الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} الآية 16 إلى قوله تعالى: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} الآية 18
تاريخ النشر: ٢٣ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 3278
مرات الإستماع: 5014

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تتمة قصة أصحاب الكهف:

والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفًا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره. فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يُشرَك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء، السموات والأرض وما بينهما.

وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله ؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا [سورة الكهف:14]، ولن: لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا  [سورة الكهف:14]، أي: باطِلاً وكذبًا وبهتانًا.

هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ[سورة الكهف:15] أي: هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا؟! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [سورة الكهف:15]. 

يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله، أبى عليهم، وتَهَدّدهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة.

وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن[1] ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.

فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [سورة الكهف:16]، أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم فَأُووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته [سورة الكهف:16] أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم [سورة الكهف:16] الذي أنتم فيه، مِرفَقًا أي: أمرًا ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأَوَوْا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد ﷺ وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي ﷺ حين رأى جَزع الصديق في قوله: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟[2]، وقد قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:40]، فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالسياق الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في سبب وصفة مخرج هؤلاء الفتية إنما هو متلقى عن الأخبار الإسرائيلية، وكما هو معلوم أن مثل هذه الأخبار لا يعتمد عليها، وإنما تذكر للاستئناس، ولا يفسر بها القرآن، والنبي ﷺ قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[3]، مع أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يُعرض عن كثير من هذه الأخبار الإسرائيلية.

وقول العلامة ابن كثير –رحمه الله: "وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع".

هذا إجمال يحتاج إلى شيء من التفصيل أكثر من هذا، فإذا وقعت الفتن فالناس إزاء ذلك على أنواع، منهم من لا يصلح له العزلة وينبغي أن يخالط الناس، وهو من يكون سبباً لإطفاء الفتنة وتعليم الناس وبيان الحق لهم والمخرج من هذه الفتنة، دون الدخول معهم فيها، فهذا قد يتعين عليه الخلطة.

والصنف الثاني: هو من إذا لم يعتزل فإنه يدخل في الفتنة، إما لأنه لا يميز بين الحق والباطل أصلاً، أو لأنه يميز من الناحية النظرية، عنده نوع تمييز ولكنه من الناحية العملية لا ينضبط، فيخوض مع الخائضين في الفتنة، فمثل هذا قد يتعين أو يجب عليه أن يعتزل.

والقسم الثالث: هو من لا يدخل في الفتنة ولكنه لا ينفع الناس، إما لأنه ليس عنده من العلم والعمل ما يصلح معه أن يكون محلاً للاقتداء، فإذا قال لم يُسمع، ولا يقتدي به أحد، أو أن الفتنة صارت غالبة بحيث إن الناس لا يعبئون به، ولا ينتفعون بكلامه ولا فعاله، فمثل هذا قد يكون السلامة له في العزلة، فالإنسان لا يأمن الفتن أن يقع فيها، وكما جاء في الحديث تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه[4].

فينبغي للمؤمن دائماً أن يسأل ربه الثبات على الحق والتسديد والهداية، وهو يقول دائماً في كل ركعة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فالفتن خطافة، وهي شديدة العلوق بالقلب، وما حصل في زمان الصحابة وما بعدهم ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة لعبرة لكل من يعتبر، فتجد الرجل لربما يكون من أئمة الدين، وتجد زوجته وخادمه وولده كل واحد منهم على مذهب، هذا من الخوارج، وهذا من المرجئة، وهذا من القدرية، وهذا كان موجوداً في ذلك الزمن فما بالك بزماننا!.

قوله –تبارك وتعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [سورة الكهف:16] الاستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى لكن، ويحتمل أن يكون متصلاً، والاستثناء المتصل هو ما كان المستثنى فيه من جنس المستثنى منه، بخلاف المنقطع، فإذا كان هؤلاء القوم يعبدون الله ويعبدون آلهة أخرى، فيكون الاستثناء متصلاً، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ من هذه المعبودات، وإذا كان أولئك لا يعبدون الله أصلاً وإنما يعبدون آلهة أخرى فيكون الاستثناء منقطعاً، فتكون "ما" هذه دالة على العموم.

قوله –تبارك وتعالى: فَأُووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته [سورة الكهف:16]، أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، وغير ذلك مما يحصل لهم من ألطاف الله ، ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم [سورة الكهف:16] الذي أنتم فيه، والأمر هنا بمعنى الشأن؛ لأن الأمر يأتي بمعنى طلب الفعل.

