الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(239) قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ..} الآية:276
تاريخ النشر: ٠٨ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 790
مرات الإستماع: 1182

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا يزل الحديث عن الآيات التي تتحدث عن الربا، وأكلة الربا، فلما مثل حالهم وتوعدهم بقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة:275]، وذكر مُبالغتهم بالاستحلال ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، ثم أبطل ذلك فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275]، هذا فيما يتعلق بأكلة الربا.

ثم بعد ذلك بين مآل الربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [سورة البقرة:276]، والمحق بمعنى الإبطال وقد فُسر بإذهاب وإزالة بركته يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، وقد يكون المال الذي في يد الإنسان كثيرًا من حيث العد ولكنه منزوع البركة لا يفي بحاجاته ومطالبه، فلا يحصل مطلوبه ومقصوده من كثرة المال وجمعه والتهافت عليه؛ لأنه قد مُحق وهذا جزاء وفاقا، لما كان قصد المرابي التكثر بالمال بأخذ الزيادة بغير وجه حق قابله الله -تبارك وتعالى- بالمحق فالجزاء من جنس العمل، فكان مقصوده الاستحواذ على أموال الناس بطرق محرمة فكان العائد إليه من ذلك هو المحق فجوزي بخلاف قصده، لما احتال على أموال الناس بأخذها بهذه الطرق كانت هذه عاقبته بخلاف مقصوده يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا.

وإذا كان الله -تبارك وتعالى- يمحق الربا فهذا المحق كما في هذه الآية جاء مطلقًا، والأصل أن المطلق باقٍ على إطلاقه فيكون هذا المحق في الدنيا بذهاب ونزع بركته، ويكون المحق أيضًا في الآخرة كما جاء عن بعض السلف ، فالله يبطله، فإذا تصدق فالله طيب لا يقبل إلا طيبا، لا ينتفع بصدقته هذه، وإذا حج أو فعل فعلاً يتقرب به إلى الله -تبارك تعالى- بهذا المال فالمحق هو حكمه الثابت، يمحق الله الربا، وجاء التعبير بالفعل المضارع يمحق يدل على أن هذا المحق يتجدد فلكل آخذ للربا نصيب من هذا المحق يمحق، وهذه اللفظة في كتاب الله -تبارك وتعالى- جاءت في هذا المقام.

والمقام الآخر: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:141]، فإذا كان هذا الكافر قد جمع بين الكفر وبين أخذ الربا فما ظنكم؟! فهو محق مضاعف، وإذا كان الله -تبارك وتعالى- يمحق الربا فهل يُظن بحال من الأحوال أن الربا هو قوام اقتصاد الناس، وأن معايشهم ومصالحهم لا تتحقق إلا به والله يمحقه، وهل يمكن أن يمحق الله -تبارك وتعالى- شيئًا تقوم عليه مصالح الخلق؟!

هذا لا يكون، والله -تبارك وتعالى- عليم حكيم، فإذا أيقن المؤمن بذلك واستقر في نفسه هذا الحكم، فإنه لا يمكن أن يتصور أو يعتقد أو يظن أن هذا الربا يمكن أن يُحقق مصلحة للأفراد أو المجتمعات أو الأمم، كيف يتحقق هذا والله يمحقه، وهذا المحق أيضًا يدل على التحريم، بل على تحريمٍ غليظٍ شديد؛ لأن ذلك كما سبق لم يرد في غير الربا، لم يرد في أكل مال اليتيم ولا في أنواع المكاسب المحرمة.

ذكر الله الأحبار والرهبان إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة التوبة:34]، ولم يذكر المحق مع أنها ممحوقة لكن التصريح بالمحق في هذا المقام يدل على شدة تحقق ذلك في الأموال الربوية يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، ثم قابله أحسن مقابلة وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، فهذه الصدقة التي تبدوا لربما في ظاهر من النظر لدى بعض الناس أنها نقص في المال، أخبر الله -تبارك وتعالى- وحكم بأنه يُربيها لصاحبها وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ

وهذه المادة ربا تدل على ارتفاع فيُنميها فتقول هذه ربوة من الأرض يعني مرتفعة: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [سورة البقرة:265]، يُربي: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [سورة الحج:5]، يعني: ارتفعت بالنبات لما نزل عليها المطر، فالربا يبدو كثيرًا وأنه أخذ زيادة على رأس المال بغير حق فقابله بالمحق، والصدقات تبدو أنها نقص من المال، نقص من رأس المال، يحسب بعض الناس حسابات كثيرة قبل أن يُخرج هذا الريال صدقة؛ والواقع أن الله يُنميه ويُربيها لصاحبه ويُربي الصدقات.

