بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [سورة إبراهيم:22، 23].
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس -لعنه الله- يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم، وغبناً إلى غبنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ أي: على ألسنة رسله، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعداً حقاً وخبراً صدقاً، وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم، كما قال الله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً [سورة النساء:120]، ثم قال: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ أي: ما كان لي فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وعدتكم به إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه.
فَلا تَلُومُونِي اليوم وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج، واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي: بنافعيّ بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال.
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل، وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكاً لله ، وهذا الذي قاله هو الراجح، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5، 6]، قال: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [سورة مريم:82].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- عن قِيل الشيطان: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، يمكن أن يكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وَعْدَ الْحَقِّ، كقولك مثلاً: مسجد الجامع، ويمكن أن يكون فيه مقدر، تقديره: وعدكم وعد اليوم الحق، وهذا وإن كان قول البصريين من النحاة إلا أن الأصل عدم التقدير، ومتى ما أمكن أن يحمل الكلام على معنىً لا تكلف فيه يستغنى فيه عن التقدير فهو أولى، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ فلا يتبادر منه أن المقصود وعدكم وعد اليوم الحق.
وقوله -تبارك وتعالى- عن الشيطان يقول: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ أي: من حجة وتسلط، كما قال الله : وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، والأقوال التي قيلت في هذه الآية -آية الإسراء جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا- يمكن أن يجمع بين كثير منها، فيمكن أن يقال: حجة، ويمكن أن يقال: سُلْطَانًا أي: تسلطاً على هذا القاتل، أي أن الله جعل لولي القتيل سبيلاً على هذا القاتل، وهذا مع القول الذي قبله ليس بينهما منافاة؛ لأن هذا السبيل إليه والتسلط إنما كان بجعل الله له ذلك، فهذا هو السلطان.
وقوله: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ، قيل: حجة، وقيل بأنه تسلط، ولا إشكال، فهو دعاهم من أجل أن يقبلوا قوله، ويتبعوا ما أمرهم به، ولم يكن له حجة ولا برهان، وإنما غاية ما هنالك أنه دعاهم، وهكذا لم يكن له سبيل إلى قهرهم وإجبارهم، والله يقول: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [سورة الإسراء:65] أي: لا سبيل لك عليهم، وقال: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [سورة النحل:100]، فهؤلاء يهيمن عليهم الشيطان، ويغلبهم، ويقهرهم، وذلك بأنهم سلموا له قيادهم، كما قال الله : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [سورة المجادلة:19].
والأقوال التي قيلت في قوله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ صحيحة، ولا منافاة بين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ أي: قهرهم، أو ضمهم إليه، أو جمعهم إليه حتى صاروا من حزبه وبين أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ [سورة المجادلة:19]، وليس معنى ذلك أنه سُلط عليهم ابتداءً بما عنده من الحجج والقهر الحسي، وإنما الذين يتولونه ويطيعونه سلموا له قيادهم، فصاروا ينقادون له في كل ما يأمرهم به، فتمكن منهم وغلبهم حتى صاروا طوع البنان، ورهن الإشارة، لا يردون له طلباً، فصارت الشياطين تتلاعب بهم وتملي لهم، فكلما أمرتهم بشيء -مهما كان متناهياً في القبح والسوء والشر- فإنهم ينقادون ويفعلون، فتمكن منهم وغلبهم، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ نسأل الله العافية.
وقوله: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي "إلا": هذا الاستثناء يمكن أن يكون من قبيل المنقطع، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فدعوته لهم ليست من قبيل السلطان، والاستثناء المتصل: هو أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، والاستثناء المنقطع عكسه، فيكون المعنى: ولم يكن لي عليكم سلطان، لكن دعوتكم فاستجبتم لي، فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ.
ومما يدل على هذا ويقويه -والله أعلم- قوله: إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ، فـسُلْطَانٍ نكرة في سياق النفي، وقد سبقت بـ"مِن"، وإذا سبقت النكرة في سياق النفي بـ"مِن" فإن ذلك ينقلها من حيز الظهور في العموم إلى حيز التنصيص الصريح في العموم، وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بوجه من الوجوه، لكن دعوتكم فاستجبتم لي، -والله أعلم.
