الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
وقفات مع قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) .. سورة البقرة الآية 138
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 2338
مرات الإستماع: 3221

واجعلنا مسلمين

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.

في هذا المجلس نتدارس آية من كتاب الله -تبارك وتعالى- جاءت في سياقٍ يبين الله فيه حقيقةً ينبغي أن تكون حاضرةً في قلب كل مؤمن.

فالله حينما ذكر إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الذي تنازعته الطوائف، فاليهود يقولون: إن إبراهيم ﷺ كان يهوديًّا، والنصارى ادعو أن أنه كان نصرانيًّا.

فالله ذكر خبره في كتابه -تبارك وتعالى- في مواضع، ومن هذه المواضع ما ذكره في هذه السورة الكريمة الزهراء، سورة البقرة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127] أي: واذكر إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإسماعيل، قائلين: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: يا ربنا، فهذا نداءٌ، ودعاءٌ يدعوان ربهما قائليْن: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128].  

ما قالا: اجعلنا يهودييْن، أو نصرانييْن وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا يعني: واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك.

و"من" هنا بيانية، وليست تبعيضية، فهما يدعوان ربهما أن يجعل ذريتهما أمة مسلمة كذلك رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:128، 129] وهذا الرسول هو محمد ﷺ.

ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: أنا دعوة أبي إبراهيم[1].

بمعنى: أن الله أجاب دعاءه، فبعث في هذه الأمة رسولاً منهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

ثم قال: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] وملته هي الإسلام، الحنيفية، لم يكن -عليه الصلاة والسلام- يهوديًّا، ولم يكن نصرانيًّا.

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] أسقطها، وبخسها حقها، ودسّاها وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:130 - 132].

يعني: وصى يعقوب -عليه الصلاة والسلام- بنيه بالإسلام، والحنيفية، وأن لا يموتوا إلا على الإسلام.

ويعقوب -عليه الصلاة والسلام- هو أبٌ لبني إسرائيل، وهم ينسبون إليه، يا بني إسرائيل يعني يا أولاد يعقوب.

وإسرائيل هو يعقوب -عليه الصلاة والسلام- فإسرائيل يعني عبد الله يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40].

فيعقوب ﷺ وصى بنيه أيضاً، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وصى بنيه أيضاً يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].

وكيف يموت الإنسان على الإسلام؟ وكيف يُوصَّى على ذلك، وهو لا يملك خاتمته؟

والجواب عن هذا يقال: إن من عاش على شيءٍ رُجي أن يختم له به، وأن يموت على ذلك، فمن عاش ملازماً للإسلام، وعاملاً بشرائع الدين، ومتبعاً لسنة المرسلين -عليه الصلاة والسلام- ظاهراً، وباطناً، رُجي له بعد ذلك أن يموت على الإسلام، وأن يختم له بذلك.

يقول الله أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].

أولاد يعقوب، وهم الأسباط الذين تفرعت منهم قبائل بني إسرائيل، كان يوصيهم بذلك، وأجابوه بهذا الجواب أنهم على الإسلام، قال الله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ذهبت، ومضت لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].

ثم قال الله ذاكراً ادعاء هؤلاء المبطلين من اليهود، والنصارى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135] أو: هنا للتقسيم.

قالت اليهود: كونوا هوداً.

وقالت النصارى: كونوا نصارى.

وإلا فإن اليهود لا يقولون بحال من الأحوال: كونوا هوداً، أو نصارى تهتدوا؛ لأن اليهود يكفرون النصارى، ويضللونهم، ويرون أنهم ليسوا على شيء، والنصارى أيضاً يضللون اليهود، ويعادونهم، ويرون أنهم ليسوا على شيء وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] فهذا قولهم في بعضهم.

المراد بهذه الآية: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قالت اليهود: "كونوا هوداً".

وقالت النصارى: "كونوا نصارى".

قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] على دين إبراهيم ﷺ مستقيماً على التوحيد مائلاً عن كل دينٍ سواه قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:136 - 137].

يكفيك هؤلاء من كل وجه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أقوالهم، ويعلم أحوالهم.  

  1.  أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 453)، رقم: (3566).
ما معنى صبغة الله؟

ثم قال بعد ذلك بعدما بين تلك الحقيقة أن ملة إبراهيم ﷺ هي الإسلام، وأن ذلك هو الدين الذي اصطفاه الله - تبارك، وتعالى - لذريته، وبنيه من بعده، قال: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138].

جاء بها في هذا السياق، وعقبها بقوله: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ۝ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 139 - 141].

فهذه الآية التي اجتمعنا لمدارستها جاءت في هذا السياق: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138].

نحن نعلم أن الصِّبغ ما يصبغ به الشيء، تصبغ به الثياب، يطلى به الجدار، تطلى به الأشياء.

فالصبغة هنا هي الحالة، والهيئة التي يقع عليها الصبغ.

فما المراد بصبغة الله - تبارك، وتعالى - في هذه الآية؟

عامة أهل العلم من المفسرين سلفاً، وخلفاً يقولون: إن هذه الصبغة التي جاءت في هذا السياق هي الدين، هذا الذي قال به ابن عباس، وقتادة، وابن مجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وعطية، وعكرمة، والنخعي، والسدي، وابن زيد، والربيع بن أنس، واختاره الحافظ بن كثير[1] وقال به طوائف كثيرة من أهل العلم، وقال به من أهل المعاني الأخفش، ومن أهل اللغة الجوهري، واختاره جمعٌ من المفسرين، ومن آخرهم الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحم الله الجميع[2].

فإذا كانت هذه الصبغة هي الدين فلماذا قيل للدين: "صبغة"؟

بعض أهل العلم يقولون: إنه قيل له صبغة باعتبار أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماءٍ أصفر، يسمونه المعمودية، ويقال له "التعميد" عمَّدوه بمعنى أنهم صبغوه بهذا الماء الأصفر، ويزعمون أن ذلك يكون تطهيراً لهم، فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك، قال: الآن صار نصرانيًّا، فقال الله - تبارك، وتعالى -: صِبْغَةَ اللَّهِ أي: اطلبوا "صبغة الله" وهي الدين، والإسلام، لا صبغة هؤلاء المنحرفين، الضالين، المشركين، الذين يفترون على الله الكذب، وبعض أهل العلم يقولون: قيل لها صبغة باعتبار أن اليهود يصبغون أولادهم أيضاً.

