بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوَاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:105-107].
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات، وغير ذلك.
وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ قال ابن عباس -ا: من إِيمانهم أنهم إِذا قيل لهم: مَن خلق السموات ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون به. وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وفي الصحيح: أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: ”لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك“[1].
وقال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، وهذا هو الشرك الأعظم، يعبد مع الله غيره، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
وقال الحسن البصري في قوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ قال: ذلك المنافق يعمل -إِذا عمل- رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذلك، يعني قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142]، وثَمّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالباً فاعله، كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيراً فقطعه ـ أو انتزعه ـ ثم قال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ.
وفي الحديث: من حلف بغير الله فقد أشرك[2]. رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر -ا، وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرقى والتمائم والتولة شرك[3]، وفي لفظ لهما: الطيرة شرك وما منَّا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل[4].
وقوله: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الآية، أي: أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:45-47].
وقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:97-99].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، كأيٍّ، هذه الكلمة مركبة من كاف التشبيه وأي، وصارت بعد ذلك تستعمل استعمال اللفظة الواحدة، بمعنى ”كم“ التي للتكثير، وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ أي: وكم من آية فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ بمعنى: أنها لا تلفت أنظارهم، ولا يتفكرون فيها، ولا يقفون عندها.
وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ، ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -ا- قال: ”من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من خلق السماوات من خلق الأرض من خلق الجبال؟ قالوا: الله وهم مشركون به“، ونسب هذا إلى كثير من السلف، وذكر قولهم في التلبية ”لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك“، فهذا هو معنى الآية -والله تعالى أعلم.
وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ، لا إشكال فيه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- عندما ذكر هذا الإيمان ذكره بهذه الصفة وهي الإشراك، ومعلوم أن الإشراك ينافي الإيمان، فلا يقال: كيف أثبت لهم الإيمان مع الشرك؛ لأن الإيمان المثبت هو الإيمان اللغوي، الإيمان المنخرم، الإيمان الذي لا ينجي ولا ينفع صاحبه في الآخرة، فلا شك أن المشركين عندهم شيء من الإيمان، ولكنه ليس بإيمان تحصل به النجاة ويتحقق به التوحيد الخالص لله -تبارك وتعالى، ولذلك هؤلاء يثبتون مثلاً توحيد الربوبية، وكثيراً من أسماء الله ، قال الله -تبارك وتعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25]، فهذا من الإيمان، ولكنه إيمان لا يكفي، لا تحصل به النجاة؛ ولهذا جاءت الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لأقوامهم اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:65]، فلما سمعوا هذا استنكفوا وأبوا وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:5]، فكانوا يشركون بالله -تبارك وتعالى- في إلهيته، وإن كانوا يقرون في الجملة بربوبيته.
فالإيمان المثبت هنا يمكن أن يقال: هو الإيمان بالمعنى اللغوي، وليس الإيمان الشرعي الذي تحصل به النجاة؛ لذا أثبت لهم الإيمان مع الإشراك، والمعنى الآخر الذي ذكره بعد ذلك هو كلام الحسن البصري -رحمه الله، أن هذه في أهل النفاق وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ يعني: يؤمنون إيماناً ظاهراً مع انطواء قلوبهم على الكفر.
وليس هذا هو المراد، والله تعالى أعلم؛ لأن هذه السورة مكية، والنفاق وجد في المدينة، ولا يمكن أن يقال: إن المقصود بهم المنافقون أو المؤمنون الذين قد يقع منهم الإشراك: بالحلف بغير الله، أو برياء، فهذه الآية في الكفار، فالرياء أو الحلف بغير الله يقع من أهل الإيمان، ولكنه لا يفسد إيمانهم إلا إذا كان الرياء في أصل الإيمان.
