الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن مقدمة تشتمل على أمرين:
الأول: في ذكر بعض النماذج من حال السلف في تورعهم في الكلام في التفسير.
والأمر الآخر: في ذكر بعض القواعد التي لها تعلق مباشر بموضوعنا هذا.
وبعد ذلك ذكرت بعض التعريفات –تعريف الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي، والفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي- وذكرت عند ذكر القواعد نماذج من تلاعب بعض طوائف أهل البدع في تفسير القرآن، ولربما ظن البعض أن تلك النماذج تعني الحديث عن أهل الإعجاز العلمي، وليس هذا هو المراد، فالكلام الذي كنت أذكره هو أني كنت دائماً أقول وأقصد ما أقول، أقول: (الغالب - كثير منهم – بعضهم...) ولم أعمِّم في الحكم، وذكرت أنني سأذكر بعض القواعد ثم بعد ذلك نستعرض هذه الأشياء، ونستخرج الحكم عليها، ولم نصل إلى ذلك بعد، وكنت لا أريد أن استعجل حتى تنجلي الصورة لبعض من قد يظن وأنا أتحدث عن تلاعب تلك الطوائف في القرآن أني أقصد أهل الإعجاز العلمي هكذا برمتهم، وليس هذا هو المراد، فأنا لا أقصد ذلك؛ لأنهم ليسوا على وتيرة واحدة.
والذين يتكلمون في هذه الموضوعات كلامهم في غاية التباين، وسترون هذا بإذن الله وحتى تعرف ما سأصل إليه -وإن كنت لا أحب أن أستعجل- فأنا مما يعتقد صحة الإعجاز العلمي، مع أني سأسوق لكم مجموعة من أقوال علماء معاصرين وغير معاصرين، وكُتَّاب وأدباء وغيرهم ممن شنّوا حملةً شعواء على أصحاب التفسير العلمي، والإعجاز العلمي، ومنهم كُتَّاب وعلماء تعرفونهم جيداً، وسأذكر كلامهم، فهم يرون رد هذا من أوله إلى آخره، ومن الناس من فتح الباب على مصراعيه.
وأنا أقول بالتوسط والاعتدال في الأمور، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والإنسان -وكما قلت سابقاً- يجب أن يتكلم بعلمٍ وعدل، وعليه فسأذكر أمثلة كثيرة منها ما أستطيع أن أقول: إنه معنىً صحيح، ومنها ما أستطيع أن أقول: [لربما، ممكن، الآية تحتمله ولكن لا نجزم بصحته، ولا نجزم أيضاً برده وخطئه].
هذه النتيجة التي كنت أريد أن أصل إليها في النهاية، ولكن لربما فهم بعض الإخوة من كلامي على بعض الطوائف التي تلاعبت بالقرآن أن المقصود هو أصحاب الإعجاز العلمي أو التفسير العلمي، والحقيقة أن ذلك ليس ذلك مراداً.
ثانياً: الجذور التاريخية بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي:
دعونا نتحدث عن التفسير العلمي؛ لأن الإعجاز العلمي هو جزء من التفسير العلمي، فإذا قلنا: التفسير العلمي دخل فيه الإعجاز العلمي، هل يوجد سلف للمشتغلين من المعاصرين بالتفسير العلمي؟ يعني هل لهم جذور؟ هل تكلم أحد من العلماء المتقدمين على هذه القضايا؟ وكلامهم كيف نقيّمه؟ وهل لقي قبولاً وتسليماً عند علماء آخرين؟ أم أنهم ناقشوه أو اعترضوا عليه، أو قبلوا بعضه وردوا بعضه؟
هذه القضية ليست جديدة، بل هي قديمة، مضى عليها قرون متطاولة، ونستطيع أن نقول بكل اطمئنان: إنها كانت موجودةً عند بعض الكاتبين والمؤلفين قبل عصر النهضة في أوروبا، أي أنها وجدت عند المسلمين في وقت قيام حضارتهم، وأوروبا كانت تعيش فيما يسمى بعصور الظلمات، وحينما ترجمت كتب اليونان إلى المسلمين في عهد المأمون، تُلُقِّفت هذه الكتب، وهي كتب متنوعة في الفلسفة والمنطق والفلك والطب وما إلى ذلك، فالحاصل أن هؤلاء اللذين تلقفوها منها أشياء مقبولة وصحيحة ومنها أشياء فاسدة كالفلسفة والمنطق اليوناني وما إلى ذلك، فأخذوها وترجموها ثم ذاعت وانتشرت كما أشرت بالأمس، وجاء من يقول بأن العالم لا يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يتحقق من هذه العلوم -العلوم الكلامية والمنطق- وجاء من يقول: لا يوثق بعلم من لم يتحقق من هذه العلوم، ولا يمكن أن يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يحصلها، فاستفز ذلك العلماءَ فصاروا يتسارعون على أخذ هذه العلوم ودراستها وأدخلوها في تصانيفهم -في أصول الفقه في التفسير في شروح الحديث وفي مصطلح الحديث والبلاغة والنحو وما إلى ذلك- ولذلك تجدون صعوبةً في هذه العلوم، لماذا هذه الصعوبة؟ لأنها تشتمل على مصطلحات مأخوذة من كتب اليونان، حينما يقال: السبر والتقسيم، حينما يقال: القضية الحملية، حينما تذكر الجنس البعيد والجنس القريب والفصل والخاصة والرسم، هذا الكلام كله تجدونه في كتب أصول الفقه، وتجدون بعضه في البلاغة وفي النحو، وما إلى ذلك، كلامهم على المبتدأ والخبر تجدون في بعضه أشياء هي في الواقع من علم المنطق فصارت هذه العلوم صعبة، صار النحو صعباً لا يحبه الطلاب وصارت البلاغة مغاليق، وصار أصول الفقه من أصعب العلوم بينما هي علوم ميسّرة وسهلة ولم تبلغ إلى هذا الحد.
إذا نظرنا إلى المتقدمين الذين تلقّفوا كثيراً من هذه الأشياء وأدخلوها في كتبهم سواء أدخلوها على سبيل القبول حينما تعرض آية في كتاب الله تتحدث عن الفلك –مثلاً- تتحدث عن القمر والشمس وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا [سورة يــس:38]، يأتون ويذكرون ما عندهم من هذه الأشياء في هذا الموضع، كثير من هؤلاء كانوا حينما يعرضونها يعرضونها على أنها تابعة لكتاب الله وأن القرآن أصل في هذا الباب، وأن هذه مما تكشف عن معناه وتزيده إيضاحاً، فأدخلوا فيه أشياء لا حاجة إليها. وحينما نقول: لا حاجة إليها، لا نقصد أننا لسنا بحاجة إلى علم: الفيزياء أو الرياضيات أو الجبر أو الهندسة أو بعض علوم الفلك المفيدة للمسلمين لا نقصد هذا، لكن نقول: لا حاجة إليها لفهم القرآن، هذا هو المراد وإلا فيجب على المسلمين أن يتعلموا ويحصلوا هذه العلوم النافعة، وأن ذلك من فروض الكفايات، تأثم الأمة بتركها، كل قادرٍ مؤهل على تحصيلها يأثم إن وجد العجز عن المسلمين في شيءٍ من هذه العلوم، ولا يمكن أن تبنى حضارتهم إلا باجتماع أمرين: عمارة الدنيا بهذه الأشياء من العلوم التي تكون أسباباً للقوة، والأمر الآخر هو القيام بأمر الله -تبارك وتعالى- واتباع شرعه والارتباط به والركون إليه، لا بد من الأمرين مهما تدين الناس وصلحت أحوالهم مع الله لا يمكن أن تقوم لهم قائمة في الدنيا وعمارة وحضارة ما لم يأخذوا بهذه العلوم، وهذا أمر مفروغ منه، وأرى أن من الحاجة أن أذكره؛ لأننا نخشى أن يفهم البعض أننا نريد من الناس أن يعودوا إلى عصور الجمال والبغال ويتركوا هذه العلوم، لا أحد يقول بهذا، لا أعرف مخلوقاً يقول بهذا، لكن هل هذه العلوم ضرورية لفهم القرآن؟
فالجواب: لا؛ لأنها لو كانت ضرورية لحصلت مشكلات لا تخفى.
على كل حال كما قلنا: هذه الشريعة أمية- وقد خاطب الله الناس بهذا القرآن بخطابٍ سهلٍ واضح، ولهذا تجدون حتى الأمثلة في القرآن أو نعيم الجنة حينما يذكره، يذكر الأعناب ويذكر الأشياء المدركة عندهم في بيئتهم، ما يذكر الكومثرا ولا يذكر اللوز ولا يذكر الأشياء أو الثمار التي لا توجد في بيئة المخاطبين، وحينما ذكر الدواب وعجائب خلق الله فيها، ذكر الجمل؛ لأنه يحيط بهم، لم يذكر الفيل مع أنه أضخم من الجمل، بل ذكر لهم أشياء يتصل ببيئتهم، حيث إن هؤلاء هم حملة الرسالة ينقلونها إلى العالمين إذا فهموها فهماً صحيحاً.
