الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه الكلمة بعنوان: "كيف نستفيد من خطبة الجمعة؟".
والحديث تحت هذا العنوان تارة يوجه إلى الخطباء، ويراد به كيف نوظف خطبة الجمعة في نفع الناس، وتوجيههم، وإصلاح المجتمع، والدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى - ؟ وهذا الحديث إنما يوجه للخطباء، ومن يعتلون المنابر، فهم المعنيون بذلك، وهذا له مجاله حيث يُطرح في دورة خاصة بهم، أو كتاب، أو مقال، أو غير ذلك.
وقد كتب كاتبون عن هذه القضية فأجادوا، وأفادوا، ولست أعني بحديثي هذا الجانب، وإنما أعني ما يتصل بنا ممن يرتادون المساجد، ويحضرون الجمع، ويسمعون الخطب، كيف يستفيدون منها، وينتفعون، ويتأثرون، وتكون هذه الخطب سبباً لتغيير حياتهم، ونقلهم من طور إلى طور في سلم العبودية، فيخرج الإنسان بعد الخطبة بحال مغايرة لحاله قبل أن يدخل.
وهذا هو المقصود من شرع الله - تبارك، وتعالى - هذه الخطب في كل أسبوع، فالله - تبارك، وتعالى - أمر المؤمنين بالسعي لحضور الخطبة، وسماع الذكر، وحضور الصلاة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9].
والمراد به الخطبة مع الصلاة على القول الراجح من أقوال أهل العلم.
ونهاهم عن الاشتغال بالصوارف، والمعوقات: وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] وذلك لا يختص بالبيع كما هو معلوم، وإنما ذكر البيع - والله تعالى أعلم - لأنه غالب ما يشغل الناس عن الحضور إلى الجمعة في ذلك الحين، الناس يبيعون، ويشترون.
وعثمان حينما وضع الأذان الأول وضعه في السوق؛ لأن الناس لما اتسع بنيان المدينة، وكثر الناس فيها كانوا يتبايعون، ولربما لم يسمعوا النداء الذي يكون بين يدي الخطبة.
فوضع هذا النداء في السوق، فكان الناس يتبايعون قبل الصلاة، فالله قال لهم: وَذَرُوا الْبَيْعَ.
ويدخل في هذا سائر ألوان الاشتغال، ولهذا كان النبي ﷺ يقص أظفاره يوم الخميس، وقد ذكر بعض أهل العلم أن العلة في ذلك كالإمام النووي - رحمه الله - : لئلا يشتغل المسلم بقص أظفاره، أو غير ذلك مما يؤخره عن الحضور، والتبكير في يوم الجمعة.
وإن كان النبي ﷺ لكونه الخطيب إنما يدخل حينما يريد أن يخطب، لكنه ﷺ مشرِّع.
وهكذا الاشتغال بسائر العقود الراجح أن ذلك جميعاً لا يصح، يبطل به العقد، البيع بعد نداء الجمعة الثاني، وعقد الإجارة، وعقود الشركات، والمضاربات، وكذلك من باب أولى ما لا طائل تحته مما قد يشتغل به الإنسان.
كالذي ينشغل عنها بنوم، أو ينشغل عنها بقراءة صحيفة، أو عبث لا يُجدي له نفعاً، فالمقصود أن الله أمر عباده المؤمنين أن يسعوا، والمقصود هنا بالسعي ليس الإسراع في المشي؛ لأن النبي ﷺ قال: ولا تأتوها - يعني الصلاة - وأنتم تسعون[1].
فهو منهي عنه، وإنما المقصود الاشتغال، والعمل على حضورها، فهذا هو السعي المطلوب؛ لأن السعي يطلق على الإسراع في المشي، ويطلق أيضاً على العمل: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم: 39 - 40].
يعني أنه ليس له إلا ما عمل، وأن عمله سوف يرى، هل هو صحيح، أو فاسد، هل هو كامل، أو ناقص.
فهذه الخطبة التي حث الشارع على الإسراع من أجل إدراكها، والنبي ﷺ قال: مثل المُهجِّر كمثل الذي يهدي بدنة - يعني المبكر في حضور الجمعة - ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كالذي يهدي الكبش، ثم كالذي يهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدي البيضة[2].
كما أمرنا - تبارك، وتعالى - بالاغتسال، والتهيؤ على لسان رسوله ﷺ.
النبي ﷺ أمر صراحة من جاء الجمعة أن يغتسل، وقال: غسل الجمعة واجب على كل محتلم[3].
وقال - عليه الصلاة، والسلام - : من غسّل، واغتسل، وبكّر، وابتكر...[4] إلى آخر الحديث.
فغسّل قيل: بمعنى اغتسل، غسّل رأسه، واغتسل في سائر جسده.
هذا الذي عليه عامة أهل العلم في تفسيره، ومعناه، وفسره الإمام أحمد - رحمه الله - ومال إليه أبو عبد الله القرطبي - صاحب التفسير - أن المراد بذلك غسل الجنابة.
