الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
(54) الغني
تاريخ النشر: ٠٦ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 1058
مرات الإستماع: 1345

بسم الله الرحمن الرحيم

الأسماء الحسنى

(54) الغني

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسيكون الحديث عن اسمٍ كريم من أسماء الله -تبارك وتعالى- له تعلقٌ ببعض ما ذكر من الأسماء قبله، وهو اسمه (الغني)، وسيكون الحديث منتظماً لقضايا خمس:

الأولى: في معناه.

الثانية: في دلائله.

الثالثة: فيما يدل عليه بأنواع الدلالة.

الرابعة: في ذكر آثاره.

الخامسة: في الكلام على أثر الإيمان بهذا الاسم الكريم.

أولاً: فيما يتعلق بمعنى هذا الاسم الكريم:

أما من جهة اللغة: فالغِنى يقابل الفقر، فهو اليسار، و(الغنيّ) هو ذو الوفر، الذي لا يحتاج إلى غيره، وهذه قضية نسبية بالنسبة للمخلوقين؛ لأن ما في أيديهم إنما هو عارية من الله -تبارك وتعالى-، وكما سيأتي أن فقر المخلوق ذاتي، فقرٌ أصلي، لا يمكن أن يكون معه الاستغناء التام من كل وجه.

ولذلك لا يوجد غنيٌّ على الحقيقة سوى الله -تبارك وتعالى-؛ لأن المخلوقين يحتاج كل منهم إلى الآخر، ويفتقر إليه مهما علت مرتبته، فإن كان ذا سلطان فإنه يحتاج، ويفتقر إلى ما لا يقوم سلطانه وملكه إلا بهم من الأعوان، والأنصار، والأجناد، والوزراء، وما إلى ذلك.

وإن كان ذا مالٍ فإنه يفتقر إلى غيره في تحقيق مصالحه، وحاجاته، وشئونه، ومتطلباته.

والله -تبارك وتعالى- قد جبل الخلق على ذلك، وخلقهم؛ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّاالزخرف:32، يُسخَّر بعضهم لبعض، فالغني يحتاج إلى الفقير، والفقير يحتاج إلى الغني، ولو بقي الغني بماله، ونقوده وحده فإنه سيموت جوعاً، وعُريًّا، ولا يجد ما يكنه؛ لأنه يحتاج إلى من يقوم بهذه الصنائع، والأعمال التي لا يقوم بها، ولا يزاولها، ولا يحسنها بنفسه.

كما أن الإنسان قد يكون ذا مالٍ كثير، ولكنه لا ينتفع بهذا المال؛ لأنه يمسكه، ويبخل به على نفسه، فضلاً عن غيره.  

فتجد مثل هذا الإنسان بحاجة، يفتقر إلى الناس أن يقدموا إليه أنواع الخدمات من غير مقابل, عنده أموال كثيرة، لكنه يحتاج إلى معروف الآخرين، وإحسان الآخرين، وهذا أمر مشاهد.

هذا معنى الغِنى في كلام العرب، لكن حينما نتحدث عن معنى الغِنى في حق الله -تبارك وتعالى-، ومعنى هذا الاسم الكريم (الغني) فهنا نقول: هذا هو الغِنى المطلق، إنه حديثٌ عن الغِنى الذي لا حدود له، ولا يكون معه نوع افتقار بوجه من الوجوه.

فالله -تبارك وتعالى- ليس بحاجة إلى أحد، وكل أحدٍ بلا استثناء فهو مفتقر إليه -كما سيأتي.

فالله -- قد استغنى عن خلقه، استغنى عن إعانتهم، وعن نصرتهم، استغنى عن تأييدهم، وهم محتاجون إليه، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْمحمد:38، قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ الفرقان:77.

وهو الغنيُّ بذاته فغناه ذا *** تيٌّ له كالجودِ والإحسانِ([1])

فغنى الرب -تبارك وتعالى- ذاتي، يستغني به عن كل من سواه، ليس به حاجه إلى أحد، بخلاف المخلوق، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاطر:15.

