الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} الآية 22 إلى قوله تعالى: {مِن نّارِ السّمُومِ} الآية 27.
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2589
مرات الإستماع: 2268

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تتمة تفسيره لقوله تعالى:

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [سورة الحجر:22].

وقوله: فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ أي: أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه، لو نشاء جعلناه أجاجاً، كما نبه على ذلك في الآية الأخرى في سورة الواقعة، وهو قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ۝ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [سورة الواقعة:68-70]

وفي قوله: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [سورة النحل:10]، وقوله: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ أي: وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله مَعيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: ”أي: أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه“، ومن أهل العلم من يفرق بين هذه اللفظة ”أسقيناكم“ وبين ”سقيناكم“، فيقول: أسقاه بمعنى أعطاه، يعني من الماء ما يكفيه لشربه ولزرعه وبهائمه وما إلى ذلك، كأن يُجري له نهراً أو ينزل له المطر أو غير ذلك، فأسقاه أبلغ وأكثر من سقاه، تقول سقيته ماءً يعني أعطيته قدر ما يرتوي به، وأسقيته أي جعلت له سقيا من نهر، أو مطر، أو بحيرة، أو غير ذلك، مما ينتفع به أكثر من مجرد ما يرتوي به من كأس ماء أو نحو ذلك.

ومن أهل العلم من لا يرى فرقاً بينهما، والذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها ظاهر بأنه يريد أن الله -تبارك وتعالى- إذا أنزله فإنه يحفظه لهم في باطن الأرض، وبعد ذلك يستخرج بالآبار، فلا يذهب ويضيع فلا ينتفعون به، والناس لا يستطيعون هذا، وهم أضعف من أن يفعلوا ذلك، وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ.

ويدل على هذا المعنى قوله -تبارك وتعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [سورة المؤمنون:18] بمعنى أنه جعل الأرض محلاً وظرفاً ووعاءً له تستخرجونه وقت حاجتكم، والمعنى الثاني: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ أي: ليست خزائنه عندكم في أيديكم، وإنما خزائنه عند الله ، فهو الذي ينزل منه ما يشاء، ويصرفه عمن يشاء، فخزائن الرزق عند الله ، وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، ويدل له قوله -تبارك وتعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ [سورة الحجر:21]، وكذلك أيضاً وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المنافقون:7]، والآية تحتمل المعنيين.

وقوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [سورة الحجر:23] إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع، وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم.

الله -تبارك وتعالى- يرث الأرض ومن عليها كما قال الله : إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [سورة مريم:40] بمعنى أن كل شيء يرجع إليه، فالله -تبارك وتعالى- هو الوارث، وما بأيدي الخلق إنما هو عارية، ثم بعد ذلك يرجع إلى المالك المعبود .

فقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ [سورة الحجر:24] الآية، قال ابن عباس -ا: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم ، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم.

وروى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر، عن أبيه: أنه سمع عون بن عبد الله يذاكر محمد بن كعب في قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ الميت والمقتول، والْمُسْتَأْخِرِينَ من يخلق بعد، وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الحجر:25]، فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيراً.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، ثم قال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ[سورة الحجر:25]، ما قبلها وما بعدها يوضح المراد، فقوله: عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ أي: مَن مضى، بعض السلف يقول: الأمم المتقدمة، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني: هذه الأمة.

ويمكن أن يفسر بما هو أعم من هذا فيقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ أي: من مضى من الأمم والأفراد ممن هلك وفارق الحياة، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني: الذين لا زالوا على قيد الحياة، أو أولئك الذين سيوجدون بعد ذلك، ثم قال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ يجمع الأولين والآخرين، كما قال الله : قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ۝ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [سورة الواقعة:49، 50]. 

فاستعمال مثل هذه الجملة في القرآن يرد لهذا المعنى في المتقدمين والمتأخرين في الوجود والحياة، والله  يقول: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ [سورة الأحزاب:23]، قَضَى نَحْبَهُ جميع الأقوال التي قيلت فيها -والله تعالى أعلم- ترجع إلى شيء واحد، والمقصود أنه قَضَى نَحْبَهُ يعني: مات على الصدق والوفاء، وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ أي: لا زال على قيد الحياة، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، -والله تعالى أعلم.