يصبغه ليكون يهوديًّا، فيلقن ولده دينه، فيُشرَب هذا الدين، وتعاليمه، كما أن النصارى يُشربون أولادهم تعاليم الدين النصراني، فذلك بتلقينهم إياه، كما جاء عن قتادة.

ويقال في كلام العرب "فلان يصبغ فلاناً بالشيء" يعني يُدخله فيه، ويلزمه إياه.

كما يجعل الصبغ لازماً للثوب، وقد قال بعضهم:

دع الشر وانزل بالنجاة تحرُّزًا إذا أنتَ لم يصبغك في الشر صابغُ

بمعنى أن ذلك لم تصطبغ به نفسك، ولم تنشأ عليه، أو تتأثر به بحالٍ من الأحوال.

وبعض أهل العلم يقولون: سمي الدين صبغة باعتبار أن تلك هيئة تظهر على صاحبها، تظهر على المتدين، فتشاهد عليه من أثر الطهارة، والصلاة، والعبادة.

فالله - تبارك، وتعالى - قال: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29].

والذي عليه عامة المفسرين سلفاً، وخلفاً أنه ليس المقصود بهذه السيما التي ذكرها الله لهؤلاء من أهل الإيمان تلك العلامة التي تبدو لوناً مغايراً للون الجبهة، وإنما هي ذلك الإشراق الذي يكون في الوجه.

فإذا رآه أحدٌ من الناس عرف أنه من أهل الصلاح، وذلك أن ما يكون في بواطن الناس لابد أن يظهر على وجوههم، ما أسر أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه، وفلتات لسانه؛ لأن نفسه قد صبغت بذلك، فلابد أن يظهر أثر هذا الصبغ في لسانه، فيصدر عنه كل قولٍ جميل، ويظهر ذلك على جوارحه، فيصدر عنها كل فعل جميل، ثم ما يلبث ذلك أن يقوى حتى يستنير الوجه، ويشرق لإشراق القلب، وهذا أمرٌ لابد منه، ولا يستطيع أحدٌ أن يخفيه.

فوجوه الناس تنبئ عما في بواطنهم، ووجه أهل السنة فيها من الإشراق، والوضاءة، والنور بحسب ما يكون في قلوبهم من اليقين، والإيمان، والصدق، وما إلى ذلك، فيُميَّز بين وجوه الأخيار، ووجه الأشرار، ومن ابتلي ببلية من عمل فاسد فإن ذلك يظهر على وجهه، ولابد، يميزه أهل الفراسة، فإذا قوي ذلك ميزه، وعرفه كل ناظر إليه لا تخطئه العين.

وانظر إلى من وقعوا في المنكرات الشنيعة، والجرائم العظيمة كمروِّجي المخدرات مثلاً، والذين يهربونها، وينشرونها في الناس، فإن ذلك يعرف في وجههم، فإذا رأيت وجهه، رأيت المنكر، والشر، والفساد يلوح على وجهه.

كما أنك ترى ذلك في أصحاب الفواحش، كما يظهر أيضاً على أصحاب البدع، وإن كان ظاهرهم التدين، لكنه التدين الفاسد المدخول، فيَظهر ذلك ظلمةً في وجوه أصحاب هذه الأهواء، والبدع.

فهنا تظهر آثار الإيمان، والأنوار التي تكون في قلب العبد على وجهه، ويظهر ذلك على لسانه، وجوارحه، فتلك صبغةُ الله كما سيأتي.

وبعض أهل العلم يقولون: قيل لها صبغة من أجل أن تظهر المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله - تبارك، وتعالى - وبين الذي اختاره أهل الباطل، فيتضح ذلك كما يتضح الصبغ، فيتميز المصبوغ عن غيره، ويظهر، وينكشف، فلا يكون ملتبساً.

فسمي الدين صبغة من حيث أن أعماله، وسمته، وهديه، ودَلّه يظهر على أصحابه، كما يظهر أثر الصبغ على الثوب.

وقد قال بعض الشعراء من همدان:

وكلُّ أناس لهم صبغةٌ وصبغة همدان خير الصِّبَغْ
صبغنا على ذلك أبناءنا فأكرِمْ بصبغتنا في الصِّبَغْ

فهذا يتمدح أنهم صبغوا أولادهم بصبغة معينة تميزوا فيها عن أبناء القبائل الأخرى.

والمقصود بقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ أي: الزموا صبغة الله، وهو دينه، قوموا بذلك قياماً تامًّا على الوجه المطلوب بجميع أعماله الظاهرة، والباطنة، بعقائده، وشرائعه، وعباداته المتنوعة؛ كي يكون لكم صبغة تتميزون بها عن غيركم؛ من أجل أن يكون ذلك رسماً، ووصفاً ثابتاً لا يفارقكم، فإذا كانت تلك المعاني ثابتةً، راسخةً في قلوب أصحابها فإن ذلك لابد أن يظهر على الوجوه، والألسن، والأعمال شاء أصحابها، أم أبوا؛ لأن ذلك بمنزلة الصبغ الذي يصبغ به الثوب، أو الشيء، فيكون الدين طبيعةً، وسجيةً تلازمهم في كل أحوالهم، في نومهم، ويقظتهم، وسفرهم، وإقامتهم، في حال مزاحهم، وجدهم، وما إلى ذلك، فهو لا يفارقهم بحال من الأحوال، وعندها تحصل لهم السعادة الدنيوية، والأخروية، وبذلك يتميزون عن غيرهم.

وذلك أن الدين يدعو أصحابه إلى الإيمان، والأعمال الصالحة، ومكارم الأخلاق، والعفة في الألسن، ويدعوهم إلى كل قولٍ جميل، وإلى كل فعلٍ جميل، فإذا كان ذلك الإيمان صحيحاً مستقرًّا في القلوب فإن ذلك ما يلبث أن يظهر على أصحابه، فإذا دخل الرجل في الإسلام فإن ذلك يعني أنه يتحول بكليته، في ظاهره، وفي باطنه، في أخلاقه، وتعامله، في سمته، وهديه، فيشرق وجهه، ويستنير، وتظهر آثار الإيمان، وأنواره على ذلك الوجه بعد أن كان مظلماً بظلمة الكفر، والمحادة لله - تبارك، وتعالى -.

