بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة يوسف:67، 68].
يقول تعالى إخباراً عن يعقوب ، إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس -ا- ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد: إنه خشي عليهم العين؛ وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- عن قِيل يعقوب -عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ الآية، ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- خشية العين هو الذي عليه عامة المفسرين من السلف والخلف، وبعضهم يقول: إنه قال لهم ذلك؛ لأنه خاف عليهم من الملِك إذا رآهم وقد دخلوا مجتمعين مع ما لهم من الهيئة والكمال والصورة والحسن أن يوصل إليهم أذى، أو أن يتخوفهم على ملكه أو نحو ذلك، لكن الله -تبارك وتعالى- لم يبيّن العلة التي من أجلها قال يعقوب -عليه الصلاة والسلام- ما قال.
والمقصود أنه قال ذلك خوفاً عليهم من أمر تخوفه، والأكثر أنه خشية العين، ولا شك أن في الاجتماع قوة، لكن أحياناً يكون على خلاف ذلك، فالأصل أن الاجتماع قوة لكن مقتضيات الأحوال في بعض الأحيان قد تجعل القوة في التفرق وليس في الاجتماع، فقد يكون اجتماعهم إذا دخلوا مجتمعين سبباً لحصول الأذى لهم، والتفرق المقصود به التفرق بالأبدان وليس التفرق بالقلوب، فاجتماع الناس المقاتِلة في الحروب في مكان واحد يكون سبباً لإبادتهم، وإذا تفرقوا كان ذلك أدعى لبقائهم ونكايتهم بالعدو، وليس المقصود التفرق بالقلوب، وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، وهذا لا إشكال فيه.
فغاية ما هنالك أن هذا من باب بذل السبب، والإنسان مطالب ببذل السبب، ويتخذ ما يمكن أن يحصل به الخلاص، فإذا جاء القدر خلي بين العبد وبين ما قدّره الله عليه وقضاه، فلابد من وقوعه به، فهذا يعقوب -عليه الصلاة والسلام- يتخذ الأسباب، وليس ذلك من باب أنه من الحذر الزائد، أو سوء الظن بالناس، أو الوسوسة أو نحو هذا، فإن هذه الأمور تقع، ووقوعها كثير، وقد أخبر النبي ﷺ أن أكثر من يموت من أمته بسبب العين، لكن الإنسان قد لا يشعر بهذا، فقد تظهر هذه العين بصورة مرض معروف عند الأطباء، يموت الإنسان منه عادة، وقد يصاب به بسبب العين وهكذا.
يحتمل أن تكون الحاجة هي دفع إصابة العين، إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، فيكون الاستثناء متصلاً، "ما كان"، ويحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى "لكن"، أي ولكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها، ويحتمل أن تكون هذه الحاجة هي أنه أظهر لهم شفقته عليهم، ومحبته لسلامتهم، فقال لهم ما قال، ثم بيّن أن هذا لا يرد عنهم من قضاء الله شيئاً، لا ينجي حذر من قدر، ولما سئل ابن عباس -ا- عن الهدهد وما قيل من إنه يرى الماء وهو في الهواء، يراه تحت الأرض، فقالوا: فكيف يضع له الصبي الفخ ويصطاده؟ فقال: إذا جاء القدر عمي البصر.
ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: قَضَاهَا يرجع إلى الدخول إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا أي: دخولهم متفرقين، وذلك أنه اطمأن أنهم لن يؤتوا من هذه الناحية التي تخوفها، فلو وقع لهم شيء وقد دخلوا مجتمعين لربما يقول: هذه عين أصابتهم، لكن طالما أنه حصل مقصوده من تفرقهم وما أوصاهم به، فزال ما كان يتخوفه عليهم واستراح من أن يؤتوا من هذه الناحية، لكن يمكن أن يؤتوا من أمر آخر كما حصل مما قصه الله بعد ذلك مما وقع لأخيهم، فاطمأنت نفسه بهذا الدخول الموصوف بهذه الصفة أنهم لم يؤتوا من قِبل دخولهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ قال قتادة والثوري: لذو عملٍ بعلمه، وقال ابن جرير: لذو علمٍ لتعليمنا إياه وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.
