- حقيقة المراقبة
- منزلة المراقبة
- مما ورد من النصوص في المراقبة
- أنواع المراقبة
- كيف نصل إلى المراقبة؟
- ثمرات المراقبة
- السلف، والمراقبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فحديثنا في هذه الليلة عن موضوع يحتاج إليه الكبير، والصغير، والرجل، والمرأة، لاسيما في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الفتن، وصار الإنسان يستطيع أن يصل إلى المنكر، وهو في بيته، دون أن يشعر به أحد، وصار الإنسان أيضاً يستطيع أن يطوف في ألوان الضلالات، والشبهات، وينظر في العقائد الفاسدة، والمواقع، أو القنوات التي تبث الشبهات، فتضلل الناس، وتشكك الإنسان في عقيدته، ودينه، وهو في بيته.
بعد أن كان الناس لربما لا يستطيع الواحد منهم أن يصل إلى مطلوبه من ذلك إلا بألوان الاحتيال، والصعوبات، ولربما تعجزه، وتقعده الحيلة، فلا يستطيع أن يحقق مطلوباً للنفس تشتهيه، أو تهواه.
واليوم لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، يجلس الرجل، أو المرأة، وهو في بيته يمكن أن يفعل ما يشاء، وأن ينظر إلى كل ما يريد.
يمكن لهذا الإنسان أن يعافس كل ما لا يرضاه الله - تبارك، وتعالى - دون أن يشعر بذلك أحد من الناس.
أصبحنا نتقلب في فتن تجعل الحليم حيرانَ، وأصبح كثير ممن جاوزوا سن ما يسمى بـ"المراهقة" يعودون بعد ذلك إلى حال كان ينبغي أن ينزهوا أنفسهم عنها بعد اكتمال العقل، والنضج، وصار له من العيال ما يكون حاجزاً من أن ينظر إلى ما لا يليق، أو أن يفعل ما لا يليق؛ خوف العواقب السيئة التي لربما نزلت بأهل بيته.
وكثرت الشكاية من الزوجات على الأزواج، انتكس كثير ممن كان يرتاد المساجد، ويظهر عليه سيما الصالحين، انتكس على عقبه، والسبب أنه عرض نفسه للفتنة أولاً، فلم ينجُ منها آخراً.
ولذلك في مثل هذه الأوقات لابد من الحديث عن مراقبة الله وأن نكرر هذا الحديث.
يعظ الإنسان به نفسه حينما يتحدث، ويعظ به إخوانه، ويتردد ذلك في مجالسنا حيناً بعد حين.
فإن هذه القلوب يحصل لها ما يحصل من ألوان الغفلة، والنفس شرود، وقد ركبت في النفوس محبة الشهوات، كما أن الفتن خطافة، وقد يحمل الإنسانَ حبُّ الاستطلاع على أن يرد موارد الهلكة، فتعلق الشبه في قلبه، ثم لا يستطيع بعد ذلك الخلاص منها.
أسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يحفظنا، وإياكم، وجميع المسلمين من كل بلاء، ومكروه.
أقول: الحديث عن المراقبة يتضمن أمورًا متعددة:
الأول: في بيان حقيقة المراقبة.
الثاني: في منزلتها.
الثالث: في ذكر بعض ما ورد في هذا الباب في الكتاب، والسنة.
الرابع: في أنواعها.
الخامس: في الطريق إليها.
السادس: في ثمراتها.
السابع: نماذج من أحوال أهل المراقبة.
حقيقة المراقبة:
أما حقيقتها فهي من رَقَبَ، وهذه المادة تدل على انتصاب لمراعاة شيء، ومن ذلك الرقيب، وهو الحافظ، ويقال: "المَرْقب" للمكان العالي الذي يقف عليه الناظر، فينظر من خلاله إلى ما يريد.
وقيل للرقبة التي في الإنسان رقبة؛ لأنها منتصبة، ومن يريد أن ينظر، أو يشاهد لابد من أن ينتصب عند نظره، فيرفع رأسه، وينظر إلى مطلوبه.
والمرأة الرَّقوب هي التي لا يعيش لها ولد، فكأنها ترقبه لعله يبقى.
وفي أسماء الله "الرقيب" وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء كما سيأتي.
وأما حقيقة المراقبة في معناها الاصطلاحي فمما ذكر في ذلك ما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "بأنها دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق - سبحانه، وتعالى - على ظاهره، وباطنه"[1].
فاستدامتنا لهذا العلم هي المراقبة، إذا تيقن الإنسان أن الله ينظر إليه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله، هذا هو حال المراقبة، فهي التعبد لله باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، الخبير، الشهيد، وما إلى ذلك من الأسماء.
وهو الرقيبُ على الخواطرِ واللوا | حظِ كيف بالأفعالِ بالأركانِ[2]. |
يعلم خطرات النفوس، ولحظ العيون، كيف بالحركات، والأفعال الظاهرة؟.
وفي حديث جبريل أنه سأل النبي ﷺ عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك [3].
ومقام المراقبة جامع للمعرفة مع الخشية، فبحسبها يحصل مقام المراقبة، إذا علم العبد أن الله يطلع عليه، وخافه فإن هذا الخوف مع علمه باطلاع الرب يقال له: "الخشية".
وإذا اجتمع هذا، وهذا كان ذلك تحصيلاً لهذا المقام، وارتقاء إلى هذه المرتبة، وبذلك ينكف العبد عن فعل ما لا يليق.
- مدارج السالكين (2/65).
- نونية ابن القيم (ص: 207).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة (1/19)، رقم: (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر، وعلامة الساعة (1/36)، رقم: (8).
المراقبة أساس الأعمال القلبية كلها، وهي عمودها الذي قيامها به، وقد جمع النبي ﷺ أعمال القلب، وفروعها كلها في كلمة واحدة في الحديث السابق: (أن تعبد الله كأنك تراه).
فهذا جامع لمقام الإسلام، والإيمان، والإحسان (فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ومن أهل العلم من يقول: إنها مرتبة واحدة، أن تستشعر هذا المعنى، أن تعبد الله كأنك تراه، وعليك أن تعلم أنك إن لم تكن تراه فإن الله يراك.
فهي مرتبة واحدة، ومن أهل العلم من يقول: هما مرتبتان، الأولى: أن تعبده كأنك تراه، وهي الأعلى، فإذا لم يستطع العبد أن يحصّل ذلك فإنه ينحط إلى المرتبة التي بعدها من مرتبتي الإحسان، وهو أن يستشعر أن الله يراه، وهذا هو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[1].
فيعلم أن الله مشاهد له مطلع عليه في ظاهره، وباطنه، وإذا تحقق العبد من هذا لم يكن التفاته إلى المخلوقين، فيتزين لهم، ويتصنع، ويكون محافظاً على حدود الله في الجلوة، ويكون منتهكاً لحرماته في الخلوة، فإن هذا لم يراقبه.
