الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(251) قوله تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ..} الآية:284
تاريخ النشر: ٢١ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 848
مرات الإستماع: 1136

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284].

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، لله ملكًا كل من في السماوات ومن في الأرض، وهو الذي يُدبرها، وقد أحاط بها علما، لا يخفى عليه من شأنهم خافية، ولهذا قال بعده: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، وذلك أن ما يُظهره الإنسان مما في نفسه، أو ما يكتمه ويُخفيه فإن الله -تبارك وتعالى- يعلمه ويُحيط به، وسيحاسبه على ذلك، فيعفو عن من يشاء، ويعُاقب من يشاء، وهو القادر على كل شيء.

هذه الآية جاءت بعد الآيات السابقة التي يذكر الله فيها هذه الأحكام في هذه السورة الطويلة، وهي أكثر السور اشتمالاً على الأحكام، كذلك ما ذكر في أواخرها من الكلام على النفقات، والربا، والدَّين، وما يتعلق بالشهادة، وأداء الأمانة، وكتابة الديون، وجاء في هذا الختم ما له اتصال وثيق بما سبق، فإذا نظرت إلى ما قبله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [سورة البقرة:283]، على سبيل المثال، فهنا هذا فيه تحذير وإيقاظ للنفوس، فإن الله يُحاسب العبد على ذلك، ويُجازيه على هذا الكتمان.

وإذا نظرنا إلى السورة بكاملها وما فيها من الشرائع المتعددة وما فيها من قضايا تتعلق بالتوحيد والنبوة والتشريعات والتكاليف كالصلاة والزكاة والصوم والحج والقصاص، وما إلى ذلك خُتمت بهذا الختم الذي يجعل المُكلف في حال من مراقبة الله -تبارك وتعالى، وأداء ما عليه، والحذر عن مواقعة مساخطه وتعدي حدوده، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه من أحوال الخلق خافية، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن الله قد ختم هذه السورة بهذه الآيات الجوامع مثل هذه الآية والآيتين بعدها فهي هذه الآيات مُقررة لمضمون السورة، ما تضمنته السورة جاء مُقررًا في هذه الآيات الثلاث في آخرها.

وقوله -تبارك وتعالى: لِلَّهِ اللام هذه للملك يعني أن الله هو المالك لما في السموات وما في الأرض، "لله" فهو مالكها، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المائدة:120] فهو له الملك وله المِلك أيضًا يملك هذه جميعًا، وفي سورة الفاتحة ملك يوم الدين، على هذه القراءة المتواترة، ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4]، فالملك هو الذي يُدبر ويتصرف التصرف المُطلق في خلقه ويُدبر شؤون العالم العلوي والسُفلي، والمالك هو الذي يملك ما في العالم العلوي والسُفلي فكل ذلك له مُلكًا دون ما سواه.

وهنا أنه قال: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ فـ"ما" هذه تُستعمل في غير العالم غير من يوصف بالعلم تقول: رأيت ما في يدك، رأيت ما معك، وإذا كان المقصود ما يوصف بالعلم الذي يُسميه أكثر النُحاة: العاقل رأيت من عندك من الضيوف، لكن تقول: رأيت ما معك من المتاع، لاحظ التعبير إذا كان غير عاقل يُقال رأيت ما معك، إذا كان عاقل تقول: رأيت من معك، من معك يعني من الأشخاص مثلاً، إذا وجهت إليه السؤال، تقول: ما معك، إذا كنت تستفسر عن شيء غير عاقل، وإذا كنت تستفسر عن عاقل تقول من معك، وهكذا.