 فالغِنى المطلق لا يكون لأحد سوى الله - وتقدست أسماؤه-، فهو كامل الذات، وكامل الصفات، وله الكمال في أفعاله، لا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن إلا أن يكون غنيًّا؛ لأن هذا الغنى هو من لوازم ذاته المقدسة.

كما أنه لا يكون إلا خالقاً، قادراً، رازقاً، محسناً، فهذا الذي بيده خزائن السموات، والأرض، خزائن الدنيا، والآخرة، يملك الدنيا، ويملك الآخرة، هو المغني --، الذي يعطي خلقه المال، والعَرَض، والغنى، والولد، فالأغنياء هؤلاء إنما كان غناهم بإغنائه --، ولما قال اليهود مقالتهم الشنيعة -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً-: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُآل عمران:181، قال: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ آل عمران:181.

وحق لكل سامع بهذه المقالة الجائرة الكاذبة أن يقول: من أين حصل لهم الغنى حتى ادعوه فقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُآل عمران:181؟!.

هذا الغنى الذي ادعوه لأنفسهم إنما كان بإغناء الله لهم، فكيف يكون الله فقيراً، ثم يكون الغنى لأحدٍ من خلقه؟!.

كما أنه -تبارك وتعالى- يغني الغنى الخاص لخاصة الخلق، مما يفيض على قلوبهم من المعارف، والهدايات، والحقائق الإيمانية، التي تغمر قلوبهم طمأنينة، وسعادة، ورضاً، وغنى في النفس.

ومن كمال غناه -تبارك وتعالى- كما يذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى-:"أنه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم، وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه، وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأله، وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرة"([2]).

لو اجتهد كل واحد من هؤلاء المخلوقين من أولهم إلى آخرهم في السؤال، والطلب في كل ما يمكن أن يخطر على باله من المطالب، والحاجات بأنواعها ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، (شيئاً) نكرة في سياق النفي، لا ينقص ذلك قليلاً، ولا كثيراً، وهذا يدل على سعة هذا الغنى.

أغنى الخلق لو اجتمع من في الحي، بل لو عرض ذلك على رجل واحد من الخلق، قيل له: هذا بين يديك، يقول: تمنَّ، فلو أنه صار يقترح من المطالب لصار ذاك إلى حال من العدم، والإفلاس.

لو قيل لأحدهم: اسأل ما شئت، فسأل أغنى الناس لنفد ما في يديه.

أما الله -تبارك وتعالى- فأول الخلق، وآخر الخلق، يجتهد كل واحد، فيسأل بما شاء، لا ينقص ذلك من ملك الله شيئاً، لك أن تتصور سعة هذا الغنى، وسعة هذا الملك، فهذا لا يمكن أن يقادر قدره.

انظر إلى سعة عطاياه -تبارك وتعالى- منذ خلق الخلق، وذلك لم يتوقف طرفة عين، وهكذا ما يحصل لهم في الآخرة من أنواع النعيم، والملاذ، مما لا يخطر على قلب بشر.

آخر الناس خروجاً من النار، ودخولاً الجنة يعطى مثل ما في هذه الدنيا، وعشرة أضعافه.

هذا آخر واحد، إذن أول واحد ماذا يعطى؟

لا يحصي الذين يدخلون الجنة إلا الله -تبارك وتعالى.

ما حال أولئك الذين هم من أول زمرة يدخلون الجنة، وجوههم على هيئة القمر ليلة البدر، هؤلاء ماذا يُعطَون؟

هذا أمر لا يمكن أن يتصور!

ومن كمال غناه -تبارك وتعالى- أنه لم يتخذ صاحبة، ولا ولداً، ولا شريكاً، ولا وليًّا من الذل.

الإنسان في حاجاته، وضعفه، وعجزه يحتاج إلى الزوجة؛ من أجل أن يكمل نفسه، ويحتاج إلى الأولاد؛ من أجل أن يتكثر بهم، وأن يتقوى بهم، وأن يقوموا معه في حاجاته، ومصالحه، فهو ينتظر برهم، ونفعهم إذا أدركوا.

