الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} الآية 1 إلى قوله تعالى: وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} الآية 9.
تاريخ النشر: ١٢ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 3059
مرات الإستماع: 2771

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة النحل وهي مكية.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة النحل:1].

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبراً بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:1]، وقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر:1]. وقوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي: قرُبَ ما تباعد فلا تستعجلوه، كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة العنكبوت:53، 54].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، مَن نظر إلى صيغة الماضي وأراد أن يفسر الكلام بمقتضاها قال: أَتَى أَمْرُ اللّهِ يعني التكاليف، أي ما يؤمر الله به عباده، من الحلال والحرام، ولكن هذا وإن قال به بعض السلف مراعيًا لظاهر اللفظ إلا أنه بعيد؛ وذلك أن أحدًا لم يستعجل هذه الفرائض والأحكام والأمر والنهي حتى ينزل فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، والقاعدة: "أنه يعبر بالماضي عن المستقبل إيذانًا بتحقق الوقوع"، فما كان متحقق الوقوع بلا مرية فقد يعبر عنه بالماضي، أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، فهو آتٍ لا محالة.

كقوله -تبارك وتعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [سورة الأعراف:50]، وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [سورة الأعراف:48]، وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [سورة الأعراف:44]، وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ... [سورة غافر:49]، وما أشبه ذلك وهو كثير في القرآن، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [سورة ق:20]، كل هذا عبر فيه بالماضي عن أمر في المستقبل، ولا إشكال في هذا، وهو الذي عليه عامة المفسرين.

وبعضهم فسره بهذا الأمر المنتظر أي: القيامة، كما دل عليه ظواهر القرآن في مواضع متعددة، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [سورة الشورى:18] يعني: الآخرة، الساعة، يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [سورة النازعات:42]، كانوا كثيرًا ما يسألون عنها، ويستعجلون بها، وممن فسروه بأنه يتعلق بأمر مستقبل عُبر عنه بالماضي يقول: هذا الذي استعجلوه هو العذاب، كما قال الله : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [سورة الحـج:47]، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [سورة الرعد:6]، وقالوا: عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا [سورة ص:16] يعني: نصيبنا، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16]، وما شابه ذلك في كتاب الله ، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

والأقرب -والله أعلم- أن قوله: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1] أي: الساعة، فهي قريبة، والله يقول: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [سورة الأحزاب:63] وكذلك النبي ﷺ يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين[1].

وروى ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي منادٍ فيها: يا أيها الناس، فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم، ومنهم من يشك، ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس، فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم، ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه، قال رسول الله ﷺ: فوالذي نفسي بيده، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدًا، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئًا أبدًا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدًا قال: ويشتغل الناس[2].

ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد، تعالى وتقدس علوًا كبيرًا، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوَاْ أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتّقُونِ [سورة النحل:1، 2].

يقول تعالى: يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ أي: الوحي، كقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [سورة الشورى:52]، وقوله: عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وهم الأنبياء، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124].

وقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75]، وقال: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ۝ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر:15، 16].

وقوله: أَنْ أَنْذِرُوا أي: لينذروا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ أي: فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.

قوله: يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ أحسن ما فسر به هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهو أنه الوحي، الله  سمى الوحي بالروح؛ لأنه يحصل به حياة الأرواح والنفوس، كما تحصل حياة الأبدان بالطعام والشراب، كقوله: لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [سورة غافر:15]، قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ [سورة الأنبياء:45] ينزلهم بالروح للإنذار، لينذروا بهذا الروح الذي أنزله.

وقوله -تبارك وتعالى: يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [سورة النحل:2] "من" هذه يمكن أن تكون بيانية، يعني بأشياء، ويمكن أن تكون تبعيضية، يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، وتكون ابتدائية كقوله: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء [سورة الرعد:17]، أي مبتدًا.

خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ ۝ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ [سورة النحل:3-4].

يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث، بل لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم:31] ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره، وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، ثم نبه على خلق جنس الإنسان، مِن نّطْفَةٍ أي: مهينة ضعيفة، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبدًا لا ضدًا، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ۝ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [سورة الفرقان:54، 55].

وقوله: أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ۝ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [سورة يس:77-79]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش قال: بصق رسول الله ﷺ في كفه، ثم قال: يقول الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق، وأنى أوان الصدقة؟[3].

قوله: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ، خلقًا متلبسًا بالحق، أي ليس عبثًا، وللآية نظائر في القرآن، خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ، النطفة معروفة، وتقال للشيء القليل من الماء، خَصِيمٌ مُّبِينٌ يحتمل أن يكون المعنى أنه خصيم أي يخاصم في ربه -تبارك وتعالى، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله، يجادل في وحدانية الله، ويكذب رسله، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- في تفسيرها والذي عليه عامة أهل العلم.