الحاصل أنه جاء من العلماء من قال: إن القرآن يحوي علوم المتقدمين والمتأخرين، يحوي علوم الأولين والآخرين، وأمثال أولئك الغزالي المتوفى سنة 505 للهجرة، نقل عن بعض أهل العلم في كتابه: الإحياء، وفي كتابٍ آخر له اسمه: جواهر القرآن، يقول -ليس الغزالي- وإنما من ينقل عنه الغزالي: يقول: إن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومأتي علم لاحظ سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم (77200) من العلوم يقول: موجودة في القرآن، إذ كل كلمةٍ علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمةٍ ظاهر وباطن وحد ومطلع لماذا يقولون هذا الكلام؟ بناءً على بعض الأخبار الواهية التي لا تثبت.
يقول: كل كلمة لها حد ومطلع وظهر وبطن، إذن: المعاني اضربها في أربعة، كلمات القرآن ضرب أربعة وتطلع عندك النتيجة في معاني القرآن والعلوم التي يمكن أن تستخرج من القرآن -هكذا قال.
وفي كتابه: (جواهر القرآن) عقد فصلاً لكيفية إنشعاب سائر العلوم من القرآن، وذكر علم الطب والنجوم وهيئة العالم، وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر.
بعض المفسرين لما تكلم على قوله تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [سورة البقرة:102] كتب كتابةً تصلح كتاباً مستقلاً في كتاب في التفسير يعلم فيه السحر، أو يذكر فيه تفاصيل السحر ويعتبر هذا أنه يشرح آية، يقول علم السحر وعلم الطلسمات وغير ذلك، وقد ذكر هذا أو ألمح أيضاً تلميذه: أبو بكر بن العربي إليه المتوفى سنة 543 في كتابه: (قانون التأويل)، وقانون التأويل هذا ذكر فيه رحلته إلى المشرق، وذكر لقيَّه لأبي حامد الغزالي.
جاء الرازي المتوفى سنة 660 للهجرة وألف كتابه الكبير: (مفاتيح الغيب)، وبدأ يطبق ذلك عملياً، يتكلم على الآيات بكلامٍ حينما تمر على آية مثلاً: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا [سورة يــس:38]، كأنك تقرأ في كتابٍ متخصص في علم الفلك، كتابات لربما لا يفهمها إلا أهل الاختصاص.
فمثلاً: في قول الله -تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً [سورة البقرة:22]، بدأ يتكلم عن أن هذا يلزم منه أن تكون الأرض ساكنة، وبدأ يعلل لهذا اللازم، وبدأ يذكر بعض التبريرات وما يرى أنه أدلة، وتحدث أيضاً عن علم الفلك وترتيب الأفلاك ومعرفتها ومقادير الحركات.
كما تكلم على حركة الشمس وحصول الليل والنهار، وعلى حركة جميع الأفلاك عند قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ [سورة البقرة:164].
وكذا عند قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [سورة الأعراف:54].
جاء رجل آخر اسمه: أبو الفضل أو ابن أبي الفضل المرسي المتوفى سنة 755 للهجرة وقال -أيضاً: إن القرآن يحوي علوم الأولين والآخرين، وقال: إنه احتوى على علم الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة وعلم النجوم وعلم الآثار، ثم بدأ يتكلم على بعض الآيات.
ثم جاء السيوطي المتوفى سنة 911 للهجرة وذكر هذه القضايا وأكد عليها في ثلاثة كتب، في كتاب: (الإتقان)، وهو خزانة علوم القرآن ذكر هذا فيه، وفي كتاب: (معترك الأقران)، وفي كتاب: (الإكليل في استنباط التنزيل)، وبدأ يطبق هذه الأشياء، يقول مثلاً: الطب مداره على حفظ الصحة واستحكام القوة، وبدأ يتكلم عن وجود الطب في القرآن، وبدأ يتكلم على علم الهيئة، وعلى علم الجبر وأنه مأخوذ من أوائل السور -الحروف المقطعة- وأن كل حرف يدل على رمز، ثم بدأ يتكلم عن قوله: أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ [سورة الأحقاف:4]: وأن هذا يؤخذ منه علم النجَّامة، وتكلم عن الهندسة وأنها موجودة في القرآن، وأن القرآن اشتمل على علم الهندسة، وذكر مثالاً لذلك في قوله -تبارك وتعالى: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ [سورة المرسلات:30]، قال: فإن فيه قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له.
الآن في الآية يقول الله عن أهل النار: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [سورة المرسلات:30 - 33]، وهو يتحدث عن نظرية هندسية تتعلق بالمثلث!!
وعلى كل حال السيوطي كان ينطلق من قوله -تبارك وتعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38]، ومن قوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89]، وتحمس لمثل هذا النوع.
السيوطي يعتبر متأخراً ثم إن الفترة التي جاءت بعده تعتبر فترة ركود في التأليف وركود في كل شيء، ثم جاء العصر الحديث، وجاءت فترة الانبهار بالحضارة الغربية ومعطياتها في أوائل البعثات، وذلك حينما ذهبت البعثات من مصر الواحدة تلو الأخرى في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وتعرفون ما حصل هناك حينما كانت البعثات تذهب ومعها مرشد ديني كرفاعة الطهطاوي، فينقلب المرشد مثل رفاعة الطهطاوي فيدرس في فرنسا اللغة الفرنسية، ويدرس مع البعثة ثم يرجع في حالٍ تعرفونها، يرجع وهو ينتقد كل شيء مما عليه الناس، ينتقد الحجاب، ويرى نزع الحجاب، ويرى الأخذ بما عليه الحضارة الفرنسية أو الأوروبية في كل شيءٍ من الأشياء.
بل إنه تكلم على أشياء غريبة جداً، تكلم عن الرقص، فقال: الرقص في المشرق يعتبر عيباً لكنه في فرنسا شيء آخر، ليس فيه أي شيء من العيب ولا فيه ما يدنس الأفكار والأخلاق والعرض والشرف، إنما هي توازن في الحركات فقط وليس فيه أي غضاضة، وأي امرأة تدعوها وتستضيفها وتعمل لها وليمة أو عشاء أو نحو ذلك هي تراقصك، ثم يدعوها الآخرون، في كل يومٍ يدعوها واحد، ثم يراقصها، ويرون أن ذلك من باب الموازنة في الحركات فقط وليس كالرقص المصري، هذا الآن شيخ الحملة أو شيخ البعثة التي ذهبت إلى فرنسا، هم ما رجعوا يقولون هذا الكلام، وهو رجع وألف كتباً تعرفونها.
جاء الطبيب محمد بن أحمد الإسكندراني المتوفى سنة 1306 للهجرة وألف كتاباً اسمه: (كشف الأسرار النورانية القرآنية في ما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية)، هذا عنوان الكتاب، جاء وذكر أشياء كثيرة مما يتعلق بالتفسير العلمي.
جمال الدين الأفغاني أول ما جاء وهو شخصية تعرفونها -شخصية غامضة- جاء من المشرق وربما من إيران، وتلقب بالأفغاني وليس بأفغاني، ثم جاء إلى مصر وهي محط أو المحطة الثقافية في البلاد الإسلامية، وفيها الأزهر، وكان الناس يعلمون بالطريقة المعهودة التي تخرج فيها العلماء في النحو والقراءات والأصول والتفسير وغيره، فجاء جمال الدين الأفغاني وصار يطرح طرحاً جديداً، فالتف حوله طائفة من طلاب الأزهر وكل جديدٍ يستهوي -على كل حال - بدأ يطرح لهم أشياء جديدة، وبدأ يطرح لهم أشياء تتعلق بالتفسير العلمي، ويأخذ أشياء مما يقوله أو من معطيات الحضارة المعاصرة ويربطه بالقرآن، وجمال الدين الأفغاني متوفى سنة 1315هـ، وكان من أبرز تلامذته الذين تخرجوا على يده محمد عبده.
جاء عبد الرحمن الكواكبي المتوفى سنة 1320 للهجرة وألف كتاباً اسمه: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، ويشير بهذا العنوان إلى الذين يعارضون هذه الأشياء ويجمدون على النمط القديم، وذلك في نظره من الاستبداد والاستعباد.
وصف القرآن بأنه شمس العلوم وكنز الحكم، فذكر أشياء كثيرة وحاول أن يربط بين الآيات القرآنية وبين ما ظهر في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي من علوم ونظريات.
الشيخ محمد عبده وجدت عنده هذه الأشياء لكنه كان يدعو إلى شيءٍ من التريّث والتأدب مع القرآن وعدم زجّ الآيات القرآنية في كل نظرية لم تثبت، هذا من الناحية النظرية، لكن سترون كيف فسّر بعض الآيات.
كذلك مصطفى صادق الرافعي في كتابه: (إعجاز القرآن) يميل إلى هذا، توفي سنة 1356 للهجرة.
هذه جذور هذه المدرسة التي تشتغل بالتفسير العلمي.
