الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[7] من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} الآية 54 إلى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ تَقِيًّا} الآية 63
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الآخر / ١٤٢٩
التحميل: 3244
مرات الإستماع: 24436

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ۝ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [سورة مريم:54، 55].

هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد.

قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها.

وقال بعضهم: إنما قيل له: صَادِقَ الْوَعْدِ لأنه قال لأبيه: سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [سورة الصافات:102]. فصدق في ذلك، فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خلفه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3].

وقال رسول الله ﷺ: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان[1] ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله ﷺ صادق الوعد –أيضاً- لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب -ا، فقال: حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي[2] ولما توفي النبي ﷺ قال الخليفة أبو بكر الصديق -: من كان له عند رسول الله ﷺ عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله ﷺ قال: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا[3] يعني ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال، ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من المرويات عن ابن جريج: أنه لم يعد ربه عدة إلا أنجزها، وقال بعضهم: لأنه قال لأبيه: سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، وعلى كل حال هذا كله داخل في هذا المعنى، فهو الصادق الوعد مع ربه تبارك وتعالى، وكذلك هو الصادق الوعد مع الخلق.

والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، سئل الإمام أحمد -رحمه الله- كيف نعرف الكذابين؟ فقال: بمواعيدهم، والنبي ﷺ لما ذكر آية المنافق ذكر من ذلك: إذا وعد أخلف، والواقع أن هذه الأمور التي ذكرها النبي ﷺ في صفة المنافق ترجع إلى الكذب، بل إن النفاق برمته يرجع إلى الكذب، فالكذب كما يكون في الأقوال كذلك يكون في الأفعال وفي الحال بأن يظهر حالاً ليست حقيقية، لا تدل على ما في باطنه فهو كذب في الحال، وعلى كلٍّ هذه الأشياء جمعياً داخلة في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق عليهما الصلاة والسلام؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل[4] وذكر تمام الحديث، فدل على صحة ما قلناه.

وقوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة، والخلة السديدة، حيث كان مثابراً على طاعة ربه ، آمراً بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [سورة طه:132] الآية، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً، فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء أخرجه أبو داود[5] وابن ماجه[6].

قوله -تبارك وتعالى: وكان يأمر أهله بالصلاة: مثل هذا التركيب: الفعل المضارع المسبوق بفعل الكون الماضي: كان يأمر، كان يفعل، يدل على المداومة والتكرار والملازمة للشيء، فكان يفعل ذلك بصورة مستمرة، يفعله حيناً بعد حين، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:6]، هذا من عادتهم وديدنهم وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [سورة الجن:4]، وما شابه ذلك.

وأما قوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ يحتمل أن يكون المراد بالزكاة زكاةَ المال، وأن هذه الأمور كانت مشروعة عندهم، وإن اختلفت تفاصيلها في هذه الشريعة، والقرينة الدالة على ذلك هو الاقتران مع الصلاة، فإن الغالب في القرآن هو اقتران الصلاة مع الزكاة، إذا كانت متعلقة بالمال، ويحتمل أن يكون المراد بذلك تزكية النفس والتطهير لها من أدران الشرك والمعاصي، والله تعالى أعلم.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ۝ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [سورة مريم:56، 57] ذكر إدريس بالثناء عليه بأنه كان صديقاً نبياً، وأن الله رفعه مكاناً علياً، وقد تقدم في الصحيح أن رسول الله ﷺ مرَّ به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة.

قال سفيان عن منصور عن مجاهد: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا قال: السماء الرابعة، قال الحسن وغيره في قوله: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا قال: الجنة.

الحديث الثابت الصحيح في ليلة الإسراء في الرواية المشهورة أنه كان في السماء الرابعة[7]، خلافاً لما جاء في بعض الروايات كراوية شريك، وما جاء أيضاً من المرويات الأخرى عن بعض السلف، فإن مثل هذا لا يعارض به هذه الرواية الصحيحة الثابتة، فهو في السماء الرابعة.

وبعضهم يذكر غير هذا من المنقول عن بني إسرائيل من رفعه بين جناحي الملَك، وأنه طلب من الملَك لما استأذن الملك ربه أن يأتي إليه، وقال له: سلني حاجة فطلب منه حاجة إلى ملَك الموت، وأنه قال له: أما الأجل فلا يتقدم ولا يتأخر، فالشاهد يقولون: أنه رفعه بين جناحيه وصعد به، وكلام من هذا القبيل لا حاجة إلى سرده، وكل ذلك لا يثبت، وبعضهم يقول: ورفعناه مكاناً عليا أي: في الجنة، وبعضهم يقول: في منزلته وقدره ودرجته وما إلى ذلك.