مِرفَقًا، أي: أمرًا ترتفقون به، يعني وتنتفعون، يهيئ لكم حالاً يحصل لكم بها الانتفاع والصلاح.

ثم ذكر واقعة الغار في هجرة النبي ﷺ وكيف أن الله -تبارك وتعالى- عمّى ذلك على المشركين.

والفتية خرجوا من قومهم إلى هذا الغار، وهذا الغار في محل ليس ببعيد عن تلك البلدة التي خرجوا منها، وأياً كانت هذه البلدة، وقد ورد اسمها في بعض هذه الروايات الإسرائيلية، يقال لها: طرسوس، وبلاد الشام كما هو معلوم ليست بلاداً كبيرة واسعة الأرجاء، بحيث إنه يمكن أن يعتزل الإنسان عن الناس في مكان لربما لا يصلون إليه إلا بغاية الصعوبة، فبلاد الشام مليئة بالبشر والقرى، ليست صحراء، فمكان الغار قريب جدا، بدليل أنهم بعثوا واحداً منهم يأتيهم بالطعام من القرية، ومع ذلك بقوا هذه المدة، ثلاثمائة وتسع سنوات، ولم يصل أحد إلى هذا الكهف، فعادةً الناس يعرفون البلد حجراً حجراً، ويعرفون الكهوف والغيران، ويعرفون مواقع الماء في الجبال، وهذا يوجد حتى في البيئات الصحراوية كما عندنا، فكيف ببلد كالشام، فهذا مستغرب، فهو آية من آيات الله ، حيث في هذه المدة الطويلة لم يأتهم أحد، فلو تأملت في حال جبل النور والغار وموضع الغار، فكيف توصلوا إليه برأس هذا الجبل الذي تعرفون حاله وصفته، كيف وصل الناس إلى ذلك المكان وعرفوا أنه يوجد فيه غار؟ الناس ما يتركون حجراً إلا ويفتشون عنه.

فهذه آية من آيات الله، فإذا أراد الله شيئاً كان، وقد أتى الكفار إلى فم الغار الذي كان النبي ﷺ فيه ولم يستطيعوا أن يروه.

وموسى ﷺ ومن معه لما وقع لهم التيه بقوا في صحراء ليست واسعة الأرجاء إطلاقاً، بقوا فيها نحواً من أربعين سنة -بحسب الوقف والوصل في الآية- حتى قيل إنهم كانوا يمشون سائر النهار، فإذا نزلوا في الليل في مكان، فإذا أصبحوا إذا هم بالمكان الأول، وهذه الصحراء التي تاهوا فيها كان معهم أدلاء بلا شك، وحتى لو لم يوجد معهم أحد، فإن الناس إذا توجهوا من أي جهة سيخرجون من هذه الصحراء خلال أيام، من أي اتجاه بلا استثناء، ومع ذلك يبقون هذه المدة الطويلة، ومعهم نبي من أجلّ أنبياء الله ويظللون بالغمام وينزل عليهم المن والسلوى، فإذا أراد الله شيئاً لا بد أن يكون، أذكر هذا من أجل أن من الناس من يقول: أين الدجال الذي في الجزيرة الذي ورد في قصة تميم الداري؟ وأين يأجوج ومأجوج إذا ما كانوا هم الصينيين؟ لماذا لا يطلع عليهم الناس، أين الأقمار الصناعية؟ نقول: إذا أراد الله شيئاً كان، لا يعجزه شيء.

قوله: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]  وهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذَاتَ الْيَمِينِ أي: يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة: تَزَاوَرُ أي: تميل؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان؛ ولهذا قال: وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِأي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال، ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه، ولله الحمد.

قوله -تبارك وتعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ، التزاور هو الميل، ومن فسره بأنه الانقباض تقول: فلان فيه ازورار عن فلان، أي انقباض وإعراض، بمعنى أن الشمس تعرض عنه، فهو راجع إلى معنى الميل، وقد كان باب الكهف من جهة الشمال، فالشمس عن يمينهم وقت الطلوع، وعن يسارهم وقت الغروب، فالشمس لا تأتيهم من ناحية الجنوب بطبيعة الحال، ولا تأتيهم من ناحية الشرق، ولا الغرب، باعتبار أن مدخل الكهف من ناحية الشمال فلو كان مدخل الكهف من ناحية الشرق فهي لن تأتيهم إذا كانت بعد الزوال، ولو كان من جهة الغرب فهي لن تدخل عليهم في أول النهار، لكن هذه في أوله وآخره، فدل على أن باب الكهف إلى جهة الشمال.