فهنا: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ، الذين في السماوات والأرض منهم من يوصف بالعقل أو العلم بعض العلماء يُعبر بالعلم؛ لأن الملائكة يوصفون بالعلم، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة وصفهم بالعقل، فنحن نتقيد بما جاء في الكتاب والسنة، فلهذا بعضهم يقول: "ما" يُعبر بها عن غير العالم من يوصف بالعلم، ومن يُعبر بها عن من يوصف بالعلم، فالذين في السماوات والأرض منهم من يوصف بالعلم كالملائكة والأنبياء -عليهم السلام، وكذلك أيضًا الناس الإنس والجن، وكذلك يوجد في السماوات والأرض ما لا يوصف بالعلم من أنواع الجمادات، والنباتات والدواب، ونحو ذلك ما الله به عليم، فعُبر بما، وإذا عُبر بما في مقام فيه هذا وهذا فيكون ذلك لعلة، ما هذه العلة؟

هنا يمكن أن يُقال: من باب التغليب؛ لأن ما لا يعقل أكثر مما يعقل، فالحصى وحبات الرمل والأشجار والنباتات والدواب في قاع البحر وتحت الأرض وفوق الأرض مما لا يُحصيه إلا الله -تبارك وتعالى، فهنا قال: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ فيدخل فيه العقلاء وغير العقلاء، كل هؤلاء لله، وَمَا فِي الأَرْضِ، ويدخل بقوله: فِي الأَرْضِ ما عليها ما على ظهرها وما في باطنها، كل ذلك لله -تبارك وتعالى.

هذا المُلك وهذا الكون الشاسع الواسع هو ملك لله، وهو الذي ينفرد بتدبيره، يُديره ويُدبره بانتظام دقيق: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، بانتظام الليالي والأيام الليل والنهار، طولاً وقِصرًا، وكذلك أيضًا الفصول تتعاقب، كل ذلك بتدبيره وعلى تطاول الأزمان ذلك في غاية الدقة والإتقان لا يحتاج إلى ترميم وتجديد، ليس فيه فطور في هذه السماوات نراها نشاهدها بلا عمد، بناء الإنسان مهما كان فإنه يتغير ويتحول، ثم بعد ذلك يتلاشى ويضمحل.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ هذا الكون الشاسع الواسع إذا كان لله فهو يملكه ويُدبره ويُصرفه فهذا لابد له من أوصاف الكمال: القوة، الغنى، العلم، السمع، البصر، الإرادة، المشيئة، وما إلى ذلك من صفات الكمال، فهو كامل الصفات، الشركات الكبرى يُطلب في إدارتها من يملكون مهارات عالية، وخبرات ومع ذلك يُطورون دائمًا بدورات ومع ذلك يفوتهم أشياء وتقع كوارث في بعض الأحيان؛ لأن هذه طبيعة البشر، وكم عدد الموظفين في هذه الشركة وما مداها، عشرة آلاف، مائة ألف، لكن هذا العالم العلوي والسفلي، تظنون العالم هو ما نُشاهده فقط! ما يخفى أعظم وأشد.

النبي ﷺ يقول: أطت السماء وحُق لها أن تئط -وذكر- أنه ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يُصلي لله -تبارك وتعالى[1]، والأطيط هو صوت الرحل الجديد إذا كان عليه ثِقل تسمع صوتًا بسبب الضغط، أطت السماء، "البيت المعمور أخبر النبي ﷺ أنه يأتيه في اليوم الواحد سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه ثانية"[2]، لا يرجعون، لك أن تُقدر ما شئت من الأيام ما شئت واضرب في سبعين، كم عدد هؤلاء الملائكة وكم بقي من الزمان، يأتيه كل يوم سبعون ألف ملك، النار فقط -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- يقول النبي ﷺ: يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام تُسحب به لكل زمام سبعون ألف ملك[3]، فكم عدد هؤلاء الملائكة فقط الذين يسحبون النار؟!

هذه أمثلة بسيطة تدل على كثرة خلق الله وسعة ملكه، فهو الذي يُدبر ذلك جميعًا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الشورى:49]، والنبي ﷺ قال: أُذن لي أن أُحدث عن أحد حملة العرش ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه سبعمائة عام، تخفق الطير[4]، سبعمائة عام بأي قياس؟ قياس الضوء أو قياس الراكب على الفرس أو البعير؟ لا، تخفق الطير، يعني: طيران الطائر هذه المسافة فقط سبعمائة عام تخفق الطير، هذا واحد ملك من الملائكة، طبعًا هذا لا يُقاس بالأرض وما نُشاهد في هذه القياسات كلها، لا يمكن هذا مخلوق: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [سورة الأنبياء:20]، لا يتوقفون ولا ينقطعون، فإذا كان هذا مخلوق وبهذه المثابة مخلوق واحد، ويُديرهم ويُدبرهم ويُطيعونه ويخافونه، إذًا ما عظمة الخالق؟!