فهذه صبغة الله - تبارك، وتعالى - كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - [3] ومثل ذلك قول من قال بأن صبغة الله هي الإسلام كما جاء عن مجاهد، واختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله -[4].

وكذلك قول من قال: هي فطرة الله - تبارك، وتعالى -.

فإن الفطرة هي دين الإسلام، ودين الإسلام هو الدين الذي اصطفاه الله   واختاره للعالمين، فهذا كله يرجع إلى شيء واحد، وهكذا قول من قال بأن فطرة الله هي خِلقته، فذلك هو دينه الذي ارتضاه لعباده، وهكذا قول من قال بأن صبغة الله هي الختان، أو سنن الفطرة.

فإن ذلك من مقتضياتها، ومما يتميز به الحنفاء، فهو من قبيل التفسير بالمثال، وليس ذلك بقولٍ قائمٍ بنفسه يخالف ما سبقه.

وبعض أهل العلم يقولون: إن صبغة الله بمعنى الاغتسال عند إرادة الدخول في الإسلام، بدلاً من معمودية النصارى، ولكن هذا لا يخلو من بعد - والله تعالى أعلم -.

  1.  تفسير ابن كثير (1/450).
  2. تفسير السعدي (ص: 68).
  3. تفسير السعدي (ص: 69). 
  4.  تفسير الطبري (3/117).
صبغ القلوب بالإيمان

والله - تبارك، وتعالى - قد صبغ الأشياء، والقلوب بهذا الإيمان، حتى استنارت به، وأشرقت به الوجوه، وظهر الفرقان بين وجوه أهل السنة، وأهل البدعة، كما قال في المؤمنين: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة: 273].

وفي الكفار: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16].

يعني: يُجعل له وسم، وعلامة يعرف بها لا تفارقه.

وفي المنافقين: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد: 30].

فهذه الصبغة هي الحنيفية التي صبغت القلوب بمعرفة ربها، ومعبودها، وخالقها - جل جلاله، وتقدست أسماؤه -.

فاصطبغت هذه القلوب بمحبته، والإخلاص له، وعبادته وحده لا شريك له، وصبغت الأبدان بخصال الفطرة من الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، والاستنجاء.

فظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء، وعلى أبدانهم، وألسنتهم.

فصبغته - تبارك، وتعالى - هي الإسلام، الإسلام في عباداته الباطنية من الأعمال القلبية، الخوف، والرجاء، والمحبة، والتوكل، والإنابة، وما إلى ذلك.

وكذلك أيضاً فيما يتصل باللسان من الصدق، والعدل في الأقوال، والذكر، وقراءة القرآن، إلى غير ذلك مما يصدر عن اللسان.

إضافةً إلى أعمال الجوارح كلها، مع الكف عن كل ما لا يليق مما يخالف أمر الله، وشرعه، وبهذا يصطبغ فكر الإنسان، وعقله، ومشاعره، وتصوراته، وآماله، وأهدافه، وسلوكه، وأعماله بالصبغة الإلهية.

وذلك هو مفهوم العبودية بمعناها الواسع أن يكون المؤمن عبداً لله بظاهره، وباطنه، وذلك لا يكون إلا بمعرفة الإسلام الحق الذي جاء به الرسول ﷺ معرفة صحيحة مستمدةً من كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ على فهم السلف الصالح .

لا يكون ذلك إلا بتحقيق التوحيد ظاهراً، وباطناً، لا يكون ذلك إلا بتوحيد مصدر الهداية، والتلقي، والنظر، والاستدلال، لا يكون ذلك إلا بالعمل بشرائع الدين.

أما دعوى الإيمان وحدها فإنها لا تكفي، بل لابد من إيمانٍ راسخٍ، وعمل ظاهر هو جزء من هذا الإيمان، فالإيمان قول، وعمل، وكذلك أيضاً أن يكون ذلك تربيةً يتربى عليها أهل الإيمان، وتزكيةً لنفوسهم، والله - تبارك، وتعالى - قد أقسم أحد عشر قسماً في كتاب الله - تبارك، وتعالى - وهو أطول قسم في القرآن: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ۝ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس: 1 - 5] يعني: وبانيها، أو وبنائها، على القولين وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس: 6] أي: وطاحيها، أو وطَحْوها.

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس: 7] أي: ومسويها، أو وتسويتها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9 - 10].

أحد عشر قسماً على هذه القضية، كيف تكون تدسية هذه النفس، وكيف تكون تزكيتها؟

تكون تزكيتها بلزومها صبغة الله ظاهراً، وباطناً.

هذا الذي يناط به الفلاح في أحد عشر قسماً، "قد أفلح" والفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، فالأفراد يُصبغون بهذه الصبغة، فيتميزون عن غيرهم، فيكون ذلك سمة لهم، ومزيّة يعرفون بها من بين ملايين البشر.

إذا رأيته بمجرد أن تصوب إليه بصرك لأول، وهلة فإنك تعرف أن هذا من أهل الإيمان، أنه من المسلمين، ويكون ذلك بحسب حاله من لزوم طاعة الله، وتقواه ظاهراً، وباطناً، فتظهر عليه أنوار السنة، فيُعرف أن هذا من أهل العلم، أو أن هذا من أهل العبادة، والجد في الطاعة، كل ذلك يظهر على وجه صاحبه، يميز، ويعرف.

أما أن يبقى الإيمان دعوة يدعيها كل أحد، ثم إذا نظرت إليه لا ترى أثراً لهذا الإيمان في سلوكه، في عمله، في تعامله، معاملاته، في أخلاقه، على لسانه، في عباداته، وجوارحه، لا يعرف الله، عفيف الجبهة، لا يسجد، ولا يصلي، ثم هو بعد ذلك يتشبه بأعداء الله - تبارك، وتعالى - فلا يُميَّز هل هذا بوذي، أو نصراني، أو يهودي، وإنما يحتاج إلى سؤاله ليُعرِّف بنفسه، هل أنت من المسلمين، أو لا؟

فمثل هذا لم يصطبغ بهذه الصبغة؛ وذلك لأن الإيمان قد اضمحل، وضمر في باطنه فانكمش من ظاهره، وذهبت أنواره، وآثاره، فلم يعد يُميَّز عن غيره من الناس ممن لم تستنر قلوبهم، ولم تهتدِ بهدى الإسلام.

