في شواهد من كلام العرب مبثوثة في كتب التفسير واللغة والأدب تدور حول هذا المعنى.

وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ فأهل السنة يقولون: بأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فوضع العبادة لغير الخالق هذا أعظم الظلم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، النفقة حينما تكون من كسب غير طيب، أو توضع في معصية لله ، بعض الناس يتبرع لكن يتبرع لمن؟

جمعيات تنصيرية وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، يتبرع لباطل، يتبرع لحفلة ماجنة، يتبرع لحفلة محرمة، فهذا: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، فكل نفقة في باطل فهي من الظلم، وضع المال والنفقة في غير موضعها، وقل مثل ذلك أيضًا: الظلم الذي يكون بالنفقة التي يُرائي صاحبها فيها.

وكذلك الذين يؤذون المُعطين بالمن والأذى فهؤلاء ظالمون، فيخاف الإنسان؛ لأن الله يقول: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.

كذلك أيضًا: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، هذا عام الآية في سياق الإنفاق، لكن جاء هذا الختم على سبيل العموم: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، لعموم الظالمين فيدخل فيه كل من كان ظالمًا ولو بالإشراك، يعني ولو لم يكن له نفقات فهذا داخل فيه.

كذلك عند من قال بأن التبذير يحصل في النفقة: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، فهذا قد يدخل فيه، هذا إذا كان في طاعة الله عند بعض أهل العلم قد مضى الكلام على هذا، هل في النفقة في سبيل الله صرف، لكن إن لم تكن كذلك في النفقة على نفسه وأولاده، الإسراف هذا لا شك أنه من قبيل الظلم: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، ولم يقل: وما للظالمين من ناصر أو نصير، وإنما قال: من أنصار؛ لأنه جمع الظالمين فقابله بالجمع، فليس لهم أنصار، لا ينصرهم الله ، ولا ينصرهم الملائكة، ولا ينصرهم أحد من الخلق.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب إلقاء النذر العبد إلى القدر، برقم (6609)، ومسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا، برقم (1639).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، برقم (1423)، ومسلم، كتب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم (1031)، غير أن رواية مسلم روية بعكس هذا: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله.
  3. لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرج أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقال: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة، والنسائي، كتاب الزكاة، باب -قوله : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
  4. انظر: تهذيب اللغة (14/ 275)، ولسان العرب (12/ 375).

مواد ذات صلة