الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
وقفات مع قوله تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) .. سورة الحجرات الآية 12
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 8799
مرات الإستماع: 5002

اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:  

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.

مرحباً بكم جميعاً أيها الأحبة، وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكّرنا منه ما نُسّينا، وعلّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنّا.

أيها الأحبة، في هذه الساعة نتدارس آية من كتاب الله - تبارك، وتعالى - فالله - جل جلاله، وتقدّست أسماؤه - يقول مخاطباً أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12].

فهذا خطابٌ موجه لأهل الإيمان؛ لأنهم المتأهلون للقبول عن الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - يخاطبهم بذلك، فإن إيمانهم يقتضي استجابتهم لربهم، وخالقهم - تبارك، وتعالى -. 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا أيها الذين أذعنت قلوبهم، وانقادت، وصدقت، وأقرت بما يجب الإقرار به من وحدانية الله - تبارك، وتعالى - من إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، وأنه - تبارك، وتعالى - هو المشرع الذي يشرع لعباده، فهذا ربكم، وخالقكم، ومليككم يخاطبكم بهذا الخطاب، ويأمركم أمراً واضحاً، صريحاً، لا شبهة فيه، ولا امتراء.

اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ هذا أمر من الله - تبارك، وتعالى - والأصل أن الأمر يقتضي الوجوب إلا لصارف، فلا يجوز لأحد من أهل الإيمان، ولا لغيرهم أن يسرِّح ذهنه كيف شاء، فيظن بالناس ما تمليه عليه نفسه، فيسيء الظنون بإخوانه المسلمين.

وقد قال بعض أهل العلم: إن المراد بذكر الكثير هنا في هذه الآية اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ مع قوله: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أن هذا الكثير هو الظن الذي لا تبرأ ذمة صاحبه منه، من الظنون السيئة.

وأنه هو المراد بقوله - تبارك، وتعالى - : إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وأن الذي يخرج عن ذلك مما لا تلحقه به ملامة، ولا تبعة هي الظنون الحسنة بإخوانه المؤمنين.

وأن الظنون السيئة جميعاً ممنوعة، ومرفوضة، وأنها هي البعض المشار إليه بقوله - تبارك، وتعالى - : إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.

على هذا المعنى يكون العبد ممنوعاً من أن يظن بإخوانه إلا خيراً.

إذاً ما الذي يخرج عن ذلك؟ هو إحسان الظن بإخوانه المسلمين، أما الظنون الكاذبة، والظنون السيئة فهذه هي المرادة بقوله: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.

هكذا قال بعض المفسرين، وهو معنى له، وجه ظاهر - والله تعالى أعلم -.

ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن الظنون التي لا تبنى على أصل صحيح، وتكون من غير موجب أن ذلك يكون من قبيل الإثم، فسمّى ذلك إثماً، والإثم ما يحصل به المؤاخذة، ويلحق العبد منه تبعة، فيكون ذلك سبباً لمحاسبته، ومعاقبته إن لم يغفر الله - تبارك، وتعالى - له، ويتجاوز عنه إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.

سماه "إثماً" والإثم يقال لما يوجب العقوبة، ويقال للمؤاخذة نفسها.

وقد يقال الإثم لبعض المقارفات على سبيل الخصوص، كما يقال ذلك لشرب الخمر؛ لأنها أم الخبائث، كما قال الشاعر:

شربتُ الإثمَ حتى ضلّ عقلي كذاك الإثمُ تفعل بالعقولِ

يقصد بذلك الخمر.

فالإثم يقال لما يوجب العقوبة من الإساءات، فيقال: إن الغيبة إثم، وسوء الظن إثم، والاعتداء على الناس إثم، ويقال أيضاً: من فعل كذا لحقه الإثم - يعني: المؤاخذة، والتبعة - وكان مستحقاً للعقوبة، إن لم يتجاوز الله - تبارك، وتعالى - عنه.

ثم هذا الذي ساءت ظنونه فإن ذلك يحمله على أن يتجسس، ويبحث عن عورات الناس، ويتتبع ذلك؛ لأن ظنه قد ساء بهم، فنهاه عن ذلك وَلَا تَجَسَّسُوا لأن الناس إنما يُحملون على ظواهرهم، وتوكل بواطنهم إلى الله، فهو الذي يحاسبهم على ذلك.

 
وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا

ثم قال الله - تبارك، وتعالى - بعد ذلك: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.

هذه آداب يؤدب الله بها أهل الإيمان، فإن من ساءت ظنونه بالناس، ثم راح بعد ذلك يتتبع العورات، ويبحث عن الزلات، فمثل هذا من شأنه أن يطلق لسانه، فيتكلم في معايبهم، وذمهم، ويذكرهم بما يكرهون، ويقع في أعراضهم، وهذه حقيقة الغِيبة.

هي: ذكرك أخاك بما يكره[1]. كما قال النبي ﷺ .

وذلك يكون في غَيبته، فقيل لها: غِيبة.

أن يتكلّم خلف المرء المستور بما يغمه لو أنه سمعه، فإن كان ذلك القول ثابتاً صحيحاً من الأوصاف التي تلحق المقول فيه فإن هذه هي الغيبة، وإن لم يكن ذلك فيه فهذا هو البهتان.

لأن النبي ﷺ قال: فإن لم يكن فيه فقد بهتّه

هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظ، أو إشارة، أو محاكاة يحاكيه في حركته، في تصرفاته، في مزاولاته، وما إلى ذلك، فكل هذا داخل في هذه الغيبة - كما سيأتي بإذن الله تبارك، وتعالى -.