 
أهل الإيمان يتميزون في شؤونهم كلها

واليوم نرى جموعاً من الشباب البائس الذين تركوا تعاليم الإسلام وراء ظهورهم، وأصبحوا يتقمصون تعاليم الأمم التي تدور بين الغضب، والضلال.

نحن في كل ركعة نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7].

فالذين خالفوا هذا الصراط من غير أهل الإنعام لا تخلو حالهم، إما أن يكون هؤلاء ممن عرفوا الحق، فتركوه، فهم أهل الغضب، ورأس هؤلاء هم اليهود.

وإما أن يكون هؤلاء قد ضلوا عن الحق لجهلهم، فهؤلاء يكون الواحد منهم من الضالين، والأبرز في ذلك، والأعرف، والأشهر به هم النصارى فهم أهل الضلال.

أما أهل الإنعام فهؤلاء هم الذين هداهم الله فلزموا الصراط المستقيم الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه.

وهذا الصراط هو الذي قال الله - تبارك، وتعالى - فيه: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132].

هذا هو الصراط المستقيم، الطريق الوحيد الموصل إلى الله - تبارك، وتعالى - فاللائق، بل الواجب على من هداه الله لهذا الدين، وميزه عن هؤلاء الضالين، وأهل الغضب أن يظهر ذلك في باطنه، وأن يظهر في لسانه، وأن يظهر في جوارحه، أن يظهر في تعاملاته، أن يتميز، أن يكون له من الهدي، والسمت، والدَّل.

أن يكون له من الأخلاق، والزكاء ما يتميز به عن أولئك من أهل الرعونات الذين يدورون بين الغضب، والضلال.

نسأل الله العافية، والسلامة من حال هؤلاء جميعاً.

أما أهل الإيمان فهم الذين يتميزون في ذلك في شئونهم كلها، في حياتهم كلها، بدءاً من خفقة القلب، ومشاعر النفس، وخطرات العقل، وكلمات اللسان، وحركات الجوارح، إلى علاقات المجتمع، صلة الأرحام، التواصل مع الآخرين.

وفي جميع الأحوال بالنسبة للأمة تصطبغ بهذه الصبغة، فإذا جاء القادم من ناحية أخرى، من بيئة أخرى، من مجتمع آخر، من أمة أخرى، فرأى هذه الأمة عرف أنها أمة مسلمة؛ لأنها تتميز في كل شيء.

يصل إلى الأمان، فلا يعتدي عليه أحد، ولا يتخوف مظلمة أحد، يرى الأخلاق الجميلة، والأعمال الجميلة، يرى النفوس الزكية، يرى الوجوه المشرقة.

هذا لابد أن يظهر على أصحابه، يرى التوكل على الله، يرى اليقين، يرى السكينة، لكن إذا ضعف الإيمان في النفوس ظهر أضداد ذلك، الكذب، الخيانة، الغش، الرعونات، سوء الخلق، وما إلى ذلك مما نشاهده في مجتمعات المسلمين إلا من رحم الله - تبارك، وتعالى -.

يظهر ذلك في أحوال الأمة الاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها مما تشتمل عليه، وما يكون لها من أعمال، ومزاولات، وملابسات في داخلها، وما يتصل بتعاملاتها مع غيرها.

الشخصية الإسلامية التي اصطبغت بهذه الصبغة الربانية هي التي تتميز بذلك، تتميز بالتمسك الحقيقي، ليست تتصنع أخلاقًا تجارية، أو مجاملات، أو يكون ذلك نفاقاً اجتماعيًّا، وإنما يكون إيماناً راسخاً، فـالإيمان بضع، وسبعون - أو بضع، وستون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[1].

أعلاها شهادة لا إله إلا الله فهي المفتاح الذي يُدخل به الإسلام، وهي مفتاح الجنة، وهي أول واجب على المكلف.

وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، وما بين ذلك أعمالٌ كثيرة تتصل بالقلب، واللسان، والجوارح.

فينبغي على العبد أن يستكثر من شرائع الإيمان، وأن يعمل على تحقيقها ظاهراً، وباطناً؛ من أجل أن يصطبغ قلبه، وباطنه بنور الله - تبارك، وتعالى - وبصبغته، ومن أجل أن يصطبغ لسانه، وتصطبغ جوارحه، وذلك لا يكون بحالٍ من الأحوال إلا عندما يتغلغل هذا الإيمان فيتشربه قلب العبد، فيصفو، ويزكو، ويشرق، وينير.

وهنا تظهر عليه الينابيع من الخير، والمعروف، والبر، فيكون رحمة على الناس، لا يصل إليهم منه شيءٌ يتخوفونه، أو يكرهونه، فهو عف اللسان لا يغتاب الناس، ولا يؤذيهم، ولا يغمزهم، ولا يلمزهم، وكذلك هو أيضاً عف البصر، لا ينظر إلى الحرام، يستشعر نظر الله إليه أن الله يراقبه، ويراه، فإذا خلا بمحارم الله كف عنها، وارعوى، وانزجر.

وكذلك أيضاً حينما تحصل للنفوس ألوان المطامع، فإنها تكف عما يسخط الله خوفاً منه، ورجاء ما عنده من العوض، والكرامة لأهل الإيمان.

فهؤلاء هم أصحاب الصبغة الإلهية، الصبغة الربانية التي اصطبغوا بها في ظاهرهم، وباطنهم، فتخلصوا من الخرافة، والدجل، والإشراك، والبدع، والضلالات، والأهواء، ولم يكن أحدٌ منهم عبداً لغير الله .

لا تستعبده الشهوة، ولا يستعبده الهوى، ولا يستعبده المال، ولا يستعبده المنصب، والولاية، ولا تستعبده الوظيفة، وإنما يكون عبداً لربه، وخالقه، ومولاه، يكون عنده من القناعة، والرضا القلبي ما لا يجعله ذليلاً حقيراً يسعى خلف نفسٍ لا تشبع، تطلب من هذا الحطام، وهي تشعر بفقرٍ يلازمها، لو أُعطي الدنيا، وما فيها لم تسد تلك الفاقة.

