الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية 1إلى قوله تعالى: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} الآية 9
تاريخ النشر: ٠٦ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 3532
مرات الإستماع: 31531

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة الأنبياء -عليهم السلام، وهي مكية.

روى البخاري عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: "بنو إسرائيل والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي"[1].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ ۝ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ۝ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُم ْأَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ۝ قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوّلُونَ ۝ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مّن قَريَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنبياء:1-6].

هذا تنبيه من الله على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها، أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها.

وروى النسائي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ: فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ قال: في الدنيا[2]، وقال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، وقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ۝ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا الآية [سورة القمر:1، 2].

ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله، والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار، فقال: مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ أي: جديد إنزاله إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، كما قال ابن عباس -ا: ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضاً لم يُشب[3]. رواه البخاري بنحوه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكلام ابن مسعود حينما قال: "بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول، وهن من تلادي"، هن من العتاق الأول، العتاق: جمع عتيقة، أو عتيق، والشاهد منه أن هذه من السور المكية، وأنها مما أخذه قديماً وتلقاه عن رسول الله ﷺ.

وهذه السورة مكية بالإجماع كما نقله بعض أهل العلم.

وقوله -تبارك وتعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ قال: "أي: جديد إنزاله"، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- تكلم به ونزل به جبريل على رسول الله ﷺ وسمعه هؤلاء الناس، وتلقوه عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام، وذلك يدل دلالة واضحة على أن الله -تبارك وتعالى- يتكلم متى شاء كيف شاء، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وليس معنى مُّحْدَثٍ أنه مخلوق، فالقرآن كلام الله، وكلامه صفة من صفاته، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ [سورة التوبة:6]، وصفاته غير مخلوقة، فالقول في الصفات كالقول في الذات.

وإنما المقصود بالمحدث يعني أنه نزل حديثاً، فالله -تبارك وتعالى- كما هو معلوم- لم ينزل القرآن جملة واحدة، وجبريل -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث الذي يدل على هذا المعنى في تكلم الله بالوحي حينما يصعق أهل السماوات، ويكون أول من يفيق جبريل فيكلمه الله من وحيه بما شاء، فهذا كله يدل على أن جبريل يسمع من الله مباشرة وينزل به، وهذا لا ينافي كون القرآن في اللوح المحفوظ كما قال الله : فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [سورة البروج:22]، وأنه في صحف بأيدي الملائكة، فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۝ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [سورة عبس:13-15]، وأيضاً هو في بيت العزة في سماء الدنيا، فهذا كله يدل على مزيد عناية الله بهذا الكتاب، لكن جبريل -عليه الصلاة والسلام- يتلقاه عن الله مباشرة، وهذا الذي عليه أهل السنة، فلا يجوز لأحد أن يحيد عن هذا المعتقد أو يعتقد سواه، فهو عقيدة السلف الصالح - وأرضاهم.

هو في بيت العزة في سماء الدنيا، فهذا كله يدل على مزيد عناية الله بهذا الكتاب، لكن جبريل -عليه الصلاة والسلام- يتلقاه عن الله مباشرة، وهذا الذي عليه أهل السنة، فلا يجوز لأحد أن يحيد عن هذا المعتقد أو يعتقد سواه، فهو عقيدة السلف الصالح - وأرضاهم.

وأما قول ابن عباس -ا- فالشاهد فيه هو قوله: "وكتابكم أحدث الكتب" هذا هو الشاهد، أورده من أجل هذا "أحدث الكتب"، وجاء عن الزهري -رحمه الله: أحدث آية بالعرش آية الدين.

وقوله: وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ أي: قائلين فيما بينهم خُفية: هَلْ هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْيعنون رسول الله ﷺ يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم، فكيف اختص بالوحي دونهم؟

النجوى كما هو معلوم لا تكون إلا بالسر؛ لأن النجوى هي الحديث الذي يكون بين اثنين فأكثر مما يقصد به الانفراد عن الناس، هذه النجوى، فالله يقول: وَأَسَرّواْ النّجْوَى مع أن النجوى لا تكون إلا سراً، فهذا يدل على أنهم بالغوا في إخفائها، وَأَسَرّواْ النّجْوَى أي: أخفوا النجوى.