ثالثاً: بواعث الاشتغال في التفسير العلمي:
ما هي بواعث هؤلاء؟ أو لماذا فعلوا ذلك؟
نحن قلنا: الأمة مرت بمرحلة انبهار، أعقبتها مرحلة استعمار كرّس فيها المستعمر طاقته وجهده على تغريب الأمة ودحرها وتحطيم معنوياتها، وتحطيم كل ما هو قائم مما يصلح أن ينتفع به أو يبنى منه حضارة، حطم أخلاقها، حطم عقائدها، أراد أن يمسخهم في شخصيته، وأن يذوبوا في أحضانه، هذا الذي كرسه الاستعمار، حينما خرج من بلاد المسلمين ماذا فعل؟ ما هي الحضارة التي أقامها؟
لا شيء، إنما حطمهم وابتزهم إلى النخاع، كانت بعثات تذهب هناك، تذهب بكميات هائلة، وجدت مدارس الإرساليات التنصيرية في بلاد المسلمين، في الشام وفي غيرها كتركيا، ومصر، وأندونيسيا، وفي بلادٍ كثيرة من بلاد المسلمين، فخرَّجت الكثيرين ممن يفكرون بعقولهم.
في هذه المرحلة بدأ يتحرك بعض الغيورين، وأرادوا أن يعيدوا الأمل في نفوس المسلمين الذين تحطمت نفوسهم ليقولوا لهم: إن هذه الحضارة التي انبهرتم بها موجودة في القرآن، وإن في القرآن من الآيات والنصوص ما يدل على هذه المكتشفات التي ننظر إليها ونحن -في تصنيفهم- في طائفة المتفرجين الذين لا يسمعون عنها إلا بعد تطاول السنين، لا يسمعون عنها حتى تصدر أو تنتجها أبحاثهم وأفكارهم، فليس لنا منها إلا السماع بعد أزمنة متطاولة، فأرادوا أن يقولوا لهم: لا؛ فأنتم إن لم تستطيعوا اكتشاف هذه الأشياء -أيها المسلمون- ولكنكم في الواقع تجدونها مرصودة في كتاب الله دل عليها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.
انطلقوا من هذا المنطلق وأرادوا أيضاً جذب غير المسلمين إلى الإسلام، وبالذات الغربيين، يعني أرادوا أن يقولوا للمسلمين: لا تنزعجوا، لا تتشككوا في كتابكم، لا تتخلوا عن دينكم، فهذا القرآن يحتوي على هذه الأشياء، وأنتم -أيها الغرب- الذين امتلأتم غروراً من اكتشاف هذه الأمور، فهي موجودة عندنا في كتابنا، فهذه دعوة لهم إلى الإسلام.
قالوا: هذا هو عصر المكتشفات وعصر العلم وعصر التكنولوجيا فينبغي أن نبزر جانباً من جوانب الإعجاز لهؤلاء الناس الذين لا يفقهون فصاحته وبلاغته؛ لعجمتهم، وكذلك العرب فإن ألسنتهم قد تكدرت وتغيرت، قالوا: نبرز لهم جانباً -وجوانب الإعجاز كثيرة جداً، فالصحيح أنه لا يقتصر على جانبٍ واحد- نبرز لهم جانب الإعجاز العلمي، وهم بين متوسعٍ في هذا للغاية وبين مقل، يتفاوتون غاية التفاوت، منهم من حول كتابه في التفسير إلى شيءٍ آخر حتى قال عنه بعض أهل العلم: فيه كل شيء إلا التفسير، كما سيأتي في بعض الأمثلة.
جاء من يقول: نريد أن نقرب إلى أصحاب هؤلاء أهل الحضارة المادية الذين لا يؤمنون بالغيب، نقرب لهم حقائق القرآن، فجاء من يقول بأن الجن هي عبارة عن الشر الموجود، وليس ثمة وجود للجن حقيقة، والملائكة هي الأرواح الطيبة أو المعاني الطيبة أو شيء من هذا القبيل، وجاء من يقول بأن الطير الأبابيل هي الميكروبات.
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ [سورة الفيل:4]، هو الطين الذي يعلق بأرجل البعوض من المستنقعات فيسقط على هؤلاء فتصيبهم الميكروبات، يقول: الطير الأبابيل هي الميكروبات، ومن تلطّف قليلاً قال: هي البعوض يحمل بأرجله من طين المستنقعات، لماذا تقولون هذا الكلام؟ قالوا: لأن هؤلاء الغربيين لا يؤمنون بالغيب.
إن الذين شاهدوا هذه الآية من قريش حينما أنزلها الله –جل وعلا- كانوا يعرفون هذا، ومنهم من عاصر هذه الحادثة فما جاؤوا للنبي ﷺ وقالوا: أين أصحاب الفيل؟ وأين الطير الأبابيل؟ فلو كان ذلك غير صحيح لسارعوا إلى إنكاره؛ خاصة أنهم أحرص ما يكونون على تكذيب القرآن وإبطاله، أضف إلى ذلك ما كان يشعر به كثير من المسلمين، ومنهم بعض من كان يتكلم على هذه الأشياء ما يشعرون به من الهزيمة الداخلية فتكلفوا وحملوا القرآن على أشياء لا يجوز أن يحمل عليها كما سترون، ولذلك جعلوا القرآن في أغلبهم وعامتهم تابعاً لهذه النظريات، يعني تجده يتكلم عن النظرية على أنها قضية مسلمة، ثم يأتي بالنص القرآني على أنه تابع لها، لا أن يجعل النص أصلاً ويجعل النظرية تابعة له.
أضف إلى ذلك سوء فهم طبيعة القرآن كما قلت لكم في الدرس الماضي: إن بعضهم بدعي بأن القرآن إن لم يشتمل على الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلوم الذرة فإنه لا يصلح لعصرنا هذا، يقول ذلك من باب التأكيد أن القرآن مشتمل على هذه الأشياء جميعاً!
فهؤلاء ما فهموا طبيعة القرآن والأمر الذي أنزله الله من أجله، فوقعوا في ما وقعوا فيه.
إذن: البوادر والبواعث التي عندهم كانت بواعث طيبة، قصدها حفظ المسلمين وأيضاً دعوة هؤلاء الكفار، لكن ليس كل مجتهدٍ مصيب، فوقع في ذلك أشياء كثيرة مما سترون.
رابعاً: أقوال العلماء والباحثين في هذا النوع من التفسير:
أقوال العلماء والباحثين قديماً وحديثاً ما رأيهم في هذا النوع؟
هؤلاء العلماء والباحثون يمكن أن نجعلهم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الممانعون المعارضون الذين يردون ذلك ويشنعون على أصحابه، وهؤلاء كثير جداً، وعلى رأسهم الشاطبي -رحمه الله- في كتابه: (الموافقات)، فقد كان ينكر ويشدد النكير على هؤلاء الذين نسبوا إلى القرآن كل علم، ومن هؤلاء نسبوا إلى القرآن كل علم من مر بنا قبل قليل كالغزالي وابن العربي، وكذا من جاء بعدهم ووافقهم على ذلك.
فالشاطبي كان يشدد على هؤلاء، ويبين أن كلامهم ليس بصحيح، وأن هؤلاء تجاوزوا الحدود في الدعوى على القرآن، وأضافوا إليه كل العلوم من علوم الطبيعيات والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها.
ثم بدأ الشاطبي -رحمه الله- يتكلم على أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيءٍ من هذا المدعى سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، فالسلف ما خاضوا فيه وهم أبصر الأمة وأعلم الأمة، إذن: لا يجوز لنا أن نخوض فيه، طبعاً هذا الكلام قد لا نسلم به على إطلاقه، لكن هكذا قال الشاطبي -رحمه الله- بل إنه كان يقول أكثر من هذا، وكان يرى أن لا يتشاغل باللطائف البلاغية ولطائف المعاني وإن كانت صحيحة، وهناك نكات في المعاني لطيفة تستنبط وتستخرج، يقول: لا، بل نبين المعنى الأصلي ولا نشغل الناس بهذه المعاني الدقيقة واللطائف والنكات البلاغية؛ لأنها تشغل عن المقصود الذي نزل من أجله القرآن.
نحن نقول: ينبغي التوسط، فالذين أغرقوا في ذكر اللطائف حتى إنك إذا قرأت كلامهم في التفسير يضيع عليك المعنى الأصلي الذي نزلت الآية من أجله نقول: هذا غير صحيح.
نحن يمكن أن نجمع بين هذا وهذا، فنذكر المعنى الأصلي ونؤكد عليه، نقول: الآية دلت على كذا وكذا ويستخرج منها كذا وكذا وكذا وكذا، فنجمع بين البيانين -البيان المجمل والبيان المفصل- هذا ما أظنه أقرب في هذه القضية، وعلى كل حال فالشاطبي له رأي يشدد فيه، ليس في التفسير العلمي بل في هذه اللطائف.
وممن كان يشنّعون على أصحاب التفسير العلمي الشيخ محمد شلتوت -رحمه الله- تكلم على هؤلاء وقال: إن هؤلاء المثقفين الذين أخذوا بطرفٍ من العلم الحديث، وتلقنوا أو تلقفوا شيئاً من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويفسرون القرآن على مقتضاها... إلى أن قال: ففسروا القرآن على أساسٍ من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.
يقول: نظروا في القرآن على هذا الأساس فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزل الله القرآن، فإذا مرت بهم آية فيها ذكر المطر أو وصف للسحاب أو حديث عن الرعد أو البرق تهللوا واستبشروا وقالوا: هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب وكيف ينشأ...الخ.