وتفسيره بأنه في السماء الرابعة قال به كثير من أهل العلم من السلف فمن بعدهم، وإدريس -عليه الصلاة والسلام- كثير من المؤرخين يقولون: إنه كان قبل نوح، وليس هذا محل اتفاق، وأن اسمه: "أخنوخ" هكذا زعموا، ويقولون: إن نوح هو ابن لامك ابن متوشلخ ابن أخنوخ، فهو أبو جد نوح، هكذا قالوا، ومثل هذا يذكر في بعض كتب التفسير وبعض كتب التاريخ ولكن لا دليل عليه، ونحن نعلم أن أول نبي هو آدم ﷺ، وأول رسول في المشهور هو نوح -عليه الصلاة والسلام، وإذا قيل بأن إدريس -عليه الصلاة والسلام- كان قبل نوح والله -تبارك وتعالى- يقول: واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً لم يذكر رسالته فيكون نُبِّئ بعد آدم -عليه الصلاة والسلام- على خلاف بين المؤرخين بعضهم يقول أنه أدرك من حياة آدم -عليه الصلاة والسلام- ويكون أول رسول هو نوح، والناس كما في حديث ابن عباس -ا- كانوا على التوحيد عشرة قرون، فيكون إدريس -عليه الصلاة والسلام- في تلك الفترة في ذلك الوقت الذي كانوا فيه على التوحيد فلم يرسل إلى قوم كافرين، وذكرنا في الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام في الفرق بين النبي والرسول أن الرسول هو الذي أرسل إلى قومٍ كافرين، والنبي يكون مقررا لشريعة نبي قبله يجدد لهم دينهم، والله تعالى أعلم.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [سورة مريم:58] يقول تعالى: هؤلاء النبيون- وليس المراد المذكورين في هذه السورة، فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس- الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ الآية.

قال السدي وابن جرير -رحمه الله. فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم، والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل، والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم، قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة، وهو إدريس، فإنه جد نوح.

هذا الذي ذكره قال به جماعة من أهل العلم، وهو تقسيم حسن، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يقول: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا جمعياً من ذرية نوح، فآدم -عليه الصلاة والسلام- نبي، وليس من ذرية نوح قطعاً، وإذا قيل بأن إدريس كان قبل نوح عليهما الصلاة والسلام، فليس من ذرية نوح، وهكذا هود وصالح عليهما الصلاة والسلام ليسا من ذرية إبراهيم، فهذا التقسيم بهذه الطريقة يشمل الأنبياء، فيكون هؤلاء قُسِّموا بهذا الاعتبار، فقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ يكون إدريس بهذا الاعتبار مذكوراً، إذا قلنا أنه قبل نوح.

بعد ذلك، قال: وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، الله جعل ذرية نوح هم الذين تناسل الناس منهم وبقوا، وإلا فإن غيره ممن ركب معه على خلاف في من ركب وعدد من ركب، انقرض نسلهم، فأولاد نوح عليه الصلاة والسلام هم الذين وجد منهم العالم بعد ذلك.

قال أن من نسل نوح إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، والذي عني به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى إلى آخره. هذا التقسيم جيد.

قلت: هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام.

وهذا ليس محل اتفاق -كما ذكرت- أن إدريس -عليه الصلاة والسلام- قبل نوح، وكثير من المؤرخين يقولون بأن الأهرام الذي بناها إدريس -عليه الصلاة والسلام، وأنه كان قبل نوح، وأنها كانت قبل الطوفان، وأنه لو كانت بعد الطوفان لعرف خبرها، وتاريخها، والتفاصيل المتعلقة بها، فلما لم يوقف على ذلك قالوا بأنها كانت قبل الطوفان، وهم لا يعرفون التاريخ قبل الطوفان، هكذا قال كثير منهم، ومن شاء فليراجع في هذا أمثال كتاب السيوطي: حسن المحاضرة، وكذلك في مثل كتاب الخطط المقريزي.

ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۝ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:83-87] إلى قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام: (90] وقال : مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [سورة غافر:78].

وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس ا: أفي ص سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم[8]، يعني داود.

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة وحمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم.