هذا أجل وأعظم من أن تُحيط به الأذهان أو الأفهام -جل جلاله وتقدست أسماءه، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا المعبود ينبغي أن يُخاف، وأن لا يُستكثر العمل في طاعته ، وأن يُراقب وأن يُتقى وأن يُعظم وأن يجتهد العبد في تحصيل مرضاته، وأن يكون مستسلمًا لحكمه الشرعي وحكمه القدري، ويكون في حال من الرضا والانقياد والاستسلام والتسليم لا اعتراض على أحكام الله -تبارك وتعالى، ومن نحن حتى نعترض، كذلك يثق الإنسان بتشريعه وحكمه وتدبيره، الذي يُدبر أمر هذا العالم وبهذه المثابة تدبيرًا دقيقًا؛ إذًا اطمئن لا تقلق، التدبير بيد من أحاط بكل شيء علما، وهذا القلق يدل على ضعف الثقة، ثم إن الإنسان إن وجد عنده هذا القلق أو لم يوجد لم يُغير هذا من تدبير الله وتقديره قليلاً ولا كثيرًا، فنْم قرير العين لكن عليك أن تجتهد بالعبادة والطاعة وتحصيل أسباب مرضاته -جل جلاله وتقدست أسماءه.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، هذه الآية تدل على أن الله يُحاسب بما في النفوس كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[5]، "يُحاسبكم به الله" وهذه المحاسبة غير المعاقبة، يعني: دلت على أنه يُحاسب لا على أنه يُعاقب على ما في النفوس.

وهذا الموضع ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنه منسوخ، باعتبار أنهم فهموا من المحاسبة المؤاخذة والمعاقبة، وأن ما يقع في نفس الإنسان قد يكون من غير إرادته ولا اختياره فكيف يُحاسب عليه؟! الواردات والخواطر تقع في نفس الإنسان وهو لا يقصدها فكيف يُحاسب عليها؟! ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الآية نُسخت، الصحابة لما شكوا إلى رسول الله ﷺ أنهم كُلفوا بم يُطيقون ثم بعد ذلك خوطبوا بمثل هذا فأرشدهم النبي ﷺ إلى الإذعان والتسليم فنزلت الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:285، 286][6].

فبعض العلماء يقولون: هذه رفعت الحكم السابق، كانت المحاسبة على ما في النفوس ثم بعد ذلك قُيدت بهذا القيد: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، فهموا أن المحاسبة على ما يقع في النفس مطلقًا أنه تكليف ما لا يُطاق، والواقع أن الأمر قد لا يكون كذلك، وأن الآية ليست منسوخة على الأرجح، والعبارات المنقولة عن بعض السلف من أنها نُسخت فالسلف -الصحابة رضي الله عنهم والتابعين- يُعبرون بالنسخ ويقصدون به ما يعرض للنص العام أو المُطلق أو المُجمل من تخصيص أو تقييد للمُطلق، أو بيان للإجمال، كما يُطلقون على النوع الرابع الذي هو الرفع وهو النسخ باصطلاح المتأخرين، فنجد في عبارات المتقدمين أن هذه الآية نُسخت بالآية التي بعدها أو نحو ذلك كثيرًا ما يقصدون به أنها بينتها، أو قيدتها، أو خصصتها.

ويدل على أن هذا ليس من النسخ الذي هو بمعنى الرفع أن هذا خبر: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ والأخبار لا تُنسخ إنما الذي يُنسخ الإنشاء الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، فدل على أن ذلك ليس من النسخ وإنما هو بيان، فهنا لما أشكل عليهم وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، بيّن أن ذلك مما يكون في حدود الإمكان والقُدرة والطاقة، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:286]، وفي الحديث: أن الله قال: قد فعلت[7]، فلا يؤاخذنا بما وقع فيه الخطأ والنسيان، وكذلك لا يُكلفنا بما لا نُطيق، فهنا دلت الآية على المُحاسبة وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، المقصود بذلك ما يتعلق به التكليف، ليس مجرد الخواطر فإن الخواطر إذا دفعها الإنسان ما ضرت، بعض الناس يُعاني من وسوسة يأتيه الشيطان ويقول له من خلق كذا من خلق كذا من خلق كذا حتى بعد ذلك يصل إلى التساؤل على أمور لا ينبغي التساؤل عنها كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.