ولكن هؤلاء عرفوا الله معرفة صحيحة، فانجلت عنهم أسباب الوحشة، كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -:

"في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.

وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته.

وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه.

وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره، ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.

وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه.

وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا، وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدًا[2].

فالإنسان إذا كان بعيداً عن ربه - تبارك، وتعالى - يكون في حالٍ من الاستعباد لهذه المطامع، والمطالب النفسية، هكذا يكون العبدُ رقيقاً، والرقُ الحقيقي هو رق القلب، الرق هو رق القلب حينما يؤسر هذ القلب، ويُسترق، ويستعبد لغير الله، سواء كان لمرأة يعشقها، أو يحبها، أو كان لمالٍ، أو كان لوظيفةٍ، أو كان لغير ذلك مما يسترق القلوب، ويأسرها، ويجذبها، فهذا هو الحبس، والرق الذي يعذب به صاحبه.

ومن سلم من ذلك، وصار قلبه معلقاً بربه - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - فإن هذا القلب يكون في حالٍ من الانطلاق، والراحة، والنعيم، والسرور، واللذة حتى قال بعض أهل العلم: إننا لفي سعادة، ولذةٍ لو علم بها أبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف[3].

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة[4].

ما هذه الجنة؟ ما هذه الراحة، واللذة؟ هي لذة الإيمان الحقيقي، الذي خالط القلوب مخالطةً صحيحة، فانعكس ذلك راحة، وسروراً يظهر على وجه صاحبه، إذا نظرت إليه رأيت الطمأنينة، والراحة.

شيخ الإسلام - رحمه الله - كان من سجن إلى سجن، ومات في السجن، ومع ذلك يقول عنه ابن القيم - رحمه الله -: كان إذا أرجف بنا الخصوم، وادلهمت الخطوب، وانتابت المخاوف أتيناه، فوالله ما إن نرى وجهه حتى ينجلي عنا ذلك  جميعاً.

كنا إذا نظرنا إلى، وجهه رأينا فيه نضرة النعيم تلوح على وجهه، قبل أن يتكلمـ ينجلي عنهم ما يجدون بمجرد النظر إلى وجهه لما فيه من السكينة، والطمأنينة، لما فيه من مظاهر الرضا القلبي، والأنوار، أنوار الإيمان.

فهذه يجعلها الله لمن شاء من عباده في الدنيا، فكيف بالأنوار التي تكون في القبر؟ وكيف بالأنوار التي تكون في المحشر؟ وكيف بالأنوار التي تكون على الصراط؟  

يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد: 12] فهذا إنما يكون بحسب ما يكون عليه العبد من الإيمان، والعمل الصالح.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان (1/63)، رقم: (35).
  2.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (3/156).
  3.  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 77).
  4.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/452).
لباس المؤمن

وهكذا يظهر ذلك في لباس الإنسان، وفي سمته الظاهر، فإن أهل الإسلام لهم لباسٌ يخصهم، لهم أزياء، المرأة المسلمة بحشمتها، بوقارها، بحجابها حيث تكون متميزةً عن غيرها يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59].

تُعرف أنها حرة مسلمة بالحجاب، وليس بالعري، إنما يكون هذا العري لمن انحطت مرتبته في الرق، والعبودية، فأولئك لم يكن لهم من الشرف ما يكون للحرائر، فيحصل لهم من التبذل ما لا يكون للحرة، المسلمة، المصونة، المحفوظة بحجابها، وبما حفظ الله - تبارك، وتعالى - : وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33].

إن المرأة المتحضرة هي التي تلزم الحجاب، وهذا كلام الله - تبارك، وتعالى - وليس بكلام أحد من الناس، والتبرج، والعري إنما هو من فعل أهل الجاهلية، ومما يدعو إليه الشيطان.

فإن أهل الجاهلية يتبرجون، الجاهلية الأولى المنسوبة إلى الجهل، فيكفي في ذلك تنفيراً عن مثل هذه المسالك المستقبحة.

وكذلك أيضاً الشيطان حينما أغوى آدم، وحواء في الجنة بالأكل من الشجرة قال الله : يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف: 27].

فنزع اللباس - التعري - هذا مما يدعو إليه الشيطان، والله يقول: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف: 26].

ويربط معه اللباس الآخر ليكون هذا اللباس ظاهراً، وباطناً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] فهذا اللباس يتميز به أهل الإيمان بأزيائهم كما يتميز باطنهم بلباس التقوى، وهما قرينان متلازمان، فإذا اضمحلت التقوى من النفوس انحسر اللباس، فحصل التكشف، والتعري، وتغيرت ملامح هذه الأزياء، فصار المسلم يحاكي أعداء الله في لباسهم، وظاهرهم، وأزيائهم، وقصاتهم، وتقليعاتهم، فيظهر في مظاهر بائسة، مظاهر مشينة، مظاهر مستهجنة، فيكون قد زُين له سوء عمله، وغُيرت فطرته، وانتكست حتى صار يستحسن القبيح، فترى مظاهر في القبح.

ومهما يكن من أمر فإنك لابد أن ترى من مظاهر القبح ما يمكن أن يُستهجن بالفطر، فأولئك الذين قد بلغوا هذا المبلغ لا شك أنهم يرون أنه من الأمور الحسنة، فزُين لهم ذلك العمل.

والناس بين مقلٍّ في هذا، ومكثر، ولكن الكمال الحقيقي أن يلزم الإنسان شرع الله - تبارك، وتعالى - ما شرعه لعباده، مما يتزيّون به، ويَظهرون، سنن الفطرة، إعفاء اللحية، ما يكون من اللباس مرتسماً على الرجال، وما يليق بالنساء في ملابسهن، بين النساء تلبس لباساً ساتراً، طافياً، لا تصل إلى النساء، أو تحضر مجامعهن في الأعراس، والحفلات، وما إلى ذلك بلباسٍ يُبدي جسدها، ومفاتنه، فإن ذلك خلاف لباس التقوى.

هذا اللباس ليس هو من الصبغة التي صبغ الله بها عباده، فإن هذه الصبغة - كما ذكرنا - تكون في الباطن كما تكون في الظاهر، وعرفنا أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد.

