الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[24] من قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا} الآية 94 إلى قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} الآية 97
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2726
مرات الإستماع: 2219

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تتمة تفسير قوله تعالى:

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [سورة الإسراء:92] الآيات.

وقوله تعالى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [سورة الإسراء:90] الينبوع: العين الجارية، سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا، وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله، ولأجابهم إلى جميع ما سألوه وطلبوا، ولكن علم أنهم لا يهتدون، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96، 97] وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ [سورة الأنعام:111] الآية.

وقوله تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ أي: أنك وعدتنا أنّ يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهِي، وتدلي أطرافها، فعجل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفاً، أي: قطعاً، كقولهم: وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة الأنفال:32] الآية، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سورة الشعراء:187] فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:189].

وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وكذلك وقع، فإن من هؤلاء الذين ذُكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، حتى عبد الله بن أبي أمية الذي تبع النبي ﷺ وقال له ما قال، أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله .

وقوله تعالى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ قال ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة: هو الذهب، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود -: أو يكون لك بيت من ذهب، أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء أي: تصعد في سلم ونحن ننظر إليك، وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قال مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة: هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، تصبح موضوعة عند رأسه.

وقوله تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً: أي: وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمْركم فيما سألتم إلى الله .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا، حَتَّى تَفْجُرَ قرأه حمزة والكسائي وعاصم هكذا، وقرأه الباقون بالتشديد حَتَّى تُفَجِّرَ، وقوله أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً، تسقط السماء كِسَفاً، هكذا بفتح السين، قرأه جماعة كنافع وابن عامر وعاصم، وهو جمع كِسْفة، والكِسْفة هي القطعة من الشيء، يعني تسقط علينا السماء قطعاً، يعني أنهم يطلبون العذاب، أن يسقط الله ذلك عليهم.

وقرأه غير هؤلاء الثلاثة بالإسكان كِسْفاً، وبعضهم فسر هذه القراءة كِسْفاً: أي قطعة، وكأنهم طلبوا أن يسقط السماء عليهم طبقاً واحداً، يطبق عليهم السماء، أو يسقط عليهم قطعة من السماء، لكن ابن جرير -رحمه الله- فسر قراءة الإسكان بغير ذلك، باعتبار أنها جمع كِسْفة، كِسْفاً جمع كِسْفة، واعتبر ذلك من قبيل جمع الكثرة في العدد، بخلاف كِسَفاً، فالكِسَف عند ابن جرير -رحمه الله- للقليل ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكِسْف جمع الكثير كما تقول: تمر وتمرة، كِسْف وكِسْفة، ولذلك يختار هذه القراءة باعتبار أنها أدل على المعنى الذي قصدوه، وهو أنهم لم يطلبوا قطعاً محدودة من الثلاث إلى العشر تسقط عليهم من السماء، وإنما أرادوا أبلغ ما يكون من ذلك، وهذا يحصل بالكثرة، ومن فسر هذه القراءة كِسْفاً باعتبار أن الكِسْفة: هي القطعة من الشيء، بعضهم يقول كالزجّاج: من كسفت الشيء إذا غطيته، فسرها بهذا فكأنهم طلبوا أن السماء تقع عليهم فتغطيهم، يعني تسقط عليهم السماء طبقاً واحداً، وعلى كل حال هما قراءتان متواترتان، والله يقول في الآية الأخرى: إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء [سورة سبأ:9] وهذا يشهد للقراءة الأولى.

وقوله -تبارك وتعالى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً، قبيلاً: فسره بعضهم بالمعاينة، نعاينهم، يقابلوننا أو نقابلهم معاينةً، فطلبوا رؤية الله والملائكة ليشهدوا بصحة ما جاء به، وأن الله أرسله، وهذا اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم فسر هذا بالكفيل، ونحن لا زلنا نعبر بهذا، يقول الواحد: أنا قبيل فلان، أنا قبيله، فلان قبيل فلان، أي المتكفل أو الكفيل، وبعضهم فسره بالشهيد، أي شهداء يشهدون أنك قد أرسلت من قبل الله -تبارك وتعالى، وتفسيره بالكفيل قال به طائفة من السلف، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