والمعنى الآخر الذي تحتمله هو فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ أي: يخاصم ويجادل، ويبين عما في نفسه، فهو شديد الخصومة، وكثير الخصومة، ولو قيل: إن الآية تصدق على هذا وهذا، لم يكن ذلك بمستبعد، والله أعلم.

وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ۝ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ [سورة النحل:5-7].

يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة؛ ولهذا قال: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وهو وقت رجوعها عشيًا من المرعى فإنها تكون أمَدّه خواصر وأعظمه ضروعًا وأعلاه أسْنمةً، وحِينَ تُرِيحُونَ أي: غدوة حين تبعثونها إلى المرعى، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها.

إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل، كقوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [سورة المؤمنون:21-22].

وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون ۝ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ۝ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [سورة غافر:79-81]؛ ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أي: ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم، كقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ۝ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [سورة يس:71-72].

وقال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [سورة الزخرف:12، 13]، قال ابن عباس -ا: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ أي: ثياب، وَمَنَافِعُ ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة.

قوله: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا الأنعام: أكثر ما يطلق ذلك على الإبل، وهذا اللفظ أيضًا يصدق على الأنواع التي ذكرها الله في سورة الأنعام: الإبل والبقر والغنم بنوعيه، كلها يقال لها أنعام، قال: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ قال ابن عباس -ا: إن الدفء الثياب، يعني ما يصنع من أوبارها وأصوافها وأشعارها مما يحصل به الدفء، ويتقي فيه الإنسان البرد، وهذا هو الظاهر.

وبعضهم حمل الدفء على معنىً أوسع من هذا، فحمله على ما يحصل منها من مشروب ومأكول، ونحو ذلك، وليس هذا هو المتبادر عند إطلاق هذه اللفظة، والقرآن إنما تُحمل معانيه على الظاهر المتبادر، لا سيما وأن الله قال بعده: وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، فما يستخرج منها من الألبان والأزباد وما شابه ذلك مما يستخرجونه من ألبانها كالأجبان والأَقِط ونحوها، فإن ذلك داخل في قوله: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وبقية الأشياء كأكل لحومها ذكرها الله بالمنافع، هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَحِينَ تَسْرَحُونَ يعني: وقت الرواح هو في آخر النهار من المرعى، وقدّمه -مع أن الخروج حينما تسرح إلى المراعي يكون في أول النهار- لأنه أكمل في الحالة والصورة، فهي تغدو وتسرح وهي ضامرة البطون، ثم ترجع في آخر النهار وهي أمَدّ ما تكون خواصر وأملأ ما تكون ضروعًا، وهذا إنما تقوم عليه معايشهم، ومن يزاولون هذه الأنعام اليوم يطربون لرؤية هذه البهائم وهي ممتدة الخواصر، وقد امتلأت ضروعها بالألبان، فهذا شيء يحرك نفوسهم ويبهجها ويطربها؛ ولهذا -والله أعلم- قدم الرواح وهو الرجوع في آخر النهار على الذهاب في أوله، فالرواح يكون من المرعى إلى حظائرها والأماكن التي يكون بياتها فيها؛ ولهذا يسمى المكان الذي تبيت فيه المراح؛ لأنها تروح إليه أو تُراح إليه في وقت العشي، فهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير ومشى عليه كثير من المفسرين.

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ يقولون: حينما تكون في حظائرها الناس لا يشاهدونها ولا ينظرون إليها ونحو ذلك، وهكذا حينما تكون متفرقة في المرعى، لكن عندما تخرج مجتمعة، أو حينما تكون راجعة تكون مجتمعة، سواء كانوا من أهل البادية أو من أهل القرى، فأهل البوادي تجتمع عندهم في المراح، وتخرج سارحة وهي مجتمعة، ثم بعد ذلك تتفرق في المرعى وهم لا يشاهدونها في المرعى أصلًا، ثم إذا جاءت في العشي كانت مجتمعة مسرعة وترجع من نفسها، فلو أن الراعي غفل عنها، أو نام، أو أصيب بشيء، تأتي لوحدها وتعرف طريقها، فتأتي مسرعة مندفعة، ثم تتفرق في الحظائر، وتعرف كل واحدة بيت أهلها، فتنطلق إليه مسرعة، فتتفرق، فمنظرها حينما تكون ذاهبة وآتية مجتمعة.