من غسّل أي: كان متسبباً في غسل غيره من زوجة، أو أمة، واغتسل هو.
واحتجوا لذلك أيضاً بما جاء في الحديث الآخر: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة..[5] متفق عليه.
فقالوا: المراد بذلك أن يغتسل بسبب الجنابة.
وبينوا وجه هذا، قالوا: لأن الإنسان إذا قضى وطره فإن ذلك يتسبب عنه حضور القلب، ودفع المشوشات، فيكون ذهنه في غاية الصفاء.
الإنسان إذا قضى وطره بالحلال فإن قلبه يكون متهيئاً للسماع، وذهنه يكون في غاية الحضور، والمشوشات مندفعة عنه تماماً، فهي أصفى ما يمر على الإنسان من اللحظات الذهنية، بعد قضاء الوطر.
فقالوا: هذه هي العلة - والله تعالى أعلم - في قوله ﷺ: من غسّل، واغتسل.
ولهذا ذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ومن وافقه على هذا أنه يسن الوطء صبيحة يوم الجمعة.
فالمقصود سواء كان هذا المعنى، أو كان المعنى الأول أن المراد غسّل يعني غسّل رأسه؛ لأن شعورهم كانت طويلة تحتاج إلى كلفة، وعمل بغسلها، واغتسل في سائر البدن، فلا شك أن الغسل يهيئ النفس، ويجد الإنسان معه من النشاط، والخفة، والراحة ما لا يخفى على أحد.
ولذلك تجد الإنسان إذا كان قد قدم من برية، أو من رحلة، أو من سفر، أو في أثناء الحج في يوم النحر، وقد قضى عامة أعمال الحج، فإذا حلق رأسه، وذبح هديه، ورمى الجمار، واغتسل ليتحلل فإنه يجد خفة، ونشاطاً، وراحة لا تذكر.
الإنسان الذي يحمل درناً إذا اغتسل يجد فرقاً كبيراً بين حالته قبل الاغتسال، وحالته بعد الاغتسال.
وهكذا حينما يلبس الإنسان أحسن الثياب، فقد حث النبي ﷺ على ذلك، وكان يفعله - عليه الصلاة، والسلام - فهو يوم عيد، فإن هذه الثياب التي يلبسها المسلم مع الاغتسال تسبب له من راحة القلب، ونشاط النفس شيئاً كثيراً.
وقد جُرّب هذا، أثر الاغتسال، وأثر اللباس النظيف الأبيض، والنبي ﷺ يقول: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم[6].
جُرّب هذا في بعض السجون في أمريكا، فكانوا يطالبون المساجين - السجون التي يدخل فيها مجرمون - كانوا يطالبونهم بالاغتسال صبيحة كل يوم، وأعطوهم ثياباً نظيفة بيضاء، كل يوم يلبسون ثيابًا نظيفة، فوجدوا تغيراً، وأثراً لذلك على سلوكهم.
وهذا مشاهد، وإذا أردت أن تعرف أثر هذا جرب من الغد، إذا أردت أن تذهب إلى العمل اغتسل قبل أن تذهب، ثم انظر الفرق بين ذهابك بعد الاغتسال، وبين سائر الأيام، ستجد فرقاً لا يقادر.
فالحاصل أن الشارع أمر بالاغتسال، والتهيؤ، والتطيب أيضاً؛ لأن الطيب يبعث الانشراح في النفس، وهو من المفرحات كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[7].
يعني الأمور التي تبعث الإنسان على السرور، والراحة إذا شم الروائح - الطيب - فيتطيب الإنسان، كل هذا من أجل أن يكون متهيئاً.
ثم هو مأمور بالقرب من الإمام "ثم دنا إذا تكلم الإمام" واستقبله بوجهه كما دل على ذلك حديث ابن مسعود من أنه كان النبي ﷺ إذا خطب استقبلوه بوجوههم[8].
فهذا لا شك أنه مظهر يدل على إقبال المسلم على ما يقوله الخطيب دون أن يكون معرضاً عنه ينظر إلى شيء آخر، ولربما نام، والخطيب يخطب كأنه لا يُعنَى بهذه الخطبة، ولا يُخاطَب بها، ولا يُحدَّث بها، وإنما هي لغيره.
وهذا حال الكثيرين، فيفوت عليهم مقصود الشارع من شرع خطبة الجمعة، بل إن الشارع نهى عن أدنى الأشياء مما يكون فيه الاشتغال عن الخطيب "إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة: أنصت، فقد لغوت"[9].
والنبي ﷺ يقول: من مس الحصى فقد لغا[10] ومن لغا فلا جمعة له[11].
وأحسن ما يفسر بهذا - والله تعالى أعلم - ما صح عن النبي ﷺ من أن جمعته تكون ظهراً، يعني لا يكون له أجر الجمعة التي تكون كفارة إلى الجمعة الأخرى، وإنما تكون ظهراً.
وقصة أبيِّ بن كعب مع ابن مسعود معروفة، حينما جلس بجانبه، والنبي ﷺ يخطب، فسمع النبيَّ ﷺ يقرأ من سورة براءة، فقال: متى أنزلت هذه السورة؟
فأبي لم يجبه، وتجهم له.