فالشاهد أن معنى الآية هو ما ذكره أولاً، وهو الذي يدل عليه القرآن في مواضع كثيرة، -والله تعالى أعلم، ثم قال: أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ، فسر الغاشية بقوله: ”أي: بأمر يغشاهم من حيث لا يشعرون“، بأمر يغشاهم، وهذا جيد، حملها على معنىً عام يدخل فيه ما يذكره السلف -، فالغاشية بعضهم يقول: ما يغشاهم من العذاب الذي ينزل بهم ويغمرهم، وبعضهم يقول: هي الساعة، وبعضهم يقول: هي القوارع التي تصيبهم، فهذه المعاني على كل حال ترجع إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أي: تنزل بهم نقمة من الله -تبارك وتعالى- تغشاهم وتغمرهم.
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف:108].
يقول تعالى لرسوله ﷺ إلى الثقلين الإنس والجن، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ، على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي.
وقوله: وَسُبْحَانَ اللّهِ أي: وأُنزّه الله وأجلّه وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة أو وزير أو مشير، تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سورة الإسراء:44].
قوله -تبارك وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أي: هذه طريقي، والطريق والسبيل تذكّر وتؤنث، هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ أي: أن سبيله الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي هذه الآية تحتمل معنيين، المعنى الأول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ أي: أن سبيله ﷺ وسبيل أتباعه هو الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، فأتباعه هم الدعاة إلى الله من بعده.
وهذا معنىً صحيح، والله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، قال: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187]، وقال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[سورة النحل:125]، وقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا [سورة فصلت:33] أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى، ومن ذلك: الآيات التي تدل على لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من الدعوة إلى الله .
المعنى الثاني: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ يعني: المعنى الأول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ، ثم قال: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، يعني ذكر له صفتين: الأولى: الدعوة إلى الله، والثانية: أنه على بصيرة هو وأتباعه، يعني من أهل البصائر، أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني: أنا ومن اتبعني على بصيرة، على طريق واضح، وجادة مستقيمة، ليس فيها غبش ولا لبس، ولا شك، إذا وصلتَ قلت: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، فقوله: عَلَى بَصِيرَةٍ متعلق بـ أَدْعُو، أدعو على بصيرة، ولا يحتاج إلى الترجيح بين هذين المعنيين، فكل واحد من هذين المعنيين حق.
والقرآن يعبر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالنبي ﷺ سبيله الدعوة إلى الله، وهي سبيل أتباعه من بعده، والنبي ﷺ خاتم الأنبياء، فأتباعه هم الذين يحملون الدعوة من بعده، كما أن النبي ﷺ أيضاً على بصيرة هو وأتباعه بخلاف غيرهم ممن اتبعوا السبل، أو بقوا على كتب محرفة، فهؤلاء ليسوا على بصيرة، كما قال الله : وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [سورة الشورى:14] يعني: الشك الذي يبعث على القلق والتحير والتردد، والانزعاج في النفس، فهم ليسوا على ثقة، والله يخبرنا عن مكنوناتهم وما في نفوسهم، مع أنهم يبذلون الشيء الكثير، أعني أولئك المنحرفين، من دعاة النصارى أو من كبرائهم وقساوستهم، وكذلك اليهود مهما أظهروا من محاولة إبداء التماسك والثقة بما عندهم إلا أن الله يخبرنا عما في نفوسهم لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ.
فالشاهد: أن النبي ﷺ وأصحابه على بصيرة، هو وأتباعه، والمعنى الآخر: أن الدعوة على بصيرة، على محجة واضحة بيّنة لا غبش فيها ولا لبس، وهذه الشريعة جاءت -ولله الحمد- بالحق الواضح البيّن الجلي الذي لا لبس فيه، فالأصول الكبار وكليات الشريعة، ومحكماتها، وما تتحقق به النجاة عند الله -تبارك وتعالى- هذا كله بيّنه الله بياناً واضحاً جلياً، كقضايا التوحيد، والإيمان، وما يتعلق بالشرك، وما يتعلق بالأصول الكبار، وأصول الدين، التي قال الله -تبارك وتعالى- فيها ممتناً على المؤمنين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [سورة المائدة:3]، فما تتحقق به النجاة بيّنه الله بياناً شافياً، وأما ما يتعلق بالجزئيات والتفاصيل فإن الله -تبارك وتعالى- ذكر فيها مجالاً لاجتهاد العلماء، فيجتهدون.