وقد يتناجى أناس ويعلم أنهم يتناجون لكن لا يعرف مضمون النجوى، فكأن هؤلاء لشدة مبالغتهم في الإخفاء أخفوا النجوى نفسها، وَأَسَرّواْ النّجْوَى، مبالغة ولم يكتفوا بالتناجي بينهم.

وقوله -تبارك وتعالى: الّذِينَ ظَلَمُواْ فيها أقوال كثيرة للمفسرين من جهة الإعراب، ومعلوم أن الإعراب تحت المعنى، فيتغير الإعراب بحسب اعتبارات المعاني، كما أن لك أن تقول أيضاً: إن المعنى تحت الإعراب، فقوله: وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ، بعضهم يقول: إن قوله: وَأَسَرّواْ النّجْوَى معناها أظهروا النجوى؛ لأن كلمة أسر هذه من الأضداد تأتي بمعنى أخفى، وتأتي بمعنى أظهر، ولكن هذا قد لا يدل عليه السياق، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ بعضهم يقول: هذا محل نصب، أعني الّذِينَ ظَلَمُواْ.

وبعضهم يقول: هو بدل من الواو في قوله: وَأَسَرّواْ فهم أسروا النجوى، فيكون بدل بعض من كل، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ، فالذين أسروا النجوى هم الذين ظلموا، وبعضهم يقول غير هذا، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرجح هذا القول بأن الّذِينَ ظَلَمُواْ بدل من الواو في قوله: وَأَسَرّواْ، وهذا من أوضح الأوجه، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ أي: قائلين فيما بينهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، هَلْ هَذَا، هذه الجملة أيضاً يحتمل أن تكون بدلاً من النجوى، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ ومضمون هذه النجوى، قالوا فيها: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ فيكون بدلاً من النجوى، يعني أسروا قولهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ.

ويحتمل غير هذا، يمكن أن يكون معمولاً لقول محذوف، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ قالوا: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، وحذْفُ القول كثير في القرآن، والعرب تحذف من الكلام ما تستغني عنه ثقة بفهم السامع أو المخاطب، من باب الاختصار، وعلى كل حال يحتمل هذا وهذا، والله أعلم.

وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ قالوا: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، يعنون رسول الله ﷺ يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم، فكيف اختص بالوحي دونهم؟، وهذا كالآيات التي سبقت في مناسبات شتى وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، وهكذا في قوله: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ [سورة التغابن:6]، وأَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [سورة المؤمنون:47] وغير ذلك من الآيات.

ولهذا قال: أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أي: أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر؟، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب: قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ أي: الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض.

وقوله: وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُأي: السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد.

كذلك في قوله: قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ، وفي القراءة الأخرى المتواترة قل رب يعلم، ومعنى ذلك -والله تعالى أعلم- أنه قال لهم مجيباً: رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ يعني: هذا الذي قلتوه، وهذا الذي تناجيتم به، وهذا التكذيب الذي صدر منكم، وهكذا ما أنسبه إلى الله وأضيفه إليه من أنه كلامه كل ذلك الله -تبارك وتعالى- يعلمه، ولا يخفى عليه من قيل القائلين قليل ولا كثير.

وقوله: بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن، وحيرتهم فيه وضلالهم عنه، فتارة يجعلونه سحراً، وتارة يجعلونه شعراً، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام، وتارة يجعلونه مفترى، كما قال: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:48]، و [سورة الفرقان:9].

قوله:بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وأضغاث الأحلام بمعنى الأخلاط، وبعض السلف يعبر عن هذا بأنها الأحلام التي لا تُعبَّر، هو يقصد بها هذا المعنى، فالتي لا تعبر هي الأخلاط، كما في قوله: قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ [سورة يوسف:44]، والتي تفسر هي الرؤى، فالشاهد أنهم قالوا: إن هذا القرآن هو أضغاث أحلام ثم قالوا: بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [سورة الأنبياء:5].