ولا يكاد يخلو يوم من سؤال يكتبه صاحبه برسالة يبعث بها، يسأل عن عمل يستحي أن يسأل عنه مباشرة، وهذا من العجب، يستحي أن يسأل مخلوقاً ضعيفاً لا يعرفه، ومع ذلك يفعل هذا، والله - تبارك، وتعالى - يراه، ويطلع عليه، والملَك يشاهده، ويكتب عمله.
وقد قال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري - رحمه الله -: "إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك، ولنفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك"[2].
- مدارج السالكين (2/ 209).
- المصدر السابق (2/66).
الآيات، والأحاديث كثيرة، فالله يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] ويقول: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4].
ويقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] ويقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [ البقرة: 235] ويقول: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [الأحزاب: 52] ويقول: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق: 14].
وجاء في حديث معاذ أنه قال للنبي ﷺ: يا رسول الله، أوصني، قال: اعبد الله كأنك تراه [1].
وجاء في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... [2].
وإذا نظرت إلى هؤلاء السبعة تجد أن الشيء المشترك، والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله - تبارك، وتعالى -.
الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ما الذي جعله يكون بهذه المثابة؟ هو مراقبة الله، الناس لا يرونه.
الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب، وجمال، فقال: إني أخاف الله.
حصلت له المنعة، مع وجود الدافع القوي، فهي ذات منصب، وذات جمال، ونفسه تطلب هذه الشهوات، ومع ذلك قال: إني أخاف الله.
والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، هذا رجل قد راقب الله وإلا فإن المال شيء محبب إلى النفوس، ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض أعظم.
واليقين عند كثير من الناس ضعيف، ولذلك فإن الكثيرين قد يصعب عليهم إخراج المال لله - تبارك، وتعالى - فكيف بهذا الذي أخفاه إلى هذا الحد حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؟.
الشاب الذي نشأ في طاعة الله مع قوة النوازع، وتوقد الغرائز، الذي منعه من ذلك هو مراقبة الله - تبارك، وتعالى -.
وجاء في حديث أبي هريرة : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الصبح، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم، وهم يصلون، وأتيناهم، وهم يصلون [3].
فهل استحضرنا هذا المعنى؟ هل استحضره من يضيع صلاة الصبح، وينام عنها، ويضيع صلاة العصر حينما يأتي من عمله، ثم بعد ذلك ينام؟.
- المعجم الكبير للطبراني (20/175)، رقم: (374).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (1/133)، رقم: (660)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (2/715)، رقم: (1031).
- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر (1/115)، رقم: (555)، ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح، والعصر، والمحافظة عليهما (1/439)، رقم: (632).
يمكن أن تتنوع المراقبة إلى أنواع مختلفة، باعتبارات متعددة، ولكن يمكن أن أقتصر على وجه من تنويعها، فأقول: المراقبة تكون قبل العمل، قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك هل لك فيه نية؟ ماذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟.
حينما تريد أن تتصدق بصدقة، هذه الصدقة هل تريد بها وجه الله، أو أنك تجمع خسارة في الدنيا، وعذاباً في الآخرة؟
إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال: منفق، فيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم، هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال: عالم؟.
حينما يقوم الإنسان بمشروع من الأعمال الطيبة، من إغاثة المنكوبين، أو القيام على الفقراء، والأرامل، والأيتام، هذه أعمال جليلة، وتتطلب من الإنسان ألوان التضحيات، فينفق فيها وقته، وجهده، ولربما لا يراه أهله إلا في قليل من الوقت، هل لك فيه نية؟
يسأل الإنسان نفسه حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال، هل هو لله؟ هل للنفس فيه هوى؟ هل للشيطان فيه نزغة؟ فيتثبت، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته، وأخلص قصده، وعمله.
وفي هذا يقول الحسن البصري - رحمه الله -: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر، وتثبت، فإن كان لله أمضاه"[1].
ويقول: "رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله فيه مضى، وإن كان لغيره تأخر"[2].
وجاء عن محمد بن علي - رحمه الله -: "إن المؤمن وقاف متأنٍّ، يقف عند همه، ليس كحاطب ليل"[3].
فلا يتسارع الإنسان في الأعمال في هذه الحياة الدنيا، ولو كان ظاهر ذلك من الأعمال الصالحة حتى ينظر قبل أن يقدم عليه، هل له فيه نية صحيحة، أو لا؟.
تعرفون حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة أول الناس.
هذا رجل عالم، وهذا رجل جواد، وهذا رجل قارئ للقرآن، أو مجاهد في سبيل الله، فهذا جاهد ليقال: شجاع، وهذا قرأ ليقال: قارئ، أو تعلم العلم ليقال: عالم، وهذا أنفق من أجل أن يقال: جواد، فيدخل النار قبل السُّراق، والزناة، وأصحاب الجرائم.
المسألة ليست بالشيء السهل، قد يتصور كثير من الناس أن الذين يُتوعدون بالعقوبة، وأنهم على خطر، وخوف هم أولئك الذين يقارفون ما يقارفون من ألوان الشهوات الظاهرة، وما علموا أن الشهوات الباطنة قد تكون أعظم، وأشد من الشهوات الظاهرة.
الإنسان أليس ينفق المال من أجل تحصيل المحامد؟ أليس الرجل قد يقدم في نحر العدو في شجاعة متناهية من أجل أن يقال: شجاع، فيبذل نفسه من أجل قيلهم هذا؟
هذا أغلى ما يملكه الإنسان، النفس، والمال.
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ | الجودُ يُفقر والإقدامُ قتّالُ |
فيبذل الإنسان هذه الأمور التي هي أغلى ما يملك من أجل تحصيل شيء من حظوظ النفس الخفية، طلب المحمدة، والسمعة، والرياء، فليس الهالك هو ذلك الإنسان الذي يتبع ما يمليه عليه هواه من ألوان الشهوات من الفجور، والمعاصي، ومعاقرة الفواحش، وما أشبه ذلك فحسب.
بل إن الهلكة تقع أيضاً بتلك النية المختلة الفاسدة، التي لربما كان صاحبها يفطم نفسه عن ألوان المتع من النُّزه، وأكل الطيبات، والراحة، والنوم، والتمتع بألوان المتاع، وهو يعمل، ويكدح، ويواصل الليل، والنهار، لكن ليس له في هذا نية، وقد ينفع كثيراً من الناس، ولكنه كالشمعة، أو السراج الذي يضيء للآخرين، ويحرق نفسه.
النظر الثاني: هو أثناء العمل، يحتاج الإنسان إلى مراقبة لله وهو يعمل، ونحن نصلي نراقب الله في صلاتنا، في ركوعنا، وسجودنا، وما نقوله فيها، في صيامنا نراقب الله لا نتكلم بكلام ينافي الصوم، ولا نفعل فعلاً يخدشه.
