الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} الآية 23 إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} الآية 24.
تاريخ النشر: ٠٦ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 3300
مرات الإستماع: 2375

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة يوسف:23].

يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه، فراودته عن نفسه، أي حاولته على نفسه ودعته إليها؛ وذلك أنها أحبته حباً شديداً؛ لجماله وحسنه وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت له، وغلّقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها، وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ، المراودة: هي الإرادة، والمحاولة برفق ولين، فقد حاولت امرأة العزيز من أجل أن يتحقق مطلوبها، ومن أهل العلم من يقول: إنه مأخوذ من الرود وهو الرفق واللين، وبعضهم يقول: من راد يرود إذا ذهب وجاء، ففعلت هذا الفعل كالذي يذهب ويجيء ويتردد من أجل أن يحقق مأربه، يعني كأنها فعلت فعل المخادع، وقد قال الله : وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، ولم يقل امرأة العزيز، فالآية فيها زيادة تقرير، وفيها محافظة على الستر.

قوله: وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ، غلّق: على وزن فعّل تدل على التكثير، بخلاف أغلق فإنه يدل على القلة أو على المرة الواحدة، لو قال: وأغلقت الأبواب.

وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، وكانوا يطلقون الرب على السيد والكبير، أي: إن بعلك ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: منزلي، وأحسن إليّ فلا أقابله بالفاحشة في أهله، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم.

قوله: إِنَّهُ رَبِّي، أي: العزيز، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وهذا القول لا إشكال فيه؛ لأن كلمة الرب تأتي لمعانٍ متعددة، وقد ذكر منها بعض أهل العلم سبعة، فمن معاني كلمة الرب السيد، ومن معانيها المتصرف، ومن معانيها المربي، ومن معانيها المالك، فيوسف -عليه الصلاة والسلام- بيع للعزيز كما هو معلوم، فهو مملوك، وما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لا يقل أحدكم أَطْعِم ربَّك وضّئ ربك اسق ربك، وليقل سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي[1]، هو من باب الأدب، وإلا فإن ذلك ليس بمحرم.

وقيل في معنى قوله –تبارك وتعالى: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: الله، لكن الأشهر والأقرب –والله أعلم- أنه قصد العزيز، ويدل على ذلك قول العزيز لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [سورة يوسف:21].

وقد اختلف القراء في قوله: هَيْتَ لَكَ، فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء، قال ابن عباس -ا- ومجاهد وغير واحد: معناه أنها تدعوه إلى نفسها، وقال البخاري: وقال عكرمة: هَيْتَ لَكَ أي: هلم لك، بالحورانية، وهكذا ذكره معلقاً، وقرأ آخرون: هِئْتُ لَكَ، بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، بمعنى تهيأت لك، من قول القائل: هئت بالأمر أهيئ هئة، وممن روي عنه هذه القراءة ابن عباس -ا- وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو وائل، وعكرمة وقتادة، وكلهم يفسرها بمعنى تهيأت لك.

هذه القراءة مروية عن بعض الصحابة كعليّ، وهي رواية عن ابن عباس -ا، وبها قرأ هشام وآخرون، مع أنه أنكرها بعض أئمة القراءة، وبعض أئمة اللغة، كأبي عمرو بن العلاء، وقال: هذا لا يعرف في كلام العرب، وقال: لو ذهبتَ من هاهنا إلى اليمن لا تجد من يقول: هِئْتُ لَكَ، وأنكرها أيضاً الكسائي، وأقرها آخرون من أهل اللغة، وقالوا: هي لغة عربية ومعروفة، هئت لك.

وقرأ عبد الله بن إسحاق: هَيتِ بفتح الهاء وكسر التاء وهي غريبة، وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هَيتُ بفتح الهاء وضم التاء.

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: هيتَ لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، بل يخاطب الجميع بلفظ واحد، فيقال: هيتَ لك، وهيتَ لكم، وهيتَ لكما، وهيتَ لكن، وهيتَ لهن.

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [سورة يوسف:24].

وقيل: المراد بهمه بها: خطرات حديث النفس، حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق، ثم أورد البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها[2]، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة هذا منها، وقيل: همّ بضربها.

بالناسبة لهَّم لامرأة العزيز كان من قبيل العزم؛ لأنها راودته وغلقت الأواب وقالت: هَيْتَ لَكَ فقد كانت عازمة غاية العزم، وأما بالنسبة ليوسف -عليه الصلاة والسلام- فقد ذكر الحافظ ابن كثير –رحمه الله- أن ذلك من خطرات النفس، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله تعالى أعلم.

وسُئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن هذا الهمّ الذي همَّ به يوسف فذكر أنه كان من باب الخطرات، فلا يؤاخذ الإنسان عليه، ولا تنقص به مرتبته، ولا يحصل له بذلك مذمة ولا ملامة؛ لأن هذه الخطرات التي تقع في النفوس تهجم على النفس دون أن يتطلبها الإنسان ودون أن يقصدها، فما تلبث أن يدفعها الإنسان، وقد قال الله –تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف:110] فالرسل –عليهم الصلاة والسلام- لا يمكن أن يحصل منهم مثل هذا الظن، فيقال في مثل هذا –والله أعلم: إن هذا من الخطرات التي تقع في النفوس في أوقات الشدائد، ثم ما تلبث أن تزول ولا تضر.

وقال بعض أهل العلم: الهم الذي همَّ به يوسف هو الميل الطبيعي من الرجل للمرأة، ولكن أهل الإيمان يزمونه بالتقوى.

وقال بعض أهل العلم: إن يوسف همَّ بضربها، ولكن هذا القول بعيد، لا يدل عليه ظاهر السياق.

وقال بعض العلماء: إن يوسف ﷺ لم يهم إطلاقاً، وقالوا: بتقديم جواب لَوْلا، وجواب لَوْلا في قوله –تبارك وتعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ هو ما قبله من قوله: وَهَمَّ بِهَا وهذا قول الكوفيين، ومنعه نحاة البصرة.

وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال: قال ابن جرير: والصواب أن يقال: إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان همَّ به، وجائز أن يكون صورة يعقوب، وجائز أن يكون صورة الملَك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوباً من الزجر عن ذلك، ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك، فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى.

قال بعض علماء التفسير: إنه رأى صورة يعقوب -عليه الصلاة والسلام- يعض أنامله، ويتوعده، وقال بعضهم: تصور له جبريل -عليه الصلاة والسلام- بصورة أبيه، وقال بعضهم: رأى يوسف في السقف كلاماً مكتوباً يزجره عن هذا الفعل، وقال بعضهم: إن امرأة العزيز لما أرادت فعل الفاحشة أخذت غطاءً أبيض ووضعته على صنم مزين بالجواهر، فسألها يوسف عن هذا الفعل، فقالت: حياءً من ربي أن يراني على هذه الفعلة، فقال: فأنا أحق أن أستحي من ربي، وهذا القول لا دليل عليه.

وقوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء [سورة يوسف:24] أي: كما أريناه برهاناً صَرَفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي: من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار، صلوات الله وسلامه عليه.

قرأ ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير بكسر اللام، المُخْلِصِينَ، وقرأ آخرون بالفتح الْمُخْلَصِينَ والقراءتان بينهما ملازمة، فهو من عباد الله الْمُخْلَصِينَ، فهو من أهل الإخلاص، ومن أهل الاجتباء والاصطفاء، وهذا يدل على أن الاخلاص من أسباب نجاة العبد من الشدائد والكروب والفتن.

قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كذلك الآية، ظاهر هذه الآية الكريمة قد يُفهم منه أن يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- همَّ بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همّت هي به منه؛ ولكن القرآن العظيم بين براءته -عليه الصلاة والسلام- من الوقوع فيما لا ينبغي، حيث بيّنت شهادة كل من له تعلق بالمسألة براءته، وشهادة الله له بذلك، واعتراف إبليس به.

أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود.

أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي [سورة يوسف:26]، وقوله: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [سورة يوسف:33].

وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ [سورة يوسف:32]، وقولها: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [سورة يوسف:51].

وأما اعتراف زوج المرأة، ففي قوله: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ۝ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [سورة يوسف:28، 29].

وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ [سورة يوسف:26] الآية.

وأما شهادة الله -جل وعلا- ببراءته، ففي قوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [سورة يوسف:24].

قال الفخر الرازي في "تفسيره": قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات:

أولها: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ واللام للتأكيد والمبالغة.

والثاني: قوله: وَالْفَحْشَاءَ، أي: وكذلك لنصرف عنه الفحشاء.

والثالث: قوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا، مع أنه تعالى قال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63].

والرابع: قوله: الْمُخْلَصِينَ، وفيه قراءتان: قراءة باسم الفاعل. وأخرى باسم المفعول.

فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص.

ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه. اهـ من تفسير الرازي.

ويؤيد ذلك قوله تعالى: مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة يوسف:23].

وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته، ففي قوله تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص:82، 83]، فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلَصين، ولا شك أن يوسف من المخلَصين، كما صرح تعالى به في قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ما نصه: وعند هذا نقول: هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف هذه الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته.

ولعلهم يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس، إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه، كما قال الخوارزمي:

وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أُحسن بعده طرائق فسقٍ ليس يحسنها بعدي

فثبت بهذه الدلائل: أن يوسف بريء مما يقول هؤلاء الجهال. ا هـ كلام الرازي.

ولا يخفى ما فيه من قلة الأدب مع من قال تلك المقالة من الصحابة وعلماء السلف الصالح! وعذر الرازي في ذلك هو اعتقاده أن ذلك لم يثبت عن أحد من السلف الصالح.

