الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[18] من قوله تعالى: {وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً مّكَانَ آيَةٍ} الآية 101 إلى قوله تعالى: {أَنّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الْخَاسِرونَ} الآية 109.
تاريخ النشر: ٠١ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 3406
مرات الإستماع: 2436

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في بدائع التفسير، في تفسير قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ [سورة النحل:98]: "ومعنى استعذ بالله: امتنع به واعتصم به والجأ إليه، ومصدره العوذ والعياذ والمعاذ، وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قوله -صلى الله عليه وآله وسلم: لقد عذت بمعاذ[1]، وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب أطيب اللحم عوذه: أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها، وجمعها عوذ كحُمر، ومنه في حديث الحديبية معهم العوذ المطافيل، والمطافيل: جمع مطفل وهي الناقة التي معها فصيلها.

قالت طائفة -منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء أي معهم النساء وأطفالهم، ولا حاجة إلى ذلك، بل اللفظ على حقيقته، أي قد خرجوا إليك بدوابهم ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها، فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه:

منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، يُذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمره فيها الشيطان فأمر أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب ليصادف الدواء محلاً خالياً فيتمكن منه ويؤثر فيه كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكَّنا

فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.

ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً، فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى، وهو لعَمْر الله ملحظ جيد إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين.

ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال -عليه الصلاة والسلام: تلك الملائكة[2]، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاص ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.

ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه.

ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله تعالى أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الرب قراءته"[3] ا. هـ.

هذا فيه ضعف، لكن في الحديث الآخر الذي هو: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يقرأ القرآن يتغنى به[4]، وفسر في بعض الوجوه بأن المراد به أنه من الأذن أي الاستماع.

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحـج:52]، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، قال الشاعر في عثمان:

تمنى كتابَ الله أوّلَ ليلِهِ وآخره لاقى حِمام المقادر

فإذا كان هذا فعله مع الرسل -عليهم السلام- فكيف بغيرهم؟؛ ولهذا يُغلّط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه.

ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي الصحيح عن النبي ﷺ: إن شيطاناً تفلّت عليّ البارحة فأراد أن يقطع علىّ صلاتي[5] الحديث، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر، وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه -: أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟[6]، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد[7]، فالشيطان بالمرصاد للإنسان على طريق كل خير.

وقال منصور عن مجاهد -رحمه الله: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم[8]، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

فهو بالرصد ولا سيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولاً ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره.

ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن؛ ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم شرع ذلك للقارئ وإن كان وحده لما ذكرنا من الحِكم وغيرها، فهذه بعض فوائد الاستعاذة.

وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ؛ لقوله : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وقال في رواية ابن مشيش: كلما قرأ يستعيذ، وقال عبدالله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم.

وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي ﷺ إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه[9].

وقال ابن المنذر: جاء عن النبي ﷺ أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم[10]، واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو رواية عن أحمد بظاهر الآية وحديث ابن المنذر.

وعن أحمد من رواية عبدالله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لحديث أبي سعيد، وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي ﷺ جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم[11].

وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل؛ لأن قوله: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ظاهره أنه يستعيذ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقوله في الآية الأخرى: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكدة بحرف "إن"؛ لأنه سبحانه هكذا ذكر"[12] ا. هـ.

حديث أبي داود في قصة الإفك أن النبي ﷺ جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، قال: رواه أبو داود في الصلاة باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: هذا حديث منكر.

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "ولما كان الغضب مركب الشيطان فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان، أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية، ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه، وجاء مدد الإيمان والتوكل فأبطل سلطان الشيطان فـ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل:99].

قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة، والصواب أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة، والقدرة داخلة في مسمى السلطان، وإنما سميت الحجة سلطاناً لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده"[13].

والسلطان يأتي بمعنى الحجة، ويأتي بمعنى القدرة، وقول الله : وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، قال بعضهم المراد به: حجة، ويمكن أن يجمع بين هذا وهذا فيقال: له حجة وسبيل يتسلط به على القاتل، فيكون مخيراً بين ثلاثة أمور، فعبر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بعبارة دقيقة، ذكر الحجة وذكر القدرة؛ لأن الحجة هذه هي السبيل التي يتوصل بها إلى الاقتدار.