قوله: لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ يحتمل ما ذكر من أنه لَذُو عِلْمٍ أي: عمل بعلمه، وإن كان هذا خلاف الظاهر، لكن هذا من باب أن العلم الحقيقي الذي ينفع هو الذي يعمل به صاحبه، ويمكن أن يكون من قبيل التفسير باللازم، وليس من التفسير بالمطابق، يقول: "وقال ابن جرير: لذو علم لتعليمنا إياه"، هذا هو الظاهر المتبادر، وبعض أهل العلم يقول: وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ أي: بأن الحذر لا ينجي من القدر، قال لهم هذا وهو يعلم أن الحذر لا ينجي من القدر، وبعضهم يقول: لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ أي: بأن الحذر وبذل الأسباب مطلوب، ولكن هذا أبعد هذه المعاني.
وقوله: وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ، أي: لا يعلمون ما يعلمه يعقوب -عليه الصلاة والسلام، كما يقول ابن جرير -رحمه الله.
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة يوسف:69].
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والألطاف والإحسان، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له، وعرّفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس، أي: لا تأسف على ما صنعوا بي، وأمره بكتمان ذلك عنهم، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززاً مكرّماً معظماً.
قوله: آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ، يذكرون في كتب التفسير أو ما تلقي من الإسرائيليات، أنهم أحد عشر، ويقولون: إنه حينما استضافهم جعل كل اثنين في منزل في ضيافته، وبقي واحد وهو بنيامين، فضمه إليه، وقال له: إني أنا أخوك، الظاهر المتبادر أنه أخبره أنه أخوه يوسف، وبعض المفسرين يقول: ما أخبره بهذا، وإنما قال: إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ يعني: اعتبرني أخاً لك، فلا تحزن ولا تبتئس من عملهم ومعاملتهم لك، أو أنا أخوك مكان ذلك الأخ الذي فقدته.
لكن الظاهر المتبادر أنه أخبره أنه أخوه، وهنا أشار إلى أنه أخبره أنه سيحتال بحيلة، يقولون: إنه لما قال له: إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ أراد بنيامين أن يبقى معه، فقال له يوسف -عليه الصلاة والسلام- ذلك، وأخبره بأن هذا سيزيد في حزن أبيهم ويضاعف ذلك الحزن عليه، وأنه لا يتمكن من أخذه إلا أن يحتال بحيلة ينادى عليه بها، فقال له: لا أبالي بما تفعل، فحصل ما حصل أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [سورة يوسف:70]، إلى آخره.
وهذا جواب عن أسئلة ترد هنا، وهي كيف روّع أخاه هذا الترويع، وأخذه على أساس أنه يسترقّه، ولا يجوز ترويع المسلم إلى آخره، بعضهم قال: أصلاً هذا كان باتفاق، وبنيامين يعلم، ويمكن أن يكون ذلك وقع بوحي الله إليه، أوحى إليه بهذا ففعله، وإذا قال قائل: هذا يترتب عليه عقوق ليعقوب -عليه الصلاة والسلام، وزيادة الأذى والحزن حتى كف بصره وتضاعفت عليه الهموم والأحزان.
فإذا قيل: إن هذا كان بوحي فينتفي هذا الإشكال، وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الأمور الله قدرها ورتبها من أجل أن يحصل له كمال الصبر، فيصل إلى مرتبة الصابرين ثم بعد ذلك يحصل له ما يحصل من عظيم الثواب إضافة إلى حسن العاقبة، فجرى له ما جرى مما قص الله بعد الامتحان والابتلاء، كما امتحن الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بأن يذبح وحيده، وفلذة كبده ابتلاءً وامتحاناً، فالله يبتلي أولياءه، وعلى قدر مقامهم وإيمانهم، كما أخبر النبي ﷺ عندما سُئل أي الناس أشد بلاء؟ فقال: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه،...[1]، على قدر دينه إن كان دينه صلباً شدد عليه في البلاء، والله المستعان.
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ [سورة يوسف:70، 71].
لما جهزهم وحمل لهم أبعرتهم طعاماً، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية، وهي إناء من فضة -في قول الأكثرين، وقيل: من ذهب، قال ابن زيد: كان يشرب فيه، ويكيل للناس به من عزّة الطعام إذ ذاك، قاله ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد، وقال شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -ا: صواع الملك، قال: كان من فضة يشربون فيه، وكان مثل المكُّوك، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد.
ثم نادى منادٍ بينهم: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ.