وكل من بذل وسعه في طلب الحق واتقى الله ما استطاع فإن الله -تبارك وتعالى- يغفر له ما يقع منه من خطأ، ويأجره على اجتهاده، وإذا أصاب أعطاه أجرين، ولا يكون بذلك آثماً، ولا مؤاخَذاً، يعني إذا وقع منه الخطأ، وعلى العامة سؤال من يثقون بدينه وعلمه براءة لذمتهم، وهذا هو الواجب عليهم، وبهذا لا يلحقهم الحرج.
فهذه الآية عظيمة، تضمنت هذا المعنى الكبير: أن سبيله ﷺ وسبيل أتباعه هو الدعوة إلى الله، وأن المؤمن المتبع للنبي ﷺ على محجة واضحة، كما أن الدعوة إلى -تبارك وتعالى- تكون على بصيرة، وإنما يكون للإنسان من هذا بقدر ما يكون له من اتباع سبيل النبي ﷺ، وهو الصراط المستقيم، وهو اتباع طريقة السلف الصالح -، وبقدر ما يحصل للإنسان من مخالفة هذه الطريقة، فإنه يكون عنده من الغبش والانحراف واللبس بقدر ما يكون عنده من المخالفة، فكلما كان الإنسان أكثر اتباعاً كلما كان أكثر سلوكاً للصراط المستقيم، وأسعد بهذه الآية ونظائرها في كتاب الله -تبارك وتعالى.
والذين يظنون أن مناط النجاة هو بتحقيق كل جزئية من الجزئيات، وأن يكون له فيها حكم ونظر وقول فاصل، وإن لم يتحققوا في العلم، فهؤلاء يقع عندهم من القلق واللبس والتحير؛ لأنهم حملوا أنفسهم أمراً لا يمكنهم أن يحتملوه، فالكثير منهم يظن أنه مهما قل علمه لابد أن يكون له في كل جزئية، ليس في أحكام الشريعة فحسب، بل حتى مما يقع من أفعال الناس وأقوالهم وتصرفاتهم، وقول هذا وفعله صواب أو خطأ، وما أشبه ذلك، وتبقى بعض القضايا قد تشكل عليه، فإذا تتبع هذه الأمور فإنه يقع له من المشقة والاستشكال والتحير والتردد في كثير من القضايا الشيء الكثير.
والله لم يطالبنا بهذا، لم يأمرنا أن نحكم على كل شيء مما يجري حولنا من أفعال الناس وأقوالهم وتصرفاتهم، هناك أمور تتضح للإنسان فيحكم فيها، وهناك أمور تبقى، إما أنها لا تعنيه فيعرض عنها ويشتغل بما يعنيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه؛ ولهذا كان السلف يكرهون السؤال عن أمور لم تقع، أو السؤال عن أمور لا تقع إلا نادراً، والتكلف والتمحل في مثل هذه الأشياء، وما يسمونه بالأغاليط وهو تتبع صعاب المسائل، فإذا كان الرجل يتتبع هذه القضايا، ويتشاغل بها، وغلب ذلك عليه فإن هذا مؤذن بمزيد من التحير والقلق، واستشكال كثير من الأمور، وكان للإنسان أن يعرض عن هذا كله، لأنه سيسأل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولن يسأل: عن فلان، وفعل فلان، وعن رأيه في كتاب كذا.