ونحن حينما نقوم بعمل من الأعمال الدعوية، أو الأعمال غير الدعوية مما يحبه الله ويرضاه أثناء العمل نصحح النية، ونتابع فإن القلب كثير التقلب، ولذلك قيل له: الفؤاد - والله أعلم - لكثرة تفؤده، وتوقده بالخواطر، والأفكار، والإرادات، يبدأ الإنسان بنية صحيحة، ثم تجد قلبه يتقلب عليه، فيحتاج إلى ملاحظة دائمة أثناء العمل.
الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام، والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ، ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح.
فالعبد إذا كان في طاعة يتفقد عمله، هل جاء بأركانه، وشروطه، وواجباته، وما أشبه ذلك.
إذا كان في معصية ينزجر، وينكف، ويتذكر نظر الله إليه، وإذا كان الإنسان في أمر مباح فإنه يشكر الله على هذه النعم التي أولاه إياها، إذا كان يأكل يتفكر في هذا الطعام الذي يأكل كيف، وصل إليه، وكيف حرمه كثير من الناس، وما يشتمل عليه هذا الطعام من ألوان العبر التي إذا نظر إليها الإنسان أحيت قلبه، هذا نظر أثناء العمل.
ويتفقد الإنسان أوقاته - لأن الإنسان في هذه الحياة مبحر، مسافر - كيف يقضيها، هذا اليوم منذ أن أشرقت شمسه، ما هي المغانم، والمكاسب التي حصلها فيه، في أربع، وعشرين ساعة، كان يمكن أن يقرأ ثمانية، وأربعين جزءاً، فماذا قرأ؟
في هذه الأوقات كم يمكنه أن يصلي فيها من ركعة لله كم يمكنه أن يقرأ من صفحة في علم نافع، كم يمكنه أن يسبح من تسبيحة، وأن يستغفر.
فيفكر في هذه الأوقات التي تصرمت، منذ الليلة الماضية، مثل هذا الوقت إلى الآن، ما هي مكاسبنا، ماذا عملنا، هذه الأجازة قد انتصفت، ما الذي خرجنا به، ما هي الأعمال التي قمنا بها، الإنجازات التي حققناها كم تكافئ من أيام هذه الأجازة التي قد تصرمت.
فيتفقد الإنسان دائماً نفسه، وينظر في حاله، وفي تقصيره، وفي عمله، حتى يلقى الله وهو على يقظة، دون أن يكون غافلاً، فيخترمه الموت، ثم بعد ذلك لا ينفعه الندم.
الأعمال التي يزاولها، هل هذا هو الأفضل، والعمر قصير، أم هناك أعمال أفضل من هذه يكن أن يتّجر بها، ويربح في تجارته مع الله .
وهكذا في كل شأن من شئوننا، في الكلام، المجالس، لربما كان الإنسان واعظاً، أو داعية، أو خطيباً، ويعلم الناس، ويبين لهم الأشياء التي يحتاجون إليها، يبين لهم حكم الغيبة، وإذا جلس في المجالس ينطلق لسانه في أعراض المسلمين، من غير أن يرعوي.
ينبغي على الإنسان أن ينظر في عمله فعلاً، ولا يغتر، ولا يظن أنه يمكن أن يجتاز الصراط بظاهر من التدين، والله يعلم حاله، وما ينوي عليه سره، وقلبه، وخبيئته.
هذه أشياء الجميع يحتاج أن يراجع فيها نفسه، ولا يخلو أحد، فمقل، أو مستكثر، وقد قال بعضهم: "عالجت الصمت عمّا لا يعنيني عشرين سنة، قبل أن أقدر عليه على ما أريد"[4].
وكان هذا الرجل لا يدع أحداً يغتاب أحداً في مجلسه، ويقول لجلسائه: "إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم"[5]. من منا يفعل هذا؟
إذا أراد أحد أن يغتاب الناس قال له: سبح، اذكر الله ولو كان هذا من الصالحين، من الخيرين، فإن حدود الله لا يُحابَى فيها أحد، فينبغي على الجميع أن يلتزم أمر الله - تبارك، وتعالى - ويجتنب نهيه، وليس صلاح الإنسان في الظاهر، أو جهوده التي يبذلها في سبيل الله - تبارك، وتعالى - مسوغاً، وسبباً لأن يفعل ما يريد.
- إحياء علوم الدين (4/400).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/81).
- إحياء علوم الدين (3/186).
- أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (ص: 260)، رقم: (552).
- المصدر السابق.
ما الطريق إليها؟
أقول: أول ذلك - وهو من أعظمه - أن نستحضر معاني الأسماء الحسنى التي تؤثر في هذا المقام، والله - تبارك، وتعالى - علمنا في هذا القرآن جملة طيبة كثيرة من أسمائه وإنما ذلك من أجل أن نتعبده بهذه الأسماء.
فمن أسمائه التي تتعلق بهذا المعنى: الرقيب، والحفيظ، والعليم، والخبير، والشهيد، والمحيط، واللطيف... إلى غير ذلك من الأسماء التي إذا أدرك العبد معناها، وتعبد ربه بمقتضاها فإن ذلك يؤدي به إلى تحصيل مقام المراقبة.
فالرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، الحفيظ الذي لا يغفل، العليم الذي لا يعزب عنه شيء من أحوال خلقه، يرى أحوال العباد، ويحصي أعمالهم، ويحيط بمكنونات سرائرهم، فهو مطلع على الضمائر، شاهد على السرائر، عليم يعلم، ويرى، ولا يخفى عليه السر، والنجوى.
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 117] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [الأحزاب: 52].
رقيبٌ على كل الوجود مهيمنٌ | على الفَلَك الدوار نجماً وكوكباً |
رقيبٌ على كل النفوس، وإنْ تلذ | بصمتٍ ولم تجهر بسرٍّ تغيَّبا |
رقيبٌ تعالى مالكُ الملكِ مبصرٌ | به كلَّ شيء ظاهراً أو محجَّبا |
والمراقبة هي ثمرة علمه بأن الله - سبحانه، وتعالى - رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على عمله في كل وقت، وحين، وفي كل نفَس، وكل طرفة عين، فإذا أرادت عينه أن تمتد بالنظر إلى ما حرم الله إلى امرأة يشاهدها، ويراها في الطريق، أو في الأسواق، أو كان ذلك في شاشة، فإنه يدرك، ويعلم أن نظر الله إليه أسبق من نظره إليها، فيخاف، وينزجر، وينكف عن هذا النظر.
وكان الإمام أحمد - رحمه الله - كثيراً ما يردد:
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل | خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ |
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعةً | ولا أن ما تُخفي عليه يغيبُ |
لهونا عن الأيام حتى تتابعت | ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ |
فيا ليت أن الله يغفرُ ما مضى | ويأذن في توباتنا فنتوبُ |
قال رجل لوهيب بن الورد - رحمه الله -: عظني، قال: اتق أن يكون الله أهون الناظرين إلي[1].