الجَهَاز والجِهاز، فهذا الذي يعطونه من الطعام يطلق عليه أنه جهاز فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ، فالبضاعة التي يحملها الراكب، أو المؤن التي يحملها كل ذلك يقال له جهاز، جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ.
والمكُّوك هو عبارة عن مكيال يختلف من بلد لآخر، ويتفاوت فليس له مقدار محدد، ويطلق على وعاء واسع من الوسط يضيق من الأعلى يشرب به، وقول: صُوَاعَ الْمَلِكِ، وفسر الصواع بأنه كان يشرب فيه، والصواع يقال لما يشرب فيه، قال بعضهم: كل إناء يشرب فيه يقال له: صواع، ومن ذلك قول الشاعر:
نشرب الإثم بالصواع جهاراً | وترى المسك بيننا مستعاراً |
والإثم أي: الخمر.
فما يشرب به يقال له: صواع، وما يكال به يقال له: صواع.
والعير: يطلق على الإبل المرحولة التي وضع عليها الطعام أو المتاع أو الأحمال، وبعض أهل العلم يقول: العير يطلق على كل ما يحمل الطعام أو المتاع من الإبل أو البغال أو الحمير، بل بعضهم يقول: هي الحمير، وهذا لا دليل عليه.
في قوله عزوجل: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ دليل على أن الأحكام تستنبط من القصص والأخبار وليس من الأمر والنهي الصريح، أو الآيات التي سيقت لبيان الأحكام فقط، فهذه الآية ما سيقت لبيان حكم، ولكن يؤخذ منها جواز الجعالة وجواز الكفالة.
وقوله: جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، هذه الحيلة التي احتال بها يوسف ﷺ من أجل أن يُبقي أخاه عنده، فوضع الصواع في رحل أخيه كما في قول: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ فقوله: "ثم" تدل على التراخي، ولهذا يقال: إنه تركهم حتى انطلقوا وفارقوا البلد أو كادوا، ثم بعد ذلك أرسل في أثرهم من أجل أن تكون الصورة محكمة، يعني لا يشك هؤلاء بأن المسألة مدبّرة، يعني لو أنه مجرد ما وضع هذا وهم عنده قال: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فإنهم سيقولون كيف عرفت؟ ومتى فقدته؟ لكن تركهم، فكأنهم بحثوا عن صواعهم، ثم لما فقدوه استدركوا وتبعوا هذه العير، ونادى المنادي أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فأطلق عليهم أنهم سارقون مع العلم بأنهم ما سرقوه.
ويمكن أن يقال: إن الذي نادى لم يكن يعلم أن القضية كانت بمكيدة كاد بها يوسف ﷺ ليتمكن من أخذ أخيه، فهو نادى بحسب ظنه، وبعض أهل العلم يقول: ما حدد هنا المفعول، ما قال: إنكم سرقتم الصواع، أو لسارقون لصواع الملك، وإنما أطلق، وأن يوسف -عليه الصلاة والسلام- حينما قال للفتى هذا، فتنادى به، قصد يوسف -عليه الصلاة والسلام- ما فعلوا من أنهم وقع منهم ما يمكن أن يقال عنه: إنه سرقة، حيث إنهم أخذوه من أبيهم وهو صغير وألقوه في الجب، وفعلوا به ما فعلوا، فقال: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فأطلق عليهم هذا الوصف، وفي ضمن هذا الوصف يمكن أن يكون ما وقع من الصواع بحسب ظن الفتى الذي نادى بذلك إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فالله تعالى أعلم.
قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَآء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [سورة يوسف:73-76].
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة، قال لهم إخوة يوسف: تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ أي: لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا؛ لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة، أنّا مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ أي: ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة، فقال لهم الفتيان: فَمَا جَزَآؤُهُ أي: السارق إن كان فيكم إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ.
يُحمل: ما جزاؤه، على السارق، ويحتمل أن يكون ما جزاؤه، أي سرقة الصواع، إن كنتم كاذبين.
أي: أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، وهكذا كانت شريعة إبراهيم -، أن السارق يُدفع إلى المسروق منه، وهذا هو الذي أراد يوسف . قوله: قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، جزاؤه: مبتدأ، وخبره يمكن أن يكون الجملة الشرطية بحيث يكون الخبر هو الشرط والجواب، وقوله: فَهُوَ جَزَاؤُهُ خبر.