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، فذكر هذين الحالين، ومن أهل العلم من حمل الجمال وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ على معنىً آخر وهو وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ أي: تتجملون أنتم بها، بمعنى أنكم تترفعون، وإنما تكون مكانة الإنسان ومنزلته في نظر الكثيرين بما له من مال وأنعام فيحصل لهم بذلك رفعة ومكانة في نفوس كثير من الناس، وعند أنفسهم أيضًا، فملكية هذه الأنعام تعود على صاحبها بشيء من الرفعة، وأشعار العرب كثيرة في هذا، وتفاخرهم بما عندهم من الأنعام.

وبعض أهل العلم حمل الجمال على ما يحصل لهم من التجمل بما ملكوا من هذه الأنعام؛ لأنها هي أموالهم، فهذه أموال ظاهرة يراها الناس، بخلاف الأموال الباطنة التي لا يطلع عليها أحد.

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:8].

هذا صنف آخر مما خلق -تبارك وتعالى- لعباده يمتن به عليهم، وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها، وذلك أكبر المقاصد منها، وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -ا- قال: نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل[4].

ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله ﷺ عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل[5]، وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر -ا- قالت: نحرنا على عهد رسول الله ﷺ فرسًا فأكلناه ونحن بالمدينة[6].

هذه الأحاديث التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- باعتبار أن من أهل العلم من فهم أن الخيل لا يجوز أكلها؛ لأن الله لما ذكر الأنعام قال: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [سورة النحل:5]، وذكر الخيل مع البغال والحمير ولم يذكر الأكل، وإنما قال: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، ما قال: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، فقالوا: إن حكم الخيل هو حكم البغال والحمير، لا يؤكل منها، وإنما للركوب والزينة فقط، فاحتجوا بأمرين من هذه الآية:

الأول: دلالة الاقتران، قرنها مع البغال والحمير.

والثاني: أن الله لم يذكر الأكل، وإنما ذكر الركوب والزينة بخلاف الأنعام، فقالوا: فرَّق بينهما.

والواقع أنه لا دليل في واحد منهما، أما دلالة الاقتران فهي دلالة ضعيفة عند الأصوليين لا يحتج بها، وحينما ذكر الله الركوب والزينة، يمكن أن يحتج بأنه سبحانه لم يذكر في الآية السابقة الركوب، وعليه يمكن أن يقال: لا يجوز ركوب الأنعام بما في ذلك الإبل، والعلماء اختلفوا في البقر هل يجوز الحمل عليها والركوب؟ وفي الحديث: "الرجل الذي كان يركب بقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا"[7]، فأخذ منه بعض أهل العلم أن البقر لا يجوز ركوبها ولا الحمل عليها.

ولكن هذا يختلف، فمن الأبقار ما لا يحتمل ذلك، ومنها ما تكون بهيئة عظيمة كما في بعض أنواعها وفصائلها كالجواميس ونحوها يحمل عليها الأثقال، ويركب عليها الناس في بعض البلاد ولا يضرها، فالشاهد أنه لما ذكر الأنعام ما ذكر الركوب، مع أنه لا إشكال في ركوبها إطلاقًا، والآيات واردة في هذا المعنى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [سورة المؤمنون:21-22]، وَعَلَيْهَا يعني: الأنعام، فذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ركوبها، وهكذا في قوله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ۝ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ [سورة غافر:79-80]، تنتقلون إلى البلاد البعيدة، تحملون الأثقال، وتقطعون المسافات، ولم يذكر في آية النحل الركوب في الأنعام.

فإذا أردنا أن نحتج أو نستدل على هؤلاء الذين قالوا: إن الخيل لا يجوز أكلها بناءً على أن الله ذكرها هنا وذكر المنفعة التي تحصل وتستخرج منها وهي الركوب والزينة، فنقول: هناك لم يذكر الركوب، فلا يقال: لا يجوز ركوب الأنعام؛ لأن الله لم يذكره، فذِكْر بعض المنافع في موضع وترْك بعضها لا يعني أن ذلك ليس من منافعها وأنه لا يسوغ ولا يجوز، ووردت أحاديث تدل على جواز أكل لحوم الخيل، والله -تبارك وتعالى- في هذه الآية لما ذكر الأنعام قال: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، ذكر هذين الوقتين، والجمال فسر بامتداد خواصرها وامتلاء ضروعها.