وهذا للأسف قد نقع فيه، وإذا تتابعت الغفلة على قلب الإنسان فإنه قد يستحي من مخلوق ضعيف، وربما كان صبيًّا صغيراً أن يفعل ما لا يليق بحضرته، ولكنه يفعل العظائم، والله - تبارك، وتعالى - يراه، ويطلع عليه، وينظر إليه.
ومن أسمائه - تبارك، وتعالى -: "الشهيد" وهو مشتقٌ من الشهود، بمعنى الحضور، وذلك يستلزم العلم، فالله مطلع على كل الأشياء، يسمع جميع الأصوات، خفيها، وجليها، ويبصر جميع المبصرات، دقيقها، وجليلها، صغيرها، وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء.
فهو شهيد أيضاً يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم، وشاهد من أفعالهم وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران: 98] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء: 33] وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً [االنساء: 79].
والفرق بين الرقيب، والشهيد: أن الرقيب فيه زيادة حفظ، فالشهيد مطلع شاهد، ينظر إليه، وأما الرقيب فهو مطلع عليه، يحفظ عمله الذي يزاوله، ويعمله، فالله - تبارك، وتعالى - رقيب، شهيد.
وهو كذلك أيضاً حفيظ، والحفيظ له معنيان:
الأول: أنه حفظ أعمال العباد، فلم يذهب شيء منها، كل ما يقوله الإنسان، وكل ما يعمله محفوظ، سواء كان ذلك من قبيل الخير، أو الشر، وهذا المعنى من حفظه - تبارك، وتعالى - يقتضي إحاطة علمه بكل المخلوقات، وأنه كتب ذلك - تبارك، وتعالى - في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وعلم بمقادير هذه الأعمال، والأشياء، فلم يفت عليه شيء من ذلك.
المعنى الثاني من معاني الحفيظ أنه يحفظ عباده مما يكرهون، فالله خيرٌ حافظاً.
يقول ابن القيم - رحمه الله - في الجمع بين هذين المعنيين:
وهو الحفيظُ عليهمُ، وهو الكفيلُ |
بحفظهم من كل أمرٍ عانِ[2]. |
حفيظ عليهم: يحفظ أعمالهم، وهو الكفيل بحفظهم: يحفظهم من المكاره.
جلّ الحفيظُ فلولا لطفُ قدرته | ضاع الوجودُ وضل النجمُ والفلَكُ |
حتى القُطيرة من ماء إذا نزلت | من السحب لها في حفظها مَلَكُ |
إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود: 57] فمن علم أن ربه حفيظ حفظ جوارحه، وقلبه من كل ما لا يليق، والعلم الحديث أثبت أنه يمكن استرجاع ما يصدر من الإنسان من الأصوات.
يقولون: إن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية، وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير بعد حدوثها، ومن الممكن أن تسترجع، وأن تسمع مرة أخرى.
يقولون: لكن علومنا قاصرة لم تصل إلى هذا بعد.
يقولون: لو استطاع العلم أن يكتشف جهازاً يستطيع أن يلتقط هذه الأصوات التي قالها القائلون منذ أن خلق الله آدم ﷺ فإن ذلك من الناحية العلمية ممكن، لكن يقولون: لم نصل إليه بعد.
ونحن نعلم يقيناً أن الله - تبارك، وتعالى - قد أحاط بذلك كله، وأن الله قادر على أن يُسمِع الناسَ كلامهم، وهو قادر - تبارك، وتعالى - على أن يعيد لهم الصورة من جديد في العمل الذي يزاولونه، الله على كل شيء قدير.
ولهذا فإن الله يُنطق الجوارح، وينطق الأرض، فالأرض تحدث أخبارها، والجوارح تتكلم بما عمله الإنسان فيها.
ومن أسمائه - تبارك، وتعالى -: "المحيط" فالله رقيب، شهيد، حفيظ، محيط، وهذه الأسماء: الرقيب، والشهيد، والمحيط، والحفيظ تشترك في صفة العلم، لكن الرقيب يفيد مع العلم الحفظ، والشهيد يفيد مع العلم الحضور، والمحيط يفيد مع العلم الشمول، والإحاطة، والقدرة.
ومن أسمائه - تبارك، وتعالى -: "العليم: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235].
والربُّ فوق العرشِ والكرسيِّ لا | يخفى عليه خواطرُ الإنسانِ |
فمن علم أن الله - تبارك، وتعالى - عالم بكل شيء، حتى بخطرات الضمائر، ووساوس الخاطر، فعليه أن يراقبه، وأن يستحيي منه، وأن يكف عما لا يليق، ولا يغتر بجميل ستره - تبارك، وتعالى - وإنما يخشى بغتات قهره، ومفاجآت مكره، قال الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء: 108].
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 13 - 14].
كلُّ معلوم ففي علمك كان | أنت محصيه زماناً ومكانا |
أنت سبحانك أدرى بالذي | فيه ذراتٌ دِقاقاً وكيانا |
أنت محصيها وهاديها إلى | نشوة التسبيح قلباً ولسانا |
إحاطةٌ بجميع الغيب عن قدَرٍ | أحصى بها كل موجود ومفتقَدِ |
وكلهم باضطرار الفقر معترفٌ | إلى فواضله في كل معتمَدِ |
العالمُ الشيءَ في تصريف حالته | ما عاد منه وما يمضي فلم يعدِ |
ويعلم السر من نجوى القلوب وما | يخفى عليه خفيٌّ جال في خلَدِ |
يقول سفيان الثوري - رحمه الله -: "عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء"[3].
ومن أسمائه - تبارك، وتعالى -: "الخبير" وهو الذي يعلم بواطن، وخوافي الأشياء، والارتباط بين العليم، والخبير، والشهيد لا يخفى، فإذا اعتبرنا العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أُضيف إلى الغيب، والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد.
ومن أسمائه - تبارك، وتعالى -: "السميع، والبصير" يسمع الأصوات، ويرى المبصرات، يسمع السر، والنجوى، ويبصر ما تحت الثرى.
ومن أسمائه: "المهيمن" وهو الرقيب، والحافظ لكل شيء، الخاضع لسلطانه كل شيء، فهو القائم على خلقه، الشهيد عليهم.
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد: 33] إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5].
ما شاء كان وما في الكون خافيةٌ | تخفى على علمه بدءاً ومنقلبا |
إنا إليه أنبنا خاشعين له | وجاعلين له من ذكره سببا |
فلا شيء عن ملكه أو عن إرادته | بمستطيعٍ خروجاً أينما ذهبا |
جلّ المهيمن ربًّا لا شريك له | وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهبا |
ومن أسمائه - تبارك، وتعالى -: "القريب" إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: 61].
وقربه - تبارك، وتعالى - نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
والقرب الآخر: قرب خاص بالداعين، والعابدين وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
يقول عامر بن عبد القيس - رحمه الله -: "ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليه مني"[4].