قوله -تبارك وتعالى: خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاًْ يقول: البكي جمع باكٍ، وبعض أهل العلم -كالخليل بن أحمد- فرق بين البكا من غير همز والبكاء مع الهمز، وقال: البكا لا يكون بالصوت، فيكون من قبيل الغم والحزن، وأما البكاء فهو البكاء المعروف، يكون بصوت والله أعلم، وكثير من أهل اللغة والمفسرين يقولون البكا والبكاء واحد.

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ۝ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [سورة مريم:59، 60]

لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه خَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي: قرون أخر أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غياً، أي: خساراً يوم القيامة.

وقال الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله: عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [سورة المعارج:23] وعَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة المعارج:34] فقال ابن مسعود: على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك، قال ذلك الكفر، قال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهُن: إضاعتهن عن وقتهن.

وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد: أن عمر بن عبد العزيز قرأ: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت.

قوله -تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ خلف: بعض أهل العلم يقولون: الخلْف والخلَف بمعنى واحد، وبعضهم يفرق بينهما، واختلفوا في الفرق، فبعضهم يقول: بأن الخلْف هو الخلَف السيئ، والخلَف هو الخلَف الطيب، وبعضهم يفرق بينهما من جهة أن أحد هذين اللفظين يطلق على ما كان من ولد الإنسان وعقبه، والآخر يطلق على من كان تابعاً له.

وعلى كل حال خَلَف من بعهدهم خلْف: خلَف سيئ، والمراد بهؤلاء: قيل: اليهود، وقيل: اليهود والنصارى، وقيل غير هذا، والآية: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى ثم قال: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ خلف من بعد هؤلاء من الذين جاؤوا بعد هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم من تبعهم ممن يزعم أنه من أتباعهم من اليهود والنصارى، فجاءت قرون بعد ذلك وأجيال، كما وصف الله -تبارك وتعالى، وإذا كان هذا الوصف المذموم وقع أولئك فيه والنبي ﷺ قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم([9]، فإن مما شابهت به هذه الأمة اليهود والنصارى تضييع الصلاة واتباع الشهوات، فهذا وقع في هذه الأمة أيضاًَ، وإذا كان أولئك قد توعدهم الله بهذا الوعيد فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً، فإن هذا أيضاً يتوجه إلى من ضيعها من هذه الأمة.

وهذا التضييع: كثير من السلف يقولون: ضيعوا أوقاتها، ويؤخرونها عن وقتها، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن ذلك التضييع بمعنى الترك، وأن هذا الوعيد لمن تركها، ويستدل على هذا بقوله بعده، إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ [سورة مريم:60]، قال: تاب وآمن، فهذا كافر، وهو الذي لا يصلي بالكلية، ولو كان يؤخرها عن وقتها لما قال: إلا من تاب وآمن، وعلى كلٍّ الجمهور على أن المقصود تضييع الأوقات، وابن القيم -رحمه الله- يحمل الآية على الجميع؛ فكل هذا تضييع، فمن تركها بالكلية فقد ضعيها، ومن ضيع مواقيتها وفرط فيها حتى خرج الوقت فهو مضيعٌ لها، وهكذا من أخل بواجباتها وأركانها وشروطها فهو مضيع لها، وكل هذا من التضييع.

وقوله: فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً أي: خسراناً، وقال قتادة: شراً، وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً قال: وادٍ في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم، وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله: فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً قال: وادٍ في جهنم من قيح ودم.

قوله -تبارك وتعالى: فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً قال: وادٍ في جهنم بعيد القعر، وقال الأعمش عن زياد بن أبي عياض قال: وادٍ في جهنم من قيح ودم، والعرب تطلق الغيّ على الشر، كما تطلق الرشاد على الخير، ويقولون عن الضلال بأنه غي، وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، فإن الذي يكون مآله إلى وادٍ في جهنم لا شك أن يكون قد لقي شراً، فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً يلقون شراً، يصيرون إلى وادٍ في جهنم، والله تعالى أعلم.

وقوله: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً أي: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولهذا قال: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً وذلك لأن التوبة تجبُّ ما قبلها، وفي الحديث الآخر: التائب من الذنب كمن لا ذنب له[10]، ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هدراً، وترك نسياً، وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم، وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [سورة الفرقان:68] إلى قوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة الفرقان:70].

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ۝ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ۝ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [سورة مريم:61-63].

يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن، أي: إقامة، التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب، أي: هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.