يعني ظهر عليه أثر العبوس، والكراهة للسؤال، والإنكار، وما قال له: أنصت؛ لأنه سيكون مشاركاً له في هذا.
فأعاد عليه السؤال ثلاثاً، ثم سأله بعد ذلك، بعد الصلاة: لماذا لم تجبني حيث سألتك ثلاثاً؟
فأخبره أنه لم يحضر معهم الجمعة، فذهب ابن مسعود إلى النبي ﷺ وسأل عن هذا، فأقر أبيًّا، وصوّب قوله.
إلى هذا الحد! لا يمس الحصى، ولا يعبث بالقلم، ولا يشتغل بالسجاد يخطط عليه، ولا يكلم صاحبه، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر أثناء خطبة الجمعة.
إذا قلت لصاحبك: "أنصت" فقط فقد لغوت، ومن لغا فلا جمعة له.
فهذا الإنصات، وهذا التهيب من أجل ماذا؟
نحن نحضر في الشهر أربع خطب، والسنة تشتمل على اثني عشر شهراً.
وإذا حسبتها 4 × 12= 48 خطبة، فما تأثيرها؟
هذا الخطيب يتكلم عن البر، والصلة، والصدق، وأكل الحرام، وحقوق الجار، والخوف من الله والجنة، والنار، إلى غير ذلك من الموضوعات في الأبواب المتفرقة حتى إن الخطباء ليعانون معاناة شديدة كما هو معلوم، ومن مارس الخطابة عرف هذا.
يعانون من نضوب الموضوعات عندهم، يقول لك: خطبنا عن كل شيء، عشر سنوات، وأنا على هذا المنبر، أعطوني موضوعات، ماذا تقترحون؟
وإذا نظرت في بعض الخطباء، والأشياء التي خطب عنها تقول: ما ترك شيئاً.
فأين أثر هذه الخطب على الناس؟ أين أثرها؟ نحن لا نتكلم عن أناس بعيدين، نحن نتكلم عن أنفسنا، ما هي أثر هذه الخطب علينا؟
لا شك أن الغفلة موجودة، والنقص موجود، والجهل موجود، وتعدي، وتجاوز حدود الله موجود لدى الجميع، لكن الناس في هذا بين مقلّ، ومكثر.
فهذه الخطب التي نسمعها لو أن أحداً لا يسمع محاضرة قط، ولا يحضر كلمة في مسجد، ولا موعظة إلا الخطبة فقط، وأكثر الناس لا يفرطون فيها، أكثر الناس يأتون يوم الجمعة، ولو كان الواحد منهم لا يصلي الفروض الخمسة في المسجد.
ولذلك تمتلئ المساجد يوم الجمعة، بل في بعض البلاد تجد أن جميع المساجد تصلي الجمعة، لا يوجد عندهم جوامع، كل المساجد مكتظة، وهذا موجود في مثل: مصر، ما عندهم هذا مسجد جامع، وهذا مسجد فروض، المساجد مليئة، إلا أن الفرق أن بعض الخطباء المرموقين يحتشد الناس خلفهم في الشوارع، ولربما في بعض البنايات المجاورة، والتي لم ينته بناؤها بعد، فيتجمهرون عند هذا الخطيب، لكن جميع المساجد تمتلئ.
أين أثر هذه الخطب على الناس؟ لماذا لا نتأثر كثيراً، ونحن نسمع؟
لابد من إعادة النظر، ومراجعة النفس، والقصد، والنية، والتصور، وتصحيح ذلك جميعاً.
إذا تهيأت يوم الجمعة، وأتيت إلى المسجد مبكراً لابد أن تعمل بوصايا أربع، من أجل أن تستفيد من هذه الخطبة التي هي موجهة لي، ولك، الخطيب لا يكلم أناساً خارج المسجد إنما يكلم من في المسجد، فلابد من التفطن لأمور أربعة:
الأول: وهو أصل الانتفاع دائماً: حضور القلب.
أحضر قلبك، كثير من الناس يأتي، وإذا نظرت فيهم، وتلفّت تجد هذا، وهذا، وذاك يغط في نوم عميق، فهذا لا يمكن أن ينتفع، ومن الناس من قد تسلط عليه الشيطان، لا يتسلط عليه النوم إلا في مجالس الذكر.
أما إذا كان في مجالس لهو، أو غيبة، أو حديث لا قيمة له فهو من أنشط الناس، متيقظ تماماً، فهذه بلية، ورزية، والله قال عن النوم: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال: 11].
النوم في أرض المعركة، والنعاس في أرض المعركة أمنة؛ لأنه يحصل به طمأنينة القلب، فتذهب عنه بواعث الخوف، ويحصل به راحة البدن، وأما النوم أثناء الخطبة فهو مذموم، وهكذا في مجالس العلم.
بل قال بعض السلف حينما سئل عمن ينام في مجلس العلم، قال كلمة شديدة، قال: "ذاك كذا في مسلاخ إنسان"[12].