وقد ذكر الشوكاني -رحمه الله- في نهاية الأرب عن بعض علماء اليمن أنه قال: إن الناس ثلاث مراتب، يقول: مرتبة: هم العلماء، فهؤلاء يعرفون ما لهم وما عليهم، ومرتبة: هم العوام، فهؤلاء تبعٌ لعلمائهم، يقول: والمشكلة من الذين في الوسط ارتقوا عن مرتبة العوام ولم يصلوا إلى مرتبة العلماء، فهؤلاء هم الذين يسألون عما لا يعنيهم، وينشغلون ببحث بعض الأغاليط، أو بعض المسائل التي لا تعنيهم، أو لم يصلوا إلى مرتبتها، فيتزبب قبل أن يتحصرم، فيحكم في المسائل الكبار، ويتحدث عن دقيق القضايا، وهو لم يتأهل لها، -والله المستعان.
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف:109].
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء، كما دلّ عليه سياق هذه الآية الكريمة أن الله تعالى لم يوحِ إِلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع. وعليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات، كما قال تعالى مخبراً عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [سورة المائدة:75]، فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صدّيقة بنص القرآن.
هذا الآية تضمنت معنيين فيما يتعلق بالرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، أخرج بقوله: إِلاّ رِجَالاً الملائكة، والنساء، والمقصود الذين يرسلون إلى الناس، وإلا فالملائكة فيهم رسل، كما قال الله : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحـج:75]، فما يذكره بعض المفسرين في كتبهم أن الله لم يرسل ملائكة، يقصدون بهذا إلى أهل الأرض، وكونهم رجالاً بمعنى أنه ليس فيهم نساء، وليس لأحد أن يتكلف ويحمل القرآن على معانٍ شاذة أو نادرة، كقول بعضهم: إن المرأة قد يقال لها: رجلة، نِعْم الفتى وبئست الرجلة، فهذا لا يحمل عليه القرآن إطلاقاً.
والألفاظ في كلام العرب منها ما يختص بالرجال كلفظة ”رجل“، ومنها ما يختص بالنساء كلفظة ”امرأة“، فهذا لا يحصل فيه الاشتراك، وإذا جاءت صيغ المذكر المختصة به في القرآن، في الأمر والنهي، فإن النساء يدخلن على سبيل التبع، ومنه ما يكون مشتركاً بين الرجال والنساء، مثل لفظة ”من“ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى [سورة النحل:97]، فلفظة ”من“ من ألفاظ العموم فتشمل الرجال والنساء.
وهناك ألفاظ اختلفوا فيها هل تشمل الرجال والنساء أو أنها تختص بالرجال، والنساء يدخلن فيها على سبيل التبع، كلفظة ”القوم“، لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء [سورة الحجرات:11]، فهذه الآية احتج بها مِن الأصوليين مَن قال: إن لفظة القوم تختص بالرجال؛ لأنه قال: وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء، هذا هو الغالب في الاستعمال، وإن النساء يدخلن فيها على سبيل التبع، وإن كان ورد في بعض كلام العرب ما قد يدل على أن النساء يدخلن في ذلك، كقول الشاعر:
ولست أدري وسوف يقال أدري | أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ |
هذه تدل على ما دلت عليه الآية، ولكن قول الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59]، يدخل فيه الرجال والنساء.
وقال الضحاك عن ابن عباس -ا- في قوله: وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً الآية، أي: ليسوا من أهل السماء كما قلتم، وهذا القول من ابن عباس -ا- يعتضد بقوله تعالى: وَمآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] الآية، وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنبياء:8، 9].
وقوله تعالى: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:9] الآية.
قوله: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، معنى الآية لا يشكل، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا بهذا القيد جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، فهي مرتبطة ومقيدة بهذا القيد، ما جعلهم جسداً ليس من شأنه الأكل، وإنما هم جسد يأكلون الطعام.
وقوله: مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ المراد بالقرى المُدن، لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً.