إذًا هذه فيما يتعلق به التكليف، تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، من ماذا؟ من الإيمان والكفر، النفاق والشك، كذلك أيضًا سوء الظن بالله ، المحبة الخوف والرجاء، البُغض ونحو ذلك، كل هذه الأمور هي من أعمال القلوب التي يُحاسب الإنسان عليها ويؤاخذ عليها، وليس المقصود مجرد الخواطر التي تقع في قلب الإنسان ولا يملكها، ثم لا يلبث أن يدفعها، فهذه لا يؤاخذ عليها الإنسان، لكن هذا فيما يتعلق به التكليف، ولا شك أن كثيرًا من أعمال القلوب، وما تنطوي عليه النفوس يتعلق به التكليف، فهذا يُحاسب عليه الإنسان، ولهذا يحتاج العبد إلى أن يُصحح نيته وقصده، وأن يُحسن ظنه بربه -تبارك وتعالى، وأن يخاف منه، وأن يتقيه، وأن يرجوه وما إلى ذلك.

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فهذا تحذير من أن يُخفي الإنسان في قلبه ما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى، فإن ربه يعلمه وسيحاسبه عليه، فالله ربنا الذي نتعامل معه يعلم خفايا النفوس والخطرات، فالتعامل معه ينبغي أن يكون على هذا الأساس، يستطيع الإنسان أن يُخفي على الآخرين كثيرًا، قد يبدوا أنه صائم وهو غير صائم، قد يبدوا أنه تقي وهو ليس كذلك، قد يبدوا أنه خاشع وهو ليس كذلك، ولكن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء، فالتعامل ينبغي أن يكون على هذا الأساس.

كذلك أيضًا: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، هذا يدل على كمال ملكه، وأنه الذي ينفرد بالتدبير، وهنا قال: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، فقدم الغفر من باب تقديم الرجاء، كما قال الله في الحديث القُدسي: وأن رحمتي سبقت غضبي[8].

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ومن جملة قدرته القدرة على محاسبة الخلق على ما وقع في نفوسهم مما يتعلق به الحساب، وكذلك التعذيب والمؤاخذة والغفر؛ فالله على كل شيء قدير.

وقبلها: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283]، فإذا كان يعلم كل شيء، وهنا: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يؤاخذ ويُحاسب ويأخذ العبد بسبب جرائره وجرائمه وما يصدر عنه، فهذا فيه ما فيه من الوعيد.

كذلك أيضًا فيها ترغيب ووعد، وفيه من إثبات صفات الكمال وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إثبات صفة القدرة، وهذه دلت عليه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.

هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يغفر لنا جميعًا، ولوالدينا، وأن يُعتق رقابنا من النار فهو على كل شيء قدير، فله ملك السماوات والأرض لا يعجزه شيء، وذلك عليه يسير، فنسأله -تبارك وتعالى- أن يرحم موتانا، وأن يشفي مرضانا، وأن يُعافي مُبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وأن يرحمنا جميعًا في هذا الشهر الكريم، وأن يدلنا عليه، وأن يهدي قلوبنا، وأن يُسدد ألسنتا، وأن يُعيننا على طاعته، وأن يتقبل منا جميعًا، إنه سميع مُجيب -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في قول النبي ﷺ: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، برقم (2312)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم (4190)، وأحمد في المسند، برقم (21516)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2449).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3207)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، وفرض الصلوات، برقم (164).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2842).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في الجهمية، برقم (4727)، بدون ذكر خفقان الطير، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (854).
  5. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 762، 763).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (126).
  7. هو الحديث المخرج في الحاشية السابقة
  8. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [سورة هود:7]، وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ [سورة التوبة:129]، برقم (7422).

مواد ذات صلة