ويحتمل أن يكون الخبر مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، ويكون قوله: فَهُوَ جَزَاؤُهُ من باب التأكيد والإيضاح وزيادة التقرير، والمعنى أن جزاء من وجد في رحله فإنه يجازى هو دون أحد سواه، من وجد في رحله فإن الجزاء يختص به دون أن يؤخذ به أحد آخر، لا يجني أحد على أحد، الذي تجدون عنده هذا الصواع في رحله فإنه يتحمل العقوبة منفرداً مختصاً بها دون البقية.
والجزاء عندهم حينما حكموا بهذا فَهُوَ جَزَاؤُهُ أي: أنه يجازى بذلك بشريعتهم، شريعة يعقوب -عليه الصلاة والسلام، بل شريعة إبراهيم ﷺ قالوا: إنه يُسترقّ سنةً، يسترقه المسروق منه سنة، وبعضهم قال: يسترقه وأطلق، وأما في شريعة الملِك فإنه يضرب، ويؤخذ منه الضِّعف، ضعف ما سرق، ولا يسترقّ؛ ولهذا قال الله : كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يعني في شريعة الملك، لو طُبق عليه قانون الملك فإنه سيضرب ويغرم ثم يذهب معهم، ولن يتمكن من أخذه وإبقائه عنده، لكن هم نطقوا بألسنتهم وقالوا: جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ هذا المعمول به عندنا وهذه شريعتنا، فأخذهم بها، فلما جاءوا يريدون الخلاص ويريدون أن يدخل واحد مكانه في هذا، قال: مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ، فهذا جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ -والله أعلم.
وهذا هو الذي أراد يوسف ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي: فتشها قبله تورية، ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ.
هذا من حسن التدبير، ومن كيده لهم، أو من كيده لأخذ أخيه، ما بدأ بوعاء الأخ على أساس أنه ما يحصل لهم شك، فبدأ بأوعيتهم وأخّر هذا، ويذكر بعض المفسرين، أنه كان يفتش فحينما لا يجد شيئاً في رحل من فتشه يستغفر، فلما بقي بنيامين قال: أما هذا الصغير فلا يحصل منه شيء، فأصروا هم من أجل إظهار البراءة، وأن يطمئن الطرف الآخر من أنه لم يحصل منهم سرقة، فأصروا إلا أن يفتش الأخير: بنيامين، فلما فتح رحله فإذا به الصواع، وهذا ليس له مستند إلا الإسرائيليات.
قوله تعالى على لسانهم: جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ أي: جزاء السارق أن يؤخذ هو دون أحد سواه، نطقوا بالحكم واختاروا شريعة يعقوب، أو شريعة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك إلزاماً لهم بما أجراه الله على ألسنتهم فليس لهم أن يحتجوا بعد ذلك بحجة يتنصلون بها من هذا الحكم، وكان ذلك سبباً لتمكنه من أخذ أخيه مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي: في شريعة الملك، و"ما" هذه نافية، ما كان ليأخذه في شريعة الملك وقانونه؛ لأن قانون الملك ليس فيه أن من وُجد عنده المسروق يصير أمره إلى المسروق منه، إنما يعاقب بالعقوبة المتقدمة ثم يذهب، فلو أعمل فيه قانون الملك لفاته هذا المقصود، -والله أعلم.
ما ذكره الحسن -رحمه الله، وقول الإنسان: فوق كل ذي علم عليم، لا إشكال فيه إطلاقاً، والله صرح بهذا: وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، ولا يقصد به أن ذلك بإطلاق بحيث يكون فوق علم الله -تبارك وتعالى- ما هو أعلم، وإنما المقصود من الخلق، فوق كل ذي علم عليم، فإذا قالها الإنسان وأطلقها في مناسبة من المناسبات أو من غير مناسبة، فهذا لا تحفظ فيه إطلاقاً، ويوجد في كثير مما يذكر في المنهيات أن بعض العبارات تؤخذ وتوضع في بعض كتب المنهيات، ويقال: لا يسوغ أن يقال كذا، على أنه من المنهيات اللفظية، وهذا ليس على إطلاقه، فمنه ما ليس بمنهي أصلاً، ومنه ما يحتاج إلى تفصيل، إن قصد به القائل كذا فهو منهي، وإن قصد به القائل كذا فهو صحيح، بحسب قصد القائل.
وكذا روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس -: وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم، وهكذا قال عكرمة، وقال قتادة: وفوق كل ذي علم عليم، حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ، وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله: "وفوق كل عالم عليم".