ومن أهل العلم من يقول: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ أي: في فعل الخيرات، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الذين يتباطئون ويتثاقلون، وبعضهم يقول: في صف القتال، مستقدمين في صف القتال.

وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”عن عون بن عبد الله أنه ذاكر محمد بن كعب -يعني القرضي- في الآية، وأنها في صفوف الصلاة، وقال محمد بن كعب: ليس هكذا، وإنما الميت والمقتول“، يعني من مضى وفارق الحياة ومن بقي، ولما قال له محمد بن كعب القرضي: إن القرينة تدل على هذا، ”فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيراً“، يعني كأنه حل الإشكال.

جاء في الحديث عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أنها في صفوف الصلاة، والحديث صححه جماعة، منهم الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني -رحمهما الله- وأن المقصود بالمتقدمين والمتأخرين أنه كانت تصلي في مقدم صفوف النساء امرأة جميلة، كما جاء عن ابن عباس -ا، فكان بعضهم يتقدم من أجل أن لا يراها، يصلي في الأمام، وبعضهم يتأخر؛ من أجل أن ينظر إليها إذا ركع، وهذا صح إسناده، لكنه من أشكل المواضع في التفسير، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- أورد هذه الرواية في الأصل وقال: ”وهذا فيه نكارة شديدة“.

وبعض الذين يحققون ويكتبون استغربوا من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا القول وردوا عليه، وهم إنما ينظرون إلى الإسناد، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ينظر إلى المتن فرأى أن فيه نكارة؛ لأن السياق لا يدل على هذا إطلاقاً لا من قريب ولا من بعيد، فلو نظرنا إلى السياق لا يفهم منه أنه في صف الصلاة من أجل النظر إلى المرأة، إذ كيف يحصل هذا ممن رسول الله ﷺ في أوسطهم وهو إمامهم ويصلي بهم، وزكت نفوسهم بالقرآن، فهل يظن بأصحاب رسول الله ﷺ أنهم يأتون ويصلي منهم من يصلي آخر الصف؛ من أجل أن ينظر لهذه المرأة وهو راكع بين يدي ربي العالمين في هذه اللحظات، هذا لا يفعله أراذل الناس أو أسفه السفهاء، ثم إذا وقع هذا فالنبي ﷺ مستحيل أن يترك من يعمل هذا من غير تأديب؛ فلهذا استنكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على ما هو أعم من ذلك، ولم يحملها على هذا المعنى بخصوصه.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ ۝ وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ [سورة الحجر:26، 27].

قال ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة: المراد بالصلصال ههنا التراب اليابس، والظاهر أنه كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ۝ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [سورة الرحمن:14، 15]، وعن مجاهد أيضاً: الصلصال المنتن، وتفسير الآية بالآية أولى.

قوله: مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ أي: الصلصال من حمأ، وهو الطين، والمسنون: الأملس.

مما تميز به تفسير ابن كثير -رحمه الله- تفسير القرآن بالقرآن، فالصلصال، إذا ضربته فإنه يكون له صلصلة؛ ولهذا قال بعضهم: الصلصال هو الطين المخلوط بالرمل إذا يبس فإنه يصلصل إذا ضرب، وبعضهم يقول: هو الطين اليابس، أو الطين الدقيق الناعم إذا ضربته بعد أن ييبس يُصوّت، وهذا الذي اختاره عامة المفسرين، وهو قول المحققين منهم، واختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وجماعة، ومن المعاصرين الشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي.

هذا الصلصال، فإذا طبخ في النار فإنه يكون فخاراً، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن خلق الإنسان أنه من تراب، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ [سورة آل عمران:59]، فهذا بدء الخلق، وأخبر أنه خلقه من طين، فهذا التراب لما بُلّ بالماء صار طيناً، ثم ترك فتغير فصار حمأً مسنوناً متغيراً، يميل إلى السواد، ثم بعد ذلك يبس فصار صلصالاً كالفخار، هذه أطوار خلق الإنسان، وقد ذكر الله في كل موضع صفة تصدق على طور من أطواره، فالتراب باعتبار الأصل الأول، والطين مرحلة، والصلصال مرحلة، والله أعلم.      