والمقصود أن ينظر الإنسان في قدرة الله ، وما هيأ لهم من أمرهم من ألوان الألطاف وما نشر لهم من رحمته -تبارك وتعالى- فجعل الشمس تصيب الكهف في هذين الوقتين، أضف إلى ذلك ما قصه الله من تقليبهم من أجل أن تبقى أبدانهم على حال من الاعتدال، فمعلوم أن الإنسان إذا بقي على ناحية واحدة فإن جسمه يتضرر.

فالذي يصاب بأمراض مزمنة ولا يستطيع أن يتحرك ويضطر للبقاء على ظهره يحتاج أن يقلّب؛ لأن هذا الإنسان يكون عرضة لأدنى الأشياء، فالمقصود أن تقليب هؤلاء الفتية لتبقى معه أبدانهم محفوظة في حال من الاعتدال، وكل هذا مما نشره الله لهم من رحمته.

قال: وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، القرض بمعنى القطع، ولهذا يقال: مقراض أو مقرض للآلة التي تقطع، والمعنى تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ أي: تعدل عنهم وتتركهم.

قوله: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ مكان متسع لا تصيبهم الشمس، والله يصرف عنهم الشمس فلا تقع عليهم فتضر أجسامهم مع أنهم في مكان متسع من الكهف، وليس المقصود أن حواجز الكهف وجوانب الكهف الطبيعية هي التي منعت الشمس، وإنما امتناع دخولها ووقوعها عليهم آية من آيات الله ، فالله صرف ذلك عنهم مع أنهم في مكان متسع، ليس المقصود أنهم في الناحية الشمالية، وأن جوانب الكهف الأيمن والأيسر والجنوبي تمنع من دخول الشمس وإصابتها لأجسامهم، ولكن الله صرف عنهم الشمس بأمر غير معتاد، وهذا المعنى هو الذي رجحه جماعة من أهل العلم من المتقدمين، ومن المتأخرين، منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، واختاره الإمام الشوكاني، والزجَّاج، وهذا القول له وجه قوي من النظر؛ لقوله : ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ.

وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله ﷺ إليه، فقد قال رسول الله ﷺ: ما تركت شيئًا يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به[5]، فأعلمنا تعالى بصفته، ولم يعلمنا بمكانه، فقال: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ قال مالك عن زيد بن أسلم: تميل ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم قاله ابن عباس -ا.

ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم؛ ولهذا قال: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ثم قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الآية أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا[سورة الكهف:18].

ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم، لم تنطبق أعينهم؛ لئلا يسرع إليها البِلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها؛ ولهذا قال تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌوقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينًا ويفتح عينًا، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد.

قوله: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ فسره -رحمه الله- بأن أعينهم مفتوحة، وبعضهم يقول: إن ذلك لكثرة تقلبهم، يتقلبون كثيراً، فالتقليب حاصل، لكن من نظر إلى النائم وهو يتقلب، هل الناظر إليه يظن أنه مستيقظ بهذا التقلب؟ هذا ليس بلازم، فمن عادة النائم أنه يتقلب، وإنما الذي يُظن أنه مستيقظ هو من كانت أعينه مفتوحة؛ لأن هذا خلاف العادة، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، قال ابن عباس -ا: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.

وقوله: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قال ابن عباس، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير: الوصيد: الفِناء.

وقال ابن عباس: بالباب. وقيل: بالصعيد، وهو التراب، والصحيح أنه بالفناء، وهو الباب، ومنه قوله تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ [سورة الهمزة:8]  أي: مطبقة مغلقة. ويقال: "وَصِيد" و "أصيد".

ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب.

وصيد وأصيد، هما لغتان للعرب يعبرون بهما، فبعضهم يعبر بهذا، وبعضهم يعبر بهذا، بعضهم يقول: الأصيد وبعضهم يقول: الوصيد، وما جاء في عبارات أهل العلم من قول بعضهم بعتبة الكهف، أو البعض: بأنه بباب الكهف، لا يقصد أن الكهف له عتبة، أو أن الكهف له باب، وإنما يقصد في موضع العتبة عند المدخل، أو في موضع الباب وإن لم يكن للكهف باب، ولهذا بعضهم يعترض بعض الاعتراضات التي لا محل لها، فيقول: الكهف أصلاً ليس له عتبة، والكهف أصلاً ليس له باب، والمقصود هو موضع الباب وموضع العتبة كما جرت العادة أن الكلب يجلس في ذلك المحل للحراسة بالوصيد، فالوصيد هو مدخل الكهف.