والآية تحتمل هذا وهذا، هم لشدة مكابرتهم طلبوا أن يشهد على ما قاله النبي ﷺ اللهُ والملائكةُ، وهؤلاء الذين فسروه بالشهيد قولهم يتضمن القول الأول، طلبوا أن يحضر لهم ربهم -تبارك وتعالى- والملائكة ليروهم من أجل أن يشهدوا له، فلماذا يريدونهم أن يأتوا؟، هل لمجرد رؤيتهم فقط؟ بل من أجل أن يشهدوا، وهذا من شدة مكابرتهم وعنادهم، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ يعني: الذهب، وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [سورة الزخرف:33] دُرُج، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ ۝ وَزُخْرُفًا [سورة الزخرف:34، 35] أي ذهباً، والقراءة التي ذكرها قراءة شاذة، ولكنها تفسر هذه القراءة المتواترة، فالزخرف يقال للذهب، كما أنه يقال للزينة، وذاك إطلاق عربي صحيح، فهو وإن فسره به بعض المفسرين هنا، لكن الكفار لم يطلبوا أن يكون له بيت من زينة، وإنما طلبوا أن يكون هذا البيت من الذهب؛ تعجيزاً.

أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ وقد فسرها بعض أهل العلم بأنهم قصدوا أن ينزِّل على كل واحد منهم كتاباً، كما قال الله : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً [سورة المدثر:52].

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ۝ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94، 95].

يقول تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ: أي أكثرهم، أَن يُؤْمِنُواْ ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلاً، كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة يونس:2]، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [سورة التغابن:6] الآية.

وقال فرعون وملؤه: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [سورة المؤمنون:47]، وكذلك قالت الأمم لرسلهم: إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [سورة إبراهيم:10] والآيات في هذا كثيرة، ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم؛ ليفقهوا عنه ويفهموا منه؛ لتمكُّنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة آل عمران:164]

وقال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ [سورة التوبة:128] وقال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ۝ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:151، 152]؛ ولهذا قال ههنا: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي كما أنتم فيها لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً أي من جنسهم، ولمّا كنتم أنتم بشراً بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفاً ورحمة.

يقول الله : قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ: يعني أن الناس قد ألفوهم واعتادوا على رؤيتهم، لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً، ولكن لمّا كان الناس لا يألفون ذلك ولا يطيقونه؛ فإنهم لا يحتملون رؤية الملك على هيئته، كما أنهم لا يحتملون الأخذ والتلقي عنه مباشرة، فجبريل -عليه الصلاة والسلام- رآه النبي ﷺ على هيئته له ستمائة جناح على كرسي بين السماء والأرض قد سد ما بين الأفق، فالملائكة خلق هائل عظيم، لا يطيق البشر النظر إليهم ورؤيتهم، فكيف يطلب هؤلاء أن يأتي الملائكة ويأتي الله معهم؟! 

فهؤلاء ما قدروا الله حق قدره، لمّا تجلى ربنا للجبل جعله دكّاء، وخرَّ موسى صعقاً، وهو موسى -عليه الصلاة والسلام، لم يطق ذلك مع أنه ما رآه، والجبل لم يحتمل مع شدته وضخامته وصلابته فكيف بالبشر؟ والله ذكر في سورة الأنعام: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام:9] لصار رجلاً من أجل أن يتمكنوا من الأخذ عنه، وإذا صار بهذه الهيئة وهذه المثابة فكيف يعرفون أنه ملك؟ سيجادلون ويكابرون أن هذا بشر وليس بملك، فيقع عليهم اللبس، والآيات كثيرة في هذا المعنى.