تكلم على هذه القضية وقال: هذه نظرة خاطئة بغير شك؛ لأن القرآن كتاب هداية، وقال: هذه قضية خطيرة؛ لأن العلوم غير مستقرة وأنها متطورة، وأن النظريات تتجدد وتتغير، وهذا يعني التشكيك بالقرآن، ونسبة الخطأ الذي يقع في هذه النظريات إلى القرآن.
هذه خلاصة كلام الشيخ محمد شلتوت وهو من أكثر من رد هذه الطريقة وقال: يجب أن ندعو إلى عظمة القرآن وجلاله بالمحافظة على مهابته وقدسيته دون الاجتراء عليه بهذه الطرق والصور التي فعلها هؤلاء.
ومن الذين ردوا التفسير العلمي أيضاً الأستاذ أمين الخولي، له بحث بعنوان: إنكار التفسير العلمي، وله رسالة اسمها تفسير معالم حياته ومنهجه اليوم رد على هؤلاء.
وممن أشار إلى تحفظه على الأقل، وإن كان وقع في أشياء غريبة في التفسير الشيخ/ محمد رشيد رضا -رحمه الله- مع أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كما حدثني أحد تلامذته كان قد كتب للشيخ محمد رشيد رضا رسالةً يحرضه فيها على الرد على طنطاوي جوهري، وطنطاوي جوهري سنذكره بعد قليل هو من أكثر الناس إيغالاً في التفسير العلمي.
فكان الشيخ عبد الرحمن بن سعدي يحرض الشيخ محمد رشيد رضا على الرد على طنطاوي جوهري في مجلة المنار، وكان الذي عرفته من نتيجة الرسالة من خلال كلام أحد المشايخ الذين هم من تلامذة الشيخ ابن سعدي أن الشيخ محمد رشيد رضا لم يهتم بذلك كثيراً، ولم يتجاوب مع الشيخ، وقال: لم يبلغني عن هذا الكتاب شيء، أو ما سمعت عنه شيئاً أو نحو هذا، لكن في بعض كتابات الشيخ محمد رشيد رضا تجد ما يشير أو ما يكون فيه شيء من الغم بمثل هذه الطريقة، ولربما يقصد هذا الكتاب.
وكذلك من المعاصرين الذين ردوا هذه الطريقة برمتها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مع أنه يحاول إثبات الوحي بطرق غريبة، فهو يحاول إثبات الوحي ليقربه إلى الغربيين أو المعاصرين عن طريق التنويم المغناطيسي!!
ومع ذلك ينكر إنكاراً تاماً على هؤلاء الذين يشتغلون بالتفسير العلمي، وكان المتوقع منه -رحمه الله- أنه يؤيد هذه الطريقة، فكان يقول بأن القرآن كتاب هداية وإعجاز ولا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز، وإذا ذكر فيه شيء من الكونيات فهذا للهداية ولبيان عظمة الله ووحدانيته، ولا يقصد القرآن مطلقاً من ذكر هذه الكونيات أن يشرح الحقائق العلمية في الهيئة والفلك والطبيعة والكيمياء وما إلى ذلك، ولا أن يحل مسائل حسابية أو معادلات جبرية أو نظرية هندسية، ولا أن يزيد في علم الطب باباً ولا في علم التشريح فصلاً إلى آخر ما ذكر.
والشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني هو من العلماء المعاصرين وكتاباته تدل على علمه، وتكلم على هؤلاء الباحثين الذين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فأدخلوا فيها هذه الأشياء ونعى عليهم ذلك، وذكر قصدهم الحسن وأن ذلك لا يعذرهم، وبين أن عظمة القرآن لا تتوقف على توافقه مع هذه المعطيات للحضارة الحديثة، ثم ذكر ما يعانيه العالم من نتاج هذه الحضارة من حروبٍ طاحنة وأسلحةٍ فتاكة وما إلى ذلك، فكانت النتيجة في النهاية أنه يقول: لا نرى حاجة إلى مثل هذا النوع من التفسير خصوصاً بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد، وأن أبحاثاً كثيرةً منها لا تزال قلقة حائرة فما أثبتوه بالأمس نفوه اليوم.
ثم ذكر كتاباً لأحد الغربيين يقول: إنه أثار ضجةً كبرى، وهو بعنوان: الكون الغامض، هذا الكتاب خلاصته يقول: لا يوثق بشيء من هذه النظريات والاكتشافات؛ فإنها تتجدد وتتغير وما كنا نقرره بالأمس نبطله اليوم، وما نقرره اليوم سنبطله في الغد، وهكذا فنحن أمام كونٍ غامض هائل لا ندرك شيئاً من مراميه وحقائقه.
هذا المؤلف يقال له: سير جميس جنس، فإذا هذا واحد منهم يقول هذا الكلام، فكيف نربط القرآن بهذه الأمور المتجددة المتغيرة؟
ومن هؤلاء الشيخ محمد بن حسين الذهبي -رحمه الله- في كتابه: (التفسير والمفسرون)، تكلم فيه على هذه الطريقة وبين خطأها وردّها إجمالاً ولم يستثنِ شيئاً، وبيّن أن هذه الطريقة خطره للأسباب السابقة، وأن القرآن كتاب هداية، وأن هذا سيؤدي إلى نسبة الخطأ إليه.
وممن رد على هؤلاء في بعض المواضع الشيخ محمد الأمين الشنقيطي العالم المعروف صاحب أضواء البيان –رحمه الله تعالى- رأيت له رداً في كتابه الأضواء، ورأيت له راداً في أشرطته المسجلة في دروسه في المسجد النبوي.
وهذا من كلامه في التفسير في أضواء البيان الجزء الثالث صفحة 118، يقول: "واعلم -وفقني الله وإياك- أن التلاعب بكتاب الله -جل وعلا- وتفسيره بغير معناه لمحاولةٍ توفيقية مع آراء كفرة الإفرنج ليس فيه شيء البتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة وإنما فيه فساد الدارين، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحظ جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60]".
يقول: حينما نمنع هذا النوع من التفسير لا يعني أننا نرد العلوم المادية هذه التي تنفع في الأمة.
وممن كتب في رد هذا الأستاذ أحمد محمد جمال، فقد ردّه بجملته، وكذلك الأستاذ محمد الصادق عرجون، ومن أكثر من شنع عليه ورده الأستاذ سيد قطب أيضاً في كتابه: (في ظلال القرآن)، فله نقد لاذع لهذه الطريقة، وكان مما قال: "وإني لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها؛ كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه"[1].
ثم ذكر أن تصرفات هؤلاء ناشئة من الهزيمة النفسية عندهم، وأن العلم هو المهيمن والقرآن تابع له، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم"، ثم يذكر عظمة القرآن وكمال القرآن.
والأمر الآخر الذي ذكره قال: إن هؤلاء لم يفهموا طبيعة القرآن ووظيفته وهي الهداية والدعوة إلى التوحيد والإيمان.
والقضية الثالثة قال عن هؤلاء: إنهم لا يزالون في تأويل مستمر لنصوص القرآن وصرفها عن معانيها، ونقل عن عالم طبيعي فيلسوف اسمه: ماريتس ستانلي يقول في هذه العلوم: إن العلوم حقائق مختبرة ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجه، ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ، وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك وليس باليقين... إلى أن قال: ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف وليست نهائية، ويقول: الباب لا زال مفتوحاً للتعديلات والتغييرات وما إلى ذلك.
على كل حال الذين أنكروا هذه الطريقة يمكن أن ألخص مبرراتهم في التالي:
- أن القرآن كتاب هداية.
- وأن نصوص القرآن نصوص قطعية، وهذه النظريات نظريات محتملة غير ثابتة، تتغير وتتبدل، والعلوم التجريبية علوم ظنية في أحسن أحوالها، فهي في الغالب فروض راجحة، أو حقائق علمية نسبية احتمالية؛ وهذا كما يقول علماؤهم، وطبيعة المنهج القرآني تختلف عن ذلك.
- هذه نماذج من أقوال أهل العلم والكُتَّاب في هذا العصر وفي غيره في هذا الموضوع.
خامساً: حكم التفسير العلمي للقرآن:
لو سأل سائل فقال: ما حكم التفسير العلمي للقرآن؟
نقول: نحن لا ننكر ذلك جملةً، يقول ابن القيم -رحمه الله:
فعليك بالتفصيل والتبيين فـ | الإطلاق والإجمال دون بيان |
قد أفسدا هذا الوجود وخبط | الآراء والأذهان كل أوان |
فالإنسان إذا أراد أن يحكم على أمورٍ يدخل تحتها أشياء كثيرة من الصواب والخطأ فينبغي أن يفصل في هذه الحكم.
نحن لا ننكر أن هناك أشياء من معطيات هذه الحضارة توافق أشياء في القرآن، بل لربما يكون في غاية الصراحة في الدلالة عليها، وسترون أشياء من هذا، فنحن لا ننكر هذا على أن يكون ذلك من غير تكلف، وبحيث لا تعود على أقوال السلف في الإبطال ولا تناقضها، وحيث اللفظ يحتملها تمام الاحتمال، وهذا شيء سترونه، وعندي أمثلة كثيرة جداً.
كذلك أيضاً نحن حينما نقرر قضية مثل هذه في مثال أو مثالين أو ثلاثة أو نحو ذلك، هذا فيه أكبر رد على الذين يزعمون أن الدين يعادي العلم، وهذه قضية وجدت في أوروبا وصار الصراع بين الكنيسة وبين العلم للأسباب التي تعرفونها، فقد كانوا يحرقون العلماء، والكتب محرفة عندهم وفيها أشياء تناقض هذه الأشياء التي اكتشفت فصاروا يكذبون بها، ويحرقون العلماء ويقتلونهم.
نحن نقول: لا، فهذه الأشياء منها ما هو صحيح ولا يوجد في القرآن ما يدل عليه دلالة خاصة، ومنها ما هو صحيح ويوجد في القرآن ما يدل عليه، ومنها ما هو لربما يكون صحيح ويوجد في القرآن ما يحتمله، أو على الأقل على بعض الأقوال، ومنها ما هو باطل في أصله -غير صحيح ولا ثابت- وقد أبطله بعض علماء هذه العلوم المادية.
نحن لا ننكر هذا؛ لأنه يفيد أيضاً في استمالة مثل هؤلاء المنبهرين بالعلم، فهذه الأشياء منها ما هو موجود في القرآن لكن باعتدال من غير تكلف، فحرمة القرآن أعظم من أن يسلم أهل الأرض جميعاً، تبقى للقرآن حرمته وعظمته وجلاله، فلا نحرف معاني القرآن من أجل أن يسلم شخص لزرقة عينيه لا، فالقرآن أعظم عندنا من ذلك.
أيضاً الله في القرآن حثنا على الانتفاع بمواهب هذا الكون والنظر فيه وما إلى ذلك، والإنسان لا يستطيع أن ينكر أنه إن وجد شيئاً من هذا التوافق فإن ذلك يزيد في إيمانه، حينما يقرأ الآن قارئ علينا الآيات التي فيها تفاصيل خلق الجنين، ثم نأتي بعالم من العلماء المتخصصين في الأجنة ويشرح لنا كلاماً لا يخالف الآيات إطلاقاً، والآيات ليست تابعةً له بل هو تابع لها، ولا يخالف أقوال السلف بل يوافقها، وإن كان في تفاصيل زائدة، لا شك أن هذا يمتلئ القلب معه من الإيمان.
وإبراهيم قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سورة البقرة:260]، فيحصل بمشاهدة هذه الأشياء من طمأنينة القلب ما لا يخفى، وفي نفس الوقت نحن لا نسلم تسليماً مطلقاً بهذا التفسير العلمي، فنحن نعتقد أن الإعجاز ثابت ولو تركنا هذا التفسير العلمي برمته، فكيف إذا رددنا الأشياء الباطلة منه واقتصرنا على الأشياء الصحيحة؟!
إن الدعوة القرآنية إلى النظر في الكون ليست بالضرورة من أجل الوقوف على هذه الأشياء التي يذكرها أصحاب التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، وإنما للوقوف على مواطن العبرة، هذه السماء العظيمة وهذه الأرض والرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، هذا لا بد له من مدبر، وأنه رب إله واحد، ولو كانت آلهة متعددة لحصل التضارب في هذا الكون والتلف والزوال.
ثم نحن لا نتسارع فيه أيضاً ولا نسلِّم أيضاً بكل ما يقولون، لأن هذا مدعاة للزلل، وهو طريق خطر ينبغي الحذر في سلوكه، وقد عرفنا كلام السلف في التورع في التفسير.
ثم إن هذه الطريقة ألجأت الكثيرين إلى مجاوزة الحد والتكلف والتمحل في محاولة الربط بين نصوص القرآن وبين هذه الأشياء، ثم نحن ندرك أن كثيراً من هذه الأمور التي يذكرون إنما هي نظريات وليست حقائق ثابتة، ثم أيضاً إذا نظرنا إلى القرآن وأنه جاء لهداية البشر والدعوة إلى الإيمان والتوحيد وبيان ما يحتاج إليه الناس لنجاتهم وسعادتهم، فتحويل القرآن والدعوة إلى تأليف كتب في التفسير على هذه الطريقة لا شك أنه خروج عن المقصود، وللأسف توجد اليوم دعوة صريحة لتأليف كتب تفاسير تتخصص بهذا الجانب.
سادساً: شروط قبول التفسير العلمي:
إذا قلنا: إننا لا نسلم بالتفسير العلمي مطلقاً ولا نقبله مطلقاً، فالذي نقبله بناءً على أي شيء؟
نقول: هناك شروط لا بد أن تراعى في هذا الموضوع وهي:
أولاً: تذكَّر ورع السلف في الكلام على التفسير، وليكن حاضراً في ذهنك، ثم أيضاً القواعد العلمية التي يبنى عليها التفسير، فنحن لا نحمل ألفاظ القرآن على مصطلحٍ حادث، بل يجب أن نفهم القرآن على معهود الأميين من حيث وجوه المخاطبات، فلا نفهمه بطريقةٍ غريبةٍ عنه، فالقرآن يجب أن ندرك أنه كتاب هداية يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ويجب أن نتوسط في هذا الأمر وأن نعتدل، فلا نفرط ولا نفرط، ما نندفع وننسب للقرآن أشياء لا يصح نسبتها إليه، فنقول على الله الكذب، ولا نرد الأشياء الصحيحة ونتعنّت في ردّها بحجة أنها ما قال بها السلف! فهي لا تخالف أقوال السلف، وإنما هي زيادة معنى -كما سيأتي بعد قليل.
ثم أيضاً ينبغي أن يكون الكلام في الحقائق العلمية، وليس في الفرضيات والاحتمالات والنظريات، وسترون كثيراً مما سأعرضه هي ليست حقائق علمية.
وأيضاً ينبغي أن ندرك أن القرآن حمّال ذو وجوه، وأن الآية يعبر فيها بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة، فلا يتحمس إنسان ويقول: الآية تدل على هذا المعنى وتختص به.
دعني أضرب لك مثالاً أو مثالين من نفس التفسير العلمي والإعجاز العلمي في الاحتمالات التي يمكن أن نقبلها ولا تعارض أقوال السلف، وهي عند أصحاب التفسير العلمي متنوعة ومتعددة، تجد هذا يذكر شيئاً، وهذا يذكر شيئاً، وكل واحد يعتقد أن ما قاله هو الصحيح، ونحن نقول: لربما الآية تحتمل هذه الأشياء جميعاً.
انظر في قوله -تبارك وتعالى: أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سورة النمل:61].
موضع الشاهد هنا: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا.
وكذا في قوله -تبارك وتعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ [سورة الرحمن:19 -20].
وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [سورة فاطر:12].
ثم الآية الأخرى أيضاً: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا [سورة الفرقان:53].
لو جئنا إلى أصحاب التفسير العلمي وجمَّعنا كلامهم المتفرق ماذا يقولون؟
كلام السلف في قوله: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا: أي حاجزاً، والكلام الذي يذكره أصحاب التفسير العلمي كلام قريب جداً، والآية تحتمله، هل هذا هو المعنى أو لا؟ الله أعلم، لكن الآية لا تمنع منه وتحتمل ذلك جميعاً، من هذه المعاني:
1- أن دورة المياه في الكون والتي تبدأ بتبخر كميات هائلة من سطح المحيطات فتتكون منها السحب وتنزل على اليابسة مطراً، وهي مياه عذبة، ترتفع من المحيطات فلا يزيد ذلك في ملوحة البحر وإذا نزلت الأمطار العذبة لا ينقص ذلك من ملوحة البحر، وإذا جاءت الأنهار وصبت لا تتغير ملوحة هذا البحر،مع ما تحمله هذه الأنهار والأمطار من أتربة ومعادن، فيبقى البحر ملحاً أجاجاً، هذا أحد المعاني التي يذكرونها وهو أبعدها، لكن استمع إلى المعاني الأخرى:
2- أن مستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه، ويغير مجاريها بمائه الملح فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها، هذا المعنى هل فيه إشكال؟ هل يعارض أقوال السلف؟ أبداً، لا يعارض أقوال السلف.
خذ معنىً آخر:
3- علماء البحار يقولون: إن الأنهار الضخمة تشكل عند مصباتها أشبه ما يكون ببحيرات خاصة، لها خواصها من حيث المذاق فليست هي بالمياه العذبة كمياه النهر، وليست بالمياه المالحة الأجاج كما هي الحال في مياه البحر، هذه المنطقة تعيش فيها كائنات خاصة تتلاءم مع هذه الطبيعة، لا تستطيع الخروج إلى الملح، ولا إلى العذب، وتبقى هذه المنطقة محافظة على هذه الخصائص، فهذه المنطقة حجر محجور عند علماء البحار، تحجر الكائنات الخاصة بها، وتبقى على طبيعتها فلا تختلط بغيرها، فهي محجورة على المياه على الأخرى.
4- يقولون: هناك حاجز بين البحار أنفسها يمكن تمييز خاصيات ماء كل بحر على جانبي الحاجز، البحر الأحمر والبحر العربي، الخليج العربي وبحر العرب.
