الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(243) قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ..} الآية:281
تاريخ النشر: ١٢ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 733
مرات الإستماع: 1167

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما حذّر الله -تبارك وتعالى- من الربا، وبيّن سوء عاقبته، وما ينبغي من الإنظار والإمهال حال الإعسار، أمر بعد ذلك بالتقوى، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة البقرة:281].

وَاتَّقُوا أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى- وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهَ وهو يوم القيامة، حيث يُبعث الناس من قبورهم جميعًا، ويقفون يُشاهدون أهواله، وأوجاله، ويُعرضون فيه على الله ليُحاسبهم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [سورة الحاقة:18] فمعنى وَاتَّقُوا يَوْمًا أي: واتقوا أهوال وأوجال يومٍ؛ لأن اليوم ظرف للزمان، ولا يُتقى، وإنما الذي يُتقى هو ما يكون فيه، ففيه مُقدر كما يقول المفسرون، مفهوم ومعلوم من السياق، أي: واتقوا أهوال وأوجال يومٍ تعرضون فيه على الله، فيُجازي كل واحد بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ توفى كل نفس أي: أنها تجد جزاءها وافيًا، من غير زيادة ولا نقصان، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].

والوزن بمثاقيل الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة:7، 8] فيُجازى الإنسان على الخير والشر، والحسنات والسيئات بمثاقيل الذر، وقد جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلتُ للنبي ﷺ: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته[1]، ماء البحر هذا ما الذي يخلطه ويُغيره؟ وما الذي يُكدره؟! فهذه الكلمة لو خُلطت بماء البحر لغيرته، وهي كلمة، فكيف بإطلاق الألسُن والأقلام والوقيعة في أعراض المسلمين، بل في خيار الأمة، بكتابات ومقالات آثمة.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ما كسبت من الأعمال من غير ظلم، فلا يوضع عليه عمل غيره، ولا يُزاد عليه في ذلك، فهذه الآية الكريمة وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة:281] جاءت في ختم آيات الربا، وهذه الآية مع آيات الربا وآية الدين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، يعني: آخر ما نزل من السور كاملة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] لكن آخر ما نزل على الإطلاق هذه الآيات التي نتحدث عنها، وهي آيات الربا، وكذلك آية الدين التي بعدها؛ وذلك مُشعر بأن هذه القضايا في غاية الأهمية، فينبغي العناية بذلك، والالتفات إليه، فهذه الآية تعظِ أكلة الربا، ومن يزاول في الأموال مزاولات محرمة، وهي وعظ للجميع وَاتَّقُوا يَوْمًا خطاب لجميع الأمة، فهذا ينبغي أن يقف المؤمن عنده، ويُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب.

وقف سعيد بن جُبير -رحمه الله- وهو من أئمة التابعين وعلمائهم وعبادهم ليلة يصلي، ويردد هذه الآية بضعًا وعشرين مرة وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة:281][2]، وهكذا المؤمن في صلاته وفي قراءته إذا مر بآية يُحرك قلبه بها، ويُرددها، وقد فعل ذلك النبي ﷺ، وفعله أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم، وفعله التابعون من بعدهم.

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة:281] هذا أمر، والأمر أيضًا للوجوب، فيجب على الإنسان أن يتقي ذلك اليوم؛ وذلك اليوم -كما سبق- لا يُتقى، إذًا ما العمل؟ العمل أن يعمل بطاعة الله، وأن يجتنب معصيته، وأن يسعى في فكاك رقبته، وفي خلاصه، وأن يعرض نفسه على الحساب عند كل عمل ومزاولة وكلمة وحركة، ينظر في قصده ونيته، وينظر أيضًا في هذا العمل، هل هو مما يُحبه الله ويرضاه أو مما يسخطه؟ وما الذي حملك على هذا العمل؟ فما ينفعه عند ذلك التأتأة، بل عليه أن يُحضر الجواب الصحيح؛ ليُخلص نفسه، وهذا لا يتأتى إلا لمن حاسب نفسه في هذه الدار.

وَاتَّقُوا يَوْمًا [سورة البقرة:281] تنكير اليوم يدل على هول وشدة ذلك اليوم، فهو عظيم الأوجال والأهوال، كما قال الله : يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [سورة الإنسان:10] فوصفه بهذا الوصف.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان لا إرادة له، ولا عمل، فهو مجبور، فهنا وجه ذلك إلى العباد وَاتَّقُوا يَوْمًا فيكون ذلك صادرًا عنهم.

وأيضًا يُقال: اتقى الله، واتقى الظلم، واتقى يوم القيامة، ونحو ذلك، فالتقوى تُضاف إلى غير الله -تبارك وتعالى، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة:281].