يعني كلمة يصعب أن أقولها عمن ينام في مجالس العلم.
يعني حدد نوعًا من الحيوانات التي عرفت بالبلادة، ذاك كذا في مسلاخ إنسان، يعني في صورة إنسان.
الإنسان لا ينام حيث يقسم ميراث النبوة، وإنما يقسم ميراث النبوة في رياض الجنة، ورياض الجنة هي مجالس الذكر.
لو أن الإنسان إذا حضر مجالس لا فائدة فيها غلبه النوم، ونام، وتركهم، فهذا يمدح به، أن قلبه منصرف عن مجالس اللغو، لكن من الذي ينام في مجالس اللهو؟ هذا نادر، الشيطان يبعث النشاط، ويحدوه، ويحثه على المشاركة فيها، أن يكون له دِلاء في هذا الحديث، ولا يكتفي بدلو واحد، فأحضر قلبك عند سماع الموعظة، والله يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
والإنسان الذي لا يحضر قلبه لا يمكن أن ينتفع؛ لأن القلب هو موضع التعقل، والتفكر، ومستقر الإرادات، والمعتقدات، وإذا كان القلب منصرفاً فإن الإنسان لا يعقل بيده، ولا يعقل برجله، ولا يعقل بكتفه، وإنما يعقل بقلبه، فإذا شُغل هذا القلب فهو كالمكتوف الذي يريد أن يأخذ شيئاً بيده، ولا يستطيع.
اليد للقبض، والبطش، فإذا كان الإنسان مكتوفاً فإنه لا يستطيع أن ينتفع بها، فالقلب إنما يكون مكتوفاً إذا كان معطلاً من الفكر، والتعقل، والانتفاع، فلا يكون حاضرًا عند الموعظة، فلا يحصل مقصوده حينما يحضر لخطبة الجمعة، حضر بدنه، ولم يحضر قلبه.
القلب مشغول بشيء آخر، القلب في الأسهم، في الشاشة، في برامج تلفزيونية، في المعارض، في الغداء الذي سيأكله بعد الصلاة، مشغول به.
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار، وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيًا، برقم (601).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة، برقم (929)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب فضل التهجير يوم الجمعة، برقم (850).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة، برقم (880)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب، وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال، وبيان ما أمروا به، برقم (846).
- أخرجه الترمذي، أبواب الجمعة، باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، برقم (496)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، والسنة فيها، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، برقم (1087)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (1388).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (881)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب، والسواك يوم الجمعة، برقم (850).
- أخرجه أبو داود، كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، برقم (3878)، وبرقم (4061)، كتاب اللباس، باب في البياض، والترمذي، أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ باب ما يستحب من الأكفان، برقم (994)، والنسائي، كتاب الزينة، باب الأمر بلبس البيض من الثياب، برقم (5322)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1236).
- زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 363)، والطب النبوي لابن القيم (ص: 300).
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (5713).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة، والإمام يخطب، برقم (934)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، برقم (851).
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع، وأنصت في الخطبة، برقم (857).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (719)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة مولى امرأة عطاء".
- أدب الإملاء، والاستملاء (ص: 142).
لا يكن حضورنا لخطبة الجمعة من أجل إلقاء التبعة، تسجيل حضور فقط، يجب علينا حضور الجمعة نأتي إلى المسجد، ولكن هذا المجيء أحياناً لا معنى له، فليست المسألة هي أن نلقي ذلك عن كاهلنا، ونقول: ها قد حضرنا.
فالحضور وسيلة لهذا المقصود، والمطلوب، وهو الانتفاع من هذ الموعظة، فإذاً يجب أن نستشعر هذا المعنى، ولا نقف فقط عند الحضور.
وكثير ممن يأتي يوم الجمعة يأتي لأن هذا فرض عليه فهو يحضر فقط للحضور، ثم لا يبالي بعد ذلك، بعضهم يُسأل بعد الخطبة: أين صليت؟ ماذا كانت خطبة المسجد الذي صليتم فيه؟
يقول: والله ما أدري ماذا قال، أتيت، وخرجت، ولم أكن مع الخطيب.
وهذا يحصل للإنسان حتى في الصلاة، الآن لو سألنا واحداً، واحداً: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى، وماذا قرأ في الركعة الثانية؟
حتى تعرف أننا ما نتكلم عن أناس بعيدين، نحن نعظ أنفسنا بهذا الكلام، ماذا قرأ الإمام - اسأل نفسك - في الركعة الاولى، وفي الركعة الثانية؟
أحياناً قد تكتشف أنك لا تدري ماذا قرأ، ولربما يجتهد الإمام يبحث عن سورة مؤثرة، ولو علم أن بعض من يصلي خلفه لا يفرق بين قراءة آية الديْن، وبين الآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر مثلاً، كل ذلك عنده سواء من حيث التأثير.