والمعنى الثاني جَمَالٌ أنكم أنتم تتجملون؛ لأن هذه أموال ظاهرة ويراها الناس، ولما ذكر الخيل والبغال والحمير قال: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَزِينَةً يعني: تتزينون بركوبها، ولا شك أن أجمل هذه المذكورات جميعًا هو الخيل، ولما ذكر الله هذه الثلاثة الخيل والبغال والحمير ذكرها مرتبة من الأعلى إلى الأدنى، فالخيل أجمل وأشرف ثم البغال ثم بعد ذلك الحمير، ومن حيث القوة والتحمل أقواها الحمار، ولهذا يكنى بأبي صابر، ثم يليه بعد ذلك البغل، وهو قوي جدًا أقوى من الخيل من ناحية التحمل، ثم بعد ذلك يأتي الخيل، فهي بالنسبة للقوة مرتبة من الأدنى إلى الأعلى، وبالنسبة للجمال والشرف مرتبة من الأعلى إلى الأدنى.

وبالمناسبة فقد ظهرت الاحتفالات التي تسمى مزايين الإبل، وهذه ليست مسابقة فقط بين الجميلات من الإبل بل يجمع لها الأموال الهائلة، فبعض القبائل جمعت أكثر من سبعين مليونًا، وبعضهم رصف طريقًا مُضاءً في الصحراء إلى المكان الذي تقام فيه المسابقة مع أن المسافة شاسعة، وسمعت أن بعضهم يحمِّل السيارة الكبيرة أغنامًا ويدور على المخيمات ويعطيهم، ولا يمر أحد إلا ويدعى من الخيام للحم إن شاء أن يأكل مما صنع، وإن شاء أن يأخذه نيئًا لم يطبخ، فتصرف أموال هائلة، وسيارات وهدايا بأغلى الأثمان على الجميلة من الإبل.

ولا فخر في هذا، فالإبل لا تعرف بالجمال، إنما الجمال في الخيل، وما ذكره الله فيها من الجمال على معنيين -حينما تكون سارحة أو راجعة: امتداد خواصرها أو امتلاء ضروعها، وليس في هيئتها أنها جميلة تعشقها الأنظار ونحو ذلك إطلاقًا، وما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- أنها جمال لأهلها بمعنى أنهم يرتفعون بامتلاك الأنعام؛ لأنها أموال العرب، والمقصود أن مثل هذه التصرفات خلاف الدين، فإن الله نهى عن إضاعة الأموال.

ثم هذه الأموال المصروفة لا فائدة منها للبهائم ولا للآدميين، ولا للمجتمع، وإنما فيها تفكيك المجتمع، وإحياء القبليات والنعرات الجاهلية، حتى عند الأطفال، فهم يتناقلون أشعارًا نبطية، والرموز المكتوبة على السيارات، وعلى الشوارع وعلى الجدران ترمز إلى قبائل، ونحن إذا شاهدنا تلك الرموز لا نعرفها، لكن نسمع من الصغار من يقول: هذا القبيلة الفلانية، وهذه القبيلة الفلانية، فضلًا عن الكبار، فكيف يفتخر بالقبيلة وما أشبه ذلك، والنبي ﷺ قال: دعوها فإنها منتنة[8]، وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟، لما قال رجل: يا للمهاجرين، وقال آخر: يا للأنصار[9]، مع أن هذه أسماء شرعية.

فهذا رد للناس إلى مآثر الجاهلية وافتخارها بالأحساب والأنساب، والنبي ﷺ أخبر أن ذلك مما يبقى في هذه الأمة، لا يتركونه من أمر الجاهلية، وهذا يعيدها فتيّة، وأصبح كثير من الناس يتناقلون في جوّالاتهم قصائد هذه القبيلة في هذه القبيلة، وهذه القبيلة في هذه القبيلة، ثم إن الخيل معروفة بالجمال وهي أحق وأولى بأن يقام لها مزايين، ولا تُهوّن من أمر الحمير والبغال، فربما تحتاج أيضًا أن يقام لها مزايين، فالله ذكرها كلها وذكر الزينة بعدها، فضلًا عن البقر والشياه وغيرها، والقبائل الذين يربون البقر، ويربون الأغنام وليسوا بأهل إبل، هؤلاء تجدهم يتنافسون على الأقل فيما بينهم بمزايين البقر أو مزايين الغنم، فتخصيص الإبل بالمزايين تخصيص بلا مخصص، يعني بلا موجب، وتفريق بلا مفرق، وإلا فكما قيل:

ما ثم غير مشيئة قد رجحت مثلًا على مثل بلا رجحان

فمثل هذه الأشياء يجب إنكارها وبيان خطر هذا على المجتمع، وعلى الأمة، ولسنا بحاجة إلى مزيد من الفرقة والانقسام، والله المستعان.