فالذي يملك العطاء والمنع هو الغني الملك المُدبر المتصرف في أمر الخليقة، هو الذي قسم الأرزاق، وهو الذي وسع على بعض الخلق فجعله غنيًا، وقدر على آخرين فصار فقيرًا، فكل ذلك بيده وإليه وحده دون ما سواه، ليست القضية بمزاولات أو ذكاء أو حِرف أو مهارات أو خبرات أو دورات يتعلمها الإنسان فيُحصل الأموال الطائلة، أبدًا، تجد الرجل عنده من الذكاء، والمهارات، والعمل، والجد، والسعي يخرج في البكور ولا يرجع إلا في الظلام في آخر النهار، ولا يكاد يرجع بشيء، شهادات دورات خبرات يذهب بها هنا وهناك ولا يكاد يرجع بشيء، وغاية ما هنالك لربما أجير يعمل عند غيره.

وتجد آخر وهو في الهاتف بمكالمة واحدة ضربة ملايين ما يجمعها ذاك ولا ذووه ولا عشيرته العمر من أوله إلى آخره، لو بقوا طول الأعمار أحيانًا لا يجمعون، مكالمة واحدة في صفقة يُحصل منها هذا لربما كان قليل الذكاء قليل الخبرة قليل المعرفة قليل المهارات وليس لربما عنده شهادة ابتدائي، وهذا مُعلق شهاداته ومُعلق دروع ومُعلق شهادات شكر ومُعلق كل شيء، فالذي يوسع ويُضيق على من شاء هذه قسمة قسمها الله وهو عليم حكيم هو الله -تبارك وتعالى.

إذًا: على العبد أن يتحرى الحلال، وفي الحديث: لن تموت نفسٌ[1]، "لن" أقوى صيغة من صيغ النفي، النفي له صيغ وهي على مراتب في اللغة وعند الأصوليين أقوى صيغة من صيغ النفي لن، لن تموت نفسٌ حتى، وحتى للغاية حتى تستوفي رزقها وأجلها، "تستوفي" تستوفي يعني إلى آخر هللة أو أقل من الهللة، "تستوفي"، والأجل إلى آخر لحظة، لو نزلت فيه أمراض الدنيا لن يتقدم الأجل ثانية، ولو قال له الأطباء: أنت صحيح مائة بالمائة لن يتأخر الأجل لحظة، الأجل هو الأجل، بالمرض وبالصحة وبالحمية وبكل شيء نفس الأجل، لكن نحن مأمورون بالأخذ بالأسباب، والله -تبارك وتعالى- قد ربط هذه الأسباب بمسببات لكن لا يكون شيء إلا بإرادته ومشيئته، فإذا كان الإنسان لن يموت حتى يستوفي الرزق والأجل، والرزق يطارده كما يُطارده الأجل إذًا لماذا يأخذ من الحرام، هي ستأتيه إن صبر من الحلال، لن تموت نفسٌ.

وهنا قال: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، ولهذا قال النبي ﷺ: ما نقص مال من صدقة[2]، ما نقص فجاء بالنفي ما نقص، ومال نكرة في سياق النفي أي مال لزيد وعمرو تقول فلان نقص وأنا ما نقص وإلى آخره، لا لا، ما نقص مال، أي مال قليل أو كثير، بعض الناس يقول: أنا كل الذي عندي قليل، ما نقص مال من صدقة، الصدقة كانت قليلة أو كثيرة فتكون ذلك بركة في هذا المال ونماء، وتنموا هذه الصدقة عند الله يُربي الصدقات، هل تظن أن هذا الريال الذي تصدقت به تلقاه يوم القيامة صدقة ريال؟

أبدًا! هذا لا يكون بحال من الأحوال، يُربيها بيمينه كما يُربي أحدنا فلوه[3]، المُهر الفرس الصغير، يعتني به العرب غاية العناية يربونه بأنفسهم لا يكلون ذلك إلى الخدم والعمال والمماليك والأجراء حتى تكون مثل الجبل، الصدقة هذه تكون مثل الجبل، التمرة تكون مثل الجبل تنمو، فيأتي الإنسان يوم القيامة وحسنات، أشياء أحيانًا أعطى هذا ماء، وأعطى هذا عشرة ريالات، وأعطى هذا خمسة، وأعطى هذا مائة، وكذا، يأتي يوم القيامة جبال، فما بالك بأكثر من هذا ماذا ستكون! والحسنة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كما سبق أضعاف كثيرة، والله واسع العطاء، وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.