في قوله -تبارك وتعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ، قوله: بالغيب في محل نصب على الحال، وهي إما أن تكون حالاً من جنات، أو من عباده فعلى الأول فالمعنى: جنات عدن التي وعد الرحمن عباده متلبسة بالغيب، فهي من أمر الغيب لم يطلعوا عليها، ولم يروها، وعلى الثاني: فالمعنى: جنات عدن التي وعد الله عباده متلبسين بالغيب، والأول هو الأقرب، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير، فهذه الجنات هي من أمر الغيب، وعدهم الله بها ولم يروها ووصفها لهم.

وقوله: إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [سورة المزمل:18] أي كائناً لا محالة، وقوله ههنا: مَأْتِيّاً أي: العباد صائرون إليه وسيأتونه، ومنهم من قال: مَأْتِيّاً بمعنى آتياً؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته، كما تقول العرب: أتت عليَّ خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى واحد.

والمشهور هو الأول أن مأتيا بمعنى: أنهم يأتونه، ويصيرون إليه، وهذا المعنى هو الذي عليه عامة أهل اللغة وأهل التفسير، بل قد صرح بعضهم بضعف المعنى الثاني، كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، يضعف المعنى الثاني أن مأتيا بمعنى آتياً.

وقوله: لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً أي: هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا، وقوله: إِلاَّ سَلاَماً استثناء منقطع كقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۝ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:25، 26].

الاستثناء المنقطع عرفناه ومر في مواضع متعددة، كقوله -تبارك وتعالى: مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157]، اتباع الظن ليس من قبيل العمل وسبق في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ [سورة البقرة:34]، وإبليس ليس من جنس الملائكة وهكذا في قوله: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ۝ إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:19، 20].

وذلك ليس مما قبله، وهكذا في قوله: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [سورة الدخان:56]، فالموتة الأولى ليست من جنس الموت المذكور، فالموتة الأولى ليست في الآخرة، وهكذا أيضاَ في مثل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ [سورة النساء:29]، التجارة ليست من أكل الأموال بينهم بالباطل إلى غير ذلك، قد مضى مراراً.

على كل حال في قوله -تبارك وتعالى: إِلاَّ سَلاَماً أحسن ما يفسر به والله تعالى أعلم هو ما ذكر بعده إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ومعنى القيل: القول، سلاماً سلاما، وذلك أن الله يسلم عليهم، كما قال الله -تبارك وتعالى:سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يس:58]، وتسلم عليهم الملائكة، وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ۝ سَلاَمٌ عَلَيْكُم [سورة الرعد:23، 24]، وهكذا يسلم بعضهم على بعض كما قال الله -تبارك وتعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [سورة الأحزاب:44] تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [سورة إبراهيم:23] يحيي بعضهم بعضاً، وما يُحيَّون به هو هذا السلام، وبعضهم نظر إلى معنى السلام، فقال: السلام هو اسم جامع للخير، فهو متضمن للسلامة، وهذا يعني أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم أو شيئاً يزعجهم، وإنما يسمعون ما يحصل به لهم اللذة والراحة والسرور والحبور والطمأنينة وما أشبه هذا.

والذي تدل عليه الآيات في القرآن أنهم يسمعون السلام الذي هو التحية، وذلك ليس من اللغو في شيء، فهذا من قبيل الاستثناء المنقطع، واللغو كل كلام باطل لا قيمة له، كل كلام لا نفع فيه ولا طائل تحته فهو لغو، فيدخل فيه الكلام المحرم، ويدخل فيه أيضاً الكلام الذي لا ينتفع به، وهذا يدل على أن من النعيم وراحة القلب أن يعرض الإنسان وينزه سمعه وقلبه عن سماع الكلام الباطل وعن سماع ما لا ينفع، لا يشتغل بما لا ينفع ولا يرخي سمعه لكل من تكلم، والله يقول: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [سورة الإسراء:36].

وقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً أي: في مثل وقت البكرات، ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار، كما روى الإمام أحمد[11] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها، ولا يتمخطون فيها، ولا يتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم، الذهب والفضة، ومجامرهم الألوَّة، ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا. أخرجاه في الصحيحين[12].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ:
الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً تفرد به أحمد[13]، وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً قال: مقادير الليل والنهار.

قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً، قال الضحاك عن ابن عباس قال مقادير الليل والنهار، يعني أن ذلك تقديراً باعتبار أنه لا يوجد شمس في الجنة ولا يوجد فيها بكرة ولا عشي، وإنما ذلك مقادير البكرة والعشي يأتيهم فيها رزقهم، وعلى كل حال العرب تعبر بهذا، فيقولون: بكرة وعشيا، يأتيه في الغدو والآصال، في البكور والعشي، وما أشبه ذلك، يعني أن ذلك شيء يتعاقب ويستمر ويدوم ويتكرر، وإن لم يقصدوا بذلك هذا الوقت بالذات، فيقولون: يأتي فلان في الغدو والعشي أو في البكور والعشي، أي: أن مجيئه دائمٌ مستمر متكرر، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً أي: أن ذلك يحصل تكرره وتتابعه بلا انقطاع.

هكذا العرب تعبر عن هذا المعنى، والقول الآخر الذي ذكره هو مقارب لهذا، أن هذا بهذا التقدير، أي: أوقات الغدو أو البكور، والبكور هو في أول النهار كما هو معلوم، والعشي ما يكون بعد الزوال.

قال الشنقيطي -رحمه الله- تعالى في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: "وقوله في هذه الآية الكريمة وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً فيه سؤال معروف، وهو أن يقال: ما وجه ذكر البكرة والعشي، مع أن الجنة ضياء دائم ولا ليل فيها، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة:

الأول: أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن، كقوله: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12] أي قدرها شهر. وروي معنى هذا عن ابن عباس –ا، وابن جريج وغيرهما.

الجواب الثاني: أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداءً وعشاءً فذلك الناعم، فنزلت الآية مرغبة لهم، وإن كان في الجنة أكثر من ذلك.

هذا معنى آخر أن هذه التعبير عن النعيم على طريقة العرب أن من وجد هذا وهذا فهو في سعة ونعيم ورغد، يقال: فلان يأتيه رزقه غدوة وعشيا يعني: مكفي.

الجواب الثالث: أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي، والمساء والصباح، كما يقول الرجل: أنا عند فلان صباحاً ومساءً، وبكرة وعشياً، يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين.

الجواب الرابع: أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم، والعشي: هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال، وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول.

هذا الآن في الجنة، اشتغال باللذات في الجنة، وبعد الاشتغال بها، لكن ما قبله أوضح منه.

الجواب الخامس: هو ما رواه الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة، قالا: "قال رجل: يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: "وما يهيجك على هذا "؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً، فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله ﷺ: "ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة" انتهى"[14].

هذا لا يثبت.

وقوله: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة، هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله في السراء والضراء، والكاظمون الغيظ، والعافون عن الناس، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:1، 2] إلى أن قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:10، 11].

في قوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً الإيراث: الذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود أن الله -تبارك وتعالى- يدخلهم الجنة ويسكنهم إياها، فذلك هو الإيراث، وكما نقول نحن بأن الله أورثنا الأرض، ويأتي الإيراث أيضاً بمعنى أن يحصل للإنسان ما كان لغيره، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا [سورة الأحزاب:27].

وكذلك يقال المواريث بأن فلان قد ورث مال فلان، وابن جرير رحمه يرى أن المذكور في الآية هو بهذا المعنى، باعتبار أن ما يحصل لأهل الجنة إنما هو نوع من التوارث، مع أن أهل الجنة يسكنون، ويأتون إلى منازلهم في الجنة، لكنه نظر إلى أنهم يتوارثون منازل أهل النار في الجنة كما دل عليه الحديث.

كل واحد له منزل في الجنة ومنزل في النار، فأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار، وأهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار التي في الجنة، فحملها على هذا المعنى، ولكن هذا لا يخلو من إشكال، وذلك أنه عبر عن إدخالهم الجنة وسكناهم الجنة بالتوارث وهذا التوارث الذي يحصل إنما هو لون من ألوان السعة التي تكون لأهل الجنة وما يحصل لهم من العطاء والنعيم، إضافة إلى ما يكون لهم ابتداء، يتوارثون أيضاً منازل أهل النار التي في الجنة.

فكيف يحمل عليه معنى هذه الآية، فلا يخلو من الإشكال، ولذلك عامة المفسرين يفسرونه بأنه دخول الجنة هو إيراثهم الجنة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يناقش هذا القول الذي أشرت ورجحه ابن جرير ويرده، وله كلام جيد في هذا.

قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً[15].