وقال -رحمه الله: "وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين، قال في سورة الحجر: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۝ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ۝ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [سورة الحجر:39-42].

وقال في سورة النحل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل: 99، 100]، فتضمن ذلك أمرين:

أحدهما: نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص.

والثاني: إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه[14]، إلى آخره.

وقال -رحمه الله: "فإن قيل: فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطاناً، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكياً عنه مقرراً له: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي[سورة إبراهيم:22]"[15].

ما يذكره الله -تبارك وتعالى- حكاية عن قول قائل فإما أن يأتي قبله أو معه أو بعده ما يدل على بطلانه، أو يسكت عنه، ويدل ذلك على صحته غالباً، فحينما يقول الله مثلاً: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]، فقوله: رَجْمًا بِالْغَيْبِ دل على أن هذا القول غير صحيح، ولما قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، ما أبطله ولا ذكر ما يدل على بطلانه، ففهم منه أن هذا هو القول الصحيح، وقد يذكر أمرين فيكون أحدهما حقاً والآخر باطلاً، فيبطل الباطل ويسكت عن الحق، وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] وسكت عن وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا، فهذا حق.

لكن قوله: وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا هذا باطل، وقوله: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:111].

وقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ [سورة المائدة:18]، وهذا غالباً، فقوله تعالى عن الذين غلبوا على أمرهم: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، وما عقب عليها، هل معنى هذا جواز اتخاذ المساجد على القبور؟ وهذا يحتج به القبوريون، ويجاب عنه بجوابين قطعاً لاحتجاجهم، الأول: أن يقال: إن القواعد أغلبية، وليست كلية، بمعنى الكلية التي تحيط بجميع الجزئيات.

والأمر الثاني: أن ذلك لو كان كما قلتم، وأنه جائز في شرع من قبلنا، فقد دلت هذه الشريعة على تحريمه، والنصوص صريحة عن النبي ﷺ في هذا، فغاية ما يقال في شرع من قبلنا: إنه شرع لنا ما لم ينسخ، مع أنه كان محرماً في الشرائع السابقة، وفي الحديث: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[16]، ولو كان يجوز في شرعهم لما استحقوا اللعن، كيف يلعنون على شيء يجوز في شريعتهم؟.

وقال -رحمه الله: في قوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ [سورة سبأ:20، 21]

قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير الذي نفاه من وجهين:

أحدهما: أن السلطان الثابت هو سلطان التمكن منهم وتلاعبه بهم وسوقه إياهم كيف أراد، بتمكينهم إياه من ذلك بطاعته وموالاته، والسلطان الذي نفاه سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان[17].

الثاني: أن الله لم يجعل له عليهم سلطاناً ابتداءً ألبته، ولكن هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جملة جنده وحزبه، فلم يتسلطن عليهم بقوته، فإن كيده ضعيف وإنما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم، والمقصود: أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه كان من عقوبته أن يسلَّط عليه ذلك العدو نفسه"[18].

وقال -رحمه الله- تعالى: "ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص:82، 83]، فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله، وإنما يكون له سلطانٌ على من تولاه وأشرك مع الله، فهؤلاء رعيته، فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم.

فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع فكيف ينفيه....؟ "[19]

قال المصنف في تفسيره -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً مّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوَاْ إِنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رّبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل:101، 102].

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم، وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله ﷺ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ: أي كذاب، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقال مجاهد: بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي: رفعناها وأثبتنا غيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً مّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوَاْ إِنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ: قوله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ جملة اعتراضية، والقاعدة في مثل هذه الجمل الاعتراضية أنها تأتي في كل مقام بحسبه؛ للاحتراز تارة من فهمٍ قد يُساء، أو غير ذلك من المعاني، فقوله: وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً مّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ، كأنه جواب على سؤال سائل، وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً مّكَانَ آيَةٍ، قَالُوَاْ إِنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ، فالله قال: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ يعني: أن الذي أبْدَلَه وأتَى بغيره منزل من الله ، وأن الله عالم بذلك، فهذا التبديل حق وليس بباطل، هو من عند الله، فالآية المبدلة من عند الله، والآية البديلة هي من عند الله، والله إنما يفعل ذلك عن علم، والجميع منزل، ليس فيه شيء مختلق، فهذه الجملة الاعتراضية أفادت هذا المعنى، وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ، قَالُوَاْ إِنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ، فقال: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ، هذا التبديل إنما هو صادر عن علمه -تبارك وتعالى، وكله من تنزيله، فهو حق.

وقال قتادة: هو كقوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [سورة البقرة:106] الآية.

يعني إذا علم أنه منزل من عند الله، وأنه حق وبعلمه، فيجب التسليم له والانقياد، كما يسلّم الإنسان للآية الأولى حينما نزلت، فإذا بدل ذلك ونسخه فيجب التسليم والانقياد.

فقال تعالى مجيباً لهم: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ: أي جبريل.....

قوله: رُوحُ الْقُدُسِ يعني الروح المقدسة، من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، وكذلك: بيت المقدس، وتقول مثلاً: بلاد الطهر.

مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أي: بالصدق والعدل، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً، وتخبت له قلوبهم، وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ أي: وجعله هادياً وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهََذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ [سورة النحل:103].

يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت: إن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش.

على القاعدة السابقة أن الله إذا ذكر قول القائلين، أعقبه بما يبطله أو يبين بطلانه، فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ، فقال: لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهََذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ، ردَّ مقالتهم.

ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله ﷺ يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يردّ جواب الخطاب فيما لا بد منه، فلهذا قال الله تعالى راداً عليهم في افترائهم ذلك: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أي: القرآن، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي أُرسل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مُسكة من العقل.

وروى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: كان رسول الله ﷺ يُعلم قيناً بمكة، وكان اسمه بلعام.

القين يعني الصانع.

وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله ﷺ يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله هذه الآية: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

هذه الرواية ضعيفة في سبب النزول، والأقوال في اسم هذا البشر الذي قالوا: إنه يعلم النبي ﷺ كثيرة جداً، وعامة ذلك لم يصح فيه شيء، عامتها من المراسيل ولا تصح، والمبهمات غالب ما يشتغل به المشتغلون منها مما لا طائل تحته وأنه لو كان فيه فائدة لذكره الله وبيّنه ولكنه تركه؛ لأنه لا حاجة إليه.

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [سورة القصص:20]، فيقولون من هذا الرجل؟ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [سورة النساء:100]، جاء عن عكرمة: أنه بقي أربع عشرة سنة يبحث عن اسم هذا المبهم، وألف فيه السهيلي وغيره مصنفات خاصة في المبهمات، تفسير مبهمات القرآن، والإعلام، والأقوال كثيرة جداً بعضهم يقول: اسمه جبر، وهو غلام للفاكه بن المغيرة، كان نصرانياً فأسلم.

وبعضهم يقول: يعيش وهو عبد لبني الحضرمي، وبعضهم يقول: هو غلام لبني عامر بن لؤي، وبعضهم يقول: هما غلامان، اسم الأول: يسار، والآخر: جبر، وهما نصرانيان لبني الحضرمي، وهذه الرواية هي التي صحت في هذا -أنهما غلامان، وبعضهم يقول: هو غلام نصراني في مكة يقال له: أبو ميسرة، وبعضهم يقول: عدّاس، وأصحاب السير يذكرون عدّاساً الذي كان في وادي نخلة لما جاء النبي ﷺ إلى الطائف، وأبعد هذه الأقوال أنه سلمان الفارسي -، وسلمان كان في المدينة، ولم يلقه النبي ﷺ إلا في المدينة، وإنما كانوا يقولون ذلك لرجل كان في مكة، فالشاهد أن معرفة اسم هذا المبهم لا فائدة تحتها، وهو من الاشتغال بفضول العلم، وليس بمُلَح العلم، فضلاً عن أن يكون من أصله وصلبه.

قوله تعالى: لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ يعني: أن لغته أعجمية، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، لِسَانٌ عَرَبِيٌّ أي: كلام عربي، والعرب تعبر باللسان أحياناً وتريد به الكلام، وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أي: كلام عربي مبين، فسماه لساناً.

إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ إِنّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة النحل:104، 105].