ثم قال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، "كل" هذه أقوى صيغة من صيغ العموم "كل"، صيغ العموم على مراتب أيضًا، كل وجميع هذه من أقوى صيغ العموم، فهذه الصيغة كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، كفّار صيغة مبالغة من الكافر؛ فبعض أهل العلم يقولون: محمل ذلك على المذكورين ممن يستحلون الربا وهو يشير إليهم الذين قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فاستحلوه هذا الاستحلال الذي بالغوا فيه.

وبعض أهل العلم يوجه ذلك بتوجيه لا يتنافى مع ما سبق يقول: لما كان هذا المُرابي من الناحية العملية لم يقنع بما أعطاه الله ، ولم يقنع بالوسائل المشروعة والصحيحة والنظيفة في الكسب فحمله الطمع على أخذ ما لا يحل وارتكاب هذه المحظورات الكبار طلبًا للكسب كان بذلك كافرًا لما أعطاه الله وأنعم به عليه، ما اقتنع ولا رضي لا بما أعطاه الله من المال حتى طلب ما عند الناس بطريق غير صحيح، وأيضًا لم يرض بتشريع الله وبهذه المعاملات الواسعة من الحلال؛ لأن الأصل قاعدة في المعاملات الحِل، وهذا من رحمة الله، الأصل في المعاملات الحِل، لا تظنون أن كل شيء حرام وأن الأصل المنع، لا، في المعاملات الأصل الحِل توسعة هذا الأصل، في اللباس الأصل الحِل، في الترفيه الأصل الحِل، في الطب والعلاج الأصل الحِل، الأصل المنع في العبادات، فلا يُعبد الله إلا بما شرع لا يأتي إنسان ببدع ويتقرب إلى الله فيها: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[4].

فالأصل في العبادات المنع، زاد بعض أهل العلم نوعين أيضًا الأصل فيهما المنع، بعضهم قال: الأصل في الذبائح المنع، وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121]، ليس الأصل الحِل وإنما تأكل مما ذُكر اسم الله عليه وطعام أهل الكتاب المقصود ذبائح أهل الكتاب حِل أيضًا لنا، الكلام في الذبائح، أما المطعومات فالأصل فيها الحِل من النباتات وأنواع المطهيات والأخلاط ما لم يثبت به ضرر أو يكون من الأمور المستقذرة عند العرب.

وزاد بعض أهل العلم: الأصل في الفروج المنع، يعني: لا يُقدم على مواقعة امرأة حتى يعقد عليها عقدًا صحيحًا أو يتملك بملك اليمين بتملك صحيح، لكن إذا بقيت القضية فيها شك مثلا: جاءت امرأة وقالت: أنا أرضعتكما أو نحو ذلك فيتوقف، يُقال: الأصل المنع احترازًا للأعراض، هذه ثلاثة أشياء: الذبائح، والفروج، والعبادات، والباقي الأصل الحِل.

فهنا هذا الذي لم يقتنع بهذا الباب الواسع، هذا المهيع الواسع، هذا الحِل الواسع وطلب الحرام، أنواع المكاسب والمعاملات التي تستجد في كل عصر ويبحث عن الحرام فهذا قيل له: كفّار بهذا الاعتبار لم يقنع لم يرض بما شرع الله، وبما قسم الله له من الرزق فتطلعت نفسه إلى ما في أيدي الناس أن يأخذه، وأن يستحوذ عليه بغير حق، يستغل حاجة المحتاجين، وكَفَّارٍ صيغة مبالغة، أَثِيمٍ أيضًا صيغة مبالغة، يعني: كثير الآثام أَثِيمٍ، فدل على أن شأن الربا خطير من جهة وصفه، ومن جهة تبعته من الآثام، لكن من تعاطى الربا من غير استحلال له فإنه لا يكفر كما هو معلوم، وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الكبائر لا يكفر الإنسان بفعلها مجردًا هكذا: شهوة، أو طمعًا، أو غلبة هوى إلا إذا استحلها، فهذا يكون كافرًا، استحل ما حرم الله -تبارك وتعالى، فهذا بعض ما يتعلق بهذه الآية الكريمة من الهدايات.

وأسأل الله أن يهدي قلوبنا وأن يُسدد ألسنتنا، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، برقم (2144)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2742).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (1674)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة قاص أهل فلسطين، وعمر بن أبي سلمة- وهو ابن عبد الرحمن بن عوف- ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به".
  3. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب لقوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة:276]، برقم (1410)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1014).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).

مواد ذات صلة