وتأملوا في هذه الآية: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ.

فهذا مثل ضربه الله للغيبة، وأهلها أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ؟

من الذي يحب أن يأكل لحم أخيه؟ وليس ذلك فحسب، بل أن يأكل لحم أخيه ميتاً؛ لأن ذكر لحم الأخ لا شك أنه منفر غاية التنفير عن مثل هذه المقارفة؛ لأنه أمر ينفر منه الطبع، والفطرة، فضلاً عن مقتضى العقل، فضلاً عما دل عليه النقل.

فالشرع كله بدلائله المتنوعة من النقل - الكتاب، والسنة - والدلائل التابعة من العقل، والفطرة، كل ذلك يمنع من هذا، ويضاده، فهذه من المقررات المسلمة التي دل عليها مثل هذا الدليل الواضح، القاطع، ومع ذلك فإنه لا يكاد أن يسلم من ذلك أحد.

لكن الناس فيه بين مقل، ومكثر، وإنما يخلص من ذلك، وينجو من خلصه الله - تبارك، وتعالى - ووفقه، ونجاه.

هذه الغيبة التي يسمّيها بعضهم بـ"فاكهة المجالس" لما يجدون فيها من اللذة صور الله حال هؤلاء المتفكهين بالآكلين للحوم إخوانهم الموتى.

فهذا الذي يقع في عرضه هو أخ له، والله - تبارك، وتعالى - لما ذكر الإفك في سورة النور قال: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ هلا إذ سمعتموه ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور: 12] بينٌ، ظاهر، فعلمهم، وأدبهم بأدبين اثنين:

الأول: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وللسلف في هذا الموضع قولان لا ثالث لهما يمكن أن يلتئم منهما معنى تفسر به هذه الآية - والله تعالى أعلم -.

ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا يعني: أن يرجع إلى نفسه، فيقول: لو كنت مكانه هل أفعل فعله؟

فإذا كان الجواب: لا، فيقول: فأخي كذلك.

كما قال أبو أيوب الأنصاري لمّا سألته امرأته - رضي الله عنهما، وأرضاهما -: أما بلغك ما قيل في عائشة - رضي الله عنها -؟

فقال: لو كنتِ مكانها هل تفعلين ذلك؟

فقالت: كلا.

فقال: ولو كنت مكان صفوان لم أفعل ذلك، ووالله إن عائشة خير منكِ، وإن صفوان خيرٌ مني[2].

فهذا المعنى الأول ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا أن يرجع إلى نفسه، فيقول: أنا لا أفعل، إذاً أخي كذلك.

المعنى الثاني: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ أي: بإخوانهم، فهذه النفوس المجتمعة على دين، وملةٍ هي بمنزلة النفس الواحدة، كما قال الله وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188].

يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، وقال الله لبني إسرائيل في توبتهم المشهورة لما عبدوا العجل: اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 66].

يعني: فليقتل بعضكم بعضاً، وليس المراد أن يعمد الإنسان إلى نفسه فيقتلها، وإنما أمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 66].

إذاً: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا أي: ظنّوا بإخوانهم.

هنا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات: 12] فهذا أخوك، كيف تجترئ على مثل هذا الفعل الذي هو في غاية القبح؟

أخ لك، وأيضاً هو ميت، فهذا المغتاب يُنهش لحمه، وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فهو بمنزلة الميت، كما أن الميّت لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أن يرد تلك الجنايات ممن يأكلون لحمه، وهو عاجز عن ردهم، ودفعهم، فكذلك هذا المغتاب الذي تقع عليه الغيبة هو بمنزلة الميت الذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه فهو غائب لا يسمعهم، وليس بحضرتهم.

إذاً هو جنازة يقلبونها، وينهشونها، فصورهم بهذا التصوير أَيُحِبُّ من الذي يحب؟ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا.

فذكر الجواب؛ لأنه أمر معلوم تكرهه النفوس، وتعافه، فكيف تستطيب الغيبة؟ وكيف يقال عنها بأنها فاكهة المجالس، وهي بهذه الصورة؟

والعرب كانوا يقولون للغيبة: إنها أكلٌ للحوم، كما قال شاعرهم:

فإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا

"أكلوا لحمي" يعني بالغيبة. 

فَكَرِهْتُمُوهُ كراهة استقذار، واشمئزاز، فينبغي أن تكون هذه الكراهة حاضرة، ومتحققة فيما يتصل بالغيبة.

إذا كنت تكره هذا الصنيع، أن تأكل لحم أخيك، وهو جنازة، ومن عادة النفوس كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أنها تأنف، وتستوحش من البقاء مع الميت في موضع واحد يبيت الإنسان فيه ليلة واحدة[3].

لو بات الإنسان مع ميت في ليلة في حجرة واحدة فإنه يجد وحشة، ويستيقظ في كل لحظة ينظر إلى هذا الميت، مع أنه يعلم أنه لا حراك به، لكن كأنه يشعر أنه سيصدر عنه شيء في كل حين، فكيف لو كان ذلك بهذه الصورة التي ذكرها الله - تبارك، وتعالى - يجتمعون عليه، فيأكلون من لحمه، وهو جنازة بينهم، فهذا أمر لا يمكن أن يقبله ذو فطرة، أو ذو عقل، أو ذو دين، أو ذو مروءة.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الغيبة (4/2001)، رقم: (2589).
  2. أخرجه الطبري في تفسيره جامع البيان (19/129).
  3.  مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم، والإرادة (2/47).
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة

ثم يذكرهم: وَاتَّقُوا اللَّهَ اجعلوا بينكم، وبين عذاب الله وقاية، وإذا اتقى العبد ربه فإنه ينكف، وينزجر عن مثل هذه المقارفات، لو أن العبد اتقى ربه - تبارك، وتعالى - فإنه لا يجترئ على الوقيعة في أعراض الناس، والقدح فيهم، وذكر معايبهم في المجالس.

فإذا حضر مجلساً بدأ يتحدث في ثلب زيدٍ، أو عمرو، يسمي فلاناً، وفلاناً، وهذا فيه كذا، وهذا فيه كذا، وهذا فعل كذا، وهذا ترك كذا، وهذا لا خير فيه، ونحو ذلك، فيكون كمن قال الله متوعداً له: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة [الهمزة: 1].

فالـ "هُمَزَة" هو كثير الهمز، والـ "لُمَزَة" هو كثير اللمز وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ.

هو الطعان المغتاب الذي إذا غاب عنه الرجل اغتابه من خلفه كما قال بعض المفسّرين.

وكما قال قتادة - رحمه الله - : يهمزه، ويلمزه بلسانه، وعينه، ويأكل لحوم الناس، ويطعن عليهم[1].

فهذا متوعَّد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ولاحظوا صيغة العموم هنا لِكُلِّ هُمَزَةٍ فلم يستثنِ أحداً، فدلّ على أن من كان هُمَزة لُمَزة فهو متوعَّد بعذاب الله - تبارك، وتعالى - والله هو الذي يقول: ويل له.

لو أن أحداً من أهل الدنيا ممن بسط الله يده يتوعّد من يكون بهذه المثابة، ويقول: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ لانكفّ الناس، وانزجروا، وصار الواحد يحسب ألف حساب قبل أن يتكلم في أعراض إخوانه المسلمين.

كيف لو كانت هذه الوقيعة بأهل الفضل، والعلم، والدين، والصلاح، أهل الكمالات، والمروءات، أصحاب الأيادي البيضاء، الذين بذلوا جهودهم، وأوقاتهم، ووفروها في نصح الأمة، وبيان دين الله - تبارك، وتعالى - لها، ثم بعد ذلك يهمزهم، ويلمزهم، وليس له شغل، أو عمل، أو اشتغال إلا بالثلب، والهمز، واللمز، وبئست البضاعة أيها الأحبة، وبئس الزاد إلى المعاد الوقيعة في أعراض العباد.

فذلك مرعى، وخيم لربما تهش له الدابة، ويستهويها، ولكنه ما يلبث أن يفتك بها فيرديها، هذا مرعى، وخيم، هذا مرعى قد يجد غِبّه في الدنيا قبل الآخرة.

والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36]

"ولا تقفُ" فسره بعض السلف بالغيبة، قالوا: لأنها تقال في القفا.

وفسّره بعضهم بالنميمة، قالوا: لأن السعاية تكون فيها بالقفا.

والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك جميعاً مما يدخل فيه، كما يقال في الآية التي أشرت إليها آنفاً، وذلك في قوله - تبارك، وتعالى - : ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور: 12].

يظن بنفسه، ويرجع بذلك على إخوانه، فيظن بهم الظنون الحسنة، وهنا: وَلَا تَقْفُ.

"والقَفْو" هو الاتباع، فيدخل فيه قالة السوء من الغيبة، والنميمة خلف ظهر أخيه، ويدخل في ذلك كل لونٍ من ألوان الاتباع بغير بصرٍ، ولا علمٍ، ولا هدى، وإنما يتّبع الظنون الكاذبة "إن السمع، والبصر، والفؤاد".

فهنا "إنّ" تفيد التعليل، كأنه يقول: لأن السمع، والبصر، والفؤاد.

فذكر هذه الثلاثة، السمع، والبصر، وهما كالميزابيْن يصبان في القلب، فيتأثر بهذه المشاهدات، والمسموعات.

إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً [االإسراء: 36].

على قولين للسلف فمن بعدهم بأن الضمير "عنه" أن الإنسان سيُسأل عنها، كيف استعملتها؟ هل استعملتها في الغيبة؟

في النظر إلى الحرام، والاشتغال بالحرام؟.

والمعنى الثاني: كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ أي: عن الإنسان، فهي تُسأل عن صاحبها، ماذا فعل بكِ؟ كيف استغلّكِ؟

فهي تُسأل، الجوارح تُسأل، والإنسان يُسأل، فيشهد عليه لسانه، وتشهد جوارحه.

وهذه المعاني كلها صحيحة، وكل معنى منها دلّ عليه دلائل من الكتاب، والسنة كما هو معلوم كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا.

نحن سنُسأل عنها، وهي ستُسأل عنا، والسؤال هنا يقتضي المحاسبة، فذلك يحتاج إلى جواب.

وإذا أراد العبد أن يكون مسدداً في جوابه فينبغي أن يُحضِر ذلك قبل أن يتكلم في أحد من إخوانه المسلمين. كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا فهذا يدخل فيه البهت، والإفك، والغيبة، والنميمة، وما إلى ذلك من الظنون السيئة.

هذا كله متوعَّد عليه، فهذا الذكر لإخواننا المسلمين بألسنتنا هو حرام قطعاً لا شبهة في ذلك، ومع ذلك نجد التفريط الكبير، والتضييع.

هذا الذي يُعرِّف الآخرين بطريقة، أو بأخرى أن هؤلاء قد وقعوا بشيء من النقائص، والعيوب، وما إلى ذلك من الرذائل، هذا كله داخل في هذه الغيبة، سواء كان ذلك تصريحاً، أم تعريضاً، والفعل فيه، والقول سواء.

كذلك الإيماء، والإشارة، الغمز، الهمز، الكتابة، الحركة، المحاكاة، كل ذلك داخل في هذا المعنى، وقد مر النبي ﷺ على قبرين يعذبان، قال: يعذبان، وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة[2].

والنميمة قرين للغيبة؛ لأنها تقال من خلفه، لكنها تزيد على ذلك بنقلٍ إلى طرفٍ آخر يكره المقولُ فيه ذلك النقل.

وهكذا أيها الأحبة النصوص الواردة في هذا المعنى، كما قال النبي ﷺ في حديث عائشة - رضي الله عنها - لما قالت في صفيّة - رضي الله عنها - : حسبك من صفيّة كذا، وكذا. 

يعني أشارت إلى أنها قصيرة، فقال النبي ﷺ : لقد قُلتِ كلمة لو مزجت بماء البحرِ لمزجته[3].

"لو مزجت بماء البحر" ماء البحر على كثرته، ما الذي يكدره؟ وما الذي يغيره؟ كلمة واحدة "حسبك منها أنها قصيرة" فقط.

قصيرة، ومع ذلك قال: لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته.

قال الإمام النووي - رحمه الله - : هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة، أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ[4].

ففي كتاب الله - تبارك، وتعالى - : كأكل لحم الأخ ميتاً، وهنا ذكر النبي ﷺ أن هذه الكلمة لو مزجت - خلطت - بماء البحر لمزجته.

يتغير بها طعمه، ولونه، وريحه لنتن هذه الكلمة، وقبحها، كلمة يسيرة: حسبك منها أنها قصيرة.

فكيف بالهتان؟ ورمي الناس بالظنون الكاذبة، الوقيعة في أعراضهم، وصف هؤلاء بالأوصاف التي تسيء إليهم غاية الإساءة سواء كان ذلك يقوله قائله في مجلس، أو كان يناجي به غيره، أو كان يكتب ذلك في تغريدة، أو كان يذيع ذلك بوسيلة من الوسائل المتنوعة المختلفة.

يفتح حساباً، أو يفتح ما يسمى بـ "هاشتاج" ثم بعد ذلك يجلب على هؤلاء بخيله، ورَجله، فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، وفلان فيه كذا وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1].

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] يمينه تسبق قوله هَمَّازٍ كثير الهمز مَشَّاءٍ [القلم: 11] كثير المشي بالنميمة.

يذهب إلى هؤلاء، ويحرض على هؤلاء، ويتكلم في عرض هؤلاء عند هؤلاء، ليس له دأب، ولا انتقال، ولا حركة، ولا ذهاب، ولا مجيء، فهو من خيل الشيطان، ورَجله وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: 64].

يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - : كل ماشٍ في مساخط الله - تبارك، وتعالى - فهو من رَجله[5].

الذين يمشون على الأقدام في طاعة الشيطان، واتباع ما تمليه عليهم نزغاته، ونزواته، وكل راكب في مساخط الله - تبارك، وتعالى - فهو من خيله، فيتلمس العبد، وينظر إلى أين يتجه، وإلى أي شيء يسعى، وماذا يعمل، وما هي جناياته، وما هي مكتسباته، وما هي مدخراته لآخرته.

والعاقل يوجه هذا الخطاب لنفسه، ويتذكر ذنوبه، وتقصيره، فيكون ذلك مذاكرة، ومناصحة، وأعوذ بالله من أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يظن الإنسان أنه منزه عن ذلك كله.

فليس ذلك هو المقصود، إنما هذا مجلس تذكير لنفوسنا الغافلة المقصرة، من أجل أن لا نستمرئ ذلك، وأن لا نتسارع في مثل هذه الموبقات التي دلت هذه الدلائل على أنها من كبائر الذنوب. 

  1.  تفسير ابن كثير (8/481).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله (1/53)، رقم: (216)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول، ووجوب الاستبراء منه (1/240)، رقم: (292).
  3.  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4/269)، رقم: (4875).
  4.  فيض القدير (5/411).
  5.  انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/141).
إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم

وقد قرن النبي ﷺ الأعراض بالدماء، والأموال، كما قال في ذلك المجمع الكبير في ذلك اليوم الشريف في خطبته الشهيرة في يوم الحج الأكبر: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا[1].

فمن أين جاء هذا الاستثناء باستحلال أعراض المسلمين، والوقيعة فيها؟!.

في ذلك المشهد العظيم يقول: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرامٌ عليكم.

أصرح ما يكون في التحريم، فكيف يستحل ذلك؟

وفي حديث أبي برزة قال: قال رسول الله ﷺ : يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته[2].

هذا من المزالق، هو مرتعٌ نهايته تعيسة في الدنيا، وفي الآخرة، ومتوعَّد أن يفضحه الله أن يوقعه بأمرٍ يحصل له بسببه الفضيحة، والخزي في الدنيا قبل الآخرة، وانظر إلى هذا التعبير: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه.

واليوم أصبحنا في حالٍ نلبس فيها الحرام الواضح البيّن بلبوس الشبهة، فيكون ذلك استحلالاً له.

هذا يستحل الربا، ويجادل بشبهات، وهذا يستحل المعازف، ويجادل بشبهات، وهذا يستحل ألواناً مما حرم الله - تبارك، وتعالى - ويغلفها بلبوس الشبهات، ما عاد الناس كما كانوا قبل ذلك يفعل الإنسان المعصية، ويقع في التقصير، ثم يرجِّي نفسه أن يتوب، ويعرف أنه مقصّر.

أما اليوم فأصبح يكابر، فإذا اغتاب الناس، واشتغل بأعراضهم عد ذلك من الدين، ومن قبيل الجرح، والتعديل، ويتقرب إلى الله بهذا القوت الذي لا يورثه خيراً لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

في الدنيا المهانة، والصغار، والذل، وانحطاط المرتبة، وبغض أهل الإيمان، فتبغضه قلوبهم، وهكذا أيضًا يقدم على الله ببضاعة مزجاة، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس.

نحن حينما نتكلم بمثل هذا في مثل هذا المجلس، هذا المجلس سيكون شاهداً لنا، أو شاهداً علينا، فينبغي أن يكون ذلك تلقيناً للنفوس، ويكون ذلك أول ما يكون للمتحدث، فلابد أن يُسأل الإنسان عما يقول، وكذا يسأل عما يفعل، ولا يكون ذلك من أجل أن يحضر الإنسان مجلساً من مجالس الذكر يرجو بركته، وعائدته من الأجر فقط.

إنما يسأل ربه دائماً أن يجعله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

أن يكون هذا المجلس بداية للتغيير من أجل أن يكون العبد ذا لسانٍ عفٍّ، يطهره، وينزهه من الوقيعة في أعراض إخوانه المسلمين.

كما أنه لا يرضى بحال من الأحوال أن يتناوله الناس في مجالسهم، وأن يتكلموا في حقه، فكذلك أيضاً ينبغي أن يضع إخوانه في موضعه، فإذا رأى من أحد تقصيراً جاء إليه، وكلمه، ونصحه بالتي هي أحسن، هذا إذا كان ناصحاً، محبًّا، مشفقاً، يريد الخير، وتكثير الخير.

أما إشاعة المعايب، والمثالب، والأخطاء - إن كانت من قبيل المعايب، والأخطاء، والمثالب، وقد تكون من المناقب، والمحامد، فيحولها إلى معايب، ومثالب - فهذا من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور: 19].

وقد قال جمع من السلف فمن بعدهم بأن الذين يتحدثون بها في المجالس أنهم يدخلون في ذلك، يشيعونها، فتذهب تلك الشفافية التي في القلوب، والحساسية التي تكون في الأسماع تجاه المنكر، والمعصية، والمخالفة، فتألفها النفوس، وتفشو في المجتمع.

الصحيح أن الإنسان يعالج مثل هذه القضايا بأقرب طريق دون أن يذاع ذلك، فيتحدث عنه في المجالس، هذا لمن كان ناصحاً، مشفقاً، محبًّا، يريد أن يصل إلى الخير، ويكثر المعروف في المجتمع.

لكن حينما يتحدث الإنسان بملء فيه عن زيد، وعمرو أيًّا كان موقع هذا المتحدث، فإن ذلك لن يغير من الواقع شيئاً، إنما هو شيءٌ يوغر الصدور.

هذه الرسائل التي نرسلها عبر هذه الوسائط فيما نعتقد أنه جنايات، سواء كان ذلك يصدر عمن بسط الله يده، أو كان ذلك مما يصدر عن المنتسبين للعلم، أو كان ذلك يصدر عن الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى - أو كان ذلك يصدر عن عموم المسلمين، فما الذي يغيره مثل هذا الصنيع إلا أنه لا يُبقي للناس أحداً؟.

لا يبقي للناس أحداً فأنت تشنأ هذا فترسل، والثاني يشنأ ذاك فيرسل، والثالث يشنأ ذلك فيرسل، والرابع، والعاشر، والمائة، والألف، والنتيجة هي تحطيم جميع القامات، لا يبقى للناس أحد، لن يسلم هذا، ولا ذاك، ثم بعد ذلك يبقى الناس تقودهم أهواؤهم، ولا يكون فيهم كبير ينقادون له، وينتفعون به، ويستعينون برأيه، أو بعلمه، أو بفهمه، أو بخبرته، أو بعقله، تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي ﷺ : رب مبلَّغ أوعى من سامع (1/24)، رقم: (67)، ومسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ (2/886)، رقم: (1218).
  2.  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4/270)، رقم: (4880)، وأحمد (33/20)، رقم: (19776). 
أقوال السلف في الغيبة

وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع منك[1].

إن كان لك لسان فللناس ألسن، إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمِ الناس بالحجارة، صن هذا اللسان عن معايب الناس، والوقيعة في أعراضهم، فللناس ألسن كما أن لك لساناً.

دار بين سعد بن أبي وقاص وبين خالد بن الوليد كلام، يأتي من يتبرع بالوقيعة، فجاء رجل في مجلس سعد ليقع في خالد وعن جميع أصحاب النبي ﷺ فقال سعد: مَهْ، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا[2].

ما وصلت الأمور إلى هذا الحد، استحلال الأعراض.

وقد جاء عن ابن سيرين - رحمه الله - أنه قال: إن أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكراً لخطايا الناس[3].

إن أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكراً لخطايا الناس، وإنما يكون العبد كما ينبغي إذا كان حافظاً للسانه، حافظاً لجوارحه عن كل ما يشين.

وقد قال بعض السلف: ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة تضر بأهلها[4].

وكان الإمام البخاري - رحمه الله - يقول: إني لأرجو أن لا يحاسبني الله على أني اغتبت أحداً[5].

هل نحن كذلك؟ لو جلس الإنسان يقلب في أعماله، وأقواله، وما صدر عنه لا أقول في أيام العمر أجمع، وإنما في أيام الأسبوع الذي مضى، هل يكون سالماً من التبعة من الوقيعة بأعراض إخوانه المسلمين؟ أن لا يحاسبه الله على شيء من ذلك؟

وقد قال رجل للربيع بن خُثيم - رحمه الله - : ألا تذكر الناس؟ قال: ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله تعالى في ذنوب الناس، وأمنوا على ذنوبهم[6].

يعني: اشتغلوا بذم الآخرين، وعيب الآخرين، وتفرغوا لذلك، فأنا مشغول بذنوبي.

فهذه الغيبة كما قال بعض أهل العلم: مهلكة، ومثل من يغتاب كمن ينصب منجنيقاً فهو يرمي به حسناته شرقاً، وغرباً، ويميناً، وشمالاً.

هذه الحسنات يقدمها للآخرين، هو يهدمها على قلتها.

كم عندنا من الأعمال قيام الليل، وصيام النهار، وتلاوة القرآن، والصدقات، والنفقات، وما إلى ذلك؟ أعمالنا قليلة، ومع ذلك نقدمها للآخرين، ولو أن الإنسان استبدل بذلك ذكراً، وتسبيحاً، وتكبيراً لله - تبارك، وتعالى - لكان خيراً له.

الغيبة محرمة بالإجماع، وقد نقل هذا الإجماع جمعٌ من أهل العلم، وهو لا يحتاج إلى نقل، بل اعتبرها بعضهم من كبائر الذنوب، لما جاء في فاعلها من الوعيد.

هذا عمرو بن عتبة له مولى رآه عمرو مع رجلٍ، وهو يقع في آخر، فقال له: ويلك، نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك للقائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك[7].

يعني: لماذا تسمح لهذا أن يتكلم بحضرتك بمثل هذا الكلام القبيح؟

هذا، وقد يتحاشى الإنسان التصريح بالغيبة بصورة جلية، ولكن ذلك قد يقع بصور خفية تخفى على كثيرين، ولكن الله - تبارك، وتعالى - لا يخفى عليه شيء من ذلك. 

  1.  العقد الفريد (2/184).
  2.  عيون الأخبار (2/20).
  3.  المجالسة، وجواهر العلم (5/166)، رقم: (1992).
  4.  التوبيخ، والتنبيه لأبي الشيخ الأصبهاني (ص: 83)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (24/363).
  5.  سير أعلام النبلاء (12/439).
  6.  حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (2/107).
  7.  ذم الغيبة، والنميمة لابن أبي الدنيا (ص: 33).
الغيبة تكون بالفعل والإشارة والمحاكاة

وكما أسلفنا أن ذلك كما يكون في القول يكون أيضاً بالفعل، والإشارة، والمحاكاة، فإذا عابه في أي صفة من صفاته الخُلُقية، وشأن من شئونه فإن ذلك يكون من الغيبة، سواء ذكره بنقص في بدنه، أو نسبه، أو خُلُقه، أو كان ذلك في دينه، أو في دنياه، أو في ثوبه، أو في داره، أو في دابته، في البدن.

يقول: فلان قصير، فلان طويل، فلان أسود، فلان أسمر، وهكذا مما يقصد به انتقاصه، وعيبه.

فلانة طويلة، فلانة قصيرة، فلانة بدينة، ونحو ذلك مما قد يقال كالأعرج، والأعمش، والأعور، إن كان يقصد به عيبه، وتنقصه.

فهذا يدخل في الغيبة، بخلاف من كان لا يُعرف إلا بهذا، وهكذا حينما يتنقص الإنسان في نسبه، فلان لا يُعرف له نسب، فلان لا يعرف إلا الأب الثالث، فلان وضع شجرة في مجلسه، ولا يثبت نسبه، فلان لا ينتسب إلى قبلية، فلان دعيّ إلى القبيلة الفلانية، فلان من قبيلة ضعيفة، من قبيلة هزيلة، هذا كله من الغيبة.

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

وهكذا ما يتعلق بناحيته، أو بلده، أو نحو ذلك، كأن يقول: فلان من الناحية الفلانية، فلان من البادية، فلان من الحاضرة، فلان من الشرق، فلان من الغرب، فلان من المصر الفلاني، يقصد به عيبه، وتنقصه، فهذا لا يجوز، هذه غيبة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] والعاقل لا يعيب الناس، ولا يتنقّصهم بهذه الأمور.

وحينما يتحدث عن شيء من أخلاقه: فلان شديد، فلان فظ، فلان بخيل، فلان مغرور، فلان معجب بنفسه، فلان شديد الغضب، فلان جبان، فلان متهور، ونحو ذلك.

وحينما يعاب في دينه، فيقال: فلان صاحب هوى، فلان ضال، ونحو ذلك من العبارات من أجل اجتهادات اختلفنا معه فيها، وقد يكون هذا الإنسان لم يقرأ له كتاباً، ولم يسمع له درساً، ولا لقيه، ولكن يتكلم بالظنون الكاذبة، جلست معه؟ سمعت منه؟

فكيف تضلله؟ وكيف تحكم عليه بمثل هذه الأحكام؟

فلان غاوٍ، فلان هالك في الدين، هذا لا يجوز، وهكذا فيما يتعلق بأوصافه الأخرى، فلان كثير الأكل، فلان نؤوم، فلان كثير الكلام، ونحو ذلك مما قد يقال، حتى ما يقال في ثوبه، وعيبه في ذلك: ثيابه طويلة، ثيابه قصيرة، ثيابه ضيقة، ثيابه واسعة. 

إن كان لديك نصيحة فاذهب إليه

إن كان لديك نصيحة فاذهب إليه، وقدم له هذه النصيحة، وقل: رأيت على ثوبك كذا، وكذا.

البس ثوباً ضيقاً، أو البس ثوباً واسعاً، أو البس ثوباً طويلاً، أو البس ثوباً قصيراً، لكن هذا الكلام في غيبته لن يغير من الواقع شيئاً، ولم تقدم له نصحاً إنما قدمت له الحسنات.

وقد قيل للحسن: اغتابك فلان، فبعث إليه بطبق فيه رطب، وقال: أهديت إليّ بعض حسناتك، فأحببت مكافأتك[1]. هكذا كانوا يفهمون.

وقال رجل لوهب بن منبه: إن فلاناً شتمك، فقال: ما وجد الشيطان بريداً غيرك؟[2].

ما وجد الشيطان مركبا يركبه غيرك؟

  1. فيض القدير (3/129).
  2.  مختصر منهاج القاصدين (ص: 184).
الإصغاء للغيبة من باب التعجب

وهكذا أيضاً الإصغاء للغيبة من باب التعجب، ولربما يكون ذلك على سبيل التألم لحاله، والدعاء له أمام الآخرين، ولربما بعضهم تحمله الجهالة، والحماقة فيقول: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام في وجهه.

هذا لا يغير الحكم، ولا يحول هذه الغيبة إلى شيء آخر.

هو يتحدث، ويتكلم في عرضه، ويقع في أخيه، فإذا قيل له: هذا ما يجوز، هذه غيبة.

يقول: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام في وجهه.

وإذا كنتَ مستعدًا أن تقول هذا الكلام في وجهه فإن ذلك لا يخرجك عن هذا الحد، وهذا الوصف، وهكذا حينما لا يذكر اسماً بعينه لكنه يذكر أوصافاً يفهم السامعون أن المراد بها هو فلان، مثل هذا لا يجوز.

لا تلتمس من مساوي الناس ما سَتروا فيهتكُ الله ستراً عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا ولا تعبْ أحداً منهم بما فيكا

هذا هو اللائق بالمؤمن، أن يكون عف اللسان، أن يكون نقيًّا طاهرًا من هذه الأدناس المدنِّسة من الوقيعة في أعراض إخوانه المسلمين.

توبة المغتاب

فذلك كما وصف الله - تبارك، وتعالى - : أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]. من تاب تاب الله عليه، ولكن تبقى حقوق الناس، لقد سمعت من بعضهم أنه يريد أن يتصدق عن الآخرين ما بقي؛ لكثرة من كان يغتابهم، ما حاجة العبد بهذا؟ 

وبعضهم يدعو لهم في سجوده، وفي أوقاته، وأحواله، ويتحرى أوقات الإجابة ليكفر ذلك الفعل السيئ الذي كان يصدر عنه.

ما حاجة الإنسان بهذا؟ الذنوب التي تكون بين الله، وبين العبد تكفرها الصدقة، يكفرها الوضوء، تكفرها الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، وغير ذلك من المكفرات.

لكن أعراض المسلمين، حقوق المسلمين، المظالم التي تكون للناس هذه لا تكفرها الصدقة، ولا يكفرها مجرد الاستغفار، فهذه بعض أهل العلم يقول: لابد من الاستحلال، ما لم يترتب عليه مفسدة.

وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك يؤدي عادة إلى الشحناء، والشريعة جاءت بما يجمع القلوب، ويؤلف بين النفوس، فيدعو لهم بظهر الغيب، ويذكرهم في المجالس التي كان يعيبهم فيها بالذكر الجميل، وينفي ذلك عنهم.

انظروا في خبر الإفك: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [النور: 23].

توبة هؤلاء، لما حكم الله على أولئك القاذفين لأعراض المحصنات حكم عليهم بالفسق، وعدم قبول الشهادة، وأيضاً الجلد، إقامة الحد، ثلاثة أمور، قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور: 5].

فإذا تاب قطعاً لا يرتفع عنه الحد، لكن هل يرتفع عنه الحكم بالفسق، وتقبل شهادته؟

أمّا عمر بن الخطاب فما كان يقبل شهادته، وما كان يرفع عنه هذا الوصف بالفسق إلا إذا أكذب نفسه.

هو شاهَدَ الفاحشة، شهد ثلاثة، بقي الرابع، فيحكم عليهم بالفسق، وترد الشهادة، ويقام عليهم الحدّ، وهو ثمانون جلدة، وحكم الله عليهم أنهم كذبة؛ لأنهم تكلموا في أمر لا يجوز لهم الكلام فيه.

فعمر كان يشترط من أجل قبول شهادته أن يكذب نفسه، أن يقول: كذبت عليه.

إلى هذا الحد، فما الحاجة أن يطوف في المجالس، ويقول: أنا كنت أتكلم في عرض فلان، وليس كما قلت، بل هو من أهل الخير، والفضل، والصلاح، والدين، هو يبرأ إلى الله من هذا الذي قلتُه فيه، وأنا أبرأ إلى الله مما قلتُه.

فيزري بنفسه، ويكون معرضاً لها للذم، والعيب، فيشتغل الناس بانتقاصه، وعيبه كما كان يشتغل بعيب أخيه. ما الحاجة لمثل هذا؟ 

ما الحاجة لتوزيع الحسنات

ما الحاجة لتوزيع الحسنات؟ لو أن أحداً أخرج ما يملك على طبق، ثم جعل في كل يوم كلما جمع شيئاً من المال لا يُبقي، ولا يذر، يعطي هذا، وهذا، ويعطي من يكرههم، لقيل: من هذا صاحب الفضائل، والمكارم الذي يعطي خصومه، وأعداءه، ومن يبغضهم؟ من الذي يفعل هذا؟

ولكن هذا المغتاب هو لا يقدم المال، هو يقدم ما هو أعظم من المال، هو يقدم الحسنات على طبق، وتصير هذه الحسنات واصلة إلى هؤلاء، وهم لا يشعرون به، على فرشهم يتقلبون، وهو يسهر ليلاً في الوقيعة في أعراضهم.

العاقل لو تبصر، ونظر، وتفكر لأدرك أن مثل هذا يعود عليه بالضرر، وإلا فإن هؤلاء قد لا يتضررون من ذلك، كما قال الله في سورة النور: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور: 26].

قال ابن جرير الطبري - رحمه الله - : "الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول"[1].

يعني: هم معدن لها، هم مظنّة لها، هو هذا المتوقع منهم، فلان ليس له بضاعة، وليس له شغل إلا الوقيعة في أعراض الناس، فلو سُمع منه الثناء عليهم، وذكر الناس بالجميل لاستغرب الناس، ما الذي حصل؟ ما الذي تغيّر؟ ما الذي قلبه؟ ماذا أصابه؟ وهكذا في كتاباته المحمومة، المسمومة في أعمدته، في تغريداته، في حسابه، الوقيعة في أعراض الناس بالثلب، واللمز، والعيب، والغمز، فلو أنه أخطأ يوماً فأثنى عليهم لتعجب الناس، وقالوا: ما الذي حصل؟ كتب فلان مقالة جميلة يثني على أهل الفضل، والخير، والصلاح، والدين، لماذا؟

لأنه كما قال الله الْخَبِيثَاتُ من الأقوال لِلْخَبِيثِينَ من الناس وَالْخَبِيثُونَ من الناس لِلْخَبِيثَاتِ من الأقوال. 

وَالطَّيِّبَاتُ من الأقوال لِلطَّيِّبِينَ من الناس، فهم مظنتها، لا يصدر عنه إلا كل قول طيب.

وَالطَّيِّبُونَ من الناس لِلطَّيِّبَاتِ من الأقوال.

ويدخل في ذلك على الأرجح - والله تعالى أعلم - القول الآخر: أن ذلك يلحق أيضاً الأوصاف، والذوات،  فالخبيثون من الناس للخبيثات من النساء، والأوصاف، والأقوال، والأعمال.

والخبيثات من النساء، والأوصاف، والأقوال، والأعمال للخبيثين من الناس.

وكذلك الطيبون من الناس للطيبات من الأقوال، والأوصاف، والنساء.

وكذلك الطيبات من النساء، والأوصاف، والأقوال، والأعمال للطيبين من الناس.

كما قال ابن جرير: فإذا قالوها - يعني أهل الشر، والفساد - ضرتهم.

فإذا قالوها في أهل الفضل، والدين لم تضر، ولم تؤثر، وإنما يزدادون بها رفعة، وتألقاً.

كما تشاهدون، يُجلب أهل الشر أحياناً على بعض أهل الفضل، والخير، والدين، بوسائل مختلفة، ولا يزيد ذلك هذا المقول فيه إلا رفعة عند أهل الإيمان، وذاك ينسفل، ويسقط.

وهكذا أيضاً أيها الأحبة: الأقوال السيئة تكون للسيئين من الناس، والأقوال الطيبة تكون للطيبين من الناس.

كما يقول ابن جرير: إذا قالوها - الطيبون قالوا الأقوال الطيبة - نفعتهم، وإذا قيلت فيهم فهي صادقة عليهم[2].

أسأل الله أن يجعلنا، وإياكم من الطيبين، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يرينا الحق حقًّا، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فنضل، وأن يعيذنا، وإياكم من مضلات الفتن، ما ظهر منها، وما بطن.

أشكر الإخوان في المكتب التعاوني بهذه المدينة الطيبة، والمحافظة الكريمة ضبا، وأسأل الله أن يجعلهم مباركين حيثما كانوا.

وأشكر أخي فضيلة الشيخ أنور، ومن معه في هذا المكتب الذي أسأل الله أن يجعله مباركاً إنه سميع مجيب.

وأشكر لكم على حسن إنصاتكم، وأسأل الله لي، ولكم القبول، والإعانة، والمغفرة، والتوبة - والله أعلم -.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1.  تفسير الطبري (19/141).
  2.  المصدر السابق (19/144).

مواد ذات صلة