وسئل بعضهم عن المراقبة، فقال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى من العبد[5].
فهذا السبب الأول الموصل إلى مقام المراقبة: أن نعرف معاني هذه الأسماء، وأن نتعبد الله - تبارك، وتعالى - بمقتضاها.
السبب الثاني: أن نحقق مرتبة الإحسان، أن نعبد الله كأننا نراه، يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "وإنما ينشأ ذلك من كمال الإيمان بالله، وأسمائه، وصفاته، حتى يصير العبد بمنزلة كأنه يرى ربه - تبارك، وتعالى - فوق سماواته، مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره، ونهيه، ويدبر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده، ويصعد إليه، وتعرض أعمال العباد، وأرواحهم عند الموافاة عليه"[6].
السبب الثالث: كثرة ذكر الله بالقلب، وباللسان.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في الوابل الصيب للذكر أكثر من مائة فائدة، وذكر العاشرة منها: وهي أنه يورث المراقبة، حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت الحرام[7].
وأفضل الذكر - كما هو معلوم - ما تواطأ عليه القلب، واللسان، ولو أردنا أن نوازن بين ذكر القلب، وذكر اللسان فلا شك أن ذكر القلب أفضل من ذكر اللسان بمجرده؛ لأن الإنسان قد يلهج بلسانه، وقلبه في غاية الغفلة.
فذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة.
السبب الرابع: أن يحاسب الإنسان نفسه دائماً.
أن يلاحظ الأنفاس، والخطرات، فلا يكون العبد من الغافلين، جاء عن بلال بن سعد - رحمه الله - أنه قال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت"[8].
قال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله الرجل عن تفسير ذلك، فقال: كن أبداً كأنك ترى الله[9].
وقال بعضهم: إنما هي أربعة: عيناك، ولسانك، وهواك، وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانك لا تقل به شيئاً يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فيه غل، ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوَ شيئاً يكرهه الله فما لم تكن فيك هذه الأربع فالرماد على رأسك[10].
وقال آخر: "تعاهد نفسك في ثلاثة مواضع، إذا عملت فاذكر نظر الله تعالى إليك، وإذا تكلمت فانظر سمع الله منك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك"[11].
وفؤادي كلما عاتبتُه | في مدى الهجران يبغي تعبي |
لا أُراه الدهرَ إلا لاهياً | في تماديه فقد برّح بي |
يا قرين السوء ما هذا الصِّبا | فنِيَ العمرُ كذا في اللعب |
نفسي ما كنتِ ولا كان الهوى | راقبي الله وخافي وارهبي |
كان لبعض الأمراء، وزير، وكان هذا الوزير جالساً بين يديه، وعند هذا الأمير بعض الغلمان وقوف بجانبه في ناحية من المجلس، فلاحت من هذا الوزير نظرة إلى هؤلاء الغلمان لشيء عرض، ثم التفت إلى الأمير، وإذا بالأمير ينظر إليه، فخشي أن يظن الأمير أن الوزير ينظر إلى هؤلاء الغلمان الحسان لريبة، فما الذي حصل من هذا الوزير؟
جعل كلما حضر إلى مجلس هذا الأمير ينظر إلى تلك الناحية؛ ليوهم هذا الأمير أنه إنما ينظر إليها لحول، أو علة في خلقته.
هذه في مراقبة مخلوق لمخلوق، أراد أن يمحو الصورة التي لربما وقعت في نظر، أو نفس هذا الأمير تجاه هذا الوزير، ليقول له: لم أكن في ذلك اليوم أنظر إليهم، إنما أنا هكذا دائماً، أنظر إلى هذه الناحية خلقة.
نظر مخلوق إلى مخلوق، فأين النظر إلى الله؟ أين مراقبة المعبود ؟
كأن رقيباً منك يرعى خواطري | وآخرَ يرعى مهجتي ولساني |
وقد كان لأحد الشيوخ تلامذة، وقد كان يفضل، ويقدم أحدهم، وهم لا يدرون ما سبب ذلك، فتساءلوا عن سبب إيثاره، وتفضيله لهذا التلميذ، فخرج معهم يوماً، ثم أعطى كل واحد منهم طائراً، وقال: ليعمد كل واحد منكم بهذا الطائر إلى حيث لا يراه أحد، ثم يذبح هذا الطائر، ويأتي.
فذهبوا جميعاً، وكل واحد ذهب إلى ناحية، وذبح الطائر الذي معه، وجاء، فجاء هذا التلميذ الذي كان يؤثره هذا الشيخ، ومعه هذا الطائر لم يُذبح، فقال له: لمَ لم تذبحه؟
فقال: قلتَ: حيث لا يراك أحد، فلم أجد مكاناً لا يراني الله فيه.
فقال لهم: لأجل ذا كنت أؤثره عليكم[12].
وكان لبعض الملوك مملوك، وعبد يؤثره على غيره من خدمه، ومماليكه، فكأن نفوسهم قد تحركت نحوه، وتساءلوا عن سبب هذا التفضيل، فبينما هو في سفر، ومعه هؤلاء المماليك، والخدم، إذ لاحت من هذا الملك نظرة إلى جبل في قمته ثلج، فركب ذلك المملوك على فرسه، وركضه، حتى انطلق دون أن يشعر به أحد إلى ذلك الجبل، وأحضر من ذلك الثلج، وجاء به إلى هذا الملك، ووضعه بين يديه.
فسأله هذا الملك: كيف عرفت أني أرغب بهذا الثلج؟
فقال: رأيتك تنظر إليه، فهو يلاحظ نظرات هذا الملك.
فقال الملك لجلسائه، وخدمه، ومماليكه: من أجل هذا كنت أؤثره، إنكم تلاحظون مطلوبات نفوسكم، وهو يلاحظ نظراتي، وخطراتي.
مخلوق ينظر إلى مخلوق آخر، ينظر إليه، إذا حرك عينه تجاه شيء قفز، وجاء به إليه، فأين نحن في معاملتنا مع الله - تبارك، وتعالى - ؟
نعصي، ونقصر، وأحياناً ننقر الصلاة نقراً، ويصلي الإنسان بتثاقل، أين المحبة؟ وأين المراقبة؟ وأين التعبد لله بمقتضى هذه الأسماء التي ذكرناها؟
يقول سفيان الثوري - رحمه الله -: "لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟ قالوا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث"[13].
وجاء عن آخر، قال: لو أن صاحب خبر جلس إليك، فكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله، فلا تتحرز[14].
فالنفس تحتاج إلى محاسبة، وملاحظة، أن نحاسبها أعظم من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، فإذا أصبح الإنسان قال لنفسه: يا نفس هذا يوم جديد، قد أمهلكِ الله فلو أن نفس الإنسان خرجت لتمنى ساعة، أو لحظة يسبح فيها تسبيحة، فهذا يوم جديد، وإمهال جديد فينبغي أن يُشغل بما يرضي الله - تبارك، وتعالى - لا أن يستزيد الإنسان من الغفلة، والإعراض، والتمادي في مساخط الله حتى يفاجئه الموت.
- حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (8/142).
- نونية ابن القيم (ص: 207).
- إحياء علوم الدين (4/398).
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (5/253).
- إحياء علوم الدين (4/397).
- رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 38).
- الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 42).
- سير أعلام النبلاء (5/91).
- إحياء علوم الدين (4/397).
- صفة الصفوة (2/412).
- حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (8/75).
- إحياء علوم الدين (1/228).
- حلية الأولياء (7/70).
- سير أعلام النبلاء (11/487).
أولاً: التأدب مع الله فهو يدرك أن الله يسمعه، وأن الله يبصره.
إذا جلس الإنسان أمام الناس لربما راقبهم في كل حركة، وفي كل سكناته.
لو كان الإنسان يتصرف بتصرفات لا تليق، ثم اكتشف أن في هذا المكان كاميرا، ما الذي يحصل؟
ولو كان هذا الإنسان يفعل بعض الأمور المباحة، لكنه لا يفعلها أمام الناس، ما الذي يحصل؟
لو كان هذا الإنسان يتكلم بكلام محرم لا يليق مع امرأة لا تحل له، بفحش، ثم اكتشف أن هذا الكلام جميعاً يسجل، ويسمع، ما الذي يحصل له؟
لو كان هذا الإنسان يجلس في غرفة، ويوجد فيها ما ينقل الصوت إلى مكان آخر، وفي المكان الآخر أهله، وقراباته، ونحو ذلك، وهو يتكلم مع زوجته بكلام مباح لا يقوله أمام الناس، كيف تكون حاله؟
فكيف بمن يتكلم بما لا يليق مما حرمه الله والله يسمعه فلا يتأدب مع الله؟.
الأدب مع الله بأن نصون المعاملة معه، فلا نشوبها بنقيصة، إذا صلى الإنسان يصلي صلاة لائقة، أن يصون قلبه، فلا يكون فيه التفات، ولا تعلق بغير الله .
أولئك الذين يتعلقون بنظر المخلوقين، وبثناء المخلوقين، وإطراء المخلوقين، ماذا قالوا عن الحفل الفلاني؟ وماذا قالوا عن المناسبة الفلانية؟ وماذا قالوا عن الكلمة الفلانية؟ وماذا قالوا؟ قلبه يعذب، ويتشتت، وهكذا أولئك الذين يتعلقون بالصور، وأصحاب الصور.
امرأة تتعلق بفتاة، أو شاب يتعلق بمثله، أو يتعلق بامرأة، ولربما قال أحدهم لصاحبه - كما ذكر بعضهم يسأل عن هذا -: أتمنى لو أني أحب الرسول ﷺ كما أحبك.
إلى هذا الحد! فهذه محبة مَرَضية، وقد يظن صاحبها أنها محبة لله، وفي الله، وهكذا أيضاً أن يلاحظ الإنسان إرادته، فلا تتعلق إرادته بشيء لا يريده الله، ولا يحبه، ولا يرضاه منه.
فإذا وجدت المراقبة فإن العبد تنصلح أحواله في ظاهره، وباطنه، وقد قيل: أسرع الأشياء عظة للقلب، وانكساراً له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له.
والمقصود أن المراقبة توجب صيانة الظاهر، والباطن، وصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن تكون بحفظ الخواطر، والإرادات، والحركات الباطنة.
ومن الحركات الباطنة رفض معارضة أمره، وخبره، فيجرد الإنسان باطنه من كل شهوة، وإرادة تعارض أمره، هذه مراتب عالية.
أحياناً الإنسان في داخل نفسه قد يكره حكم الله وتنفر نفسه منه، وقد يتمنى في نفسه لو أن الله أباح له ذلك الأمر المحرم، أو أن الله يسر له ذلك، ولربما كان في قلبه اعتراض على أقدار الله
لماذا أنا فقير؟ لماذا أعمل دائماً، وأكدح، ولا أخرج بكبير طائل؟ وفلان، وفلان بعمل يسير يصلون إلى الأموال الطائلة، والتجارات الكبيرة؟
هذا اعتراض على قدر الله فالله أغنى، وأقنى عن علم، وبصر بالعباد، لا يخفى عليه من شأنهم خافية، وقد يصاب الإنسان ببلية - بمكروه - فيعترض على الله - تبارك، وتعالى - في نفسه، ويقول: أنا دائماً مبتلى، لماذا يحصل لي هذا الحادث الشنيع، وبهذه الطريقة؟ أو تحصل لي هذه الكارثة؟ يحصل لي هذا البلاء، وأناس فجرة لا ينتهون عن معصية الله يتقلبون بألوان العافية، ونحن نتقلب في ألوان البلاء؟.
هذا ما عرف الله لو عرف الله لعرف أن أهل البلاء هم أهل القرب من الله - تبارك، وتعالى - وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم.
وقد يعترض الإنسان على الله - تبارك، وتعالى - فيما شرعه، فيكون له اختيار مع الله، وتقدمٌ بين يدي الله، ورسوله ﷺ، فيعارض النصوص برأيه، وبعقله، وهواه، ويرد الآيات، والأحاديث بهذا العقل الفاسد.
ولربما حمل النصوص على المحامل الصعبة، والتأويلات البعيدة؛ من أجل أن يوافق هواه، أو من أجل أن يوافق هوى الآخرين.
فالإنسان إذا راقب الله تأدب معه الأدب اللائق، فاستقام ظاهره، واستقام باطنه، ولم توجد في قلبه محبة تزاحم محبة الله ولا في قلبه شبهة تعارض خبره.
وقد قيل: من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه.
ولما سئل بعضهم: بمَ يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟
قال: بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره إلى ذلك المحظور[1].
كتب أحد الأشخاص رسالة طويلة، يقول فيها: إنه من المربين، وإنه قد ألقى درساً متكاملاً عن غض البصر، وذكر لي في هذه الرسالة جملة كبيرة من الكتب التي تحدثت عن غض البصر - المراجع - وقال: أعرف ذلك جميعاً، ومع ذلك أنظر باستمرار إلى الحرام، ولا أستطيع أن أسيطر على نفسي.
هذا الإنسان لو وصل إلى مقام المراقبة فعلاً لتغيرت الحال، لكن المشكلة التي نحتاج أولاً أن نعرفها أننا نعرف كثيراً من المعلومات، نسمع، وقد نتكلم، ولكن دون أن يكون ذلك متغلغلاً في قلوبنا، وأعماقنا، فكأننا نتحدث، أو نسمع أشياء، ونحن لا نقتنع بها.