 

الإنسان في حاجاته، وضعفه، وعجزه يحتاج إلى الزوجة؛ من أجل أن يكمل نفسه، ويحتاج إلى الأولاد؛ من أجل أن يتكثر بهم، وأن يتقوى بهم، وأن يقوموا معه في حاجاته، ومصالحه، فهو ينتظر برهم، ونفعهم إذا أدركوا.

 

ثم الإنسان لربما يتطلع إلى ألوان من العلائق مع المخلوقين، ولربما يفرح، ويعتز أنه ذو علاقة بفلان، أو فلان ممن له نفوذ، أو سلطان، أو له غنى، أو غير ذلك، يفرح بهذا، ويتصور، ويعتقد أنه لربما قد بلغ، ووصل إلى حالٍ من الأمان؛ لأنه حينما يحتاج شيئاً فإنه يصل إليه بأقرب طريق، وما علم أنه قد تعلق بمخلوق مثله، وبعاجز، فقير، ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضرًّا.

هذا المخلوق بلحظة ينتهي، فيموت، أو يعزل، ثم يبقى هذا الإنسان، كما قال الشاعر:

لكَ العزُّ إنْ مولاك عز وإنْ يهُنْ *** فأنت لدى بحبوحة الهونِ كائنُ

بل لربما يتحول إلى حال من الإقصاء، والإبعاد، والسخط، تبعاً لذاك الذي كان يقترب منه، ويتصنع له.

وهكذا كل من ركن إلى مخلوق فإنه يخيب ظنه، وماذا عند المخلوقين؟! فهم عاجزون، ضعفاء، مساكين.

وفي حديث أبي ذر المشهور الذي يرويه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن ربه ما يوجب للمؤمن أن يتوقف طويلاً، ويتأمل في هذا الحديث: (يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته..).

في صعيد واحد، ليست المسألة مؤجلة بحيث يمكن للغِنى أن يُستعاد، ويُسترجع بعد مهلة من الوقت كما هو الحال بالنسبة للمخلوقين، يعطي هؤلاء الآن، ثم يعطي آخرين بعد سنة، ثم يعطي آخرين بعد سنة، وينمي المال، ويثمره فيما بين ذلك.

هنا في صعيد واحد، وفي صعيد واحد يسمع بعضهم بعضاً، فيسمع كل واحد المسائل، فيكون ذلك مثيراً لمسائل أخرى مستجدة يطلبها، فوق ما سأل الناس.

تصور على كثرة هؤلاء الخلائق، في صعيد واحد، كل واحد يسأل منتهى أمانيه، وحاجاته، يقول: (.. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، الإبرة إذا أدخلت البحر ماذا عسى أن تنقص من مياه البحر؟! لا شيء، (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([3]).

هذا الحديث يصور سعة هذا الغنى، الغنى للمالك المعبود --، الذي لا تعلق له بغيره، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو منزه عن ذلك كله.

بخلاف المخلوق الذي يتعلق بغيره، فإن كان موفقاً تعلق بربه -تبارك وتعالى-، وركن إليه، وتوجه إليه بسؤاله، وحاجاته، الذي لابد له من توجه إلى غيره في حاجته لا يكون غنيًّا، بل يكون فقيراً وإن كثر العرض في يده، أما الله فله شأن آخر.  

أنت الغنيُّ الذي مُدت خزائنه *** لطالبي الرزق لم تنقص ولم تزدِ

                وكلُّ من هو محتاجٌ يمد بمفتا  ***  ح الدعاء لبابِ الواحدِ الصمدِ

 تعطي بغير حساب كلَّ مغترفٍ *** بالجود متكلٍ بالحق معتمدِ

فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يغنينا، ويعطينا، ونحن الفقراء إليه.

ثانياً: دلائل هذا الاسم من الكتاب والسنة:

هذا الاسم (الغني) ورد في ثماني عشرة آية من كتاب الله -تبارك وتعالى-، كقوله --: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌالبقرة:263، وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِالأنعام:133، قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِيونس:68، إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌإبراهيم:8، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌالنمل:40، وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَالعنكبوت:6.

هذا الإنسان الذي يستقيم، ويطيع، ويهتدي، يستشعر أحياناً كأنه يتفضل على الله، ولربما كان من يحتفُّون به من أهل وقرابة، وأصحاب يدارونه غاية المداراة، عله، وعسى أن يقبل على ربه –تبارك وتعالى-، ولربما يستشعر أنه مُدِلٌّ على الله –- بهذه الهداية، والاستقامة، وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَالعنكبوت:6، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُفاطر:15، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ التغابن:6.

ومن السنة حديث عائشة –ا- في الاستسقاء، لما شكا الناس إلى النبي ﷺ قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى، وفيه: (اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث)([4])، (أنت الغني، ونحن الفقراء)، يستسقي بذلك، مظهراً ضعفه، وفقره، وحاجته، وحاجة الخلق أجمعين، مثنياً على الله –تبارك، وتعالى-، وحامداً له بهذه الأوصاف الكاملة، الغِنى.

وفي حديث أبي هريرة –- فيما يرويه النبي ﷺ عن ربه -تبارك وتعالى-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)([5]).

هذا الاسم ثابت بالإجماع، ودل عليه الكتاب، والسنة، وقد جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- مفرداً، وجاء مقترناً. 

جاء مفرداً كما في قوله -تبارك وتعالى-: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّيونس:68، فلم يقرنه مع اسم آخر، وذلك أن اتخاذ الولد هو نوع افتقار، فكان الجواب بذكر غناه - وتقدست أسماؤه.  

وجاء مقترناً بالحميد في أكثر المواضع، كما في قوله -تبارك وتعالى-:يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاطر:15، وكما في قوله -تعالى-:وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُالحديد:24، والممتحنة:6، ونحو ذلك.

هذا الاقتران باسمه الحميد، ما وجهه؟

قد يكون له وجه في كل موضع بحسبه، ويكون له وجه عام في مطلق الارتباط.

المواضع الخاصة، أمثل بمثال ليفهم به ما سواه أو يفهم المراد، في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ البقرة:267؛ هذا الذي تعطونه مما يكون من قبيل الرديء من المطعوم، أو الملبوس، أو غير ذلك، يقول:وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِالبقرة:267؛ يعني: أن يؤخذ على إغماض، يعني: حياء من المُعطِي، ثم بعد ذلك يتخلص منه المُعطَى، يأخذه حياء، وحرجاً، ولكنه لا حاجة له فيه، فهو أزهد الناس بهذا العطاء الرديء، فالله أولى بذلك.

قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ البقرة:267، فهو طيب، لا يقبل إلا طيباً، فغناه وحمده يأبيان قبول الرديء.

الحميد لا يصلح له الرديء، إنما الذي يُقبل على الرديء من كان منحطًّا في مرتبة الشرف في نفسه، من كان يحمل نفساً دونية، أصحاب النفوس الشريفة، والهمم العالية يطلبون الكمالات، ولا يطلبون الرديء، أو يقبل ذلك من كان محتاجاً، مفتقراً إليه، مضطراً لأخذه، إما هذا، وإما هذا، والله ليس بمفتقر، فهو الغني، وهو حميد لا يصلح له الرديء، حميد، فهو محمود؛ لكماله -تبارك وتعالى.  

وكذلك جاء مقترناً باسمه الحليم، قال -تعالى-: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌالبقرة:263، في هذا الموضع الخاص: غني حليم؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- غني عن هذه الصدقات، ومع ذلك فهو حليم، لا يعاجل المانَّ بالعقوبة، هذا الذي يتصدق بزعمه، ثم يؤذي المتصدَّق عليه المعطَى بهذه العطية، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ البقرة:263، مغفرة لهذا السائل، قد يلح، قد يسيء الأدب في الطلب، والسؤال؛ فيلحق الضجر بمن سألهم، والمغفرة -أي العفو، والتجاوز عنه- أفضل من العطاء مع الأذية، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ البقرة:263، فهو مع غناه لا يعاجل بالعقوبة، فكيف يمن أحدكم، ويؤذي بعطيته المولى -تبارك وتعالى؟.