ويقولون: المعادن والكائنات الحية تختلف من بحرٍ إلى بحر بينهما حاجز، وذهبت بعض البعثات ونظرت في البحر الأحمر وأعماقه والمحيط الهندي في جنوب عدن، ونشروا بعض الملاحظات الآتية:
وجدوا المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبتها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وبواسطة قياس الأعماق وجدوا حاجزاً مغموراً عند مجمع البحرين يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، ووجدوا أيضاً حاجزاً مغموراً بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، وأثبتت التحاليل الكيميائية أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها الطبيعية والكيميائية عن مياه البحر الأحمر؛ لوجود هذا الحاجز عند ملتقى كل بحرين.
5- يقولون: هناك حاجز من نوعٍ آخر أيضاً في داخل المحيطات فأعظم الأنهار موجودة في داخل البحار، أعظم من نهر النيل ونهر دجلة أو الفرات، تشق في البحر بداخله، عذبة وتحافظ على خواصها وطبيعتها داخل هذه البحار، ولها أيضاً مقاييسها الخاصة في الحرارة والبرودة مما يختلف عن البحر وهي في داخله، هذا ذكره بعض علماء البحار.
النص القرآني: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا، هل يعارض هذه الأشياء؟ الجواب: لا، فهو يحتملها، هل نقطع بتفسيره بشيءٍ منها؟ الجواب: لا، قد يكون كل ما ذكر من هذه المعاني داخل في هذا البرزخ، فالله لم يحدد برزخاً معيناً.
إذن: إذا أردنا أن نفسر ينبغي أن ننتبه أننا لا نتمحل ونتمسك باكتشافٍ من هذه الاكتشافات التي قبلناها وأخذناها ونقول: هذا هو المعنى، لا؛ قد تكون هناك معاني أخرى فالقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
6- مثال آخر: في قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [سورة الحجر:22]، كلام السلف فيها واضح: تلقح النباتات، وابن القيم -رحمه الله- يقول: "الرياح تلقح السحاب"، والمعاصرون ذكروا أشياء من تلقيح الرياح، يقولون: بأن نمو السحب ونزول المطر يتطلب أن تلقح الرياح هذه السحب بأكداس من جسيمات مجهرية تسمى (نويات التكاتف)، ومن أهم خواص هذه أنها تمتص الماء أو تذوب فيه، وتحمل الرياح كذلك بخار الماء وتلقح به السحاب؛ لكي يمطر إلى آخر الطريقة التي ذكروها، هل هذا يعارض قول الله : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ؟ هل خص شيئاً معيناً تلقحه الرياح؟ الجواب: لا، فالرياح تحمل لقاح النباتات التي تحتاج إلى لقاحٍ من نبتٍ آخر، ويمكن أن تكون ملقحةً للسحاب فهذا لا يعارض أقوال السلف ولا يعود عليها بالإبطال، فالآية تحتمل هذه الأشياء جميعاً.
من الأشياء التي ينبغي أن نستحضرها ونحن نتكلم عن التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي أنه لا يمكن أن يتصادم حقيقة ثابتة مع ما جاء به القرآن، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاؤوا بمحارات العقول ولم يأتوا بمحالات العقول -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما معنى هذا الكلام؟
معناه أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاؤوا بأمورٍ قد تتوقف فيها العقول لا تدركها، لكن لم يأتوا بشيءٍ قط يقول العقل الصحيح فيها: لا، فلا يوجد شيء إطلاقاً، لا في نصوص الكتاب ولا في السنة يعارض حقيقة ثابتة، وهذا أمر نحن نعلمه ونسلم به.
من الشروط المهمة في قبول التفسير العلمي:
أن لا يتنافى هذا التفسير مع سياق الآية ودلالة الألفاظ واحتمال النص من جهة اللغة، ومن الأمور التي ينبغي أيضاً أن نستحضرها جيداً أن الآية إذا كان فيها خلاف بين العلماء في معناها فلا ينبغي أن نتسرع ونقطع بأحد المعاني لأنه يوافق نظريةً من هذه النظريات، لا، لأن القول الآخر قد يكون هو الصحيح، لكن نحن غاية ما نقول إذا كانت هذه حقيقة ثابتة، والقول الآخر موافق لها تماما ًأننا نقول: وعلى قول بعضهم يمكن أن يكون هذا المعنى داخل في الآية، نحن نتكلم بهذه الطريقة، لا أن نأتي ونتكلم على القضية بطريقة كأنها لا يوجد غير هذا، لا، نتكلم بطريقة فيها شيء من الانضباط.
ومن ذلك أيضاً نبذ التكلف في الربط بين هذه وهذه، بل نجعل الآية أصلاً ولا نجعلها تابعةً للعلم؛ لأن القرآن ليس بحاجة أن نثبته بهذه النظريات.
يشترط أيضاً أن لا يخالف التفسير العلمي حقائق شرعية: فالله يخبرنا أنه جعل السماء سقفاً محفوظاً، كل كلام الغربيين الذي رأيته ففيه أنهم لا يؤمنون أن هناك سقفاً على الحقيقة، وإنما هذا الكون بما فيه من غازات أو غير ذلك وكواكب لكنه لا يوجد سقف.
أما السماء الثانية والثالثة والرابعة فهذه لا يعرفونها إطلاقاً، ونحن نؤمن أن السماء سقف وأن لها أبواب.
وكثير من الذين تكلموا على الإعجاز ممن قرأت لهم رأيت أنهم لا يصرحون بنفي السقف، لكن كلامهم يوافق كلام الغربيين، فماذا يقولون؟
بعضهم يصرح ويقول: نعم هي سقف لكن ما معنى السقف؟ يقولون: السماء كل ما علا وارتفع، فالسماء هي عبارة عن غازات فيها هذه الأفلاك والكواكب والنجوم السابحة، هكذا يفسرون السقف، يقولون: ليست كما كان يتصور الناس سابقاً أنها عبارة عن فراغ فقط، وإنما هي عبارة عن غازات وأشياء معينة، لكن سقف بالمعنى المعروف، أبداً، كما سيأتي فيما يذكرونه في الانفجار الكوني كيف تكونت هذه الأفلاك؟
فنقول: أولاً: هذه ليست حقيقة، إنما هي فرضية وغير صحيحة أيضاً، فلماذا نربطها مع الآيات؟ ثم لماذا نتكلم على النصوص ونجعلها تابعة لكلامهم ونقول: السقف يعني الغازات، نقول: لا، السقف ليس بالغازات، السقف معروف، والسماء لها أبواب حقيقية، وهذا الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
طبعاً بعض الذين يذكرون هذه الشروط تجده يقع ويخطئ -وقد أكون واحداً منهم في بعض الأمثلة التي أذكرها مما أظنه قريباً من الصواب.
عند التطبيق تجده يذكر أمثلة تستغرب كيف ذكرها؟
يعني هذا أحد المنضبطين –مثلاً- يقول في قوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا... إلى أن قال: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [سورة فصلت:9-10]: يبدأ يتكلم على الحقائق، يقول: حقائق كونية، -بهذه العبارة حقائق- يقول: خلق الأرض وتقدير الأقوات في أربعة أيامٍ قبل السماء، كيف؟ الله خلق الأرض ثم بعد ذلك استوى إلى السماء، ثم في يومين آخرين دحا الأرض وقدّر فيها أقواتها، هذا الذي دلت عليه النصوص، ويقول: أصل الكون المادي من السديم والدخان...إلخ.
ونفس القضية يذكرها شخص آخر له كلام طويل جداً وقع في نفس المسلك، فذكر أشياء غريبة وهو ممن يذكرون الشروط، ولا أدري كيف بنى عليها؟
سابعاً: أصناف المشتغلين بالتفسير العلمي:
هؤلاء الأصناف ليسوا على وتيرة واحدة، منهم أناس من جملة العلماء دخلوا في هذه الأشياء لكن إدراكهم لها قليل، يعني إدراكهم لهذه العلوم والحقائق قليل فوافقوا على أشياء ظنوا أنها حقائق وليست بحقائق، فوقعوا في إشكالات.
وطائفة من هؤلاء هم أصلاً بعيدين عن الكتاب والسنة والتمسك بها، إما أن يكونوا أصلاً ممن أسلم حديثاً أو من المسلمين الذين لا يتقيدون بالشرع، فهو بعيد تماماً، فبدأ يذكر مثل هذه الأشياء، وبعض هؤلاء أصلاً غير مسلمين يذكرون هذه الأشياء بناءً على ما قيل لهم.
وهناك طائفة لها علم وبصر بهذه الأشياء من المسلمين وليسوا من المسلمين الجدد وليسوا من البعيدين عن الدين بل هم من المتدينين المخلصين الداعين إلى الإسلام، ولكن هؤلاء أيضاً ليسوا على وتيرةٍ واحدة، بعضهم ليسوا من العلماء في هذه العلوم الشرعية.
لذلك نحن نقول: من الشروط الأساسية أيضاً:
أن يكون عند المفسر خلفية يصح أن يشتغل معها بالتفسير من اللغة والأصول وأصول التفسير وقواعده وما إلى ذلك من العلوم.
وشرط آخر: وهو أن هذه الأقوال يجب أن لا تعود على أقوال السلف بالإبطال، نحن نقول: إذا توفرت هذه الشروط فالباب مفتوح، والقرآن لا تنقضي عجائبه، وكما سبق في حديث البخاري، حديث أبي جحيفة قال: "قلت: لعلي : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة"[2].
فالاستنباط من القرآن والسنة وفهمهما لا يقتصر على جيلٍ دون جيل وعصرٍ دون عصر، ولا يقتصر على فئة كهنوتية -كما يقال- هي التي تتكلم عليه، وإنما نقول: من حقق الشرط يتكلم، يتعلم هذه الأشياء ويتبصر بها ويدرسها ثم بعد ذلك يتكلم، فكما أننا لا نرضى أن يتكلم في الطب إنسان ليس له بصر في الطب أو في الهندسة، إنسان ليس له بصر في الهندسة، فكذلك التفسير والقرآن لا يجوز أن يتكلم عليه من ليس له بصر فيه، وليس معنى هذا أن من درس هذه العلوم في الطب أو الفيزياء أو الهندسة أنه لا يستطيع أن يتكلم على القرآن، بل قد يكون درس هذه الأشياء ودرس العلوم الأخرى، وحصل فيها أكثر من آلاف ممن يتخرجون من كليات الشريعة، وهذا شيء مشاهد لا ننكره، بل يوجد كثير من الطلاب المتميزين في العلوم الشرعيه ممن بحضرون مجالس العلم هم في الغالب ممن يدرسون الطب وغيره من العلوم، فليس هناك حكر على أحد قي أن يتعلم ثم يتكلم؛إذ ليس الأمر كما يقول بعض الناس: لا يجوز لهؤلاء أن يتكلموا ويلقوا خطباً ويلقوا محاضرات، فهذا غير صحيح، بل إن المسلم إذا تعلم فإنه قد سار على الطريق، ومن سار على الطريق وصل فإذا حصل هذه الآلة فما الحاجز والمانع الذي يمنعه من فهم هذه الأشياء ومعرفتها؟
أرجو أن لا يفهم أحد أننا نقول: لا يجوز أن يتكلم على التفسير أو الفقه أو الحديث إلا من تخرج من كلية الشريعة! معاذ الله، بل أنا من أكثر الناس الذين ينكرون على قائل هذه المقالة، لكن في نفس الوقت أقول: لا يجوز أن يجترئ على القرآن ويفسره ويربطه بأشياء هي أمور مضحكات ومبكيات وهو لربما لا يعرف أن ينطق بالآية نطقاً صحيحاً، هذا غير لائق ولا يجوز إطلاقاً.
زارني أحد هؤلاء وقد أقام مشروعاً كبيراً يقول: إنه اشتغل فيه ثمان سنوات في اليوم قضى عليه اثنا عشر ساعة يأكل بيده اليسار من غير علة!! يا أخي: تعلم أولاً المبادئ، تعلم آداب الطعام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك، ثم بعد ذلك سر قليلاً قليلاً حتى تصل، أما أن تأتي وتقتحم مباشرةً وتتكلم في مثل هذه الأشياء، في مشروع ثمان سنوات اثنا عشر ساعة في اليوم؟!
وهذا آخر جاء بأوراق -جزاه الله خيراً لورعه- أراد أن ينظر هل هذا الكلام صحيح أو لا؟ وإن كنت لا أذكر المثال جيداً، لكن المهم أنه كان يريد أن يأتي بأشياء من كلام القرآن على النبات، وهو متخصص في علم النبات فجاء بأمثلة ويقول: في قوله -تبارك وتعالى: وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ [سورة الأعراف:133]، وقرأ في التفسير أن القمل: بمعنى الدبا أو صغار الدبا، فكان يظن أن الدبا نوع من الشجر، فقلت له: الحمد لله أنك سألت عنها، وإلا لو قلتها أمام الناس في المحاضرة لصارت حديث القوم.
ثامناً: الاتجاهات في التفسير العلمي:
من المعلوم أن الخطأ لا يؤمن على أحد، فكل إنسان معرض للخطأ، والإنسان إذا اجتهد وكانت لديه أهلية فإن الله يعذره، لكن إذا لم يكن لديه آلة الاجتهاد وليست له أهلية فهنا لا يعذر، ومن هنا أول: إن الذين يشتغلون بالتفسير العلمي ليسوا على وتيرة واحدة في انضباطهم، وإنما يوجد اتجاه منضبط وآخر غير منضبط، فالاتجاه غير المنضبط هو الاتجاه الخطير؛ حيث يربط الآيات القرآنية بنظريات لم تثبت، وبأشياء لا يدل عليها القرآن وبأشياء لا يحتملها اللفظ، ويذكرون في هذا أشياء عجيبة وغريبة لربما أشياء نقول عنها: تخرصات وليست هذه جديدة، فأنا سأذكر لكم من كلام المعاصرين ومن كلام القدماء أشياء تتشابه؛ لأن بعضكم قد يقول: إن هذه الأشياء التي تقول: إنها تخرصات قد اكتشفت بالآلات وبالمراصد وبالتكنولوجيا الحديثة، فأقول: ليس الأمر كذلك، فأنا سآتي بأمثلة كانت قبل هذه التكنولوجيا قطعاً، ومن تلك الأمثلة:
هذا فيثاغورس المتوفى سنة 600 قبل الميلاد -هذا عنده آلات حديثة ولا تكنولوجيا- يقول: الأرض كوكب من الكواكب الدائرة حول النار المركزية، وما هي النار المركزية ما هي؟ هي الشمس.
كانت الفكرة السائدة في وقته أن الأرض مركز الكون، وأنها ثابتة والفلك يدور حولها، وهذا رأي بطليموس، وكان فيثاغورس يقول بأن للأرض حركة يومية وسنوية حول الشمس، وكان العلماء في عصره ينكرون عليه هذا الكلام.
فالقضية أن الشمس لها حركة وأن الأرض تدور حول الشمس، وأن لها حركة يومية وحركة سنوية وعرف هذا البابليون والقدماء من المصريين قبل فيثاغورس، وهذا الذي سماه المتأخرون بالهيئة الجديدة وقرروه بعد ما كان علماء الفلك ينكرونه ويرون أنه من الزور والبهتان والباطل.
ومن الأمثلة: ما زعمه أهل الفلك أن الأرض كانت غير محددة الشكل، ومع مرور 200 مليون سنة، أخذت شكلها الكروي، فقولهم مع مرور 200 مليون سنة، هل هذه حقيقة علمية؟! هل يوجد أحد يقول: إن هذه حقيقة علمية؟! أشهِدوا خلقها؟!
ويقولون: خروج الماء جاء بعد حشو وتكوين الأرض بحوالي مليار سنة، والله ماذا يقول؟ يقول: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [سورة النازعات:30 -32]. أخبرنا أنه خلق الأرض في يومين، وكان الدحو في يومين. والدحو ما هو؟
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا [سورة النازعات:31]، وهم ماذا يقولون؟ يقولون: هذا جاء بعد تكوين الأرض بحوالي مليار سنة، وظهور المرعى بعد ذلك بكثير؛ لأن الحياة النباتية والحيوانية المتطورة لا يزيد عمرها عن مليار سنة من عمر الأرض، على أكبر تقدير، ويزعمون أنها تطورت حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم خلال أربعة مليار ونصف مليار سنة، وأن الكون الذي يحيط بنا كان قبل 18 مليار سنة سديماً غبارياً، طبعاً هذا أنكره بعض العلماء من المعاصرين من علماء الفلك، ولا زال بعض من يشتغلون بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي يقولون هذا دل عليه قوله -تبارك وتعالى: أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [سورة الأنبياء:30]، وقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ [سورة فصلت:11]، يقولون: هذا هو السديم بعد الانفجار الذي حصل، ويقولون: إن الكون الذي يحيط بنا كان قبل 18 مليار سنة سديماً غبارياً، ولماذا لم يقولوا: إن الأرض لها 18 مليار سنة، مع أن الله خلق الأرض في يومين والسماوات في يومين ودحا الأرض في يومين؟!
يقولون: قبل 18 مليار سنة كانت سديماً غبارياً فانفجر انفجاراً مذهلاً قبل 15 مليار سنة، وبدأ بالتوسع والانتشار ثم بدأ ظهور الشمس والكواكب الشمسية ومنها الأرض، وعمر الأرض أربعة فاصلة سبعة من عشرة مليار سنة (4.7 مليار سنة).
ويزعم المتقدمون أيضاً أن العالم الجسماني كرة منضدة من ثلاث عشرة كرة، ومركز العالم مركز كرة الأرض.
والفلاسفة المتشرعون -أي الفلاسفة المؤمنون بآله- قالوا: المراد من السماوات السبع أصناف أجرام الكواكب، أي ليست سبع سماوات فوق بعضها.
والمعاصرون من علماء الفلك يقولون بأن الأرض ثلاث طبقات أساسية: القشرة الأرضية الصخرية، وتنقسم إلى قسمين، وطبقة الرداء السميكة تبعد 2800 كيلو إلى أسفل، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام، وطبقة النواة أكثر من 3000 ألف كيلو، وهي قسمين خارجية وداخلية، فعلى هذا يصير معنا سبعة أقسام يعني سبع طبقات، فيقولون هذه طبقات الأرض السبع!