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ [سورة يوسف:77].
وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين: إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فعَلَ كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف .
قوله على لسانهم: إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ يقصدون بذلك يوسف -عليه الصلاة والسلام، وبعض المفسرين يقول: إن يوسف كان في صغره عند عمته، وأنها قد أحبته محبة عظيمة، فطلبه أبوه بعد ذلك، ولم تصبر على فراقه، وكانت هي أكبر من يعقوب، وكانت منطقة إسحاق -عليه الصلاة والسلام- عندها باعتبار أنها الكبيرة، فقد كان في شريعتهم أن الوارث هو الأكبر، والمنطقة ما يتمنطق به الإنسان مما يضع فيه السلاح أو نحو هذا، فوضعتها تحت ثيابه، ثم بعد ذلك ذكرت أنها فقدتها، فنظروا فوجودها معه من أجل أن تأخذه عندها، كما فعل يوسف -عليه الصلاة والسلام، فظنوا أنه سرقها وهو صغير، وهذا لا دليل عليه.
وبعضهم يقول: إنهم قصدوا بذلك أنه في صغره وجد عند جده لأمه صنماً من ذهب فأخذه فكسره، فعيره إخوانه بذلك، وهذا لا دليل عليه، وبعضهم يقول: إنهم قصدوا بهذا أنه قد سرق قلب أبيهم، وهذا خلاف الظاهر.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أنهم كذبوا عليه بهذا، وهم فعلوا أكبر من الكذب، فعلوا به ما فعلوا، وهذا القياس الذي قاسوه هو من أبطل القياس، فلا علاقة بين سرقة أخيه كما زعموا وبين سرقة هذا، ولا توجد علة جامعة، والقياس كما هو معلوم هو إلحاق فرع بأصل في حكم في علة جامعة بينهما، ولا يوجد علة، حتى ما يسمونه بقياس غلبة الأشباه مثل قياس الخيل على الحمير في عدم وجوب الزكاة مثلاً بحكم الشبه الظاهر، هذا القياس باطل لا يعول عليه، فكيف بهذا.
قوله: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ، المشهور وهو الظاهر المتبادر أنه أسر الجملة التي بعدها، يعني لمّا قالوا هذا قال في نفسه: أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ، ويحتمل أن يكون أسرها في نفسه ليس المقصود هذه الجملة، أسرها في نفسه يعني كأنه تلقى هذه التهمة ولم يبدِ لهم رداً ولا إنكاراً، وإنما كظمها في نفسه وسكت، سمع منهم شيئاً كرهه ولم يرد هذه التهمة وإنما أبقاها في نفسه وتحملها ومضت.
ويحتمل أن يكون فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ بمعنى أنه أجل الجواب، لم يجبهم في ساعته وإنما أجل ذلك إلى أن قال لهم فيما بعد: هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ [سورة يوسف:89]، يعني حينما جاءوا إليه فيما بعد وقالوا له: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ [سورة يوسف:88].
والضمير في قوله: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ، بعض العلماء قال: إنما أسرها يوسف في نفسه عندما تلقى هذه التهمة وكظمها، ولم يرد عليهم، ولا إشكال في مثل هذا التعبير، وقيل: يعني أسر في نفسه قوله: أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا، من باب الإضمار قبل الذكر، كنى عنها بالضمير ثم ذكرها بعد ذلك، ولم يقل: فأسر يوسف في نفسه قوله: أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا، فلو قالوا: إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وانتهى الكلام وما ذكرت الجملة التي بعده كان يقال: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي: لم يجبهم في الحال وإنما أجّل ذلك، أو كظم ذلك وتحمله ولم يرد عليهم، لكن حينما قال: أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا يكون ذلك تفسيراً للضمير الهاء في قوله: فَأَسَرَّهَا، وهذا معنى الإضمار قبل الذكر.
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ [سورة يوسف:78، 79].
لما تعيّن أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم قَالُواْ يَأَيّهَا الْعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً يعنون وهو يحبه حباً شديداً، ويتسلى به عن ولده الذي فقده، فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ أي: بدله يكون عندك عوضاً عنه، إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي: العادلين المنصفين، القابلين للخير، قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلاّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ أي: كما قلتم واعترفتم: إِنّآ إِذاً لّظَالِمُونَ أي: إن أخذنا بريئاً بسقيم.