أن لا نسمع لمجرد الثقافة، وتحصيل المزيد من المعلومات، فإن العلم إنما يحضره، ويستمع إليه، ويتعلمه - والموعظة حينما يسمعها الإنسان - من أجل أن يطبق، ويمتثل، وينتفع، وأما أن الإنسان يستكثر من العلم، والمعرفة فإن هذا غير مقصود لذاته.
من الناس من ثقافته واسعة، وإذا أردت أن تعظه في أمر من الأمور، وتبين حكمًا من الأحكام تجد أنه يفوقك في تصوره لهذا الموضوع، ومعرفته بتفاصيله، لكن أين العمل؟ لا يوجد عمل، العلم وحده لا ينفع إلا بالعمل، ولهذا قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - : "لو نفع العلم بلا عمل لما ذمّ الله أحبار اليهود"[1].
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5].
وأسوأ مثلين في القرآن هما ما يتعلق بمن علم، ولم يعمل، الأول مثل طائفة، وهو هذا، شبههم بالحمار - أكرمكم الله - فالحمار هو أبلد الحيوان كما يقول ابن القيم - رحمه الله -[2] وهو أقل المركوبات زينة، والله ذكرها من حيث الزينة بالترتيب "والخيل، والبغال، والحمير لتركبوها، وزينة".
فأجملها الفرس، ثم البغل، ثم الحمار، والحمار أقواها على الحمل، يحمل، ويتحمل، ويصبر، ولذلك الحمار يكنى بأبي صابر، والجمل يكنى بأبي أيوب.
فالشاهد أن هذا الحمار لا ينتفع من الكتب التي يحملها فوق ظهره غير أنها تثقله، وترهقه دون أن يستفيد منها كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5].
كتب كبيرة تسفر عما في داخلها فلا ينتفع بها، وهكذا هؤلاء الذين لم ينتفعوا بالذكرى، والموعظة، وما أنزل الله عليهم من الهدى، والبيان في التوراة، وأعرضوا عن ذلك، وتركوه، فهم بهذه المثابة.
وضرب مثلاً للشخص الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، قال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [الأعراف: 176].
الكلب في أبشع صوره إن تحمل عليه، يعني تطارده، فهو يلهث، وإن تركته، وأعرضت عنه فهو يلهث، يخرج لسانه، ويحركه، فهذا مثل الإنسان الذي آتاه الله آياته، ولم يعمل بها، مثّله تارة بالكلب، وتارة بالحمار.
أشد الأمثال في القرآن، ولذلك أقول: العلم يقصد به العمل، فلا نحضر من أجل مزيد من المعلومات، والثقافة، والخطيب ذكر كذا، وذكر إحصاءات، وأرقامًا، ومعلومات، فأين العمل، والتطبيق؟
- الفوائد لابن القيم (ص: 31).
- انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 74)، وإعلام الموقعين (1/ 127).
استشعر أنك مخاطب بهذا الكلام.
كما قال ابن مسعود : "إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فهو شيء تؤمر به، أو تُنهى عنه"[1].
وهكذا كان أصحاب النبي ﷺ إذا وَعَظَ تأثروا، وبكوا، ورقت قلوبهم كما جاء في حديث أنس لما قال النبي ﷺ: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً...[2] إلى آخر ما ذكر.
أنس يقول: فجعلت أنظر إلى أصحاب رسول الله ﷺ يقول: "وما منهم أحد إلا وقد،وضع رأسه بين ركبتيه، ولهم خنين"[3] يعني بالبكاء.
يبكون إذا سمعوا هذه المواعظ، ويتأثرون غاية التأثر، وحديث حنظلة حينما قال: نافق حنظلة، جاء إلى أبي بكر، ثم جاءوا إلى النبي ﷺ وشكى إليه أنهم إن كانوا عنده، وذكر الجنة، والنار، ووعظهم، تأثروا، وكأنها رأي عين من شدة التأثر بالوعظ، واليقين، والتصديق، فإذا رجعوا إلى أهلهم، وعافسوا الأزواج، والأولاد، والضيعات خف ذلك في نفوسهم، فخشي أن يكون هذا من النفاق[4] تبدُّل الحال حينما يسمع الموعظة عند رسول الله ﷺ وحينما يخرج إلى أهله.
وهكذا حينما خاطب الله المؤمنين: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92].
جاء أبو طلحة للنبي ﷺ وقال: أحب مالي إليّ بيرُحاء، وإنها صدقة لله أرجو بها برها، وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.
الرجل غني، وتخير أفضل ما عنده من المال، وقال حينما سمع آية واحدة فقط: "هي صدقة لله، ضعها يا رسول الله حيث أراك الله"[5].
ونحن نسمع خطبة كاملة عن فضل الإنفاق في سبيل الله، ولربما تمر سنة على الإنسان، وما تصدق بريال واحد، الإنسان يحتاج أن يفكر، ويسأل نفسه في عشر ذي الحجة كم تصدق؟ في رمضان بكم تصدق؟ بعد ذلك بكم تصدق؟
وذكر العلماء - رحمهم الله - أن من علامة الحج المبرور أن يرجع الإنسان بحال غير الحال التي كان عليها قبل ذلك لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92].