نحن لا نستطيع أن نقول هذا، فهم قالوا هذا على أي أساس؟ هل دخلوا إلى الأرض ورأوا هذه الطبقات؟!
الله أخبرنا أنه خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [سورة الطلاق:12]، فما هذه الطبقات؟ لا ندري، قد يكون بينها فراغات وقد لا يكون، لكن الذي نعلمه هو أن بعضها فوق بعض قطعاً، والأدلة على هذا كثيرة كقوله: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، ومنها كذلك قول النبي ﷺ: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين[3].
إذا قلت لي: إن المعاصرين عندهم رصد وعندهم آلات وعندهم أجهزة فالقدماء ما عندهم رصد، فعلى أي شيء اعتمدوا في سرد هذه الحقائق كما يزعمون أم أن المسألة فرضيات؟
الحقيقة أنها فرضيات وليست بحقائق فلا يجوز أن نحمل عليها القرآن أو نفسر القرآن بها.
وماذا يقول المعاصرون؟:
يقولون: إن النجوم أجرام سماوية مشعة ذاتياً مكونة من غازات متوهّجة يبعد أقربها عنّا بأكثر من 271 ألف مرة مقارنةً ببعد الأرض عن الشمس حيث تبعد الأرض عن الشمس قرابة 149.6 مليون كيلو متر.
وتحتوي مجرتنا –على حد زعمهم- على ما لا يقل على مائة مليار نجم، وهناك نجوم أكبر من الشمس بمليارات المرات، فيا تُرى هذه حقائق علمية أم فرضيات؟ إنها فرضيات.
والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات، فالسيارات هي الكواكب بإجماع القدماء، وهي سبع عندهم، والمعاصرون يقولون: بل هي تسع، فهل هذه الأشياء ثابتة أم أن الناس لا زالوا يكتشفون؟
لو قرأتم كتاب الإنسان ذلك المجهول وطالعتم كيف تكلم عن عجز العلم الحديث عن اكتشاف كنه الإنسان وحقيقته والتعقيد الذي فيه فكيف بالكون من حولنا؟!
زعموا أن ضوء بعض الكواكب لا يصل نوره إلى الأرض في مائة سنة ضوئية بل أكثر، ويقولون: قبل مائة سنة انطفأ هذا الكوكب والآن يصلنا نوره، نعم الآن يشع وهو منطفئ ميت منتهي منذ مائة سنة وأكثر من مائة سنة.
ويقول المعاصرون بأن الأرض كسائر الأجرام السماوية في تطور مستمر ولن تبقى على شكلها الحالي، ويقولون تغير مواقع القارات ومراكز القطبين مراراً، ولم تأخذ القارات والمحيطات توزعها الحالي إلا منذ مائة مليون سنة تقريباً، وتتجه أفريقيا الآن شمالاً نحو أوروبا، وشبه الجزيرة العربية واستراليا نحو الهند وجنوب شرق آسيا، ويتوسع البحر الأحمر بمقدار 102 كيلو متر في السنة، وفي الأرض مخزون حراري يتزايد مع الزمن وسيؤدي حتماً إلى انفجارات وتبدلات جذرية في شكل الأرض وسطحها، وبالتالي ستختفي البحار والجبال، وسيغطي المهل كامل الأرض!! فهل هذه حقائق أم فرضيات؟ هل يوجد أحد يقول: إن هذه حقائق؟!
وهذا كتاب آخر اسمه: (العلم الحديث حجة للإنسان أو عليه)، يذكر صاحبه فيه بعض الأشياء عند المتقدمين حتى لا يظن أحد أن المعاصرين عندهم ما ليس عند غيرهم:
في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق:12]، عندنا تفسير اسمه تفسير القمي النيسابوري مطبوع وموجود، والنيسابوري هذا متوفى سنة 728هـ، يعني قبل النهضة في أوروبا.
يقول: في قوله: مِثْلَهُنَّ: أي في الخلق لا في العدد، وقيل: هن الأقاليم السبعة، والدعوة شاملة لجميعه، وقيل: إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها، وهذا يشبه قول الحكماء - يعني الفلاسفة.
يقول: هي أرض صرفة تجاوز المركز فهذه طبقة، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها، أي طبقة الزمهرير، وقد تعد هذه من الهواء، فهذا يتكلم عن الطبقات السبع للأرض، متى توفي؟ سنة 728 للهجرة، وهو ينقل عن غيره من أهل الفلك، فهل أولئك عندهم آلات استطاعوا أن يعرفوا طبقات الأرض؟ أم أن المسألة هي مجرد فرضيات واحتمالات وظنون لا يجوز أن يفسر بها القرآن بحال من الأحوال؟!
وهذا كتاب اسمه: (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان) للسيد محمود شكري الألوسي، وهذه بعض الأشياء في هامش الكتاب، يقول علماء الفلك والفيزياء: لو رجعنا إلى ما قبل ستة عشر إلى ثمانية عشر مليار سنة لوجدنا سحابة دخانية غبارية لا يمكن تصور امتدادها أو حجمها أو كثافتها.
يقول: 16-18 مليار سنة سحابة غبارية، فمن الذي أعلمهم بهذا؟ هل هذا يمكن أن يكتشفه العلم الحديث قبل 16 مليار سنة؟
يقول: هذه تضم كل ما هو موجود من أجرام ومواد كونية في الفضاء الحالي، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ [سورة فصلت:11]، وبعد مرور ما يزيد على خمسة مليارات -أي قبل عشرة مليارات سنة تقريباً- حدث انفجار مروع، تناثرت نتيجة هذا الانفجار أشلاء سحابة دخانية مطلقة دوياً لا يوصف، ونوراً باهراً خيالياً، وامتلأ الفضاء بالإشعاعات الكونية الموزعة الآن بانسجام فيه، وليس لها مصدر محدد تأتي منه، ومعها جزئيات مادية متقدة الحرارة آلاف الدرجات، فالكون كله كان كتلة واحدة، ولعل في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [سورة الأنبياء:30]...الخ، ثم بدأ يتكلم على أشياء بالمليارات من السنين، ولا أريد أن أطيل في ذكرها.
وهذه أيضاً أرقام يذكرها المعلق في الهامش؛ فالكتاب حققه بعض العلماء، لكن علق عليه رجل متخصص في الفلك، يقول: وأبعد مجرة تم تصويرها تقع على بعد مليار سنة ضوئية أو أكثر، وبدأ يتكلم عن أشياء تعد بالمليارات.
إذا تأملت في الأشياء التي يقولها المشتغلون في التفسير العلمي فإنك تجد أحياناً تناقضات، فمثلاً: في قوله تعالى: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [سورة الطارق:5-7]، يقولون: أثبت العلم الحديث أن السائل المنوي الذي تسبح فيه الحيوانات المنوية يتكون من صلب الرجل وظهره، كما أن بيوضات الأنثى تتكون من عظام الصدر.
بينما الآخرون عندما يتكلمون عن الإعجاز في هذه الآية ماذا يقولون؟ يقولون: إن أصل الجزء الذي يفرز الحيوانات المنوية الذي عند الإنسان وتتكون فيه أصله توجد في الظهر، ثم ينـزل بعد ذلك!
فهل لاحظت الفرق بين القولين، وكلهم يذكرون أن ما قالوه هو من الإعجاز العلمي.
وفي قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [سورة التكوير:6]، يذكرون أشياء، فبعضهم يقول بأنه يمكن تفجير البحار -تفجير المياه- إلى العنصرين الأكسجين والهيدروجين، فتتحول المياه إلى هذين الغازين، كما كانت قبل أن يأذن الله بتجميعها، إذ أن تكوين البحار منهما، كذلك يحتمل أن يكون هو تفجير ذرات هذين الغازين، كما يقع في تفجير القنابل الذرية والهيدروجينة اليوم...الخ.
بينما آخرون يتكلمون على الإعجاز العلمي في هذه الآية ويقولون: إن قعر البحار يتقد وإنه في غاية الحرارة! مع أننا نرى الغواصين ينـزلون قديماً وحديثاً إلى القعر ولا يجدون حرارة ولا ينصهرون، أليس كذلك؟ وعلى كل حال هذه أشياء غريبة.
وهذا يقول: بأن علم الميكروبات وعلم الجراثيم والطيران والتصوير الشمسي، صورة الكاميرا، الكهرباء، كلها مأخوذة من الآيات، فقوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [سورة الأحزاب:9]، في هذا علم الميكروبات والجراثيم".
وقوله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ [سورة ص:36]، هذا فيه علم الطيران.
وقوله تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سورة سبأ:12] كذلك علم الطيران.
وفي قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا [سورة الفرقان:45] هذا التصوير الفوتوغرافي حبس الظل.
وقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ [سورة النــور:35] هذا الكهرباء والضوء، وهناك أشياء أخرى كثيرة، أذكرها فيما بعد بإّن الله، فأسأل الله لي ولكم السداد والرشاد، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- في ظلال القرآن – سيد قطب (ج 1 / ص 155).
- أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير – باب: فكاك الأسير (2881) (ج 3 / ص 1109).
- أخرجه البخاري في كتاب: المظالم – باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض (2321) (ج 2 / ص 866)، ومسلم في كتاب: المساقاة – باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612) (ج (3 / 1231).