الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
[8] من قوله تعالى: {فَلَمّا رَجِعُوا إِلَىَ أَبِيهِمْ} الآية 63 إلى قوله تعالى: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} الآية 66.
تاريخ النشر: ١٢ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 7916
مرات الإستماع: 2368

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الله -تبارك وتعالى:

فَلَمّا رَجِعُوا إِلَىَ أَبِيهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۝ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة يوسف:63، 64].

يقول الله تعالى عنهم: إنهم رجعوا إلى أبيهم قَالُواْ يَأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ يعنون بعد هذه المرة، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين لا نكتل، فأرسله معنا نكتل، وإنا له لحافظون، قرأ بعضهم بالياء أي: يكتل هو، وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ أي: لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك، وهذا كما قالوا له في يوسف: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة يوسف:12]، ولهذا قال لهم: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي: هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيبونه عني، وتحولون بيني وبينه؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وقرأ بعضهم ”حِفظاً“ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: هو أرحم الراحمين بي، وسيرحم كِبَري وضعفي ووَجْدي بولدي، وأرجو من الله أن يرده عليّ ويجمع شملي به، إنه أرحم الراحمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: قَالُواْ يَأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ، يقصدون بذلك قول يوسف ﷺ: فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ [سورة يوسف:60]، مع أنه أعطاهم في هذه المرة ورد عليهم بضاعتهم، ومن غرائب التفسير ما ذكره بعضهم من أن اسم أخيهم نكتل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ، قالوا: اسمه نكتل، وهذا غلط، ومما يدل على أنه غلط القراءة الأخرى التي أشار إليها، وهي قراءة الكوفيين ”يكتل“، وقراءة نَكْتَلْ ليست بمخالفة للقراءة الأخرى، فقراءة الجمهور نَكْتَلْ أي: مجتمعين، ويحصل لنا ما نطلبه ونقصده من الكيل؛ لأن ذلك قد علق بهذا الشرط أن نأتي به معنا، فأرسله معنا نكتل، وعلى القراءة الثانية: ”يكتل“ موافق للقراءة الأخرى وإن كان المعنى مغايراً له، لكن ليس بينهما اختلاف تناقض إطلاقاً، فأرسله معنا يكتل، أي يحصل له كيل إضافة إلى الكيل الذي يعطَى لنا، فكل واحد يعطى حمل بعير من الكيل، وقوله: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً، قال: وقرأ بعضهم: ”حفظاً“، وهي قراءة أهل المدينة، وقراءة الجمهور حَافِظاً

وَلَمّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ۝ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [سورة يوسف:65، 66].

يقول تعالى: ولما فتح إخوة يوسف متاعهم، وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، وهي التي كان أمرَ يوسفُ فتيانه بوضعها في رحالهم، فلما وجدوها في متاعهم قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي أي: ماذا نريد، هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا، كما قال قتادة: ما نبغي وراء هذا، إن بضاعتنا ردت إلينا، وقد أوفى لنا الكيل، وَنَمِيرُ أَهْلَنَا أي: إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا، وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ، وذلك أن يوسف كان يعطي كل رجل حمل بعير.

قوله: قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي، نبغي: حملها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- على ماذا نطلب وماذا نريد، وهو الظاهر المتبادر، تقول: ابتغى كذا أي طلب، مَا نَبْغِي ماذا نطلب أكثر مما وقع من أن العزيز أوفى لنا الكيل ورد بضاعتنا إلينا؟ فعندنا ما يمكننا معه أن نأتي بكيل آخر إضافة إلى ما حصلناه في هذه السفرة، أو في هذا القدوم على العزيز، فهم مغتبطون بما حصل من العزيز، وما حصل لهم من الرجوع بالطعام، وببضاعتهم التي اشتروا بها هذا الطعام.

ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: مَا نَبْغِي أن تكون ”ما“ نافية و”نبغي“ من البغي: وهو التجاوز والزيادة في الحد، مَا نَبْغِي أي: أننا في قولنا في ما وصفنا به العزيز لا نزايد ونتوسع في القول، ولا نصف العزيز بأكثر مما رأيناه، ولا نقول غير الحق، والبغي يأتي بمعنى التجاوز والزيادة والظلم، والمعنى الأول أقرب -والله تعالى أعلم.

هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا، كما قال قتادة: ما نبغي وراء ذلك، قال: مَا نَبْغِي أي: إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة -أي: الطعام، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ من العجائب أن بعضهم فسر البعير بالحمار، فهذا حتى لو كان يوجد قليلاً في لغة العرب إلا أنه لا يفسر به القرآن، فإن القرآن يجب أن يحمل على الظاهر المتبادر الشائع دون أن يحمل على معنى خفي قليل أو نادر في الاستعمال.

ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ هذا من تمام الكلام وتحسينه، أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا، قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي: تحلفون بالعهود والمواثيق لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ: إلا أن تُغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه، فلما آتوه موثقهم أكده عليهم، فقال: اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بُداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها، فبعثه معهم.

قوله: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ فسره الحافظ -رحمه الله- قال: ”هذا من تمام الكلام وتحسينه“، أي: أن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا، يعني أنهم الآن أخذوا من الميرة في سفرهم الأول، بحيث إن كل واحد أخذ حمل بعير ويرون أن هذا لا يكفي، وأنه شيء يسير؛ لأنهم يتزودون بذلك سائر العام، فيقولون: إذا جاء معنا أخونا فإننا نرجع بكيل مثل هذا، فالذي حصل كيل يسير، والمعنى الذي أشار إليه ابن كثير أنه يسيرٌ بالنظر إلى مقابله، فعندما يأتون بأخيهم معهم، فهذا مطلب سهل عند الموازنة، فعبّر عنه بأنه كيل.

ولعل الأقرب هو الأول -والله تعالى أعلم، أقرب من الذي قصده ابن كثير أنه عند الموازنة نأتي به معنا فيحصل لنا ضعف هذا الكيل أو أكثر مع زيادة حمل لأخيهم، فالذي قصده ابن كثير -رحمه الله- أن عند الموازنة المقابل لهذا هو اصطحاب هذا الأخ، فهذا مطلب يسير بإزاء ما نحصل عليه وما يتحقق لنا من هذا السفر.

وبعضهم يقول: إن المقصود ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ؛ لأنهم قالوا: أرسله معنا نكتل، ثم قالوا: وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، يكون اسم الإشارة ذلك إلى الكيل الأخير، هذا المشار إليه ”ونزداد“ كيلاً زائداً لأخينا وهو حمل البعير، ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي: أن هذا الحمل الذي يكون من نصيب أخينا كيل يسير لا يشق على الملِك، ويمكن أنهم قصدوا بقولهم: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أن ما يحصلون عليه في نظرهم يسير فيحتاجون إلى الزيادة عليه بأخذ أخيهم، من أجل أن يكثر، فهذه المعاني تحتملها الآية.

واسم الإشارة ”ذلك“ للبعيد في الأصل، من أهل العلم من النحاة من يقول: إن اسم الإشارة على ثلاثة أنواع: للقريب ”هذا“، والمتوسط ”ذاك“، وللبعيد ”ذلك“ باللام، وبعضهم يقول: على درجتين ”هذا“ و”ذاك وذلك“، وعلى كل تقدير فإن قولهم: ”ذلك“ يرجع إلى البعيد، فلو ألغينا درجة التوسط فـ”ذلك“ يرجع إلى البعيد؛ لذلك تجد أكثر التفاسير على أنه لا يرجع إلى الحمل، أو كيل الواحد منهم.

وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، يعني لو كان يقصدون نزداد كيلَ بعير لقال: هذا كيل يسير، يعني يرجع إلى القريب، وأكثر الأقوال المتقدمة لا تُرجع إلى هذا الأخير الذي هو كيل البعير، وإنما أعيد إلى ما قبله، فإما أنهم قصدوا ما جاءوا به أصلًا، فقالوا: هذا ما يكفي لسنة، نرجع مرة ثانية، ونأتي بمثله وزيادة حمل بعير لأخينا، وإما أنهم قصدوا أنهم إذا ذهبوا سيأتون بكيل مثل هذا وأن هذا كيل يسير يحتاج معه إلى الزيادة، فطالما أنه يتأتى مع اصطحابهم لأخيهم أن يحصل لهم كيل بعير، فذلك كيل يسير، يعني الذي يعطى لنا كيل يسير، -والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة