- وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
- الفوائد من قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
- معنى وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
- الصفة الأولى للعالم الرباني: الرسوخ في العلم
- الصفة الثانية للعالم الرباني: العمل
- الصفة الثالثة للعالم الرباني: الإخلاص للمعبود
- الصفة الرابعة للعالم الرباني: الفقه
- الصفة الخامسة للعالم الرباني: الحكمة
- الصفة السادسة للعالم الرباني: عزة النفس، والزهد بما في أيدي الناس
- الصفة السابعة للعالم الرباني: الورع
- الصفة الثامنة للعالم الرباني: التواضع
- الصفة التاسعة للعالم الرباني: الانضباط
- الصفة العاشرة للعالم الرباني: القدوة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله عليه، وسلم، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.
حديثنا في هذه الليلة - كما قد علمتم - عن قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79].
وهذه من قوله - تبارك، وتعالى - في هذه السورة الزهراء، سورة آل عمران: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79].
سيكون هذا الحديث على ثلاثة أنحاء:
الأول: هو حديث عن معنى الآية بإيجاز، وذلك من أجل أن لا يفوت شيء من مقاصدها الأصلية التي أنزلها الله - تبارك، وتعالى - من أجل أن تتقرر.
الثاني: سأتحدث عن بعض الفوائد التي دلت عليها هذه الآية الكريمة.
الثالث: وهو الموضوع الأساس الذي عقد هذا المجلس من أجله، هو الحديث عن الربانيين، من هو الموسوم بالربانية؟ ومن هو العالم الرباني؟
نبدأ بأول ذلك: فقوله - تبارك، وتعالى -: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أي: لا ينبغي لبشر من الخلق، من الناس، وهذه الصيغة - كما هو معلوم - تدل على التحريم الشديد، والمنع الأكيد، وقد أوردها الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في جملة من ألفاظ التحريم في كتابه "بدائع الفوائد".
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ أن ينزل عليه الكتاب، ويعلمه الحكمة التي يقضي بها بين الناس، ويحكم، ويوحي إليه فيعطى النبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ثم بعد ذلك يدعو الناس إلى عبادته من دون الله وتقدست أسماؤه.
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ إنما يقول لهم: كونوا علماء، حكماء، حلماء، مخلصين، طائعين، متعبدين لله معلمين للناس، تربونهم بصغار العلم قبل كباره، وتسوسونهم بمقتضى هذا العلم، فتكون الرعاية على أحسن أحوالها، وأكملها.
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ.
بهذه القراءة التي نقرأ بها، وهي قراءة ابن عامر، وبها قرأ الكوفيون الثلاثة بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ.
بما يكون على أيديكم من التعليم، وذلك يتضمن أن يكون عالماً بما يُعلِّم، ولذلك فإن قراءة الباقين من السبعة بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمون الْكِتَابَ أي: بعلمكم بالكتاب، وهو الكتاب المنزل، هذا القرآن، والقراءة الأولى تتضمن هذا المعنى؛ لأنه كما سبق إذا كانوا يُعَلِّمونه فقد عَلِموه ولابد، فهي أوفى، وأشمل.
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ بسبب مداومتكم على قراءته، مدراسة ألفاظه، ومعانيه، وما تضمنه من الأحكام، ولذلك فسره بعض السلف بالفقه، وهذا المعنى، وإن أنكره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[1] إلا أنه له وجه غير مستعبد - والله أعلم - وذلك أن هذه المدارسة تكون لمدارسة الألفاظ، وتكون أيضاً لمدارسة المعاني، وإنما يستنبط الفقه، ويستخرج من القرآن.
هذا فيما يتعلق بمعنى هذه الآية الكريمة على سبيل الإيجاز.
- تفسير الطبري (6/546).
أما ما يتعلق بالفوائد التي قد يشار إليها في هذا المقام، والمجلس مما يحتمله الوقت: فقوله - تبارك، وتعالى -: مَا كَانَ لِبَشَرٍ هذه الصيغة تدل على المبالغة في نفي الاستحقاق، استحقاق أي أحد لهذا القول، والدعوى الكبيرة، فاللام هنا مَا كَانَ لِبَشَرٍ هي للاستحقاق كأنه يقول: ما كان فلان فاعلاً كذا.
فهذا مما لا يتأتى، لا يكون، فلما أريد المبالغة في النفي جاءت بهذه الصيغة مَا كَانَ لِبَشَرٍ لنفي الجنس عن الأشخاص جميعاً لأي بشر.
فكيف إذا كان ممن أوتي النبوة، يوحى إليه، وأنزل عليه كتاب، وأعطاه الله الحكم، والحكمة، فهو يقضي بها بين الناس؟!.
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ "ثم" هذه إذا اعتبرت تفيد المهلة، فكيف يكون هذا القول الشنيع العظيم واقعاً بعد مدة من نزول هذا الكتاب، والوحي عليه؟
فهذا في البعد، والانتفاء أولى، وأحرى، وذلك أنه يكون قد تشرب الإيمان، والعلم معاً، فلا يمكن أن يصدر عنه شيء من ذلك؛ لأن الوحي، والحكم، والنبوة لا يمكن أن تجتمع مع مثل هذه المطالبة، وهذا الإفضال، والإنعام من الله وتقدست أسماؤه.
وقوله - تبارك، وتعالى -: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَالْحُكْمَ، وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ.
هذا يدل على عظم مثل هذه المطالبة، وقد قال بعض أهل العلم: إن من ألزم الناس، أو أراد منهم أن يتبعوا قوله - مهما كان في مرتبته، وقدره - فإنه قد جعلهم عباداً له من دون الله - تبارك، وتعالى - لأن هذه الطاعة المطلقة هكذا، الذي يطالب الناس أن يأخذوا بقوله، ورأيه، وفتواه، وأن لا يتجاوزا ذلك بحال من الأحوال، إنما طالبهم أن يكونوا عباداً له من دون الله لأن كل أحد يؤخذ من قوله، ويرد إلا النبي ﷺ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وهذه أُرجئ استخراج الفوائد منها إلى موضعه، وهو القسم الثالث، ولكن قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ هذا يدل على شرف الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وأنهم أكمل الخلق، فما يطالبون به الناس، ويأمرون به يكافئ أحوالهم، ومراتبهم، فهم لا يأمرون إلا بمعالي الأمور، لا يأمرون إلا بطاعة الله وعبادته، وينهونهم عن الإشراك، وعن القبائح.
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ لاحظ هنا التعبير بالفعل المضارع بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ هذا التعليم مستمر منهم، فهذا ديدنهم، وهذا عملهم، لا يشغلهم عنه شاغل من وظيفة، أو مرتبة اجتماعية، أو أنه إذا حصّله، ونحو ذلك، وبلغ الرتبة العالية فيه انقطع عن الناس، وتركهم، إنما هو مستمر بهذا التعليم، وكذلك أيضاً هو مستمر بهذه الدراسة، فهو لا يترك ذلك، ولا يهجره فيتلاشى علمه، ويضمحل؛ لأن العلم إن لم يكن في حال من الاستذكار، والمدارسة فإنه يذهب، ويُنسى، ويتلاشى.
وقد حاولت أن أستقرئ عبارات السلف في معنى هذه الجملة، ولا أدعي أني استوعبت ذلك، لكن بذلت فيه بعض الجهد الذي أستطيعه.
وسأذكر ذلك من غير نسبة لضيق الوقت المقدر لهذا الدرس، فتأملوا هذه العبارات، ولكل عبارة قائل من السلف: فقهاء علماء، الفقهاء العلماء الحكماء، حكماء علماء، حكماء فقهاء، فقهاء معلمين، حكماء فقهاء حكماء أتقياء، هم الذين يغذون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها، حلماء، علماء، حكماء، هذه عبارات للسلف بهذه الجمل التي أوردتها.
وقد حكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين أن الرباني منسوب إلى الرب؛ لأن العلم إنما يطاع الله به[1].
نرجع إلى الأوصاف التي ذكرها السلف بحذف المكرر، فنجد مع ما ذكره ابن الأنباري - وهو بعدهم - ثمانية أوصاف:
علماء، فقهاء، حكماء، حلماء، أتقياء، معلمين، يغذون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها، منسوبون إلى الرب؛ لأن العلم مما يطاع الله به، فهم قد جمعوا بين العلم، والعمل، وصاروا بمنزلة عليا من العلم، والامتثال، والتربية.
هذه ثمانية معانٍ، وتاسعها، وهو الجامع الذي ذكره أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - وحاصل قوله في الربانيين أنهم جمع رباني، وأن الرباني المنسوب إلى الربّان الذي يربي الناس، وهو الذي يصلح أمورهم، ويربُّها، ويقوم بها، يقول: و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ، وكان العالم بالفقه، والحكمة من المصلحين يربّ أمور الناس بتعليمه إياهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقي لله، والولي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم، وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دينهم، ودنياهم، كانوا جميعاً مستحقين أنهم ممن دخل في قوله : وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ إلى أن يقول: والرباني: الجامع إلى العلم، والفقه البصر بالسياسة، والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم، ودينهم[2].
البصر بالسياسة، والتدبير، يعني أنه يسوس الناس، ويحسن سياستهم بمقتضى هذا العلم، يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وما إلى ذلك مما سيأتي ذكره - إن شاء الله -.
وقد ذكر مثل هذا المعنى الأخير البغوي - رحمه الله - لكن بشيء من الاختصار، والإيجاز.
وقد علق الشيخ محمود شاكر - رحمه الله - في تعليقه على تفسير ابن جرير على هذا المعنى الذي ذكره أبو جعفر - رحمه الله - وقال: قلّ أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى الرباني، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله[3].
وقول ابن جرير - رحمه الله - هذا الذي سمعتم لا ينكر فيه ما ذكره السلف، بل هو يجمع هذه الأوصاف جميعاً، فهي أوصاف صحيحة، وأنهم قد فسروه ببعض معناه.
- زاد المسير في علم التفسير (1/299).
- تفسير الطبري (6/543-544).
- حاشية تفسير الطبري (6/ 544).
أوصاف العالم الرباني:
بعد ذلك إذا كانت هذه الأوصاف مجتمعة تمثل شخصية العالم الرباني، فنأتي إلى الكلام على بعض هذه الأوصاف على سبيل التفصيل مما يسمح به وقت هذا الدرس:
الصفة الأولى: الرسوخ العلمي.
فهذه متفق عليها بمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فهذا اشتغال، فالذي يعلم الناس، والذي يدرس العلم لا شك أنه من أهله، والمقصود التحقق في ذلك، فهذا يدل على أنهم علماء، أنهم أهل رسوخ، ولهذا قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: ما عَلّموه حتى علِموه[1].
والمقصود بهذا العلم الشريف، العلم الشرعي المنبثق من الوحي، كما قال ابن رجب - رحمه الله -: إن العلم النافع من هذه العلوم هو ضبط نصوص الكتاب، والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور[2].
وكما قال حافظ المغرب ابن عبد البر - رحمه الله -: إنهم أجمعوا على أن المقلد لا يعد من العلماء.
وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن العلم هو المعرفة الحاصلة بالدليل[3].
والمقصود من هذا أن العالم الرباني هو من يتصف بالعلم، ويكون متحققاً فيه، يكون من أهل الرسوخ.
وقد تكلمت على سمات العلم النافع في مجلس مستقل.
فلو نظرنا إلى قوله: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ فإن هذا يقتضي أنهم قد تحققوا بهذا العلم، وكذلك في قوله: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فإن هذه المادة "درس" تستلزم التمكن من المدروس، ولذلك صار درْس الكتاب بمعنى الفهم له، والإتقان، ولذلك عطف في هذه الآية: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ على ما قبله بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ.
فهم يدرسون، ويتحققون، ويفهمون، ويفقهون، ويعلمون غيرهم.
وقد جاء عن عبد الله بن عون - رحمه الله - أنه قال: لا يؤخذ هذا العلم إلا ممن شُهد له بالطلب[4].
بل ذكر الشاطبي - رحمه الله - في كتابه "الموافقات" أوصافاً للعالم المتحقق بالعلم، وعلامات يعرف بها، وذكر ثلاثة أوصاف:
الوصف الأول: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله.
فإن كان مخالفاً له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، وسيأتي الكلام عن العمل.
فمثل هذا لا يُقتدى به، وهذا أمر لابد منه، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2 - 3].
وكذلك يقول الله - تبارك، وتعالى - مخاطباً لبني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44].
الوصف الثاني: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، فهو يأخذه عنهم، ويلازم مجالسهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح.
وذكر ملازمة السلف للنبي ﷺ وملازمة التابعين للصحابة .
يقول: وهكذا تمتد هذه السلسة عبر القرون جيلاً بعد جيل، حتى نالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية.
ثم يدلل على صحة هذا الأصل، يقول: إنك لا تجد عالماً يشتهر في الناس بالأخذ عنه إلا، وله قدوة، وأنه اشتُهر في قرنه بمثل ذلك، وهكذا القدوة الذي يأخذ عنه، وقلما وُجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف.
يقول: وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة، وأشباههم.
يعني: هذا الذي تخلى، وترك، ولم يأخذ عن أهل العلم، وفارقهم، فإن ذلك لا يكون حاله في مأمن من أن يقع في الغلط، والخلط، والخطل، وما إلى ذلك.
الوصف الثالث: هو الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه.
يقول: كما تأدبت الصحابة بآداب النبي ﷺ وتأدب التابعون بآداب الصحابة وهكذا في كل قرن.
ثم يذكر أن ذلك هو ديدن العلماء - رحمهم الله - وأن الإمام مالك - رحمه الله - قد تميز في هذا، وفاق غيره فيه.
يقول: لما تُرك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها؛ لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك.
لاحظوا، واصل بن عطاء ترك مجلس الحسن البصري لما وجدت عنده تلك البدعة، والضلالة، فيكون ذلك لاتباع الهوى، فهو لا يقتدي بمن قبله.
ثم يذكر أن طريق الأخذ هذا الذي كان عليه العلماء، وساروا إنما هو المشافهة، والتلقي مباشرة، وذكر هذه الطريق، وما فيها من المنافع، والفوائد، وما يوجد فيها من الخواص بين المعلم، والمتعلم، ويشهد بذلك كل من زاول العلم، والعلماء.
يقول: فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها، ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة.
ثم يُرجع ذلك إلى أحد سببين، يقول: إما لأنه بين له ملحظاً لم يتفطن إليه، وهذا أمر ظاهر، أو يكون ذلك بسبب أمر غير معتاد، ولكن بما يهبه الله - تبارك، وتعالى - للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ظاهر الفقر، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
يقول: يُفتح عليه في ذلك المجلس؛ بسبب ما يحصل من البركة، والاجتماع على العلم، ونحو ذلك، وما يجري في مجالس العلماء، فقد يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم.
يقول: هذا نور يبقى، ويقع في قلوب من شاء الله - تبارك، وتعالى - بحسب ما يكون لهم من المتابعة لمعلمهم، والتأدب معه، والاقتداء به.
ثم ذكر الطريق الثاني في مطالعة الكتب، وأن هذا لا يكون لكل أحد، بل لابد من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، وكذلك أيضاً الفهم، وحسن النظر.
يعني: هذه الأمور لا تتأتى إلا بعد تحقيق الوصف الأول، وهو مشافهة العلماء، بحيث يكون عنده أهلية تؤهله لفهم الكتب إذا نظر فيها[5].
هذا فيما يتعلق بالوصف الأول للعالم الرباني، وهو الرسوخ العلمي.
فنحن بحاجة إلى راسخين، الأمة أحوج ما تكون في هذا العصر إلى الراسخين في العلم، توجد جميع التخصصات، ولكن التخصص في العلوم الشرعية الذي يكون صاحبه راسخاً هذا هو الذي تدعو إليه الحاجة الماسة في هذا الزمان.
تجد بلاداً شاسعة لربما يزيد عدد سكانها على مائتي مليون من الناس من المسلمين، وقد لا تجد عالماً راسخاً واحداً، فهذه مصيبة، إلى من يرجع الناس فيما نابهم، وفيما يحتاجون إليه في مسائل الدين، وما يحتاجون إليه في الفتيا، والتوجيه، والعلم، وما إلى ذلك؟.
- تفسير الطبري (6/545).
- فضل علم السلف على الخلف، ص: (45).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/6).
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/45).
- انظر:الموافقات (1/141-145)
وقد تحدثت عن هذا بشيء من التفصيل في مجلس آخر بعنوان "هتف العلم بالعمل" وتحدثت أيضاً في مجلس آخر عن "طالب العلم، ومواسم العبادات".
وذلك أن قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ فالرباني كما فسره بعضهم هو التابع لطريق الرب، فهم يُنسبون إليه على هذا التفسير، وذلك لكمال العلم المزين بالعمل، فالرباني كما قال، وعبر بعض المفسرين: هو الشديد التمسك بدين الله تعالى، وطاعته.
لا يكون ربانيًّا إلا أن يكون صاحب اتصال، وصلة بربه، ومولاه لا يكون جافًّا، أو منقطع الصلة بخالقه، ومليكه وتقدست أسماؤه.
ومعلوم أيضاً قوله - تبارك، وتعالى -: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فما فائدة الدرس؟ فائدته العلم.
وما فائدة العلم؟ هي العمل، ومن ثَمّ التعليم، والحث على الخير بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.
ولهذا قال سعيد بن جبير - رحمه الله - في تفسير الربانيين: إنه العالم الذي يعمل بعلمه، وقد ذكر بعضهم في مجلس الإمام أحمد - رحمه الله - معروفاً الكرخي - رحمه الله - وهو من أهل العبادة، والزهد، الورع، فقال قائل: معروف قصير العلم.
فقال الإمام أحمد - رحمه الله -: أمسك عافاك الله، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟.
ولما سأله ابنه عبد الله - ابن الإمام أحمد سأل أباه -: هل كان معروف معه شيء من العلم؟
قال: يا بني، معه رأس العلم، خشية الله[1].
ولهذا قال السلف العلم الخشية[2].
وذلك هو الذي مدح الله - تبارك، وتعالى - أصحابه، وهو العلم المعتبر شرعاً الذي جاء الثناء عليه، وجاء في فضله ما قد علمتم، فهو الباعث على العمل.
هكذا ذكر جمع من أهل العلم كابن الجوزي، والخطابي، والشاطبي، وغير هؤلاء كثير، قالوا: النصوص الواردة في مدح العلم، والثناء على أهله إنما ذلك في العلم الذي يبعث على العمل.
فهو كما يقول الشاطبي: الذي لا يُخلِّي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً، أو كرهاً[3].
ثم ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن المنتسبين إلى العلم، والمشتغلين به على ثلاث مراتب، وعلى ثلاث طبقات، وهذه بغاية الأهمية:
المرتبة الأولى: وهم المبتدئون، الطالبون له، لكنهم لم يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في مرتبة التقليد.
يقول: هؤلاء إذا دخلوا به - اشتغلوا بالعلم - فبمقتضى الحمل التكليفي يعملون، وكذلك الترغيب، الترهيب، وهكذا أيضاً الزواجر من الحدود، التعزيرات، وما إلى ذلك، كل ذلك يدفعهم إلى الامتثال، والعمل.
المرتبة الثانية: فوق هؤلاء هم من وقفوا على براهينه، وارتفعوا عن مرتبة التقليد، لكن لم يتحول هذا العلم إلى أن يكون صفة راسخة لهم، وسجية من سجاياهم، وإنما يكون لهم استبصار فيه، ويكون ذلك من جملة الأمور المكتسبة يسترجعونه بنظرهم، وعقولهم، ويستذكرونه، ويحفظونه، وما إلى ذلك، فهو من جملة مودعاتهم.
يقول: هؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم، ولم يكونوا كأصحاب المرتبة قبلهم، لكن مثل هؤلاء أيضاً إنما يحملهم على هذا العمل لربما غير الحدود، والزواجر، والترغيب، والترهيب، ولكن يمكن أن يكون عندهم من الشهوات الغالبة، والرغبات الجامحة في النفوس ما قد يوقعهم بشيء من الزلل، والمخالفة، لكن مثل هؤلاء يقول: يراعون محاسن العادات، ويطالبون أنفسهم بمقتضى هذه المرتبة التي وصلوا إليها في العلم، فيحملهم ذلك على شيء من التماسك، والارعواء، والانزجار، والانكفاف عما لا يليق، وعما يشين؛ حفظاً لمرتبتهم، ومراعاة لهذا العلم الذي يحملونه.
المرتبة الثالثة: هم أهل الرسوخ.
يقول: هؤلاء صار العلم من الأوصاف الثابتة لهم، فهو صفة راسخة، وسجية من سجاياهم.
يقول: هؤلاء لا يُخلِّيهم العلم، وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية، وأوصافهم الخلقية.
يقول: هؤلاء أصحاب هذه المرتبة.
ثم ذكر دلائل لهذا: قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9].
صاحب هذه المرتبة لا يحتاج إلى جهد كبير حتى يستيقظ لصلاة الفجر مثلاً، بل يستيقظ من غير منبه، صاحب هذه المرتبة يقوم الليل من غير مجاهدة؛ لأن ذلك صار كالغذاء له، فهو ينتظر هذه اللحظات التي يناجي بها ربه، وقد تجد هذا مع السفر، والسهر، وما إلى ذلك، يستيقظ من غير منبه على عادته، وسجيته حيث كان في أهله، وفي بيته.
وهكذا في قوله - تبارك، وتعالى -: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
فهؤلاء الذين يخشون ربهم هم العلماء، كما قال الله : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].
وهكذا في قوله - تبارك، وتعالى -: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد: 19] ثم وصف أهل العلم بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [الرعد: 20] يعني يمتثلون، يعملون بمقتضى هذا العلم.
هذا كله يدل على أن الربانيين، وأن العلماء حقًّا الذين يستحقون الثناء الذي جاء في النصوص إنما هم الذين يعملون بمقتضى هذا العلم، ولهذا قرن الله شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته، فشهادة الله أعظم شهادة شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18] والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.
ومثل هؤلاء الراسخين في العلم صار العلم سجية من سجاياهم، فالعبادة بالنسبة إليهم كالنفَس، فلا تغلبهم أهواؤهم، ولا تقعدهم نفوسهم عن العمل بطاعة الله - تبارك، وتعالى - والتقرب إليه.
وعلى كل حال، فهذه المرتبة هم من صاروا إلى حال من العلم تلجئهم إلى العمل، وقد جاء عن أبي الدرداء : لا تكون تقيًّا حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً[4]
وجاء عن الحسن: العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث، سمع شيئاً فقاله[5].
وجاء عن سفيان بن سعيد الثوري - رحمه الله -: العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا[6].
وجاء عن الحسن أنه قال: الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل[7].
وقارن هذا بهذا اللجاج، والصخب الكثير في وسائل التواصل، مما قد يقع فيه بعض المنتسبين إلى طلب العلم، فهؤلاء بمنأى عن صفة الراسخين.
وقال سفيان الثوري: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه، وإلا ارتحل"[8].
فهذا العلم الذي يلجئ إلى العمل، وقد روي عن ابن مسعود : ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم الخشية[9].
ومن ثَمّ فإن علماء السوء يفارقون هذا الوصف، فهم قد يحفظون، ولكنهم أبعد ما يكون الواحد منهم عن الامتثال.
- طبقات الحنابلة (1/382).
- الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 131).
- الموافقات (1/89).
- جامع بيان العلم وفضله (1/698).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (1/700).
- المصدر السابق (1/706).
- المصدر السابق (1/707).
- المصدر السابق (1/758)
وقد تكلمت عن هذا المعنى بكلام مفصل في الأعمال القلبية في أولها، وكذلك تحدثت عن ذلك في الكلام على شرح حديث: "ما ذئبان جائعان".
والمقصود أن طلب العلم عبادة، والعبادة تفتقر إلى النية، فالعلم يحتاج إلى نية صالحة، وتعرفون حديث أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: ومنهم العالم الذي تعلم ليقال: عالم.
فهذه نية فاسدة أهلته لأن يكون مقدماً إلى النار - نسأل الله العافية -.
وقد جاء عن محمد بن شهاب الزهري - رحمه الله -: ما عُبد الله بمثل العلم[1].
وقال الثوري: لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم[2].
وقال ابن وهب: كنت عند مالك، وقد نشر كتبه يقرأ، ويعلِّم، ويبين، فأذن المؤذن.
فيقول: فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها.
يعني من أجل أن يستعد للصلاة ليصلي النافلة قبل الفريضة.
فقال الإمام مالك: على رسلك، ليس الذي تقوم إليه بأفضل مما تقوم عنه إذا صحت النية[3].
فهذا أمر مدرك معلوم، وهو سبب الفلاح، وهو ركن القبول أن يكون الإنسان مخلصاً لله رب العالمين.
والله يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته، وشركه[4].
ولا يكون القبول لأحد، ونيته مدخولة، يطلب العلم طلباً للشهرة، أو الرئاسة، أو يطلب العلم من أجل الرياء، ونحو ذلك.
- المصدر السابق (1/225).
- سير أعلام النبلاء (8/387).
- ترتيب المدارك وتقريب المسالك (3/235).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4/2289)، رقم: (2985).
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وقد قال الضحاك: حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً[1].
وكان يقول: لا يعذر أحد حر، ولا عبد، ولا رجل، ولا امرأة لا يتعلم من القرآن جهده ما بلغ منه، فإن الله يقول: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.
يقول: كونوا فقهاء، كونوا علماء، فالمقصود بالعلم أن يكون له فهم، أن يكون له فقه، وليس المقصود بالفقه هو خصوص معرفة الأحكام الشرعية، بل الفقه الأكبر هو معرفة المعبود معرفة صحيحة بأسمائه، وصفاته، أن يعرفه بإلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، وهكذا معرفة الأحكام الشرعية، وما إلى ذلك.
- تفسير ابن كثير (2/66).
وقد جاء عن ابن عباس - كما في الصحيح تعليقاً في كتاب العلم - في تفسير قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ.
قال: أي: حكماء، فقهاء[1].
قال الإمام البخاري: ويقال "الرباني" الذي يربي بصغار العلم قبل كباره[2].
لاحظ: الذي يربي بصغار العلم قبل كباره هذا هو الحكيم، الذي يحسن سياسة الناس، وتربية الناس، وتعليمهم.
وقد جاء في الأثر عن علي : خاطبوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذَّب الله، ورسوله؟[3].
وقد أورد البخاري - رحمه الله - باباً فيمن حدث قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا[4].
وقال صاحب الإحياء: كِل لكل عبد بمعيار عقله، وزِن له بميزان فهمه حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار[5].
حدث الناس بما يفقهون، بما يفهمون، فهناك ما يصح نشره، وإذاعته، هناك ما يكون نشره، وإذاعته فتنة لبعض من سمعه، ما كل ما عُلم ينشر، ويذاع، ويشهر، وإنما يحتاج ذلك إلى بصر، ونظر، وحكمة، فقد يكون مناسباً في وقت دون وقت، وفي حال دون حال، وقد يناسب لقوم دون آخرين.
ومن ذلك في التعليم ألا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي، يعني: من الخطأ أننا إذا أردنا أن ندرس الكتب التي هي في مبدأ الطلب من المتون المختصرة، ونحو ذلك أن نحولها إلى مطولات، وموسوعات، ونذكر الخلاف، والأقوال، وما إلى ذلك، فمثل هذا يفوت الفائدة، والنفع على من حضر.
فنحتاج إلى حكمة في التعليم، في مخاطبة العامة، وفي خطب الجمع، وكذلك أيضاً في الدروس لطلاب العلم من المتخصصين، والدروس لغير المتخصصين، أما أن يبقى الإنسان على حالة واحدة مع طلاب العلم، ومع العامة، ويتكلم بما لاح له، أو بما وجده في الكتب، ويذيع ذلك في أماكن، أو في مواضع، أو في تغريدات، وغير ذلك فهذا قد يكون سبباً لفتنة.
قد يكون ذلك مما لا تعقله عقول الكثيرين، فهنا يحتاج الإنسان أن ينظر ماذا يقول، وماذا يكتب، وماذا ينشر، وماذا يذيع.
وقد قال الإمام مالك - رحمه الله - عن نفسه: إن عنده أحاديث، وعلماً ما تكلم فيها، ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك[6].
ما كل ما يعلم يقال، وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - ضابطاً لهذه المسألة، أنه يعرض مسألته على الشريعة، فإن صح في ميزانها نظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان، وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة، فيعرضها في ذهنه على العقول[7].
ولا يقصد هنا القبول، والرد بالنسبة إليه، هي صحيحة، ويؤمن بها، لكن من أجل ألا يكذبه الناس، أو من أجل أن لا يفتنوا.
فإذا كانت عقولهم لا تبلغ ذلك فلا يُحدَّثون بمثل هذا، هذا حتى في الأمور العادية، ويذكر في القرن الماضي في أوائله أن بعض النواحي في هذه البلاد سافروا إلى بلاد خارجية، فرأوا الطائرة، فلما رجعوا حدث أحدهم بما شاهد، وقال: رأيت حديداً يطير في الهواء، ويركب فيه الناس.
فاتهمه الناس بالكذب، فقال: إن لم تصدقوني فهذا فلان كان معي، وقد شاهد ذلك، وهو رجل مأمون.
فلما سألوه، قال: لعله رأى، وما رأيت.
فلما عاتبه صاحبه: لماذا لم تشهد لي بما شاهدت؟
فقال: أتريد أن يكذبني الناس كما كذبوك؟
فيُحدَّث الناس بما يعقلون، بما يدركون، بما تصل إليه مداركهم، وعقولهم، أما أن يتحدث الإنسان بكل شيء عنّ له فهذا غير صحيح، وللأسف هذا كثير الآن، حتى لو كانت المعلومة صحيحة، حتى لو كان عندك قناعة فيها، قد تضعِّف حديثاً قد تلقّى الناس من علمائهم في بلدهم أن هذا الحديث صحيح، وعملوا به، ونحو ذلك، ثم يفجؤهم بأن هذا الحديث لا يثبت أنه من رواية فلان، وأن فيه العلة الفلانية، فيتشككون ليس في هذا، بل يضطربون في الثوابت، فيقول قائلهم: إذا كان هذا، ونحن على هذا العمر، ونعمل به، ونسمعه من العلماء، ثم يتبين في آخر الوقت أنه لا يصح، إذاً هناك أشياء كثيرة مما نسمع، ومما هي من مقرراتنا، ومما استقر في قلوبنا، ونفوسنا لعله لا يصح، فيكون قابلاً للتشكيك، ثم يتلقفه شياطين الإنس، والجن عبر مدونات تعرفونها، وعبر حسابات، وما إلى ذلك، فيشككونه حتى يصل الأمر به إلى أن يشك بوجود الله - تبارك، وتعالى - وهكذا في أحكام، وما إلى ذلك.
فيُحدَّث الناس بما يعقلون، قد يترك الإنسان بعض قناعاته من أجل أن لا يفتن الناس، من أجل ألا يوقع الناس في بلبلة من أجل أن لا يوقع الناس في ريب، وكان من فقه السلف مراعاة هذا الأصل.
- المصدر السابق.
- صحيح البخاري (1/25).
- المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص: 362)، رقم: (610).
- صحيح البخاري (1/37).
- إحياء علوم الدين (1/57).
- الموافقات (5/171).
- المصدر السابق (5/172).
وفي الحديث: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس[1].
وكلنا نعرف قصيدة الجرجاني - رحمه الله - الأبيات المعروفة:
يقولونَ لِي فيكَ انقباضٌ وإنَّما | رَأوْا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحجما |
أرى الناسَ مَنْ داناهُم هانَ عندَهُمْ | وَمَنْ أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أُكْرِما |
وَلَمْ أقْضِ حَقَّ العِلْمِ إنْ كانَ كُلَّما | بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّما |
إذا قيلَ هذا مَوْرِدٌ قُلْتُ قَدْ أرَى | وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما |
وَلَمْ أبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العلمِ مُهجَتِي | لأخْدِمَ مَنْ لاقيتُ لكنْ لأُخْدَما |
أأشقَى بِهِ غَرْساً وَأجنيهِ ذِلَّةً | إذاً فاتِّباعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أحْزَما |
وَلوْ أنَّ أهْلَ العِلمِ صانُوهُ صانهُمْ | وَلَوْ عظَّموه في النفوس لَعُظِّما |
ولكن أهـانوهُ فَهَانَ، وَدَنَّسُوا | مُحَيَّاهُ بالأطماعِ حتى تَجَهَّما |
لا يكون الرباني منافساً لأهل الدنيا على دنياهم.
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا (2/1373)، رقم: (4102).
وقد تحدثت عن الورع طويلاً بحديث مفصل في الكلام على الأعمال القلبية، سواء كان ذلك الورع في المأكل، والمشرب، والمكاسب، أو كان ذلك الورع في الفتيا - والآثار المنقولة عن السلف في هذا كثيرة كيف كانوا يتورعون - أو كان ذلك الورع في غير ذلك من الأبواب الكثيرة المعروفة.
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فهو يعلِّم في حلقة، وهو تلميذ في حلقة أخرى يدرس، يتلقى، فالعلم لا ينقطع الإنسان من تحصيله، وطلبه، ومن ذلك ما قاله ابن قتيبة - رحمه الله -: أحب أن تجري على عادة السلف الصالحين في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسة الرياء، والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا، وتنزهتَ[1].
يعني: لا يكون الإنسان يستشعر الفوقية، أنه فوق الآخرين بسبب ما حصّل من رتبة العلم، ولا يصح من العالم الرباني أن يكون متكبراً متعالياً، وللأسف الشديد فإن هذا وجد من بعض المنتسبين للعلم مما حمل الغزالي - أعني أبا حامد - على ترك العلم، والاشتغال به، ولاذ من ذلك إلى خلوة، وصار متصوفاً، وذكر في بعض كتبه أن العلم يجر مدانس، ومساوئ من العجب، والرياء، والكبر، وما إلى ذلك.
الواقع أن هذا لا يكون للعالم الرباني الذي أخذه بطريق صحيح، وتلقاه عن العلماء الربانيين الراسخين.
- عيون الأخبار (1/46).
فلا يكون متلاعباً بالفتيا، يفتي الناس بحسب ما يشتهون، ويطلبون إن كان مع الأغنياء، أو الجماهير، وفتنة الإعلام فتنة عظيمة في مثل هذا الوقت، فقد يستضاف في قنوات ليست كما ينبغي، فيتكلم بكلام يناسبهم، بكلام يتفق مع أهوائهم، فهو لا يريد أن يغضبهم، وأن يزعجهم.
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - أمثلة للتلاعب بالفتيا، والتلاعب أيضاً بالحكم بين الناس بالقضاء، والفصل بين الخصوم، فذكر عن موسى بن معاوية قال: كنت عند البهلول بن راشد، فجاءه رجل، فسأله البهلول: ما الذي جاء بك؟ فقال: نازلة.
وذكر سؤاله، أنه حلف بالطلاق ثلاثاً في أمر من الأمور، يعني خاف على رجل، فحلف بالطلاق أنه ما رآه، وكان قد أخفاه عنده، خاف عليه من ظلم ظالم.
قال له البهلول: إن الإمام مالك - رحمه الله - يرى أنه يحنث في زوجته.
يعني أن ذلك كما قال، وتردد عليه الرجل ثلاث، أو أربع مرات، ثم قال: يا ابن فلان، ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم: قال مالك، قال مالك، فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص، الحسن - يعني البصري - يقول: لا حنث عليه في يمينه.
فقال السائل: الله أكبر، قُلِّدَها الحسن[1].
هؤلاء هناك على مذهب الإمام مالك في الأندلس، لا يخرجون عنه، فلما تردد عليه أفتاه بقول الحسن، ففرح بها هذا الرجل.
وابن حزم - رحمه الله - ذكر حال بعض الفضلاء في زمانه، ومن يوصف بالتقدم في الفقه، وأنهم في الواقع أقرب إلى صفة الفسق، وأنهم لربما لا يصلحون للفتيا، بل لا يجوز قبول شهادة الواحد منهم.
يقول: بعضهم يلتحف بالديباج، وفي بيته تماثيل من نحاس، وحديد تُلقي بالماء.
يعني على نوافير كما نقول الآن، يعني عنده مجسمات ذوات أرواح في بيته، والرجل بعيد عن الامتثال، يقول: عندهم قبائح كثيرة، ومع ذلك الواحد ينتسب إلى الفقه، ويفتي الناس.
أقول: ذكر الشاطبي - رحمه الله - خبر محمد بن يحيى بن لبابة، وهي حكاية عجيبة، وذلك أن هذا الرجل كان يعمل قاضياً، فاشتكى عليه أهل تلك الناحية، فعزل عن القضاء، ثم عزل عن الشورى، شورى العلماء لأشياء نُقمت عليه، وأُمر بإسقاط عدالته، وأن يلزم بيته، وأن لا يفتي أحداً.
فبقي على ذلك، وقتاً، في ذلك الحين الملك الناصر كان أمام قصره مِجْشر - يعني مستشفى - فكان إذا نظر من الشرف المعتلية في قصره يرى المرضى، فكان يتأذى برؤيتهم، فكلم أحد رجالاته يقال له ابن بقي، فقال: لا حيلة عندي.
يعني: أراد نقل هذا المستشفى إلى مكان آخر، هذا المستشفى وقف، والمالكية يشددون في نقل الأوقاف، فقال: هذا أولى أن يحتاط له.
قال: فتكلمْ مع الفقهاء، وعرِّفهم رغبتي، وأني سأعطي أضعاف هذ الموقع، يعني أفضل، وأكبر، وأجود منه.
فعرض ابن بقي هذه المسألة على الفقهاء، فلم يجعلوا له إليه سبيلاً، وامتنعوا، فغضب عليهم، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر، وتوبيخهم، فجرت بينهم، وبين الوزراء مكالمة، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده.
ابن لبابة ذاك سمع بالخبر، فكتب إلى الناصر، وقال: هؤلاء حجروا عليك واسعاً، ولو كنت حاضراً لأفتيت بجواز المعاوضة، ولناظرتهم، فوقع ذلك في نفس الناصر، وأمر بإعادته إلى الشورى على ما كان عليه، ثم أمر القاضي الذي يقال له ابن بقي، أمره بأن يعيد القضية إلى مجلس العلماء، فأعادوا كلامهم الأول بالامتناع، وحضر ابن لبابة معهم هذه المرة، فماذا قال هذا الرجل؟
قال: إن الإمام مالك - رحمه الله - قال ما قاله هؤلاء الفقهاء، لكن أهل العراق - يعني أبا حنيفة رحمه الله - لا يجيزون الحُبُس أصلاً - أصْل المسألة - وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وبأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المِجْشر ما به، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنة فسحة، وقال: أنا أقول بقول أهل العراق، وأتقلد ذلك رأياً.
فقال له الفقهاء: سبحان الله! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، ومضوا عليه، ومشى عليه أمير المؤمنين، ومشى عليه آباؤه، وأسلافه.
فقال: ناشدتكم الله، أليس يكون للواحد منكم حاجة، ويضيق عليه الأمر فيأخذ بغير قول الإمام مالك؟.
قالوا: بلى.
قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك.
فالشاهد أنها رفعت للناصر، وفيها قول ابن لبابة، فأخذ به، وأمر بنقل المِجْشر إلى مكان آخر من أملاكه بعيد عن هذه الناحية، لكنه أفضل من حيث الموقع، ومن حيث السعة، وما إلى ذلك[2].
وهذا الرجل ابن لبابة ولاه ولاية، وهي خطة الوثائق، وبقي فيها إلى أن توفي سنة ست، وثلاثين، وثلاثمائة.
وأيضاً ذكر الشاطبي مثالاً آخر على هذا أن أحدهم اكترى - استأجر - جزءاً من أرض على الإشاعة، ثم اكترى رجل آخر باقي الأمر، فهذا يريد الشفعة، وكان قد سافر - غاب عن البلد - فأُفتي المستأجر الآخر بإحدى روايتين عن مالك أنه لا شفعة في الإجارات، هي لك، ويدك ثابتة عليها، وليس له حق الاعتراض.
فلما رجع الرجل من السفر، وقابل هؤلاء الفقهاء قالوا: ما علمنا أنها لك.
إذا كانت المسألة لك أخذنا لك برواية أشهب عن مالك: الشفعة فيها، يقول: فأفتوني جميعاً بالشفعة.
ما دام أنها لك فالفتوى عن أشهب تختلف[3].
لاحظ: هذا تلاعب بالفتيا، وهذا لا يحل.
ويقول: أُخبرت عن رجل لا يستتر - يعلن - يقول: إن الذي لصديقي عليّ إذا قعت له حكومة - يعني قضية - أن أفتيه بالرواية التي توافقه. نسأل الله العافية!
- الموافقات (5/84- 85).
- انظر: الموافقات (5/ 86- 89)
- انظر: المصدر السابق (5/90)
يعني مجموع هذه الأوصاف تمثل هذا الأمر، وهو أن يكون قدوة للناس وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.
فهذه الربانية توجب أن هذا العلم، والتعليم، والدراسة بها يكون الإنسان ربانيًّا، ومن اشتغل بذلك يجب أن يتحقق بالكمالات من الأوصاف، وإلا فكما قال بعض أهل العلم: يكون ممن ضاع سعيه، وخاب عمله، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مورقة بمنظرها، ولا منفعة بثمرها.
الناس ما ينتفعون به، ولا يستفيدون منه؛ لأنه ليس بقدوة صالحة.
فهنا من كان معلماً لكنه لا يكون ربانياً فهذا علمه قاصر؛ لأن فائدة العلم هي الامتثال، والعمل، والتأدب بآدابه، وما إلى ذلك، وليس المقصود ملء الأذهان بالمعلومات، وإنما يربيهم، ويربي قلوبهم، ويعمر قلوبهم، وجوارحهم بطاعة الله - تبارك، وتعالى - ومحبته، والإقبال عليه.
يقول الإمام مالك - رحمه الله - يحكي حينما كان صغيراً: كانت أمي تعممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، فتعلم من أدبه قبل علمه[1].
كذلك قال ابن وهب: ما تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه[2].
ولهذا صرح جمع من أهل العلم أنهم كانوا يحضرون مجلس العالم؛ ليأخذوا من سمته، وهديه، ودَلّه، وما إلى ذلك، ولهذا كانوا يعتنون بمثل هذه الجوانب من الأدب.
وقد قال ابن المبارك - رحمه الله -: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقت بحرمان المعرفة[3].
وكان يقول: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة[4] كانوا يطلبون الأدب، ثم العلم، هكذا حياتهم - رحمهم الله - .
وقد جاء عن ابن سيرين: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم[5].
وقال مالك - رحمه الله -: لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك، لا يؤخذ من سفيه معلن بالسفه، وإن كان أروى للحديث، لا يؤخذ من كذاب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه أنه يكذب على رسول الله ﷺ ، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى هواه، ولا من شيخ له فضل، وعبادة إذا كان لا يعرف ماذا يحدِّث[6].
وجاء عن إبراهيم النخعي: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، ثم يأخذون عنه[7].
ينظرون إلى سمته، وإلى صلاته.
وجاء عن أبي العالية: كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء الصلاة لم نأخذ عنه[8].
وسأل عبد الله ابن الإمام أحمد أباه، فقال له: لِمَ لم تكتب عن الوليد بن صالح؟
فقال: رأيته يصلي في المسجد الجامع يسيء صلاته[9].
ومثل هذه الأمور لا شك أنها معتبرة، والناس ينظرون إلى العالم بنظر دقيق، ولا شك أن القدوة الحسنة تبعث على التشبه، وعلى تقمص شخصية هذا العالم، والتأثر به، وهي تعطي الناس قناعة أن هذه المُثل التي يدعو إليها أنها قابلة للتطبيق، وأنها واقع يشاهدونه.
ثم إن هذه القدوة التي تتحرك بينهم هي تجعل هذه الأشياء التي يعلِّمها واضحة جلية؛ فهم يفهمون من خلال الممارسة العملية التي يشاهدونها فيه أعظم مما يفهمون من العبارات، والكلام؛ لأن القدوة أبلغ في إيصال المعنى، والمفهوم الذي يدعو إليه، ويعلمه.
كذلك نظر الناس إلى القدوات بنظر ثاقب، ينظرون إلى أخطائهم، انظر إلى قصيدة الدمياطي، وهي قصيدة جميلة، يقول:
أيها العالِم إياك الزلل | واحذر الهفوة فالخطب جللْ |
هفوةُ العالِم مستعظمة | إن هفا أصبح في الخلق مَثلْ |
وعلى زلته عمدتُهم | فيها يحتج من أخطأ وزلّْ |
لا تقل يستر علمي زلتي | بل بها يحصل في العلم الخللْ |
إن تكن عندك مستحقرة | فهي عند الله والناس جبلْ |
ليس من يتبعه العالَمُ في | كل ما دق من الأمر وجلّْ |
مثل من يدفع عنه جهلُه | إن أتى فاحشة قيل جهلْ |
انظر الأنجم مهما سقطت | من رآها وهي تهوي لم يُبلْ |
فإذا الشمس بدت كاسفةً | وجِل الخلق لها كل الوجلْ |
وترامت نحوها أبصارهم | بانزعاج واضطراب وزجلْ |
وسرى النقص لهم من نقصها | فغدت مظلمة منها السُّبلْ |
وكذا العالم في زلته | يَفتن العالَم طُرًّا ويُضلّْ |
يُقتدى منه بما فيه هفا | لا بما استعصم فيه واستقلّْ |
فهو ملح الأرض ما يصلحه | إن بدا فيه فساد أو خللْ |
ويقول آخر في خطأ الكبير، خطأ العالم، خطأ القدوة، يقول:
كفُوفة الظُّفر تَخفى من حقارتها | ومثلها في سواد العين مشهورُ |
وخطأُ الجاهل المغمور مغمورُ | وخطأُ العالم المشهور مشهورُ[10] |
فالناس ينظرون إليه بنظر مكبَّر؛، ولهذا لما جاء أبو جعفر الأنباري للإمام أحمد - رحمه الله - لما أخذوه إلى المأمون، فعبر الفرات، ودخل على الإمام أحمد، وسلم عليه، قال: أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإنك إن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير[11]... إلى آخر ما قال.
يقول الشاطبي: الرفيع المنصب مطالب بما يقتضيه منصبه، بحيث يعد خلافه منهيًّا عنه، وغير لائق، ولو لم يكن في أمر محرم[12].
حتى لو كانت هذه القضية ليست من المحرمات.
هذا وأسأل الله أن يرزقنا، وإياكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ونية.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وازقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/130).
- سير أعلام النبلاء (8/113).
- شعب الإيمان (4/559)، رقم: (3017).
- غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (1/446).
- سنن الدارمي (1/398)، رقم: (438).
- مختصر الكامل في الضعفاء (ص: 73).
- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/353).
- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي (ص: 409).
- العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه عبد الله (1/322).
- البرهان في علوم القرآن (2/512).
- مختصر تاريخ دمشق (3/250).
- الموافقات (4/430).