والمقصود أنهم كانوا يستبعدون غاية الاستبعاد أن يبعث الله أحداً من البشر؛ ليكون مبلغاً ورسولاً من قِبَله، وهذه دعوى قالها قائلون قبلهم من الأمم، فما نفعهم ذلك ولا أجدى عنهم شيئاً، وأخبر الله أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما هي سنته الجارية- بشرٌ يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وجعل الله لهم أزواجاً وذرية، وهذا هو مقتضى حكمته -تبارك وتعالى؛ لأن الله لو أرسل إليهم رسولاً من غير جنسهم وتمكنوا من الأخذ عنه، فإنهم قد يتذرعون بترك العمل والامتثال باعتبار أن هذا الرسول ليس من جنسهم، فهو يخاطبهم بأمور لا يطيقونها، ولا يحتملونها، فهو وإن قام بها وعملها وأطاقها، لكنه ليس من جنس البشر، فالبشر قد ركبت فيهم الشهوات، وفيهم من ألوان الضعف والعجز ما يقعدهم عن كثير من المقامات والأعمال الفاضلة، فسيعتذرون بمثل هذه الأعذار، لكن إذا جاء بشر يرونه ويعرفونه، ويصيبه ما يصيبهم من اللأواء والتعب والعنت والأذى، ويرون صبره وبذله وتحمَّله في ذات الله ، ويخاطبهم بما يفهمون، ويرون عبادته وعمله، فهذا يكون محلاً للاقتداء.

قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [سورة الإسراء:96].

يقول تعالى مرشداً نبيه ﷺ إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به: إنه شاهد عليَّ وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [سورة الحاقة:44-46]، وقوله: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا: أي: عليماً بهم، بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة؛ ولهذا قال: وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [سورة الإسراء:97].

يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه، أي: يهدونهم، كما قال: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]، وقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ روى الإمام أحمد[1] عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. وأخرجاه في الصحيحين[2].

وقوله: عُمْيًا: أي لا يبصرون، وَبُكْمًا: يعني لا ينطقون، وَصُمًّا: لا يسمعون، وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكماً وعمياً وصماً عن الحق، فجُوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه، مَّأْوَاهُمْ: أي منقلبهم ومصيرهم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ قال ابن عباس -ا: سكنت، وقال مجاهد: طفئت، زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا أي لهباً ووهجاً وجمراً، كما قال: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [سورة النبأ:30].

قوله -تبارك وتعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ هذا على ظاهره: أنهم يحشرون على وجوههم، الله -تبارك وتعالى- قال: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر:48]، فهذا في سحبهم في النار على الوجه؛ ليحصل لهم بذلك غاية الإهانة؛ لأن الله أخبر عن عذاب النار ووصفه بأوصاف: أنه أليم وشديد وعظيم ومهين، والإهانة: عذاب يقع على النفس، والألم يقع على البدن بالدرجة الأولى، كما يقع أيضاً على النفس، فهذا عذاب مهين، وهو عذاب أليم، فمن سوء صنوف الإهانة التي تحصل لهم في النار أن الله -تبارك وتعالى- أخبر أنهم يسحبون في النار على وجوههم، والوجه هو أشرف ما يكون في الإنسان؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن ضرب الوجه، وكذلك أيضاً لمّا رأى الدابة قد وُسمت على وجهها قال: لعن الله من فعل هذا[3]، حتى الدابة.

فالمقصود أنهم يسحبون في النار على وجوههم، لكن الآية هنا في الحشر: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ولهذا تفسيره هنا لا يكون بقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ليس هذا هو المقصود -والله أعلم، وإنما المقصود في الحشر يحشرون على وجوههم، لا أنهم يسحبون على وجوههم، فهذا أمر لا غرابة فيه، وهو ممكن، ولو كان المقصود ذلك لما سأل عنه الصحابة فإنهم سألوا النبي ﷺ: كيف يحشر الناس على وجوههم والإنسان يقف على قدميه؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.

فمعنى ذلك أن الناس يقفون على قدمين، ويقف آخرون على الوجه، وفي أسوأ حال، أعمى وأبكم وأصم، لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، وهو في غاية الأهوال والأوجال، وصح عن النبي ﷺ كما عند الترمذي[4] وغيره[5] أنه قال: إنكم محشورون رجالاً وركباناً رجالاً: يعني على الأقدام، وأناس يحشرون في حال الركوب، رجالاً وركباناً وتجرون على وجوهكم يمكن أن يكون هذا بمعنى الآية يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ لكن ذاك في العذاب في النار وهنا قال: وتجرون على وجوهكم فيمكن أن يكون المراد به السحب على الوجوه، ولكن السحب على الوجوه أمر لا يستغرب، فقد يحصل لهم كما أخبر النبي ﷺ، وكذلك هنا في قوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا، لو كان المقصود مجرد السحب على الوجه فإن هذا أمر متصور، لا يحتاج إلى أن يسأل الناس عنه، ولو كان المقصود السحب لبينه لهم النبي ﷺ في الجواب، ولكن بيَّن أن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يحشرهم على وجوههم، فدل على أنهم يحشرون على هذه الهيئة والصفة.