ومجاهد -رحمه الله- يقول: ”الصلصال هو المنتن“، وهذا له أصل في كلام العرب، يقول: صلَّ اللحم إذا أنتن، مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وفي آية الكهف وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] أي: متغيرة، وبعضهم قال: أي: منتنة، والمتغير يسميه الناس غَرَباً، ففي موضع الماء الذي يجتمع فيه ويطول مكثه، يتغير لونه تارة يكون إلى الخضرة، وتارة بلون التراب، وتارة يميل إلى السواد، وهذا الذي يميل إلى السواد هو المنتن، فهذا الحمأ، فهذا توجيه لقول مجاهد -رحمه الله: إن الصلصال هو المنتن بهذا الاعتبار.

وقوله: مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ”أي: الصلصال من حمإ وهو الطين“، وبعضهم يقيده ويقول: الطين الأسود، وبعضهم يقول: الطين المتغير، ولا منافاة، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وبعضهم يقول: أصل ذلك أنك إذا حككت حجرين ببعضهما فما يكون منهما من فتات هو المسنون، يقال: وهذا مسن، للآلة التي تحد بها السكين أو السيف أو نحو هذا، ويقال: سننت الحجر، بمعنى حككته، ويقال: أسن الماء إذا تغير، وبه فسر بعضهم قوله تعالى: مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ[سورة محمد:15] يعني: غير متغير، فالماء إذا بقي مدة طويلة يتغير، وبعضهم يفسره بالمصبوب، وبعض أئمة العربية كسيبويه -رحمه الله، يقول بأن الحمأ المسنون هو المصوَّر، وبعضهم يجمع بين المعنيين فيقول: صُبَّ بطريقة صُوّر فيها، وبعضهم يقول: طويل يقال: وجه مصلول للوجه الطويل، وهذا يرجع إلى المصوَّر، كل هذه الأقوال ترجع إلى هذا المعنى، المصوَّر، والظاهر المتبادر أن المقصود به -والله تعالى أعلم- الطين المتغير.

وقوله: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل الإنسان مِن نّارِ السّمُومِ قال ابن عباس -ا: هي السموم التي تقتل.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمر الأصم أعوده، فقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من عبد الله بن مسعود، يقول: هذه السَّموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، ثم قرأ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ.

وقد ورد في الصحيح: خُلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم[1]. والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدم وطيب عنصره وطهارة محتده.

قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -ا: ”هي السموم التي تقتل“، أصل السموم هي الريح الحارة التي تتخلل المسام، ولهذا سميت بهذا الاسم، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”طهارة محتده“ يعني طهارة أصله، وطهارة معدنه، والله أخبر عن خلق الجن فقال: مِن نّارِ السّمُومِ يعني: الحارة، وأخبر أنه خلق الجان من مارج من نار، والمارج: هو أعلاها، ما يكون في أعلى النار؛ ولهذا أخذ منه بعض أهل العلم أن الجن كما يقول شيخ الإسلام: فيهم خفة أعظم مما في الإنس.

والعلماء لما ردوا على إبليس في قياسه الفاسد قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12] ردوا عليه من عدة أوجه، من ضمن الأوجه التي ردوا عليه فيها أنهم قالوا: إن الطين أشرف من النار، فالطين تضع فيه الحبة وتخرج سنبلة، والنار لا تضع فيها شيئًا إلا أحرقته، فهي تتلف، ثم الطين فيه من الرزانة ما ليس في النار، إلى غير ذلك من الوجوه التي ردوا عليه فيها.

فالشاهد أن الجن خلقوا من مارج من نار، ولا شك أن أصل آدم أشرف وأفضل من أصل إبليس، والله  عليم حكيم، ولهذا كان في البشر من الرزانة ما ليس في الجن، وفيهم من الهداية والاستقامة والعلم، وفيهم النبوة، والصلاح فيهم أعظم وأكثر مما هو في الجن، والله تعالى أعلم.

  1. رواه مسلم برقم (2996)، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة.

مواد ذات صلة