ولذلك الناس قد يسمعون في العام ما يقرب من خمسين خطبة، أين أثر هذه الخطب عليهم؟
يسمعون عن أكل الحرام، يسمعون عن آفات اللسان، يسمعون عن النظر إلى الحرام، يسمعون عن كل هذه القضايا، فينظر الإنسان في حاله، وفي نفسه، الخطيب، والمستمع حينما يخرج من المسجد، هل خرج بحال جديدة، هل تغيرت حاله، هل خرج بعمل جديد.
فنحن لا نعرف في كثير من الأحيان حقيقة ما يخالج نفوسنا من العلل، نحن نستطيع أن نوصف علل الآخرين، ولربما لو قلت لهذا الإنسان، ونصحته، وذكرته بالله بأنه يعاني من كذا، وكذا، وكذا، لربما انقبض منك، ونفر، ويرى أنك قد جرحته، وآذيته، هل هذا الإنسان عنده إرادة صادقة فعلاً بإصلاح النفس؟
مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره، وعلانيته.
إذا تحققت المراقبة في الناس فإن ذلك يكون زاجراً، ورادعاً يحمل النفوس على ما يجمل، ويحسن، ويليق، وذلك لا يمكن أن يقارن بحال من الأحوال بحال المخلوقين حينما يلاحظون الرقيب من الخلق. الناس الذين يحترمون النظام، الناس الذين يتركون الجريمة خوفاً من العقوبة، ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر.
إذا تحققت المراقبة في الناس فإن ذلك يكون زاجراً، ورادعاً يحمل النفوس على ما يجمل، ويحسن، ويليق، وذلك لا يمكن أن يقارن بحال من الأحوال بحال المخلوقين حينما يلاحظون الرقيب من الخلق. الناس الذين يحترمون النظام، الناس الذين يتركون الجريمة خوفاً من العقوبة، ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر.
هؤلاء أين هم ممن يراقب الله فهو يعلم أنه إذا أخذ هذا الطمع اليوم سيدفع الثمن غالياً من حسناته؟ ولذلك فإنك تجد هذا الإنسان لو كان بيديه كنوز الدنيا ما مد يده عليها.
وآخر كلما لاح إليه شيء، واستطاع أن يأخذه أخده، ولو من المسجد، لماذا؟
هذا راقب الله، وهذا لم يراقبه، هذا يعلم أنه سيحاسب، وأن الله يرى ذلك، وهذه المكاسب المحرمة أحياناً تكون بالملايين، وقد يعرض على هذا الإنسان إغراءات برشا لربما تصل إلى الملايين، وهو لربما لا يجاوز راتبه عشرة آلاف، ملايين في صفقة واحدة برشوة، ومع ذلك يترك هذا لله .
لكن إذا كان لا يعرف ربه - والحلال ما حل باليد - فمثل هذا الإنسان سيقول: هذه فرصة لا تعوض.
ويتهم من ترك ذلك لله - تبارك، وتعالى - بالغفلة، والضعف، والعجز، وقلة العقل، والقصور في النظر.
حينما انطفأت الكهرباء في ليلة واحدة في نيويورك قبل سنين، وكتبت عن ذلك الصحف، ألوان الجرائم من السرقات، والاغتصاب أشياء هائلة، أرقام فلكية، فقط ليلة واحدة، ساعات انطفأت فيها الكهرباء، تهافت الناس على المتاجر، وعلى البيوت ينهبون، ويسرقون؛ لأنهم علموا أن النظام لا يراقبهم، ولا يطلع على أفعالهم هذه.
فحارس القانون قد يغيب، وقوة الخلق قد تزول، أو تضعف، والحارس قد يغفل، والقانون قد يؤوَّل، وقد يتحايل الناس عليه، فيفعلون ما يريدون، لكن إذا ربينا الناس على مراقبة الله فإنهم يكونون في مأمن بإذن الله - تبارك، وتعالى - مهما لاحت لهم الإغراءات، والمطامع.
أولادنا - بل نحن قبلهم - أمام هذه الشهوات العارمة، والفتن العظيمة، إذا غاب الإنسان، هذا الولد إذا رُبي على مراقبة الله حينما يجلس منفرداً، وأمامه الجهاز الذي لربما يعرض أكثر من ثلاثمائة قناة، وفي بعض تلك القنوات قد يشاهد كل شيء.
إذا رُبي على المراقبة فإنه يكون في مأمن، لا ينظر إلى شيء لا يحبه الله ولا يرضاه.
لكن إذا كان هذا الولد إنما يترك هذه الأشياء خوفاً من نظر أبيه، فإذا خلا بمحارم الله فلا تسأل، يفري فرياً.
ولذلك أقول: الأب قد يموت، قد يغيب، قد يعجز، قد يضعف، قد يشيب، ثم بعد ذلك قد يسرح هؤلاء الأولاد في أودية الهلكة، ويرتعون في هذه الشهوات.
فنحتاج دائماً أن نربي هذه المراقبة في نفوسهم؛ من أجل أن نحافظ على إيمانهم، وعلى حالهم مع الله أن تكون على استقامة.
ولا يخفى أيضاً ما بين الظاهر، والباطن من الملازمة.
استقامة الباطن، إذا وجد الخوف من الله واليقين بأن الله يرانا يستقيم الظاهر، فالظاهر أثر من آثار استقامة الباطن، كما أن استقامة الظاهر لا شك أنها تؤثر في استقامة الباطن.
وقد جاء عن المعتمر بن سليمان - رحمه الله - أنه قال: "إن الرجل يصيب الذنب في السر، فيصبح، وعليه مذلته"[2].
مهما حاول الإنسان أن يتصنع أمام الآخرين، لا تحاول أن تذكر أعمالك عند الناس، لا تحاول أن تُفهم هؤلاء الناس أنك تتصدق، أو أنك تقوم على مشاريع خيرية، لا تحاول أن تُفهم هؤلاء الآخرين أن لك مساهمات دعوية، أو أنك تكفل الأيتام، والأرامل، وما أشبه هذا، لا تحاول هذا، الذي تعمل من أجله يعلم بذلك، وكفى.
الناس مهما حاولت أن تتزين أمامهم فإن قلوبهم ترفض هذا الإنسان إذا لم يكن له خبيئة من صدق، وإخلاص مع الله - تبارك، وتعالى -.
وقد قال أبو حازم - رحمه الله -: "لا يُحسن عبد فيما بينه، وبين الله إلا أحسن الله فيما بينه، وبين الناس، ولا يعوِّر - أي يفسد - فيما بينه، وبين الله إلا عوّر الله فيما بينه، وبين العباد، ولَمصانعةُ وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك، وبين الله شنأتك الوجوه كلها"[3].
يقول ابن الجوزي - رحمه الله - في هذا المعنى، يقول: نظرت في الأدلة على الحق، فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله فيظهره الله تعالى عليه، ولو بعد حين، ويُنطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع مِن قدره، وقدرته حجاب، ولا استتار، ولا يُضاع لديه عمل.
يقول: وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ ليُعلم أن هنالك ربًّا لا يضيع عمل عامل، وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه، وفق ما تحقق بينه، وبين الله تعالى، فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر، وما أصلح عبد ما بينه، وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذاماً[4].