وقوله: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ، الصارخ: هو المستغيث، والمصرخ: هو المغيث المنقذ، والله يقول: فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ [سورة يــس:43] يعني: ليس لهم من ينقذهم ويخلصهم، تقول: سمع صارخاً، يعني مستغيثاً.
قوله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [سورة إبراهيم:22]، هذا يكون يوم القيامة، وهو الراجح، وليس هذا محل اتفاق من أهل العلم، فقيل: إن هذا يكون في القيامة قبل دخول النار، يعني في المحشر، لكن الظاهر -والله أعلم- أن هذا يكون بعد دخولها، فهؤلاء الذين يتلاومون ويتحاجّون من الأتباع والمتبوعين، هذا كله بعد دخولهم النار، نسأل الله العافية.
ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال وأن خطيبهم إبليس، عطف بمآل السعداء، فقال: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا، خَالِدِينَ فِيهَا ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [سورة الزمر:73].
وقال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [سورة الرعد:23]، وقال تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً [سورة الفرقان:75]، وقال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة يونس:10].
قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ تحية: مصدر، وقوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ يحتمل أن يكون بمعنى: ما يحييهم الله به، وهذا معنىً صحيح؛ لأن الله يقول: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58]، ويمكن أن يكون من قبيل تحية الملائكة لهم، كما قال الله : وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ [سورة الرعد:23، 24]، ويمكن أن يكون تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ أي: ما يحيي به بعضهم بعضاً، وهذا صحيح، فالسلام تحية أهل الجنة، فكل هذه المعاني صحيحة، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [سورة الأحزاب:44] والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [سورة إبراهيم:24-26].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً شهادة أن لا إله إلا الله، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو المؤمن، أصْلُهَا ثَابِتٌ يقول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد: إن ذلك عبارة عن عمل المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يُرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء.
هذه الطريقة في تفسير الأمثال: أن يفسر كل جزء من المثل وينزل على ما ضرب له المثل، هذه الطريقة عليها كثير من أهل العلم من أهل اللغة، والمفسرين، والطريقة الأخرى تفسر المثل بجملته، يقال: هذا مثل ضربه الله لكلمة التوحيد، وما لها من الآثار والمنافع والثبات وما يقابلها من كلمة الشرك التي لا أساس لها ولا أصل ولا ثبات، وإنما هي كلمة هشة، لا حقيقة لها ولا جذور، وليس عليها برهان ولا حجة، هكذا تفسير المثل بإجمال، وأصحاب هذه الطريقة يقولون: قد لا تكون كل جزئية في المثل يقصد بها أن تكون موضحة أو منزلة على جزء مما ضرب له المثل، والذين يفسرون الأمثال بالطريقة الأولى يفسرون كل جزء من المثل، وهذا يكون أدعى للاختلاف.
فالحاصل أن مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً مَن نظر إلى لفظة كَلِمَةً، والكلمة كما هو معروف: هي لفظة مركبة من الحروف الهجائية، إذا كانت غير مفيدة، فإنه يقال لها: لفظ؛ لأن اللفظ المراد به ما يلفظ، أي الملفوظ، فإذا قلت: ديز مثلاً مقلوب زيد فهذا لفظ، وأما الكلمة عندهم فتكون مفيدة، سواء كانت مفردة أو مركبة، تقول: زيد فهذا اسم غير مهمل -مثل ديز، وتكون مركبة أيضاً كما يقال: "كلمة" للخطبة أو المحاضرة، كما قال ابن مالك:
وكلمةٌ بها كلامٌ قد يُؤم |
أي: قد يقصد بالكلمة الكلام، تقول: فلان ألقى كلمة، فالحاصل أن الكلمة الطيبة، من نظر إلى لفظة كلمة قال: هي "لا إله إلا الله"، ومن نظر إلى المعنى قال: هي التوحيد، ولا منافاة، فبعض أهل العلم كابن جرير يقول: هي التوحيد، هذا مثل للتوحيد، والتوحيد يعبر عنه بـ "لا إله إلا الله"، فهذه الأقوال لا يحتاج إلى ترجيح بينها، فالكلمة الطيبة هي التوحيد، وهي الإيمان، وهي "لا إله إلا الله"، كل هذه الأقوال بمعنىً واحد، وترجع إلى شيء واحد، مثل هذه الكلمة في ثباتها وتأثيرها ونفعها وبركتها كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ جذورها عميقة، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ، فهذه ثلاثة أشياء.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام جيد في تفسير هذا المثل، فقال -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: "فشبه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع، وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين، يقولون: الكلمة الطيبة: هي شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مرضي لله فهو ثمرة هذه الكلمة، وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قال: كَلِمَةً طَيِّبَةً شهادة أن لا إله إلا الله كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ وهو المؤمن أَصْلُهَا ثَابِتٌ قول: "لا إله إلا الله" في قلب المؤمن، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وقال الربيع بن أنس: كَلِمَةً طَيِّبَةً هذا مثل الإيمان، فالإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه، وفرعه في السماء خشية الله.
والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن، فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علواً، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها.
فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللاً غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلاً، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر كَلِماً كثيراً طيباً، يقارنه عمل صالح، فيرفع العملُ الصالح الكلِمَ الطيب، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحاً كل وقت.
والمقصود: أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً متصفاً بموجبها قائماً قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء، وهي مخرجة ثمرتها كل وقت.
ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر -ا- في الصحيح[1]، ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه، كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس -ا- قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ يعني بالشجرة الطيبة: المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء: بكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض"[2].
وهذه الرواية ضعيفة لا تصح بحال من الأحوال.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وقال عطية العوفي في قوله: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ قال: ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله، وقال الربيع بن أنس: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له، أَصْلُهَا ثَابِتٌ قال: أصل عمله ثابت في الأرض، وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ قال: ذكره في السماء، ولا اختلاف بين القولين، والمقصود بالمثل: المؤمن، والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها، وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك، ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة"[3]أ. هـ.
والقول بأنها المؤمن فيه بُعد، والأقرب هو القول بأنها لا إله لا إله، أو أنها التوحيد، لكن بين القولين نوع ارتباط، باعتبار أن لا إله إلا الله لها أثر على هذا المؤمن حيث صار بهذه المثابة من العمل، والجد والاجتهاد في طاعة الله ، ولا يصدر منه إلا كل قول حسن، كما قال الله : وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النــور:26]، وقال: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [سورة النــور:26].
يقول ابن جرير: إن الكلمات الطيبات للطيبين من الناس، والكلمات الخبيثات للخبيثين من الناس، فإذا قالها أهل الإيمان نفعتهم الكلمات الطيبة، إن صدرت منهم نفعتهم، وإن صدرت من الكافرين من الخبيثين لم تنفعهم، وإذا صدرت الكلمات الخبيثات في حق أهل الإيمان لم تضرهم، وهو أحد المعاني الداخلة تحتها؛ لأن ذلك يشمل الذوات، والآية نزلت في قضية الإفك، وتبرئة عائشة -ا، فالطيبات من الذوات ومن الأقوال والأعمال، والله تعالى أعلم.
والكلمة في قوله: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ هي كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، والله تعالى أعلم، ومُثلت بالشجرة الطيبة التي تكون بهذه المثابة، وأولى ما تصدق عليه هذه الشجرة هي النخلة، لكن ذلك لا يختص بها في ظاهر اللفظ، وإنما ضرب بمثل؛ لأن من الأشجار ما يكون طيباً، ومنه ما يكون خبيثاً، لا ثبات له، وليس له ثمرة ينتفع بها كالحنظل مثلاً.
- رواه البخاري برقم (131)، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، ومسلم برقم (2811)، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن مثل النخلة.
- الأمثال في القرآن الكريم (36-37)، للإمام ابن القيم، تحقيق: إبراهيم بن محمد، مكتبة الصحابة - طنطا، ط1، سنة النشر:1406هـ، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/103-104)، دراسة وتحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر- القاهرة- سنة النشر:1388هـ.
- الأمثال في القرآن الكريم (37) للإمام ابن القيم، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/104).