القُرى جمع قرية، والقرية تدل على معنى الاجتماع، فهي مجمع البنيان، سواء كان كبيراً أو صغيراً، والآيات التي وردت في القرآن في ذكر القرى تحمل على هذا المعنى، وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [سورة الأعراف:4]، تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا [سورة الأعراف:101]، وما أشبه ذلك، فالمدن والبلاد التي قد تكون حواضر واسعة كبيرة يقال لها: قرى، ولا يحمل هذا على اصطلاح الناس اليوم بالتعبير بالقرية عن مجمع البنيان الصغير، والمدينة مجمع البنيان الكبير، ليس هذا هو المعنى الذي نزل عليه القرآن، وبه يتعارف الناس الذين خوطبوا آنذاك بالقرآن.
فقوله: مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ قال: ”المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي“، وذلك أن أهل القرى ألطف وأرق طبعاً، وليس فيهم جفاء أهل البادية في الجملة، وحينما يقال: أهل البادية يقصد به من يسكن في الصحراء، هذا هو المراد، وليس المقصود بهذا من كان ينتسب إلى قبيلة، كما يظنه بعض الناس، فالناس إما أن يكونوا من سكان القرى والأمصار والمدن وهو مؤذن برقة الطبع والفهم ومجانبة الأوصاف المذمومة مما يتصل بالشدة والغلظة والجفاء، تأثراً بالبيئة التي يعيشون فيها؛ ولذلك ورد النهي عن التشبه بالأعراب لهذا المعنى، وإلا فإن الله قال: وَمِنَ الأَعْرَابِ والأعراب: هم سكان البادية، الذين يعيشون في الصحراء، فالله -تبارك وتعالى- قال: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ [سورة التوبة:99].
قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ، وكل ما جاء فيه الأمر صراحة بالنظر والسير في الأرض، كقول الله -تبارك وتعالى: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سورة الأنعام:11]، الأمر فيها بالسير في الأرض لمن كان عنده شيء من التردد والشك فإنه يؤمر بالسير في الأرض من أجل أن يعرف ويستيقن الحقيقة، وصدقَ ما جاء به النبي ﷺ، وما آل إليه أمر المكذبين للرسل -عليهم الصلاة والسلام، وليس المراد بذلك أن الجميع يخاطبون بهذا، فهذا لا يحتاج إليه إلا من كان متردداً.
ولهذا: الناس على مراتب، من الناس من يحتج على الأشياء التي تقع بما عرف من أسماء الله وصفاته، فهؤلاء أصحاب المراتب الكاملة، ولم يرد الخطاب في القرآن في عامة المواضع مطالباً للناس بالارتقاء إلى هذه المرتبة، فمن الناس من لا يحتاج أن ينظر -حتى يعرف صدق النبي ﷺ إلى مثل هذا، كأبي بكر الصديق ، وخديجة -ا، فسُمي أبو بكر بالصديق؛ لتصديقه لرسول الله ﷺ في كل ما أخبر به، وأول نزول الوحي على النبي ﷺ أقبل على خديجة -ا- وهو يرتعد فقالت محتجة بما عرفت من أوصاف الله على ما يقع في الخليقة: "كلا، والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل.."[5] إلى آخر ما ذكرت، فهذه مرتبة عالية.
لكن أكثر الخلق لا يصلون إلى هذا، أكثر الخلق يحتاجون إلى الاستدلال بالمخلوق على الخالق؛ لهذا نزلت آيات كثيرة تلفت النظر إلى السماوات والأرض وما فيهما، كالإبل، والجبال، والشجر، والدواب، والنجوم والكواكب، ينظرون فيها ليتوصلوا إلى أن الله -تبارك وتعالى- إله واحد، وأنه هو الرب وحده، المعبود وحده، خالق كل شيء، والنظر والاستدلال على الله تبارك وتعالى بمخلوقاته يكون للذين يحصل لهم تردد وشك.
وبهذا يعرف بطلان استدلال المتكلمين بمثل هذه الآية على أن أول واجب على الإنسان هو النظر؛ لأن الله قال: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ، فالله ما أمر كل الناس بهذا، وإنما أمر به من يحتاج إليه، فالمؤمن المصدق الذي ليس عنده شك أن الله مثلاً أهلك المكذبين من الأمم الماضية لا نقول له: اذهب وانظر في مدائن صالح وكيف أهلكهم رب العالمين، لكن من كان في شك أو كان مكذباً يقال له مثل هذا.
حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَآءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف:110].
يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه، كقوله تعالى: وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [سورة البقرة:214] الآية، وفي قوله: كُذِبُوا قراءتان: إحداهما بالتشديد قد كُذِّبوا.
القراءة بالتشديد هي قراءة الجمهور، وقراءة التخفيف هي التي قرأ بها الكوفيون الثلاثة من القراء السبعة عاصم وحمزة والكسائي، بالتخفيف كُذِبُوا، وقراءة كُذَّبُوا بالتشديد لا إشكال فيها، حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ يعني: تأخر النصر، وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ بعضهم قال: الظن بمعنى العلم واليقين، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46] يعني يتيقنون، وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ أي: تيقنوا أن قومهم قد كذبوهم، إما بأنهم وعدوهم بالنصر فلم يحصل، بمعنى أنه تأخر، فيكون هذا في أتباع الرسل، فظنوا أن الرسل قد كذبوا عليهم، وإما أن يكونوا وعدوا أعداءهم بالعذاب، وأن الله يديلهم على عدوهم، فلم يحصل هذا، وتأخر وأبطأ عنهم، فقالوا لهم: أين ما تعدوننا به، وتخوفوننا به؟
وهذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول فيه إشكال إذ كيف يحصل من أتباع الرسل وهم أهل الإيمان، يقال: هذا مما يرد من الخواطر التي تقع في ذهن الإنسان وتهجم عليه من غير تطلب، ثم ما يلبث أن يدفعها فلا تضره، وهذا أحسن ما يقال فيه -والله تعالى أعلم، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فترد الواردات أحياناً على الإنسان في أوقات الشدة فيدفعها، وقد يحصل له بعض المخالفة في حال الفرح الشديد من غير قصد، مثل الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك[6]، وحديث الرجل الذي قال: إذا مت فأحرقوني ثم أذروني[7]، إلى آخره، حمله شيخ الإسلام ابن تيمية على أن هذا في حال الخوف الشديد، وكثير من أهل العلم على أنه أوصى بهذا بسبب الخوف الشديد، ولذلك غفر الله له، وهذا المعنى لا إشكال فيه.
والقراءة بالتخفيف كُذِبُوا قراءة متواترة وثابتة ولا تنكر إطلاقًا، والمعنى في هذه القراءة عند أهل العلم: أي ظن القوم أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، يعني هؤلاء الكفار ظنوا أنهم قد كذبوا، فحمل الضمير كُذِبُوا يعني: أن أقوامهم كذبوهم، وهذا فيه بعد، وبعضهم يقول: ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، فيكون هذا في الأتباع الذين آمنوا بالرسل.
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا يعني أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قد كذبوا عليهم، حيث لم يأت النصر الذي وعدوهم به، وهذا فيه بعد، وبعضهم يقول: إن الرسل -عليهم الصلاة والسلام، هم الذين ظنوا أنه قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينتصرون على الكافرين، وهذا أيضًا فيه بعد، والأقرب هو أن الأمر قد بلغ من الشدة غايته بحيث إن هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وردت عليهم هذه الواردات، لكنهم ما لبثوا أن دفعوها، وبهذا لا يضر الإنسان ما يرد عليه في أوقات الشدائد العصيبة، -والله تعالى أعلم.
ابن عباس -ا- يحمل قوله: كُذِبُوا على أن الظن وقع من الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وليس المقصود به أنهم وقع لهم شك، فضلًا عن أن يكون وقع لهم يقين بأن الله قد أخلف وعده، وإنما هي الخواطر والواردات التي ترد.