وقوله: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، كثير من المفسرين يقولون: المقصود به: من المخلوقات من دواب البحر، والوحش، والديدان، والكائنات الحية بجميع أنواعها، مما نعرفه وما لا نعرفه، وما يمكن مشاهدته بالعين المجردة وما لا يمكن مشاهدته، فهذه عوالم لا زال الناس يكتشفون منها أشياء وأشياء إلى يومنا هذا.

وبعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يقول: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني من المركوبات؛ لأن السياق في ذكر المراكب، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من المركوبات، يقول: وذلك مثل القطارات والطيارات والسيارات وغير ذلك من المراكب المتنوعة.     

وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [سورة النحل:9]، لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية، نبه على الطرق المعنوية الدينية، وكثيرًا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26]، ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبيّن أن الحق منها ما هي موصلة إليه، فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ كقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153]، وقال: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [سورة الحجر:41].

قال مجاهد في قوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ قال: طريق الحق على الله، وقال العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ يقول: وعلى الله البيان، أي يبين الهدى والضلالة، وكذا رَوى علي بن أبي طلحة عنه، وكذا قال قتادة والضحاك، ولهذا قال تعالى: وَمِنْهَا جَائِرٌ أي: حائد مائل زائغ عن الحق.

قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، قَصْدُ هذه صفة، والسَّبِيلِ موصوف، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، يعني السبيل القاصدة، الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، فحينما يقال: قصد السبيل يعني السبيل القاصد، يعني: أنها توصل إلى الله ، والسبل: هي بُنيّات الطريق، كما خط النبي ﷺ خطًا مستقيمًا وخط خطوطًا صغارًا فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل[10]، وقرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153]، وهو الصراط الذي نطلبه من الله في: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:6-7]

وهذا المعنى هو الذي اعتمده الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهو الذي اختاره ورجحه صاحب الأضواء، ويحتمل أن يكون وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ سبيل القصد والاستقامة: يعني بيانها وإيضاح معالمها للناس، فالله بيّنها وجلاها ووضحها، والمعنيان مذكوران في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [سورة الليل:12]، وهذا المعنى: أن على الله البيان وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

وَمِنْهَا جَآئِرٌ أي: حائد مائل زائغ عن الحق، قال ابن عباس -ا- وغيره: هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وقرأ ابن مسعود -: وَمِنْكم جَآئِرٌ.

قوله: وَمِنْهَا جَآئِرٌ، ذكر الحافظ أن الضمير يرجع إلى الطريق، أي السبيل وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ يعني: من السبل ما هو منحرف وجائر، خارج عن طريق القصد وعن الصراط المستقيم، هذا هو المعنى المشهور المتبادر، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وَمِنْهَا جَآئِرٌ من السبل ما هو منحرف لا يوصل إلى الله -تبارك وتعالى، وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ [سورة الأنعام:153].

وقال الحافظ -رحمه الله: "وقرأ ابن مسعود {وَمِنْكم جَآئِرٌ}" وهي قراءة منقولة عن علي ، وليست بمتواترة، وَمِنْهَا جَآئِرٌ قال: وَمِنْكم جَآئِرٌ، هذا موافق للقول بأن السبيل عُبر بها عن سالكيها، وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ أي: ومن سالكيها جائر، من هو الجائر؟ هوالحائد عن طريق القصد والاستقامة، فيكون هذا موافقًا له، وَمِنْكم جَآئِرٌ أي: حائد عن الحق، معرض عنه.

ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته، فقال: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [سورة يونس:99]، وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة هود:118، 119].
 
  1. رواه البخاري، باب قول النبي ﷺ: بعثت أنا والساعة كهاتين، برقم (6139)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2951)، من حديث أنس بن مالك .
  2. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (14313)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (5009).
  3. رواه ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت، برقم (2707)، وأحمد في المسند (29/387)، برقم (17844)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1143).
  4. رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل، برقم (5201)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (1941).
  5. رواه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (3789)، وأحمد في المسند برقم (14840)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني: وهذا على شرط مسلم، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/138).
  6. رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب النحر والذبح، برقم (5193).
  7. رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلا، برقم (3463)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل أبي بكر الصديق ، برقم (2388).
  8. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المنافقون:6]، برقم (4622)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).
  9. رواه البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة المنافقون، برقم (4622)، من حديث جابر بن عبد الله -ا- ولفظه: ما بال دعوى جاهلية، قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة الحديث، ومسلم بلفظ: ما بال دعوى الجاهلية، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).
  10. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (4142)، وقال محققوه: إسناده حسن، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (6297)، وحسنه الألباني في تحقيقه على مشكاة المصابيح برقم (166).

مواد ذات صلة