وقوله -تبارك وتعالى: عُمْيًا: أي لا يبصرون، وَبُكْمًا: يعني لا ينطقون، وَصُمًّا: لا يسمعون، إلى آخره، لا يفسر بأنهم عمي عن الحق -مثلاً- وبكم عن النطق به، لا ليس هذا المراد، وإنما عمي لا يبصرون، وهذا يشهد لقوله -تبارك وتعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124]، وقد ذكرت الوجوه في تفسيرها، وأن من ذلك أنه من كان في هذه أعمى عن الحق فهو في الآخرة أشد عمىً، هذا إذا فسر بأفعل التفضيل، أو من كان أعمى عن الحق، والبراهين الدالة على أن الله خلق هذه الحياة وأجراها بهذه الهيئة، فهو عن أمر الآخرة والأمور الغيبية أشد عمىً، ولا يتوصل إلى معرفتها، والإيمان بها، ونحو ذلك.

والمعنى الآخر: أن أَعْمَى ليس المقصود به أفعل التفضيل، أي من كان في هذه أعمى عن الحق وبراهينه ودلائله فهو في الآخرة أعمى، جزاءً وفاقاً، يحشر وهو لا يبصر، وهذا هو الراجح، ويدل عليه قوله -تبارك وتعالى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [سورة طه:125]، فهو لا يسأل لماذا حجبت عني براهين الحق، وإنما يقول: لماذا أخذت بصري، وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا في الدنيا؟ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طه:126]، فهنا يقول: عُمْياً: أي لا يبصرون، وَبُكْماً: يعني لا ينطقون، وصماً: أي لا يسمعون.

وهنا يرد سؤال وهو أن هؤلاء يحشرون بهذه الصفة، لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ۝ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [سورة الفرقان:13] دعوا، تكلموا، ويقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [سورة المؤمنون:106]؟ هذا الكلام الذي ينطقون به وما ذكره الله بعضه واقع في النار، والكلام هنا في المحشر، ثم إن يوم القيامة يوم طويل، يمكن أن يكون في بعض الأوقات لا يسمعون ولا يبصرون، وفي بعض الأوقات يبصرون كما قال الله : يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ [سورة الشورى:45]، وقال: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ [سورة القلم:43]، من شدة الهوان والمذلة.

وقوله -تبارك وتعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا خبت يعني خفَتَ وهجُها، وضَعُف لهبُها، زادهم الله سعيراً، وهذا لا يعارض قوله -تبارك وتعالى: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ [سورة الزخرف:75]، وإنما المقصود أنه لا يكون لهم نفس فيها، لا يكون هناك انقطاع في العذاب، وإنما يبقى عذابهم على أشد حالته، والنار تبقى مضطرمة مستعرة عليهم، كلما خفتت زيدت.

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في كتابه ”دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب“:

قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا الآية، هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عمياً وبكماً وصماً، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [سورة مريم:38]، وكقوله: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا [سورة الكهف:53]، وكقوله: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [سورة السجدة:12]. والجواب عن هذا من أوجه:

قوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، أي: ما أسمعهم وما أبصرهم.

الوجه الأول: هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته، ويكون ذلك في مبدأ الأمر، ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النار، ويسمعون زفيرها، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع.

الوجه الثاني: أنهم لا يرون شيئاً يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون، ولا ينطقون بالحق، ولا يسمعونه، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس -ا، وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي في تفسيره، فنزَّل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم؛ لعدم الانتفاع به كما تقدم نظيره.

الوجه الثالث: أن الله إذا قال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] وقع بهم ذاك العمى والصمم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج، قال تعالى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ [سورة النمل:85] وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة.

  1. مسند أحمد بن حنبل: (3/167) برقم: (12731).
  2. صحيح البخاري: (4/1784) باب قوله: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا : برقم: (4482).
  3. مسند أحمد بن حنبل: (3/296) برقم: (14197).
  4. سنن الترمذي: (4/616) برقم: (2424).
  5. مسند أحمد بن حنبل: (5/5) برقم: (20062).

مواد ذات صلة