ولهذا كان يقول في كتاب اللطف في الوعظ: إذا لم تخلص فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل - يعني في الحج - لم تكن حاجًّا إلا ببلوغ الموقف[5] يعني عرفة.
فأقول أيها الأحبة: كثير من الناس يحاول أن يظهر أمام المجتمع، أمام الآخرين يطلب الشرف، والمحمدة، وأن يصدر في المجالس، ولا يزيده ذلك من الله إلا بعداً، وقلوب الخلق ترفضه.
والخلوة لها تأثيرات تظهر في الجلوة، كم من مؤمن يحترم الله في خلواته، فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هنديًّا على المجمر فيفوح طيبه، فتستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.
يقول أبو الدرداء : "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى، فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر[6].
الثمرة الثانية: دخول الجنة:
وقد سئل بعضهم: بمَ ينال العبد الجنة؟
فقال: بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله تعالى في السر، والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب[7].
الثمرة الثالثة: السعادة، والانشراح.
هذا الإنسان الذي يراقب ربه - تبارك، وتعالى - يكون قريباً منه، وإذا كان العبد قريباً من ربه فلا تسأل عن أنسه، ولذته، وسروره بمناجاة ربه - تبارك، وتعالى - وبمعرفته، كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه فاقة لا يذهبها إلا صدق اللجأ إليه، ولو أعطي الدنيا، وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً[8].
الثمرة الرابعة:السكينة، والحياء، والمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل.
كلما اشتدت المراقبة في قلب العبد أوجبت له من هذه المعاني الشيء الكثير، وذلك أن المراقبة هي أساس الأعمال القلبية، وعمودها الذي قيامها به.
سئل بعضهم عن حاله في التوكل: كيف حصّلت هذه المرتبة؟
فقال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا أستحي منه[9].
الثمرة الخامسة: صحة الفراسة.
وقد قال بعضهم: من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة[10].
الثمرة السادسة: إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما حرم الله، وتصغير ما صغر الله.
الثمرة السابعة: حفظ الأوقات، فلا تضيع سدى، فمن تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه - تبارك، وتعالى -.
- شرح كلمة الإخلاص لابن رجب (ص: 124).
- روضة المحبين، ونزهة المشتاقين (ص: 441).
- صفة الصفوة (1/386).
- صيد الخاطر (ص: 67 - 68).
- انظر: مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (2/27)، وموارد الظمآن لدروس الزمان (4/66)، والمدهش (ص:418).
- صيد الخاطر (ص: 186).
- إحياء علوم الدين (4/397).
- مدارج السالكين (3/156).
- صفة الصفوة (2/340).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/48).
هذا عروة بن الزبير خطب ابنة عبد الله بن عمر "سودة" وعبد الله بن عمر يطوف بالكعبة في الحج، فلم يرد عليه.
قال عروة: لو كان يريد لأجابني، والله لا أعود إليه، يعني في هذا الشأن.
يقول: فسبقني إلى المدينة، فلما أتيتها قدمت المسجد، وإذا هو جالس فيه فسلمت عليه، فقال: قد ذكرت سودة.
فقلت: نعم.
فسأله عن رغبته - يعني هل ما يزال يرغب فيها بالزواج منها؟ - يقول: فقلت: نعم.
فقال: إنك قد ذكرتها لي، وأنا أطوف بالبيت، أتخايل الله بين عيني، وكنت قادراً أن تلقاني في غير ذلك الموطن[1].
نحن نطوف، وماذا نصنع أيها الأحبة؟ الجوال، والنظر، والالتفات، ولربما صدر من بعض الناس أيضاً ما لا يليق مما حرمه الله ويستحي الإنسان من زمرة في هذا المسجد.
ومر عبد الله بن عمر براعٍ، فقال: يا راعي الغنم، هل من جَزَرة؟ قال الراعي: ليس ههنا ربها، فقال له ابن عمر: تقول له: إنه أكلها الذئب، قال: فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟ قال ابن عمر: فأنا، والله أحق أن أقول: أين الله؟ فاشترى ابن عمر الراعي، واشترى الغنم، فأعتقه، وأعطاه الغنم[2].
هذا عبادة بن الصامت كان جالساً مع أصحابه فأقبل الصنابحي، فقال عبادة: من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سموات، فعمل على ما رأى، فلينظر إلى هذا[3]. من شدة مراقبته، وتأدبه، وخوفه، وتحرزه.
كان الإمام أحمد - رحمه الله - يئن في مرض موته.
ذُكر له أن طاوس بن كيسان قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن أحمد - رحمه الله - حتى مات[4]. إلى هذا الحد!، مع أن الأنين ليس بحرام.
ويقول ابن دقيق العيد: ما تكلمت بكلمة، ولا فعلت فعلاً إلا أعددت له جواباً بين يدي الله [5].
ما تكلمت بكلمة، ولا فعلت فعلاً، نحن كم مضى من أعمارنا؟ هل نحن كذلك؟
ولذلك أقول: نحن نحتاج إلى توبة، الداعية يحتاج إلى توبة، والعالم يحتاج إلى توبة، وطالب العلم يحتاج إلى توبة، والإنسان الذي يقول عن نفسه، أو يقول عنه الآخرون: إنه ملتزم، ومتدين يحتاج إلى توبة.
من منا ما قال كلمة، ولا فعل فعلاً إلا أعد له جواباً بين يدي الله - تبارك، وتعالى -.
فنسأل الله أن ينفعنا بما نسمع، وألا يجعل ذلك حجة علينا، كما نسأله - تبارك، وتعالى - أن لا يمقتنا.
نسأله - تبارك، وتعالى - أن يتجاوز عنا، وأن يعفو عنا، وأن يجعل ما نقول عظة لنا، وسبيلاً إلى صلاح قلوبنا، وأحوالنا، وأعمالنا.
فنحن نستغفر الله من كثرة ما نتكلم، ومن كثرة ما نسمع على قلة العمل، فينبغي أن تكون لنا طريقة أخرى في حالنا مع الله - تبارك، وتعالى - وفي النظر إلى أعمالنا.
دعك مما يقوله الناس، فإنهم ينظرون إلى ظاهرك، والله ناظر، وعالم بباطنك.
هذا ختام ما أردت أن أذكره في هذا المجلس، وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يعينني، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
وأشكركم على حضوركم، وأشكر الإخوان أيضاً الذين رتبوا هذا اللقاء، وأسأل الله أن يكتب أجرهم، ويرفع درجاتهم في الجنة، وأن يتقبل منا، ومنهم، ويجعلنا، وإياكم من أوليائه، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا.
- مختصر تاريخ دمشق (17/15).
- شعب الإيمان (11/103)، رقم: (8250).
- سير أعلام النبلاء (3/507).
- تفسير ابن كثير (7/399).
- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (9/212).