بعدما حج، وأثناء الحج هل تصدق؟ هل أنفق؟ أو أن الواحد منا يبخل على نفسه؟ النبي ﷺ لما دخل المسجد، ووجد عذقاً من شيص معلق عند الصُّفة، والشيص معروف، هو ثمر النخل الذي قد ضعف، ولم يستوِ، يعني لم يؤبَّر، فيخرج ضعيفاً مستطيلاً دقيقاً لا تأكله إلا البهائم.
فقال النبي ﷺ: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[6].
وهكذا الذي لا ينفق إلا الثياب البالية، والطعام التالف، فإن مثل هذا يكون زاده يوم القيامة.
وكذلك ما جاء في الصحيحين أن عمر لما سمع هذه الآية، قال: "يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي بخيبر فما تأمرني به؟
قال له: احبس الأصل، وسبِّل الثمرة[7].
ما قال: هذا جيد، لماذا نبذله، ونصرفه؟.
وكذلك عبد الله بن عمر يقول: "لما سمعتها ذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله "[8].
وهكذا عمر أعتق جارية من سبي جلولاء[9] وزيد بن حارثة جعل فرساً نجيبة في سبيل الله[10].
وهكذا من جاء بعدهم، وهكذا أبناء الصحابة ابن عمر سمع النبي ﷺ قال كلمة نقلت إلى ابن عمر بالواسطة عن طريق أخته لما رأى تلك الرؤيا، وقصتها حفصة على النبي ﷺ النبي ﷺ قال كلمة، قال: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل فكان ابن عمر لا ينام بعدها من الليل إلا قليلاً، كان يصلي إلى فروع الفجر، ويقول لمولاه نافع: أسْحرنا؟ فيقول: لا.
ثم يقوم يصلي[11] وهكذا.
فكم سمعنا نحن خطبة، ومحاضرة عن قيام الليل؟ بل كم سمعنا محاضرة، وخطبة عن المحافظة على صلاة الجماعة، ومع ذلك الحال هي الحال، التأخير هو التأخير، وتجد الواحد منا أحياناً ما يصلي إلا بأطراف الصفوف، ومنا من لا يصلي إلا بعد طلوع الشمس، لا يقوم لصلاة الفجر، وهو يسمع مراراً الموعظة، والذكرى فيما يتصل بالصلاة، وغيرها.
سئل عبد الله بن المبارك فيما روي عنه عن بدء زهده، وتوبته، ما كان سبب التوبة؟ فقال: "كنت يوماً مع إخواني في بستان، وذلك حينما حملت ثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا، وشربنا حتى الليل، ونمنا، وكنت مولعاً بصرب العود، والطبول، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت عالٍ يقال له: راشين السحر، والطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود في يدي لا يجيبني إلى ما أريد، فإذا به ينطق كما ينطق الإنسان: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16].
يقول: فقلت: بلى، والله، فكسرت العود، وصرفت من كان عندي من الناس، والأصحاب، فكان أول زهدي، وتشميري"[12].
وصار ابن المبارك هو ابن المبارك، إمام في العبادة، والإنفاق، والزهد، والعلم.
وكذلك الفضيل بن عياض، يذكر في سبب توبته أنه عشق امرأة فواعدته ليلاً، فجاء يرتقي الجدران، وبينما هو يتسور ليصل إليها سمع قارئاً يقرأ هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16] فرجع، وهو يقول: بلى، والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة، وبها جماعة من السابلة - يعني المسافرين - وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق.
وهم لا يعلمون بمكانه، يعني شمِّروا، وجِدِّوا في السير؛ لئلا يقطع عليكم الفضيل طريقكم.
فقال: أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام"[13].
فبقي في مكة، آية، موقف واحد، ونحن نسمع الخطب، تصل أحياناً الخطبة إلى ساعة إلا ربعًا، خطبة الجمعة، خطبت في أحد المساجد عشرين دقيقة خارج هذه البلاد.
فلما نزلت قام أحد المشايخ يعلق على الخطبة، ويقول: هذه خطبة قصيرة مختصرة، ولكنها.. وذكر كلاماً.
فالشاهد لفت نظري قول الخطيب: إنها قصيرة، مختصرة، ثم بعد ذلك جلست مع مجموعة من الخطباء بعد الصلاة، وإذا هم يتحدثون عن خطبهم أنها تصل إلى الساعة، وأن الخطبة التي تكون عشرين دقيقة غير مألوفة في تلك البلاد.
فهذه الخطب الطويلة، وهذه المحاضرات أين أثرها على الناس؟ أين الأثر؟ هل قست القلوب؟
أبو بكر ضع نفسك مكانه - : مسطح رجل فقير قريب لأبي بكر من جهة الخئولة، أبو بكر هو الذي ينفق عليه؛ لقرابته، وفقره، وقعت قضية الإفك، واتُّهم عرض النبي ﷺ وعرض عائشة، وعرض أبي بكر، أفضل ثلاثة، أحب النساء للنبي ﷺ عائشة، وأحب الرجال إليه أبوها[14] فأحب الناس إلى النبي ﷺ الرجل، وبنته.