فإن من هذا الإيمان ما يتصل بسنن الفطرة الظاهرة، وما يتصل بستر العورات، وما يتصل بالحشمة، والأزياء، والمظاهر، فإن الدين قد جاء ليعالج هذا المخلوق - هذا الإنسان - في جميع حالاته. 

أول أوصاف عباد الرحمن

وانظروا إلى أول الأوصاف التي ذكرها الله لعباد الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63].

أول صفة هي المشية، كيف يمشي، فوصف مشيته.

إذاً الإسلام لا يقول: هذه أمور لا قيمة لها، هذه أمور تافهة، هذه أمور يسيرة، لا، المشية يحكمها الإسلام الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا.

وكيف تكون أخلاقهم مع السفهاء، والمخالفين وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] فلا ينحطون، وينسفلون في مراتب السفه، فيستوون مع غيرهم مجارين لهم في الرذائل، والقبائح مما يصدر عن الألسن، والجوارح.

هذا لا يكون من هؤلاء، هذه أول الأوصاف، المشية، وطريقة التعامل مع هؤلاء السفهاء.

ثم ذكر أحوالهم في ليلهم، ونهارهم وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64] لا يبيتون على طرب، ولهوٍ، وغفلةٍ، وتضييعٍ، وسهر على ما حرم الله - تبارك، وتعالى - وهكذا، هذا كله من صبغة الله - تبارك وتعالى -.

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء: 37] هذه وصايا وصى الله - تبارك، وتعالى - بها في سورة الإسراء، لا تمش مختالاً، علمه كيف يمشي إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37].  

حينما تضرب برجلك مختالاً متبختراً اعلم أنك صغير، لن تخرقها بضربك برجلك في مشيتك غروراً، وزهواً، وتكبراً، وتعاظماً.

وكذلك حينما يشمخ بأنفه، فإنه لن يطاول الجبال، يبقى صغيراً محدوداً، وهذا أمرٌ مشاهدٌ لمن عقل.

وكذلك فيما ذكر الله من أوصافهم حينما قال - جل جلاله وتقدست أسماؤه -: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].

لا يكون الإنسان إمعةً، يتبع هذا، وهذا، وإذا رُفعت له موضة، وتقليعة، أو شعار، تبعه، أو سمع إشاعة صدقها، ونشرها، كل هذا يرجع إلى الصبغة الإلهية.

الصبغة التي يصطبغ بها القلم، فتكون كتاباته نظيفة، الصبغة التي يصطبغ بها اللسان، فيكون كلامه نزيهاً، الصبغة التي تصطبغ بها العين فتكون عفة، الصبغة التي تصطبغ بها الجوارح، فتكون مسلمة لربها، وخالقها - جل جلاله، وتقدست أسماؤه -.

بخلاف صبغة الشيطان التي تظهر على الإنسان، فإذا استكثر منها، وانغمس فيها فإن ذلك يظهر عليه، فيتحول إلى لونٍ من صنوف الشياطين، ويظهر بمظاهرهم، ويتزيّا بصورهم، وأشكالهم، وزيهم، إذا رأيته لربما خُيل إليك أنه شيطان مارد، وذلك أنه أوغل في طاعة الشيطان.

وبذلك نعرف الفرق بين صبغة الله - تبارك، وتعالى - وغير ذلك من الصبغ.

فقس ذلك، انظر إلى أضداد ذلك، كيف ترى في عبدٍ آمن بربه إيماناً صحيحاً، وما يظهر عليه من أثر الخضوع في قلبه، والانقياد في جوارحه، فلم يزل يتحلى بكل وصفٍ جميل، وخلق كريم، ونعتٍ جليل، ويتخلى عن القبائح، والرذائل، فإذا قال صدق، وإذا وعد وفى، وهو من أهل الصبر، والحلم، والأناة، والعفة، والشجاعة، والإحسان، ويحب الله، ويخافه، ويرجوه، ويتوكل عليه.

هو مخلصٌ لربه - تبارك، وتعالى - في أعماله، وعباداته، في قوله، وفي كل شأن من شئونه.

قس هذا بحال عبدٍ قد شرد، وأبق من ربه - تبارك، وتعالى - فاتصف بجميع المكاره، والقبائح، وصار عبداً لكل آسرٍ، وكاسر من شياطين الإنس، والجن، فصار خلقه الكذب، وشيمته الخيانة، والمكر، والخداع، لا عفة، ولا إحسان، ولا كرم، ولا سمت يظهر عليه من صبغة الله - تبارك، وتعالى - وبضدها تتبين الأشياء.

هذه الصبغة تضعف، وتخف حتى تتلاشى بحسب ما يكون عليه العبد من الإيمان بمفهومه الواسع من العبودية، وتحقيقها لربه، وخالقه، ومليكة فيظهر ذلك ضعفاً، وقوة في أعمال القلوب التي تتبعها أعمال الجوارح، فيكثر صدقه، أو يقل، وتكثر عفته، أو تقل، ويكثر إحسانه، أو يقل، ويكثر خوفه من ربه - تبارك، وتعالى - أو يقل، بحسب ما هو عليه، وما اصطبغ به باطنه، وظاهره، ويتفاوت الناس في ذلك تفاوتاً بيناً يظهر على وجههم، ويظهر على أعمالهم، ويظهر على ألسنتهم.  

فمن الناس من إذا رأيته ذكرت الله، ومن الناس من إذا رأيته وجدت انقباضاً في قلبك حتى إن العين لا تطيق أن تصوب النظر إليه لما يظهر عليه من الظلمة في وجهه.

وقل مثل ذلك أيضاً في التعامل مع الناس، من الناس من تتعامل معه مرة واحدة، ثم بعد ذلك تعزم عزماً أكيداً صارماً أن لا تعاود التعامل معه، ومن قاربه بنسب، ومصاهرة، أو غير ذلك من مشاركة في عمل، ومزاولة في مهنة فإنه لربما طلب الخلاص بكل مستطاع. 

تبذل المرأة المال من أجل أن تتخلص من هذا الزوج الذي رأت منه ما لا يسر في لسانه، وقلبه، وجوارحه، وأعماله، وأحواله، وتعاملاته، فهذا كله إنما هو لضعف اصطباغ قلبه، وظاهره بصبغة الله - تبارك، وتعالى -.