قال ابن جريج يحرس عليهم الباب. وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب كما ورد في الصحيح، ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر

كما ورد به الحديث الحسن وشملت كلبَهم بركتُهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن.

وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم، وهو الأشبه، وقيل: كان كلب طباخ الملك، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه، فالله أعلم.

على كل حال هذا لا فائدة منه، والمقصود أن معهم كلباً، وبعضهم يقول: مروا براعٍ معه كلب فتبعهم، وبعضهم تكلم على لون الكلب واسمه، واختلفوا في اسمه، فنقول هذا لا فائدة فيه، وهو اشتغال عن المقصودِ وموضعِ العبرة بمثل هذه الأمور التي لا أثر لها، لكن اللفتة التي ذكرها الحافظ ابن كثير –رحمه الله– لفتة جيدة، فالكلب صحبهم فوقع له مثل هذه النومة الطويلة، فإذا كان الكلب وهو بتلك المنزلة السافلة المنحطة قد استفاد من صحبة الأخيار فما بالك بغيره؟ فإن الإنسان بصحبته للأخيار ينال من الخير ما لا يخطر له على بال.

وقوله تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [سورة الكهف:18]، أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء -تبارك وتعالى- فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة البالغة، والرحمة الواسعة.

قوله: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا قول الحافظ ابن كثير: "أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس".

الله –تبارك وتعالى– عمّى عنهم أبصار الناس فلم يصلوا إليهم أصلاً، وإلا فلو رآهم الناس، ورآهم واحد وذهب وأخبر الناس لتجمعوا ينظرون إليهم، فليست القضية -والله أعلم- من أجل أن لا تمسهم يد لامس، فالناس ما رأوهم حتى نقول: تركوهم فزعاً، ولذلك لما وقفوا على أمرهم فيما بعد اجتمعوا وقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21].

فقوله: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، ربما يكون لما كانوا عليه من هذه الآية التي ذكرها الله فعيونهم مفتوحة وهم في حال من الاستغراق والنوم، أو لما ألقى عليهم من المهابة، أو غير ذلك مما يعلمه الله .

ومن من أهل العلم من قال: إن ذلك بسبب تغير أحوالهم من طول الشعر والأظفار، لما جلسوا هذه المدة ثلاثمائة وتسع سنوات وكيف تكون حال الإنسان إذا ترك شعره فيها، ولم يقص أظفاره، كيف تكون لحيته وكيف يكون شاربه، لكن هل كانت أجسادهم تنمو في هذه المدة أصلاً؟

فلو أن هؤلاء بعدما استيقظوا بعد ثلاثمائة وتسع سنوات، وقاموا ولحاهم بيض وهم في هيئة من عاش هذه المدة فعلاً، فلماذا لم يفزعوا هم من أنفسهم حينما استيقظوا؟ فظاهر الآية والسياق أن ذلك لم يحصل منهم، بل لم يعرفوا المدة التي بقوها حتى إن بعضهم قال: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

فلو رأى الواحد فيهم أن شواربه أمتار، وأن لحيته أمتار، وأن شعره لربما يبلغ عشرات الأمتار، لاستغرب وخاف، فالذي يظهر أنهم قاموا بنفس الهيئة، وظنوا أن المدينة هي المدينة، وأن العملة هي العملة، وأن الناس هم الناس ولا زالوا، إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [سورة الكهف:20]، فلا يعقل أن يكون حصل لهم التغير -مما يحصل للإنسان عادة حينا ينمو في هذه المدة الطويلة- ولم يحصل لهم استغراب من هذا، ولم يدركوا أنهم جلسوا مدة طويلة إطلاقاً.

ولذلك ذهبوا إلى المدينة باعتبار أنها كما تركوها، ولو كانوا في هيئة أخرى لكانوا بحاجة إلى إصلاح الحال قبل الذهاب إلى الناس ومقابلة الناس، بل قد يفزعون هم من أنفسهم.

والله على كل شيء قدير، فقد تحمل الأم خمس سنوات وأكثر، ويخرج الجنين مثل الجنين الذي تحمل به أمه تسعة أشهر. 

  1. رواه أبو داود، كتاب الفتن، باب ما يرخص فيه من البداوة في الفتنة (4 / 166)، برقم: (4269)، وصححه الألباني.
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة براءة التوبة (4 / 1712)، برقم: (4386)، ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل أبي بكر الصديق (4/1854)، برقم: (2381).
  3. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3/1275)، برقم: (3274).
  4. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين (1/128)، برقم: (144).
  5. مصنف عبد الرزاق (11 / 125)، برقم: (20100).

مواد ذات صلة