وكذلك هذا يدل على أن حلمه -تبارك وتعالى- لم يكن عن عجز، بل مع غناه التام، وإن هذا الذي لربما يكون حليماً، لا يعاجل بانتقام، أو لا يصدر منه ما يدل على غضب، أو سخط، أو نحو ذلك ممن آذاه، أو أساء إليه، قد لا يكون ذلك عن وصف كمال، بل لفقره، وحاجته، فهو يحتاج إلى هذا الإنسان، ويقول: أنا أتحمل ولو فعل، وفعل، أنا مضطر، أنا محتاج إليه، ليس لي طريق، وليس لي إلا هذا، فيتحمل الإهانة، ويتحمل الذل، والمهانة في سبيل الإبقاء على تلك الحاجات، والمصالح التي يتوهمها من طريقه.  

أما الله -تبارك وتعالى- فهو غني، وحليم، فحلمه صادر عن غنى، وليس عن فقر، أو حاجة، هذه أجوبة خاصة.

كذلك اقتران هذا الاسم بالكريم، فالله -تبارك وتعالى- محسن إلى عباده هذا الكرم، والعطاء، والبذل، والجود، والإحسان مع غناه عنهم.

أما المخلوق -فكما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- فإنه لا يعطي، ولا يحسن إلا لشيء، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، في الدنيا يريد من الله شيئاً معجلاً، لدفع بلاء، أو تعجيل مطلوب من شفاء مريض، أو غير ذلك.

أو يكون ذلك بطلب من الله في الآخرة الأجر، والثواب، أو أن يريد ويطلب ذلك من المخلوقين، كأن يطلب منهم أن يطروه، أو يثنوا عليه، أو يطلب بذلك المنزلة في قلوب الناس؛ فيعطي طلباً للجاه، والمحمدة -الرياء والسمعة-، وغير ذلك من المطالب الرديئة.

فالمخلوق لا يعطي شيئاً إلا لشيء، أما الذي يعطي إحساناً، وتفضلاً محضاً فهو الله - وتقدست أسماؤه.

كذلك هذا الاقتران جاء مع غيره، وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِالأنعام:133، فهذا الغِنى لهذا الرب -تبارك وتعالى- الموصوف بالرحمة، وإذا كان هذا الغنى لمن يتصف بالرحمة فلا تسأل عن العطايا، والهبات، والمنح، والإحسان المتتابع من الله -تبارك وتعالى- لخلقه.

الإنسان المخلوق لربما يكون من أغنى الناس، ولا يجود بشيء على أقرب الناس إليه، ليس في قلبه رحمة، أولاده يفتقرون إلى الناس، أولاده يتعثرون في أعمالهم، في حياتهم، في مصالحهم، في حاجتهم.

ولو أنه قيل له: أحسن إلى هؤلاء -أولاده-، أعطِ هؤلاء الأولاد، لهم حق عليك، فإنه قد يعجب، ويهزأ، ويقول: يرثونني وأنا حي، فلا يصل منه إليهم شيء.  

من أغنى الناس، ومع ذلك حال هؤلاء الأولاد في فقر، وعناء، وكبد، هذا يوجد، وهو كثير، هذا فضلاً عن غيره ممن بعد عنه، أما الله -تبارك وتعالى- فهو الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِالأنعام:133.

هذا الولد ربما يريد أن يتزوج، لا يجد مهراً، يريد أن يعف نفسه، ولربما أخذ الصدقات، والزكوات، وأبوه يملك المليارات، فمثل هذا يجوز دفع الزكاة إليه، وهذا موجود، فهذا القلب مقطوع من الرحمة تماماً، يرى هؤلاء الأولاد في هذا البؤس، ومع ذلك لا يجود عليهم بشيء.

الله -تبارك وتعالى- غني، وهو ذو الرحمة، فاسأله الحاجات، وأقبل عليه، فإنه -تبارك وتعالى- غني رحيم، هذا في كل موضع بحسبه.