إذا ضعفت هذه الأنوار، وهذه الآثار أقبل الإنسان على الهشيم، إذا تصحر قلبه، ونفسه صارت نفسه تقبل على المرعى الوخيم، فيبحث عن كتب الروايات التي تحرك الغرائز، والمعاني الرديئة، وتثير الشبهات، ويجد فيها طرباً، وأنساً، ويبذل فيها الأموال.

وصار يسرِّح نظره فيما حرم الله   ويسرح قدمه فيسافر، ويذهب إلى بلاد بعيدة؛ من أجل أن يرى ألوان المنكرات، فيجد لذته، وأنسه بمخالطة أهل الفجور، والمنكر، والعري، والشر، والمحادة لله - تبارك وتعالى -.

ويزعم أن ذلك من قبيل الترويح، والأنس، والراحة، وأنها ساعة، وساعة، وما إلى ذلك؛ وذلك لأن النفس هذه صارت مريضة، والصبغة هذه صارت ضعيفة، وإلا فإن المؤمن الذي اصطبغ بالإيمان حقًّا لا يستطيع أن يفارق البيئة النظيفة الصحيحة إلى بيئةٍ أخرى يكثر فيها الشر، والفساد، والمنكر، يسير إليها برجله بغير عذرٍ معتبر شرعاً، فيكون بذلك مشاكلا، ومشاركاً لهم، ومقرًّا لأفعالهم القبيحة، وإن لم يشاركهم في فعلهم؛ لأن هذا الذي يخالطهم مخالف لقول الله - تبارك، وتعالى -: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140].

فالمؤمن ينأى بنفسه عن مثل هذا، ويجد وحشةً حينما يجلس مع أهل المنكر، ويشعر بالغربة إذا اضطر إلى ذلك.

فكيف بمن يطلب هذا، ويسافر آلاف الأميال من أجل أن يصل إلى بؤر الفساد، والشر، التي تشيع فيها الفواحش، وأنواع المنكرات، ويقول: "سياحة" وأن هذه السياحة يحصل بها إجمام النفوس؟!.

أي إجمام يحصل للنفوس المؤمنة في بيئةٍ ملْؤها المنكر، والشر، والفساد، والرذيلة؟ إن نفوس أهل الإيمان لا تستجم بحال من الأحوال في بيئةٍ فاسدةٍ، منتنة كهذه.

فهذا - أعزكم الله - كالذي يذهب من المكان، والجو النقي الذي تملؤه الروائح الطيبة من الطيب إلى مدبغةٍ، أو مزبلةٍ، فيختار ذلك طائعاً، ويأتي إلى هذه الأماكن المنتنة مختاراً مؤثراً لها على تلك الروائح، والأماكن النظيفة، الطاهرة، الطيبة.

بل الأمر أشد من ذلك؛ لأن المعاصي، والفجور لو كانت لها رائحة لما أطاق الناس الذهاب، والسفر إلى تلك النواحي، إذا ضعفت هذه الصبغة فإن ذلك مؤذن بفساد ذوق الإنسان، فيستحسن ما يُستقبح، ويبحث عن مشارب أخرى من مصادر التلقي، فلا يجد ذلك في كتاب الله، ولا سنة رسوله ﷺ فيقرأ، ويبحث في مواقع تثير الشبهات، والضلالات، وينهل من ذلك كثيراً، أو قليلاً، فيتكدر باطنه، ويتغير صفو إيمانه فيصطبغ بذلك، ولابد؛ لأن الإنسان لابد له من أن يتأثر بما يقرأ، ويشاهد، ويسمع، ويلابس، ويخالط صِبْغَةَ اللَّهِ اتبعوا صبغة الله، الزموا صبغة الله، فذلك يكون إغراء لهم، وأمراً بلزومها وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟

لا أحد أحسن من الله صبغة، فهذا الاستفهام مضمن معنى النفي، لا أحد أحسن من الله صبغة.

إذاً لماذا يبحث الإنسان هنا، وهناك؟ لماذا يتشبه بأعداء الله ويتزيّا بزيهم؟ لماذا المرأة المسلمة تستحي أن تعتز في ليلة زفافها بما يمليه عليه دينها، وإيمانها، فتتقمص أفعالاً لا تعرف تفسيرها، فتذهب في زي يلبسه النصارى، هؤلاء أهل الضلال الذين لا يعرفون الحق، وما فقهوه، وما فهموه، ثم بعد ذلك تضع، أو يضع الدبلة في هذا الأصبع البنصر، وهم لا يعرفون ما وراء ذلك؟.

وهذه أمور هي ممارسات، ومزاولات لهؤلاء من أهل الضلال يتقلبون فيها بناءً على عقائد فاسدة، فيأتي المؤمن - للأسف - ويتابعهم، ويوافقهم على هذه الأمور.

هل ستجد أفضل من صبغة الله؟

وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً هل ستجد أفضل من صبغة الله ؟

هذا الإنسان الذي قد شوه ظاهره بخلاف ما أمره به الشارع - تبارك وتعالى - هل سيجد صورة، ومظهراً، وزيًّا يظهر به أمام الآخرين أفضل من هدي النبي ﷺ الذي هو أكمل الناس رجولةً، ومروءةً، وأحسن الناس هدياً، وسمتاً؟ هل سيجد أفضل من سنن الفطرة التي سنها الله لعباده؟

هذا الذي يتشبه بالنساء، أو المرأة التي تتشبه بالرجال هل وجدوا أفضل من فطرة رب العالمين -جل جلاله وتقدست أسماؤه-؟.

فهذا بيانٌ لهذه الصبغة، وهو تحقيق العبودية لله - تبارك، وتعالى - ظاهراً، وباطناً، فكلما كان العبد أكثر تحقيقاً للعبودية كان ذلك يعني أنه قد اصطبغ بهذه الصبغة على وجهٍ أكمل، وأتم، وأعظم.

وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ هذه الصبغةإذا كانت تعني تحقيق العبودية لله - تبارك، وتعالى - بمفهومها الشامل، الواسع الذي يبدأ من شهادة أن لا إله إلا الله، وينتهي بإماطة الأذى عن الطريق، العبودية، شعب الإيمان، مروراً بالأخلاق، ومكارمها، والإحسان إلى الخلق، وما إلى ذلك من شرائع الدين العظام كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك فهذا هو تحقيق العبودية الذي مبناه على أصلين: الإخلاص للمعبود، والمتابعة لشرع الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.