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله ﷺ، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة، ثم أخبر تعالى أن رسوله ﷺ ليس بمفترٍ ولا كذاب؛ لأنه إنما يفتري الكذبَ على الله وعلى رسوله ﷺ شرارُ الخلق، الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد ﷺ كان أصدق الناس وأبرّهم وأكملهم علماً وعملاً وإيماناً وإيقاناً، معروفاً بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا بالأمين محمد ﷺ؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله ﷺ كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان لِيَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله [20].

مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اسْتَحَبّواْ الْحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىَ الآخرة وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۝ أُولََئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ۝ لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الْخَاسِرونَ [سورة النحل:106-109].

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به، أنه قد غضب عليه؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئاً فهم غافلون عما يراد بهم، لا جَرَمَ أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي: الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وأما قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.

قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، قال: "فهذا استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى"، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: "كفر بلسانه"، أي باعتبار سبب نزول الآية، جاء عن عمار -، أنهم آذوه وضربوه حتى تكلم ببعض ما يرضيهم من سب النبي ﷺ، وأن النبي ﷺ قال له: إن عادوا فعد[21]، فهذه رخصة.

وهي مسألة يترتب عليها أحكام عملية، كالحكم بالكفر، ثم هل الرخصة فقط في مسائل التكفير هي فقط فيما يتعلق بالنطق باللسان وأن ذلك لا يسوغ بحال فيما يتعلق بالفعل؟ من أهل العلم من يخصه باللسان، وعبارة ابن كثير -رحمه الله- لا تدل على أنه يتبنى هذا الرأي، لكنه عبر بهذا باعتبار سبب النزول، ولربما أيضاً احتج بعضهم بحديث الذباب، وهو معروف مشهور، لما قيل للرجلين: قرّبا شيئاً، فأحدهما أبى فقتل، والآخر لم يجد شيئاً فقالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فمات فدخل النار، لو صح هذا الحديث لصح الاحتجاج بهذا على أن الفعل غير القول، لكن الحديث ضعيف، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والله يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، ما قال: فإنه يرخص له أن ينطق أو يقول الباطل، وإنما أطلقه، لهذا فالأقرب أن الإكراه عذر في القول والفعل، الإكراه بنوعيه، الإكراه الملجئ الذي ليس للإنسان فيه اختيار، كما لو جيء به وبالقوة وُضع أمام صنم وأُسْجِد له، أو طيف به على صنم أو نحو هذا، فهذا يعذر به، وكذلك الإكراه الذي يكون من قبيل الإكراه حكماً وهو فيما لو أنه هُدد بضرب معتبر، أو قتل، أو حبس، أو نحو ذلك فهذا يعتبر إكراهاً، فإذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان فهو معذور، العذر يكون بالإكراه بالقول ويكون بالإكراه بالفعل، وكون هذه وردت في قصة عمار وأنه تكلم بالباطل، إلا أن القاعدة المعروفة لا تهمل وهي "أن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب"، فاللفظ عام.

وهذه من المسائل التي يحتاج إلى معرفتها في هذا الباب الذي كثر الخوض فيه والتبس على كثير من الناس؛ لما يترتب عليه من الأحكام الكبيرة العظيمة، ولهذا ليس من السهل أن يتكلم فيه كل أحد، صغار طلبة العلم، ومن لا يطلب العلم أصلاً، فبمجرد أن يستقيم أو يتوب من بعض الذنوب يبدأ يتكلم في هذه الأحكام العظيمة مباشرة، نسأل الله العافية.

وقد روى العوفي عن ابن عباس -ا: أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر -ا- حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد ﷺ، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي ﷺ، فأنزل الله هذه الآية.

رواية العوفي عن ابن عباس لا تصح، لكن لفظ الرواية: أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، هذا من قبيل غير الصريح، نزلت في فلان، لكن آخر الرواية: فأنزل الله هذه الآية، هذا صريح، فأولها غير صريح وآخرها صريح، ولهذا نقول في الكلام على هذه المسألة عادة: إن الغالب أن قولهم: نزلت هذه الآية في كذا أنه من قبيل التفسير، نقول: الغالب، ليس هو دائماً؛ لأنهم قد يقصدون بهذه العبارة سبب النزول.

وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك، وروى ابن جرير عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي ﷺ: إن عادوا فعد.

وهذه الرواية ضعفها بعض أهل العلم.

ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي ﷺ، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ما تُركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: إن عادوا فعد، وفي ذلك أنزل الله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ؛ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءٍ لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم، وهو يقول: أحدٌ، أحدٌ، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، - وأرضاه، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك.

والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة - وعنهم- أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصَّر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد ﷺ طرفة عين ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقِدر، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت.

المقصود بقوله: بقرة من نحاس: ليس المراد أنه تمثال مثلاً من نحاس على هيئة بقرة، لا، وإنما لعله قدر كبيرة واسعة مأخوذ من التبقر بمعنى التوسع، التبقر في الدار، التبقر في البناء، التبقر في الأرض، التبقر في الزرع، التبقر في المال، بمعنى التوسع في القدر، جاء ببقرة مثلاً من نحاس، أي: قدر من نحاس كبيرة واسعة، ليلقيه فيها.

وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البَكَرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله، وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حلَّ لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه -ا[22].
  1. رواه ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب متعة الطلاق، برقم (2037)، وأحمد في المسند (25/460)، برقم (16061)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط البخاري، وقال الألباني: منكر بذكر أسامة أو أنس، صحيح بلفظ: فأمر أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين، صحيح ابن ماجه برقم (1657)، والحديث أخرجه البخاري بلفظ عن عائشة -ا: أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله ﷺ ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك، كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، برقم (4955).
  2. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، برقم (4730)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن، برقم (796).
  3. انظر: بدائع التفسير، للإمام ابن القيم (2/121-123)، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/91-93).
  4. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة سبأ:23]، ولم يقل ماذا خلق ربكم، برقم (7044)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (793).
  5. رواه البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة -أو كلمة نحوها-؛ ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [سورة ص:35]، قال رَوْح: فردَّه خاسئا، أبواب المساجد، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، برقم (449)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم (541).
  6. هو الحبل الذي يربط به الفرس، يدور في مساحة معينة لا يتجاوزها.
  7. رواه النسائي، كتاب الجهاد، باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، برقم (3134)، وأحمد في المسند (25/315)، برقم (15958)، وقال محققوه: إسناده قوي، وابن حبان في صحيحه (10/453)، برقم (4593)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2979)، وفي صحيح الجامع برقم (1652).
  8. أي: مثل عددهم.
  9. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، برقم (775)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم(242)، وأحمد في المسند (18/51)، برقم (11473)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وصححه الألباني في تحقيقه مشكاة المصابيح برقم (1217)، وفي صحيح أبي داود برقم (748).
  10. قال الشيخ الألباني رحمه الله: " لم أقف على هذا في شيء من كتب السنة المعروفة إلا ما في " مراسيل أبي داود " عن الحسن أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ فذكره، وهذا مع ضعفه -لأنه من مراسيل الحسن البصري- فليس فيه أن هذه الصيغة كانت في الصلاة، فالأفضل أن يستعيذ بما في حديث جبير بن مطعم وأن يزيد أحيانا: "السميع العليم" كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والترمذي وغيرهما بسند حسن وهما مخرجان في" الإرواء " (342)" انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة (176).
  11. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: هذا حديث منكر، برقم (785)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (139).
  12. انظر: بدائع التفسير، للإمام ابن القيم (2/123-125)، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/93-95).
  13. إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، لابن القيم (1/98).
  14. إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، لابن القيم (1/98).
  15. انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام ابن القيم (17).
  16. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، برقم (1265)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد، برقم (529)، من حديث عائشة -ا.
  17. جمع -رحمه الله- بين الحجة والقدرة، فالحجة هي السبيل إلى الانقياد والإذعان، فإن الناس ينقادون لها، ويخضعون كما يخضعون لصاحب القدرة.
  18. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام ابن القيم (17-18).
  19. إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/99).
  20. رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ برقم (7)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، برقم (1773).
  21. رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (16673)، والحاكم في المستدرك (3362)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
  22. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/289)، وضعفها الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل(8/157).

مواد ذات صلة