وسترى في آخر هذا المبحث أقوال العلماء في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة، ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى: وَهَمَّ بِهَا؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن المراد بهمِّ يوسف بها خاطرٌ قلبي صرفه عنه وازعُ التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه؛ لأنه أمر جلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه ﷺ: أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك[3]، يعني ميل القلب الطبيعي.

ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم، وقد قال ﷺ: ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة[4]؛ لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، وامتثالاً لأمره، كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:40، 41].

وهَمُّ بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد، كهمِّ يوسف هذا، بدليل قوله: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:122]؛ لأن قوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا يدل على أن ذلك الهم ليس معصية، لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.

والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه: هذا ما يهمني، ويقول فيما يحبه ويشتهيه: هذا أهم الأشياء إليّ، بخلاف هم امرأة العزيز، فإنه هم عزم وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه.

ومثل هذا التصميم على المعصية: معصية يؤاخذ بها صاحبها، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه ﷺ من حديث أبي بكرة -: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[5]، فصرح ﷺ بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار.

وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل، كقول العرب: قتلته لو لم أخف الله، أي قاربت أن أقتله، كما قاله الزمخشري، وتأويل الهم بأنه همّ بضربها، أو همّ بدفعها عن نفسه فكل ذلك غير ظاهر، بل بعيد من الظاهر، ولا دليل عليه.

والجواب الثاني -وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه همٌّ أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية؛ لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ، أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب لَوْلا لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلاً عليه كالآية المذكورة.

وكقوله: قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:111]، أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.

وعلى هذا القول: فمعنى الآية، وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ أي: لولا أن رآه –أي البرهان- هم بها. فما قبل لَوْلا هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة.

ونظير ذلك قوله تعالى: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [سورة القصص:10]، فما قبل لَوْلا دليل الجواب. أي لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.

واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب لَوْلا وتقديم الجواب في سائر الشروط، وعلى هذا القول يكون جواب لَوْلا في قوله: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ، هو ما قبله من قوله: وَهَمَّ بِهَا، وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري.

وقال الشيخ أبو حيان في البحر المحيط ما نصه: والذي أختاره أن يوسف لم يقع منه همٌّ بها ألبتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان؛ كما تقول: لقد فارقتَ لولا أن عصمك الله، ولا نقول: إن جواب لَوْلا متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشروط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد.

قال ابن القيم –رحمه الله: فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله؛ فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة، وذلك لوجوه:

أحدها: ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة؛ كما يميل العطشان إلى الماء والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يُذم إذا صادف حلالاً، بل يحمد.

الثاني: أنَّ يوسف  كان شاباً، وشهوة الشباب وحدّته أقوى.

الثالث: أنه كان عزباً لا زوجة له ولا سُرِّيَّة تكسر شدة الشهوة.

الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه.

الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال؛ بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.

السادس: أنها غير ممتنعة ولا آبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبتَه في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها.

وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر:

وزادني كَلَفاً في الحب أن مَنَعتْ وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما منعا

فطباع النفس مختلفة، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها، ويضمحلّ عند إبائها وامتناعها، وأخبرني بعض القضاة أن إرادته وشهوته تضمحل عند امتناع امرأته أو سريته، وإبائها بحيث لا يعاودها، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع فيشتد شوقه كلما مُنع، ويحصل له من اللذة بالظفر بالضد بعد امتناعه ونفاره، واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها وشدة الحرص على إدراكها.

السابع: أنها طلبتْ وأرادتْ وراودت وبذلت الجهد، فكفته مئونة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.

الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.

التاسع: أنه لا يخشى أن تَنِمِّ عليه هي ولا أحد من جهتها؛ فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلّقت الأبواب وغيبت الرقباء.

العاشر: أنه كان في الظاهر مملوكاً لها في الدار؛ بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا يُنكر عليه، وكان الأنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي؛ كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب: ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السَّواد؛ تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا.

الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، واستعان هو بالله عليهن فقال: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ [سورة يوسف:33].

الثاني عشر: أنها توعّدته بالسجن والصَّغار، وهذا نوع إكراه؛ إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.

الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر منه الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما ويبعد كلا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما قابلها به أن قال ليوسف: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وللمرأة وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.

ومع هذه الدواعي كلها فآثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [سورة يوسف:33] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه، وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحِكَم ما يزيد على الألف فائدة، لعلنا -إن وفق الله- أن نفردها في مصنف مستقل. انتهى كلام ابن القيم.

  1. رواه البخاري، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي (2 / 901)، برقم (2414)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد (4 / 1764)، برقم (2249).
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله (6 / 2724)، برقم (7062)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (1 / 117)، برقم (129).
  3. رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء (1 / 648)، برقم (2134).
  4. رواه البخاري (5 / 2380)، برقم (6126).
  5. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (1 / 20)، برقم (31).

مواد ذات صلة