ويُقال: يتقي الإنسان زيدًا من الناس، لكن ليس المقصود: أنه يتقرب إليه عبادة وطاعة، وإنما يكون ذلك بالنأي عنه، والكف عن أذاه، أو مُباعدته، لكن الذي يُتقى على سبيل التقرب والطاعة والعبادة ونحو ذلك، هو الله .

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [سورة البقرة:281] في القراءة الأخرى: (يُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)[3]، فهذا نوع من الالتفات على إحدى القراءتين، والالتفات عرفنا أنه الانتقال والتحول في الخطاب من الغائب إلى المخاطب والعكس، أو من المفرد إلى المثنى، أو إلى الجمع، والعكس، ونحو ذلك، فهذا يكون من أنواعه أحيانًا ما يكون على بعض أوجه القراءات، يعني: يكون التفاتًا على قراءة، وليس بالتفات على قراءة أخرى، فهنا يخاطبهم وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ كل ذلك للخطاب، فلا التفات، لكن على القراءة الأخرى: (يُرْجَعُونَ) فهذا للغائب على القراءة الأخرى، فيكون ذلك من قبيل الالتفات، وهو تنشيط للسامع، وأبلغ في الكلام، ولكنه يكون في كل مقام بحسبه، يعني: في المقام المعين، يعني: هنا (وَاتَّقُوا يَوْمًا يُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على هذه القراءة، يقول بعض المفسرين مما يُعنون بالنواحي البلاغية: أنه لما خاطب أهل الإيمان كان متلطفًا بهم، فلم يقل: تُرجعون، وإنما قال: يُرجعون، فالتفت إلى الغائب.

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله: "إن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك"[4]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:30] وكذلك يقفون على النار وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [سورة الأنعام:27].

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ التوفية يدل على التتميم والتكميل، يعني: كل إنسان سيجد جزاءه وافيًا، بلا نقص، لا يُنسى شيء، ولا يضيع شيء، فكل ذلك قد أحصاه الله في الكتاب، فهؤلاء يضجون حينما يرون هذه الأعمال محصاة وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49] وكما قال بعض السلف: "ضجوا من الصغائر قبل الكبائر"[5]، فلم يقل: كبيرة ولا صغيرة، وإنما بدأ بالصغيرة، فقال: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فضجوا من الصغائر قبل الكبائر، وتخيل وزن الذرة، وكما ذكرت في بعض المناسبات: معاوية بن قُرة حينما أُهدي له طعام عشاء، فأكل منه، وبقي منه بقية فتركه، فلما أصبح وجده قد أسود من الذر، فوزنه بالذر، ثم نحى الذر عنه، فوزنه بلا ذر، فوجد الوزن لم يتغير"، فكيف بالذرة الواحدة؟ ما وزنها؟! فهذا أسود من الذر، ومع هذا لم يُغير الوزن، والله يُحاسب بمثقال الذرة الواحدة.

وأبو العباس الخطابي أيضًا جاء بحبة خردل، ووضعها في كِفة الميزان، وجاء بذر بنحو خمسة وعشرين ذرة في الكِفة الأخرى، فوجد أن حبة الخردل أثقل من خمسة وعشرين ذرة"، فيُحاسب الإنسان نفسه في كل لمحة ونظرة وحركة.

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ (ثم) هذه تدل على التراخي والمهلة، فهذا يدل على أنه يوم طويل، يعني: ليس بمجرد الوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى- يحصل التوفية، لا، بل يقفون وقوفًا طويلاً، وتدنو الشمس منهم بقدر ميل، ويصل العرق بحسب أعمالهم وأحوالهم، فمنهم من يكون عرقه إلى رُكبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يكون إلى أذنيه، ومنهم من يُلجمه العرق إلجامًا، فهذا العرق لا نظير له في الوجود هنا في الدنيا فلو وقف الإنسان في أشد الأماكن حرًا لن ينزل العرق ويكون حوله قدر واحد أو اثنين سنتيمتر، هذا معلوم، فهذا لا يكون في الدنيا، لكن هناك الأحوال تختلف تمامًا، فهذا يدل على طول المشهد ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ فإذا كان الإنسان يعرف هذا فلماذا يأخذ الربا؟! ولماذا يطمع؟! ولماذا يأكل الحرام؟! ولماذا يشق على المُعسر، ويلجئه إلى حال من الضيق والشدة؟! أما علم الإنسان أنه سيُحاسب وسيُجازى على أعماله كلها!

أسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره، وحُسن عبادته.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خير من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في الأدب، باب في الغيبة برقم: (4877) وصححه الألباني.
  2. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 272).
  3. التبيان في إعراب القرآن (1/ 226).
  4. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:118).
  5. تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (21/ 470).

مواد ذات صلة