فكان ممن تكلم في هذا مسطح، بعد هذا الإحسان، والإنفاق، فقال أبو بكر : "والله لا أصل مسطحاً بعد اليوم".
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ أنفق عليه، وأصله، ثم بعد ذلك يتكلم في عرض النبي ﷺ وعرض أبي بكر، وعرض عائشة؟ فأنزل الله : وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22].
لا يأتلِ يعني لا يحلف، فالألِيّة هي الحلف، أبو بكر قال: "بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي" وأعاد إليه النفقة، وكفّر عن يمينه[15].
سمع آية غيرت حاله مباشرة.
عمر جاء عيينة بن حصن، وقال لابن أخيه الحر بن قيس، وكان الحر بن قيس شابًّا من خيار شباب المسلمين، ومن أصحاب الرأي، والعلم، والدين، وكان عمر يُدخل هؤلاء في مجلسه لمشورتهم.
كان يجالس مثل هؤلاء، وجاء عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس، وقال له: لك وجه عند هذا الأمير - يعني عند عمر - فاستأذن لي عليه.
يقول: فاستأذنت.
فدخل، وقال: "هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل" فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول لنبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
خُذِ الْعَفْوَ ما تَسهّل من أفعال الناس، لا تدقق، ولا تستقصِ، فلان قصر، فلان ما قام بالواجب،
ما جاءك منهم سهلاً خذه، ولا تتبع ما وراء ذلك وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ من قصر في طاعة الله تأمره بها، تأمره بكل خير.
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ستجد سفهاء، وأهل رعونة، لا تقف معهم فتنزل، وتنسفل حتى تكون مساوياً، وندًّا، وقِرناً لهم في الأخلاق، والتدني.
يقول: وإن هذا لمن الجاهلين.
يقول: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان، وقّافاً عند كتاب الله [16] رواه البخاري.
إذا غضب الواحد منا الآن، وجاء واحد، وقرأ عليه هذه الآية، يتأثر؟ يغير؟ يذهب عنه الغضب؟.
وكذلك حينما حُرمت الخمر، والإدمان على الخمر أشد من الإدمان على التدخين.
فهذا أنس يقول: "كنت ساقي القوم يوم حرّمت الخمر في بيت أبي طلحة، فإذا منادٍ ينادي، فقال له أبو طلحة: اخرج فانظر.
يقول: فإذا منادٍ ينادي ألا إن الخمر قد حرّمت، فجرت في سكك المدينة.
فمباشرة الناس أراقوها ما قالوا: نخلص الأشياء التي عندنا الآن، مباشرة جرت في سكك المدينة بلا تردد، فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها.
يقول: "فأهرقتها"[17] في المجلس يشربون الخمر، قال له: اخرج فأهرقها.
هذا الإنسان الذي يدخن كم مرة عن التدخين، ويرجع كما كان، هكذا كل من ابتلي بمعصية، يسمع عنها.
يسمع الإنسان عن حكم الأغاني، وسماع الاغاني، ويرجع، ويشغل السيارة، ويسمع، مباشرة! أين الاستجابة؟ أين الاستفادة؟ يسمع عن المعاملات المالية المحرمة، وكأنه لم يسمع، يسمع عن القنوات الفضائية الفاسدة، وهذه الأطباق تعشش فوق بيته، يتزود منها صباح مساء.
أين التأثر؟ أين الاستجابة؟ يسمع عن الأمانة في القيام على الزوجات، والأولاد، وأداء العمل كما ينبغي، ويرجع على نفس الحال من الظلم، والتضييع، والتفريط، والتقصير كأنه لم يسمع شيئاً، يسمع عن وجوب الصلاة، ولا يُرى في المسجد، لا يصلي، أين الاستجابة؟
والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 20 - 23].
ما يخاف الإنسان أن يكون منهم؟ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] سماع استجابة، وانقياد وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23].
وفي هذه السورة سورة الأنفال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 24 - 25].
فهذا أمر من الله لا خيار لنا معه اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51].
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36].
فهذه هي الحياة الحقيقية، الحياة النافعة، تحصل بالاستجابة لله، ولرسوله ﷺ والانتفاع بموعظة القرآن، الانتفاع بالآيات، والهدى، والنور الذي جاء الله به على لسان رسوله ﷺ.
حينما نسمع هذه الآيات، نوعظ بها، ونذكر بها يجب أن يكون لهذا الصدى في نفوسنا، أن يكون له من الأثر ما يغير حالنا، وواقعنا، فالذي لا يستجيب لا حياة له، وللإنسان من الحياة على قدر ما عنده من الاستجابة لله، ولرسوله ﷺ فعديم الاستجابة حياته حياة بهيمية، حياة لا ينتفع بها كما يقول الحافظ ابن القيم[18] مثل البهيمة، لا يستجيب، ولا يعقل، حياة الجسد مشتركة بين الإنسان، وبين الحيوان، لكن المؤمن له قلب يعقل به، يستجيب عن الله، وعن رسوله ﷺ.