قوله -تبارك وتعالى: إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال: "أي من العادلين المنصفين القابلين للخير"، يمكن أن يفسر على ظاهره، فهو أحسنَ إليهم غاية الإحسان، أوفى لهم الكيل وأحسن ضيافتهم، فقالوا: نراك من المحسنين فأحسِن إلينا بدفع بنيامين لنا، ثم من لطيف تعبيره أنه قال لهم: مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلاّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ولم يقل: معاذ الله أن نأخذ إلا من سرق، فلم يتهمه بالسرقة ولم يصفه بذلك.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة يوسف:80-82].
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوه على ذلك، فامتنع عليهم ذلك خَلَصُواْ أي: انفردوا عن الناس، نَجِيًّا يتناجون فيما بينهم، قَالَ كَبِيرُهُمْ وهو روبيل، وقيل: يهوذا، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما هموا بقتله.
بعض أهل العلم يقول في قوله: كَبِيرُهُمْ أي: في السن، وبعضهم يقول: في الرأي والقدر والمنزلة، ولهذا اختلفوا فيه هل هو فلان أو فلان، فمن نظر إلى أنه الأعقل والأرجح رأياً، ذكر من كان معروفاً بهذه الصفة، ومن نظر إلى أن الكبير إذا أطلق فالأصل أنه كبير السن قال: إنه روبيل، والله تعالى أعلم، ولا فائدة في تعيينه، فهذا من المبهمات التي سبق الإشارة إلى أنه لا فائدة من تحديد المسمى بذلك.
وذلك بأن يقاتلهم حتى يستخلصه، أو يقضي الله ما شاء، وهذا فيه بعد.
قوله : فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا، استيأسوا: يعني فقدوا الأمل من أن يرجعه إليهم، والسين والتاء في استيأسوا للمبالغة، وقوله: ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا يعني: بما علمنا من استخراج الصواع من وعائه، ويحتمل أن يكون وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا أي: حينما قيل لنا: فَمَا جَزَآؤُهُ، فشهدنا بما علمنا من شريعتك من أنه يؤخذ السارق دون غيره، فنحن لا نستطيع أن نقول غير هذا، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو القول الأول.
قوله: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ، بعضهم فسر الغيب بالليل، قالوا: إنهم كانوا نياماً فسرق، وهذا فيه بعد وشيء من التكلف، وقيل: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ أي: أن ذلك وقع في وقت غيابهم عنه، ما كانوا معه، فقالوا: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ، والذي قاله قتادة وعكرمة: "ما علمنا أن ابنك سرق" أي: لم يكن ذلك بحضرتنا حتى نكفه عن ذلك، فهذا توجيه هذا القول، والقول الآخر: "قال عبد الرحمن بن زيد: ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئاً إنما سألَنا ما جزاء السارق؟" أخبروه بحكم السارق عندهم؛ لأنه سألهم عن ذلك فقالوا -ولم يكن عندهم علم بما حصل: مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، فتبيّن فيما بعد أن هذا قد وقع منه ما وقع، فأخذ بهذا الحكم.
وقوله: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ أي: ما كنا نعلم أنه سيقع منه ذلك حينما أخذناه منك، فنحن طلبنا أخذه من أجل أنه منع منا الكيل، ولا نعلم ما تصير إليه الأمور في عواقبها، وهذا لعله هو الأقرب -والله تعالى أعلم، وقيل: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا، يعني نحن نتحدث عن الظاهر، وجد الصواع في رحله، هل سرق حقيقة أو ما سرق، أو كيف وقع هذا، هذا عند الله ، لكن نحن نشهد بحسب الظاهر، وهذا معنى تحتمله الآية، لكن ما ذكرته آنفاً أقرب منه -والله تعالى أعلم، وبعضهم يقول غير ذلك.
وقوله: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا أي: اسألهم عن صدقنا وأمانتنا؛ لأنهم كانوا يشاهدون ذلك، فهم شاهدوا هذه الواقعة، ويعرفون حقيقة ما حصل، فإذا سألهم أخبروه، فلم يكن ذلك كذباً من أولاد يعقوب كما كذبوا في المرة الأولى، -والله أعلم.
- رواه أحمد في المسند (3/78)، برقم (1481)، وقال محققوه: إسناده حسن، والحاكم في المستدرك (1/99)، برقم (120)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (143)، وفي صحيح الجامع برقم (992).