الإشارة في قوله: تلك، إلى ما تقدم من قوله: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ... الآية، وقد بين -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين من عباده جنته، وقد بين هذا المعنى أيضاً في مواضع أخر، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:1، 2] إلى أن قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:10، 11]. 

وقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الآيات [سورة آل عمران:133]، وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.. الآية [سورة الزمر:73]، وقوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43]، إلى غير ذلك من الآيات.

ومعنى إيراثهم الجنة: الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكمل نعيم وسرور. قال الزمخشري في الكشاف: نورث أي: نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. انتهى.

وقال بعض أهل العلم: معنى إيراثهم الجنة أن الله تعالى خلق لكل نفس منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، أراهم منازلهم في النار لو كفروا وعصوا الله ليزداد سرورهم وغبطتهم، وعند ذلك يقولون: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ [سورة الأعراف:43].

وكذلك يرى أهل النار منازلهم في الجنة لو آمنوا واتقوا الله لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة الزمر:57].

ثم إنه تعالى يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، فيرثون منازل أهل النار في الجنة، وهذا هو معنى الإيراث المذكور على هذا القول.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:

ذكر قول ابن جرير والآن يرد عليه.

قد جاء حديث يدل لما ذُكر من أن لكل أحد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب؛ لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم لمعدة لهم بأعمالهم وتقواهم، كما قد قال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43]، ونحوها من الآيات، ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار.

والواقع بخلاف ذلك كما ترى، والحديث المذكور هو ما رواه الإمام أحمد في المسند[16]، والحاكم في المستدرك[17] من حديث أبي هريرة -: كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني فيكون له شكر، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لولا أن الله هداني، فيكون عليه حسرة اهـ.

وعلم في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة، وقال شارحه المناوي: قال الحاكم صحيح على شرطهما وأقره الذهبي، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح اهـ.

نعم على كل حال الإيراث يأتي بمعنى هذا وهذا، والأقرب والله أعلم أن يفسر هنا بمعنى إدخال الجنة، وسكنى الجنة فهذا هو الأقرب في تفسيرها والعلم عند الله -، وإن كان الإيراث يأتي بمعنى تحصيل الإنسان ما كان لغيره كالمواريث ونحو ذلك، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا [سورة الأحزاب: (27].

طالب: تحرير محل النزاع: يعني ابن جرير -رحمه الله- يقول: يرثون بيوت أهل النار، والشنقيطي وغيره رحم الله الجميع يقولون: أنهم لهم بيوت معدة، ما المانع من أن يقال: الآية تشمل ذلك كله؟

لا الكلام في سبب التعبير بالإيراث فابن جرير حملها على أنه أن يحصل الإنسان ما كان لغيره، حملها على هذا المعنى فقال: عبر بهذا نورث بمعنى أنهم يرثون منازل أهل النار، وأهل الجنة يدخلون الجنة كما قال: أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، ومن زيادة نعيمهم أنهم يرثون منازل أهل النار.

فتفسير نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا بأنهم يتوارثون منازل أهل النار، لا يخلو من هذا الإشكال.

  1. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم: (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59).
  2. رواه البخاري، كتاب الخمس، باب ما ذكر من درع النبي ﷺ وعصاه وسيفه وقدحه، برقم: (2943)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام برقم: (2449).
  3. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه [آل عمران:28] برقم: (2174).
  4. رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في فضل النبي ﷺ: (3605) وقال الألباني: تمام الحديث صحيح دون هذا الاصطفاء.
  5. رواه أبو داود، أبواب الإمامة، باب قيام الليل، برقم: (1308) وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع برقم (3494).
  6. رواه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، برقم: (1336).
  7. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج برقم (3674).
  8. رواه البخاري كتاب التفسير، سورة الأنعام (4/1695) برقم: (4356)
  9. رواه البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم: (6889).
  10. رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة (2/1419) برقم: (4250) وحسنه الألباني، انظر صحيح الجامع رقم (3008).
  11. مسند أحمد بن حنبل: (13/ 520) برقم: (8198 )، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  12. رواه البخاري كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3/1185) برقم: (3073)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم: (2834).
  13. مسند أحمد بن حنبل (4/220) برقم: (2390)، وقال محققوه: " إسناده حسن، ابن إسحاق حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح".
  14. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (3/470).
  15. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (3/471-412).
  16. مسند أحمد بن حنبل: (16/ 382) برقم: (10653)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط البخاري".
  17. المستدرك على الصحيحين: (2/473) برقم: (3629).

مواد ذات صلة