فبعض أهل العلم يقول: إن "بل" هذه للإضراب الانتقالي، وليست للإضراب الإبطالي، يعني لم يقصدوا بها نفي ما قبله حينما انتقلوا إلى غيره، وإنما هم يتخبطون كما قال بعض أهل العلم: إن ذلك صدر من هؤلاء المشركين بمجموعهم، فتارة يقولون: أضغاث أحلام، وتارة يقولون: شعر، أو شاعر، وتارة يقولون: كاهن، وتارة يقولون: ساحر، فاضطربت أقوالهم فيه، ولم يتفقوا على شيء، كما قال الله : انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [سورة الفرقان:9].

ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك قد تفرق فيهم، بمعنى أن هؤلاء المشركين طوائف، منهم من قال: إنه ساحر، ومنهم من قال: إنه شاعر، ومنهم من قال: إنه كاهن، ومنهم من قال: إنه أضغاث أحلام، والله نفى هذا فقال: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [سورة الحاقة:41-42].

وقوله: فلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ يعنون ناقة صالح وآيات موسى وعيسى -عليهم السلام- وقد قال الله: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [سورة الإسراء:59] الآية؛ ولهذا قال تعالى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ أي: ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا فأهلكناهم بذلك، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا، بل إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [سورة يونس:96، 97] هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله ﷺ ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

هذا كقوله تعالى: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:109، 110] إلى آخر ما ذكر الله ، ولهذا قال الله وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [سورة الأنعام:111]، فهؤلاء لا يؤمنون، وقد رأوا القمر ينشق فقالوا: سحرنا محمد، وهذه آية واضحة.

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْألُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ۝ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ۝ ثُمّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ [سورة الأنبياء:7-9].

يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ أي: جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال في الآية الأخرى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة النحل:43]، وقال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:9]، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم؛ لأنهم أنكروا ذلك فقالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [سورة التغابن:6]، ولهذا قال تعالى: فَاسْألُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَأي: اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة؟ وإنما كانوا بشراً، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ، هذا يحتج به أهل العلم على أن الرسل الذين جاءوا إلى الناس كانوا من الرجال، ولم يوجد فيهم أحد من النساء، لا يوجد امرأة أرسلها الله .

قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً، والله ذكر هذا كثيراً في القرآن، تكذيب هؤلاء الكفار بحجة أنه أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، يستبعدون هذا، ويطلبون ملائكة يرسلهم الله -تبارك وتعالى- إليهم بوحيه، والله يقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَما كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة الرعد:38]، فهؤلاء لهم أزواج وذرية، ويمشون في الأسواق، ويأكلون ويشربون، فهؤلاء كانوا يستبعدون غاية الاستبعاد أن يكون البشر رسولاً.

وقوله -تبارك وتعالى: فَاسْألُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يقول: اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى أو سائر الطوائف، وقوله: أَهْلَ الذّكْرِ العلماء عادة يقولون: يعني أهل الكتاب، اليهود والنصارى باعتبار أنهم الذين نزلت عليهم الكتب ممن يمكن سؤالهم في وقت النبي ﷺ، أما غير اليهود والنصارى فلا وجود لهم، قوم هود وقوم صالح، لكن الذين بقوا هم أهل الكتاب، فَاسْألُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ هذا هو المقصود به.