ما معنى العبودية؟

العبودية التي هي اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ فوصفهم هنا باسم الفاعل الدال على الثبوت، والاستقرار؛ ليدل على اتصافهم بذلك أن هذه الصبغة صارت شيئاً ملازماً ثابتاً راسخاً لهم.

ليست هذه السمة، والصفة يتخذها الإنسان في بعض الأوقات، أو في بعض الظروف، ثم يتخلى عنها بعد ذلك، ليست هذه السمة إذا كان في بلدٍ دون بلد،  ليست هذه الصبغة حينما تبقى المرأة المسلمة في بلادٍ ينتشر فيها الحجاب، أو تؤمر فيه بالحجاب، ثم إذا سافرت إلى بلادٍ لا تعرف الحجاب فإنها تطوي عباءتها في الطائرة، ثم بعد ذلك تكون كغيرها من أولئك البائسين الذين لا يعرفون الله - تبارك، وتعالى - ولم يهتدوا بهديه.

لا حاجة لتطويل الكلام في مثل هذا المقام، أقول: مهما يكن بالنسبة للرجل المسلم، والمرأة المسلمة، والطفل المسلم، والأمة المسلمة بكاملها، لن نجد أفضل من صبغة الله - تبارك، وتعالى - التي ارتضاها لعباده.

المرأة المسلمة إذا أرادت أن تكون أنيقةً، أن تكون رفيعة أن تكون شريفةً، فعليها أن تتمسك بتعاليم دينها، بحجابها، بعفافها، بصيانتها، ببعدها عن مواطن الريب، ولا تكون مخالِطة للرجال، وتكون قائمة بما أمرها الله - تبارك وتعالى - ذاكرة لذلك بقلبها، ولسانها، وجوارحها، تذكر ما يتلى من آيات الله - تبارك وتعالى - والحكمة وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].

الدنس الباطن، والدنس الظاهر لا يذهب إلا بالتربية الإيمانية، التربية القرآنية، بما اختاره الله لعباده، فإذا أرادت المرأة الرفعة، والشرف، فعليها أن تتقيد بهذا، وأن تلتزم به، فهذا شرفها، وعزها، وجمالها، ورونقها، وبهاؤها، ولا تلتفت إلى أقوال الضالين المنحرفين الذين يستفزونها تجاه المنكر، ويقولون: خدعوها، يقولون: مصونة بجلبابٍ أسود، فحجبوا جمالها، وبهاءها.

وقد كذبوا كما كذب الشيطان على أبينا آدم، وحواء - عليهما السلام - فأخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما.

فهؤلاء شياطين الإنس، والجن، والله - تبارك، وتعالى - هو الذي خلق الخلق، وهو الأعلم بهم، وبما يصلحهم، وينفعهم أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] اللطيف الذي يعلم دقائق الأشياء، واللطيف أيضاً الذي هو متصف باللطف، والرفق بعباده، فلم يكلفهم عنتًا، وإنما طالبهم من الشرائع بما ينفعهم، ويرفعهم؛ ليكون المؤمن طاهراً، نظيفاً، عفيفاً، ويكون المجتمع نظيفاً كذلك.

فهنا تكون الرفعة في الدنيا، والآخرة، والتمكين، والنصر، وانظروا إلى من تبذلت حتى صارت في أسفل سافلين، المرأة التي في الشرق، أو في الغرب بعيدةً عن الله   وعن هداه.

انظروا كيف ذهب رونقها، وجمالها، وبهاؤها، وصارت مترجلةً في حال من الخشونة، والصلف، لا تميل إليها الفطر السليمة، فهي كالرجال، أو أشد، يذهب بهاؤها، وجمالها، ونقاؤها، وطهارتها، وعفافها، هكذا فعلوا بها، أضاعوها حينما أغروها بمثل هذه الأمور المشينة.

وهكذا بالنسبة للشباب، بالنسبة للرجال، لن تجدوا سمتاً، ولا هدياً، ولا مظهراً، ولا أخلاقاً، ولا قيماً، ولا مبادئ أفضل مما دعانا الله إليه، فلنلزم ذلك ظاهراً، وباطناً.

من أراد أن يكون شخصيةً كاملة، مهيبة، بهية فعليه بلزوم هذا الدين، وتحقيق العبودية لرب العالمين ظاهراً، وباطناً، فيكون ذلك كمالاً في حقه، ويكون عزةً، ورفعةً له، كما قال تعالى: "ولله العزة، ولرسوله، وللمؤمنين"

وربطها بالإيمان (وللمؤمنين) والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، بقدر ما نحقق من الإيمان يكون لنا من العزة. 

ما قال: العزة للأوس، أو للخزرج، أو لفلان، أو لفلان، أو للقبيلة الفلانية، أو تلك.

فبقدر ما يكون عندك من الإيمان يكون لك من العزة.

هذا لمن أراد العزة، لمن أراد الكمالات، لكن إذا فارق ذلك قليلاً، أو كثيراً كان ذلك شيناً، وتشويهاً في صورته، ومُثلةً إن كان ذلك مما يرتسم في ظاهره من التشويه الذي يفعله الإنسان بنفسه مخالفاً لهدى الله - تبارك، وتعالى - الذي هدى إليه عباده.

أشكر المكتب التعاوني بهذه المحافظة على تهيئة هذا اللقاء، وأشكركم أيها الأحبة لحسن إنصاتكم، وأشكر فضيلة الشيخ عبد الله على تسببه في مثل لقياكم، والجلوس معكم، وكذلك أيضاً أشكر هذه المؤسسة، مؤسسة الشيخ سليمان الراجحي عُمّار هذا المسجد.

وأسأل الله أن يجعله ذخراً لهم يوم يلقونه، وأسأل الله أن يجعل هذا المجلس ذخراً لي، ولكم.

وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

نسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا هو، وأسأله - تبارك، وتعالى - أن يعيننا، وإياكم على طاعته، وأن يغفر لنا، ولكم، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله، وصحبه.

مواد ذات صلة