فالمستجيبون هم الأحياء، وإن ماتوا، وغير المستجيب هو الميت، وإن كان حيًّا يأكل، ويشرب، ويتنقل، والإنسان له حياتان: حياة جسد، هذه تكون عمارتها بالأكل، والشرب، ويحصل ذلك أيضاً للبهائم، بالعلف، وأما حياة القلب فإنما تكون عمارتها بنفخ الروح على لسان الرسول البشري - عليه الصلاة، والسلام - عن طريق تلقي الوحي، عن طريق تلقي الهدى من النبي ﷺ.
فهذه نفخة، تبعث هذه الحياة الكاملة الحقيقية.
وأما الحياة الأولى فتكون بنفخ الملَك حينما يكون عمر الإنسان أربعة أشهر، وهو جنين في بطن أمه، ففرق بين هذه الحياة، وهذه الحياة.
فإذا كان قلبه حيًّا فإنه يفرق بين الحق، والباطل، وما ينفع، وما يضر، ويستجيب، ويتأثر، ولذلك تجد الناس يتفاوتون، منهم من يسمع الموعظة، ويبكي، ومنهم من كأنه لم يسمع، ولذلك وصف الله حال المنافقين أنهم حينما يخرجون من عند النبي ﷺ يقولون: مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد: 16] ويتساءلون حينما تنزل الآيات: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [التوبة: 124].
الله يقول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124].
ثم ذكر حال المنافقين الذين في قلوبهم مرض، قال: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] - نسأل الله العافية - من الناس من لا يزيده سماع الآيات إلا إعراضاً، وكفراً، وشروداً عن الله .
ولذلك ينبغي على الإنسان أن يراجع قلبه، وأن ينظر في مدى انتفاعه من هذه الخطب، والمواعظ، ويخشى، ويحاذر أن يحول الله بينه، وبين قلبه؛ لأن الله توعد غير المنتفعين، غير المستجيبين وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
يحول بينه، وبين قلبه فلا تنفع به موعظة، ولا يستفيد مما يتعلم، ولا تؤثر به قراءة القرآن من أوله إلى آخره، كأنه لم يقرأ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110].
فهنا للتعليل، يعني جزاءً على الراجح، لماذا الله يقلب قلوبهم، وأفئدتهم، وأبصارهم عن الهدى فيصرفون عنه؟ قال: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110].
يعني جزاءً، وفاقاً لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" فالباء هنا تعليلية على قول جماعة من المفسرين.
"بما" أي: بسبب تكذيبهم من قبل ما كانوا ليؤمنوا، فالعبد يخاف، ويلاحظ حاله، ونفسه، واستجابته، ويخشى أن يحول الله بينه، وبين قلبه، وما يحصل من الفتن بين الناس إنما هو بسبب تفريطهم، وتضييعهم، وتقصيرهم في الاستجابة لله، ولرسوله ﷺ لأن الله قال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25].
فما يقع بين الناس من الفتن هذا من أعظم أسبابه، فلابد إذن من نظر يعاد، ومحاسبة تستجد حينًا بعد حين من أجل مزيد من التأثر، والانتفاع بهذه الخطب التي نحضرها، وكان مقتضى العقل أن الإنسان يقول: لا أسعى إلى شيء دون أن أستفيد، وأنتفع به.
أنت تحضر فما عليك إلا أن تتفطن لطريق تنتفع به من هذا الذي تسمعه.
أسأل الله أن يجعلنا، وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه ﷺ تحت لوائه، وأن يسقينا، وإياكم شربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض، وتسودّ وجوه، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
اللهم فرّج عن إخواننا في العراق، وفي الصومال، وفي الشيشان، وفي أفغانستان، وفي كل مكان.
اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم انصرهم نصرا ًمؤزراً.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (1886)، وسعيد بن منصور في التفسير، برقم (50)، وفي سنده انقطاع فمسعر بن كدام لم يسمع أحدًا من الصحابة.
- أخرجه البخاري، أبواب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، برقم (1044)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن سبق الإمام بركوع، أو سجود، ونحوهما، برقم (426).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2359).
- أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر، والفكر في أمور الآخرة، والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا، برقم (2750).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم (1461)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة، والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، والوالدين، ولو كانوا مشركين، برقم (998).
- أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1821)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
- أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، برقم (2737)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف، برقم (1632).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 260).
- تفسير القرطبي (4/ 133).
- المصدر السابق (4/ 132).
- أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - برقم (3739)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - برقم (2479).
- تفسير القرطبي (17/ 251).
- سير أعلام النبلاء (8/ 423).
- أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ باب قول النبي ﷺ: "لو كنت متخذا خليلا" برقم (3662)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق برقم (2384).
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، وبرقم (4141)، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] برقم (4642).
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم، والغصب، باب صب الخمر في الطريق، برقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر، والبسر، والزبيب، وغيرها مما يسكر، برقم (1980).
- الفوائد لابن القيم (ص: 88).