قال ابن جريج: وقال لي ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة -ا- أنها خالفت ذلك وأبتْه، وقالت: ما وعد الله محمدًا ﷺ من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة: كانت عائشة تقرؤها وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مثقلة من التكذيب. والقراءة الثانية بالتخفيف، واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس -ا- ما تقدم. وعن ابن مسعود فيما رواه سفيان الثوري عن عبد الله أنه قرأ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخففة، قال عبد الله: هو الذي تكره.
وعن ابن عباس -ا: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم، جاءهم النصر على ذلك فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ.
وروى ابن جرير عن إبراهيم بن أبي حرّة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا؟ قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلًا يدعى إلى علم فيتلكأ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلًا، ثم روى ابن جرير أيضًا من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني، وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد بن جبر وغير واحد من السلف، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إلى أتباع الرسل من المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم، أي وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا -مخففة- فيما وعدوا به من النصر. وأما ابن مسعود فروى جرير عن تميم بن حَذْلم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ: من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا بالتخفيف.
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىَ وَلَكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة يوسف:111].
يقول تعالى: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين.
ذكر الله خبر يوسف -عليه الصلاة والسلام- وذكر أخبار الرسل في القرآن، فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ففي خبرهم عبرة، فمن أهل العلم من يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ يعني: في خبر يوسف -عليه الصلاة والسلام- وإخوته، ولا حاجة لتخصيص ذلك بيوسف -عليه الصلاة والسلام- وإخوته.
يعني أنهم يعتبرون بذلك وما جرى لهم وما وقع من نصر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- على المكذبين، وما أشبه ذلك، والعبرة مأخوذة من العبور، فينتقل فيها الإنسان من النظر في أمر إلى غيره، فيحصل له مقصوده بذلك، فلا يقع في المحظور والمكروه، ينظر فيما وقع مثلًا لغيره فينتقل من ذلك إلى نفسه، فيقول: لو كنت مكانه لحصل لي مثل ما حصل له، فيعتبر.
ولهذا يقال: العاقل من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، وأنه إذا نظر الإنسان إلى ما حصل للمكذبين من العقوبات والعذاب والمثُلات، فإنه ينتقل من ذلك إلى نفسه، وأنه لو كان بهذه المثابة لحل به ما حل بهم، فيعرف قدر نعمة الله عليه، فيتجنب أسباب الهلاك، وما أشبه هذا، والأصوليون يذكرون مثل هذه المواضع محتجين بها على إثبات القياس؛ لأنه فيه نوع اعتبار، والله يقول: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [سورة الحشر:2]، فالقياس: هو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، ويقولون: العبرة أصلها بهذا المعنى، يعني تنتقل من الخد إلى العين، أو العكس.
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىَ أي: وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، أي يُكذب ويُختلق، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب المنزلة من السماء وهو يُصدّق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب -تبارك وتعالى- بالأسماء والصفات، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات؛ فلهذا كان هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز بالربح المُبْيضةُ وجوههم الناضرة، ويرجع المسودّة وجوههم بالصفقة الخاسرة.
آخر تفسير سورة يوسف ولله الحمد والمنة، وبه المستعان.
- رواه مسلم من حديث ابن عباس -ا- برقم (1185)، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها.
- رواه أبو داود برقم (3251)، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، وأحمد في المسند (9/276)، برقم (5375)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة محمد الكندي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6204).
- رواه أبو داود برقم (3885)، كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، وابن ماجه برقم (3530)، كتاب الطب، باب تعليق التمائم، وأحمد في المسند (6/110)، برقم (3615)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2972).
- رواه أبو داود برقم (3910)، كتاب الطب، باب في الطيرة، والترمذي برقم (1614)، كتاب السير عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الطيرة، وأحمد في المسند (6/213)، برقم (3687)، وقال: إسناده صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (429).
- رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ برقم (3)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (160).
- رواه مسلم من حديث أنس برقم (2747)، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها.
- رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري برقم (7069)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15].
- رواه البخاري برقم (4418)، كتاب التفسير، باب قوله حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ [سورة يوسف:110].