وهذه الآية يحتج بها أهل العلم كثيراً على الرجوع لأهل العلم وسؤالهم واستفتائهم، فَاسْألُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، السياق كما هو ظاهر المقصود به في هذا المقام أن يسألوا أهل الكتاب عمن أرسل إليهم هل كانوا من الملائكة أو كانوا من البشر، فهي وإن كانت في هذا المعنى إلا أنه يمكن أن يؤخذ من عمومها -عموم اللفظ- أن يرجع إلى أهل المعرفة في كل شأن، ويتلقى ذلك العرفان منهم، يرجع إلى أهل الاختصاص، ففي المسائل الشرعية يرجع إلى أهل العلم ويستفتون، وهكذا يمكن أن يؤخذ بعموم الآية يقال: حتى في الصناعات ونحو ذلك لو قال قائل: فَاسْألُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ أنه في الطب نرجع إلى أهل الاختصاص، المتخصص بهذا الفن بهذا الجانب من الطب هو الذي يسأل عن هذا الأمر، وهكذا في الأدوية ونحو هذا يسأل الصيدلي، ويؤخذ ذلك عنه، ولا يسأل الجهال الذين لا معرفة لهم بهذا.

في الطب نرجع إلى أهل الاختصاص، المتخصص بهذا الفن بهذا الجانب من الطب هو الذي يسأل عن هذا الأمر، وهكذا في الأدوية ونحو هذا يسأل الصيدلي، ويؤخذ ذلك عنه، ولا يسأل الجهال الذين لا معرفة لهم بهذا.

وقوله: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ أي: بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] أي: قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً، كما توهمه المشركون في قولهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ۝ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [سورة الفرقان:7، 8] الآية.

هذا التركيب في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ النفي هنا معناه ما جعلهم جسداً متصفاً بهذه الصفة، هم أجساد فالنفي هنا بهذا القيد، ليس النفي أن يكونوا من ذوي الأجساد، وإنما النفي نفى وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً من صفته كذا، هم جسد لكن النفي مسلط على هذا المذكور بالقيد الذي بعده، والجسد هنا مفرد وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً أي: ذوي أجساد، والله جعلهم ذوي أجساد، لكن لم يجعلهم جسداً متصفاً بهذه الصفة أنه لا يطعم، لا يأكل الطعام، وإنما جعلهم جسداً يأكلون الطعام، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، فهم يريدون أن يكونوا ملائكة.

فالله يقول: أولئك الرسل-عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأكلون ويشربون، وقال عن عيسى ﷺ وأمه: كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [سورة المائدة:75]، فهذه طبيعة البشر، ولو أرسل الله إليهم ملائكة فإنهم لا يتمكنون من الأخذ والتلقي عنهم، وسيعتذرون بذلك، أي بأن هؤلاء الملائكة لا يصلحون للاقتداء؛ لأن الله أعطاهم من الإمكانات والقُدَر إضافة إلى أنه لا توجد فيهم نوازع الشهوات، وما ركبت الأهواء في نفوسهم، فالله أرسل إليهم بشراً يأخذون عنهم ويفهمون عنهم، ويشاكلونهم في أحوالهم، بل أكثر من هذا أن الله -تبارك وتعالى- بعث لهؤلاء الأميين رسولاً منهم، ليكون ذلك أدعى للأخذ عنه، وأقرب إلى أحوالهم، ويفهمون عنه، الأميون لو جاءهم فيلسوف فإنهم لا يتمكنون من فهمه والأخذ عنه، فالفيلسوف إذا تكلم لا تدري ماذا يقول، لا تفهم عنه شيئاً، ولهذا يقال: إذا أردت أن تقتل الفيلسوف فضعه بين العوام، يتكلم بأشياء، العوام يقولون: هذا مجنون، وهو عند نفسه أعلى شيء.

وقوله: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ أي: في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله ، تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه، وقوله: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ أي: الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين، صدقهم الله وعده وفعل ذلك؛ ولهذا قال: فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ أي: أتباعهم من المؤمنين، وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي: المكذبين بما جاءت به الرسل.

هذا كقوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110]، وفي القراءة الأخرى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ، وهكذا في الآيات الأخرى الدالة على هذا المعنى وهي كثيرة، فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة إبراهيم:47]، والله كما قال لعيسى ﷺ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، قال: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ [سورة إبراهيم:13، 14].

  1. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم (4994).
  2. رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11269).
  3. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، برقم (7363).

مواد ذات صلة