إذا نظرنا إلى هذه الآيات التي جاء فيها مثل هذا الاقتران فإن اقتران الغنى بالحلم هذا كمال ثالث، فالغنى قد يحمل صاحبه على شيء من الاستعلاء، فيسرع منه إلى الناس ما يكرهون، فهو لا يبالي بأحد، فيسيء إليهم بالقول، والفعل، ولربما ظلمهم، وهضم حقوقهم، ولربما ظلم امرأته، أو ولده، أو جاره، أو من يعملون تحت يده؛ لأنه لا يبالي بأحد؛ لأنه يشعر أنه قد ترفع بهذا الغنى، أما الله -تبارك وتعالى- فهو غَنِيٌّ حَلِيمٌ البقرة:263.

هذا الغني من الناس قد لا يستطيع أحد أن يكلمه في شيء، أولاده، وزوجته قد لا يستطيعون الجلوس معه على مائدة، على طعام، أو نحو ذلك؛ لأنه لا يُكلَّم، ولا يستطيعون النظر إليه، وهذا شيء معروف، يوجد، ولست أتحدث عن قضايا مفترضة، أو لا حقيقة لها، بل هذا للأسف موجود.

الله غني رحيم، غني ذو الرحمة، غني حليم، وهو غني كريم، فقد يوجد الغنى مع الشح الشديد، عنده مال كثير، لكن إذا نظرت إلى حاله فإنه يعيش حياة الفقراء، البؤساء، لا ينتفع بهذا المال، ولا ينتفع به من تحت يده، إنما هو حارس عليه فقط، لا يَخرج من يده شيء حتى حقوق الله لا يخرجها -الزكاة-، فهو أبعد ما يكون عن الكرم، لا تجد من يقف عند بابه.

إذا ما كان الإنسان يملك المال، ويفتح داره للضيفان، ويستقبلهم بالترحاب، وينتفع بهذا المال، ويتصدق، ويجود، ويحسن إلى الناس، ويغدق على قرابته، وأهله، وأولاده، ومن حوله، ويتفقد الحاجات، فما الفائدة من هذا الغنى؟!.

مجالس مهجورة، وصدقات ممنوعة، وإنما هو حارس أمين على هذا المال، لا يَخرج من يده شيء، ما الفائدة من هذا الغنى؟

أما الله -تبارك وتعالى- فهو غني كريم، يعطي، ويجود.

وهكذا فيما جاء من الاقتران مع الأسماء الأخرى، الحمد: حينما يقال: إن الله غني حميد، فإن الغنى قد يحصل معه ما يكون شيناً في حق صاحبه، هذا الغنى لربما يحمل على الطغيان، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى العلق:6-7، يتغير على أهله، يتغير على أصحابه، يتغير على قرابته، يصيبه البطر.  

ولكن الله -تبارك وتعالى- محمود في غناه، فإذا اجتمع الغنى، والحمد فهذا كمال ثالث، هذا الغنى لا يكون متسبباً عن مذمة، كما هو الشأن بالنسبة للمخلوقين.

ثالثاً: ما يدل عليه هذا الاسم بأنواع الدلالة:

فإن اسم الله (الغني) يدل بالمطابقة على الذات، والصفة معاً، كما يدل على الذات، أو الصفة بدلالة التضمن، ويدل باللزوم على ما لا يتحقق الغنى إلا به من الحياة، والقيومية، والقدرة، والصمدية، والملك، وما إلى ذلك من أوصاف الكمال.

لا يكون الغنى المطلق إلا لمن كان قائماً بنفسه، أما الذي يقوم بغيره وهو جميع المخلوقات -فإن قيامها بإقامة الله لها- فهذا هو عنوان الفقر، وأسُّه، وأصله الذي لا ينفك منه المخلوق، أما الله -تبارك وتعالى- فهو قائم بنفسه، مقيم لغيره، الكل مفتقر إليه.

رابعاً: أثر هذا الاسم الكريم في الخلق:

وهذا أمر لا يحتاج إلى كثرة شرح، فما نراه من هذا العطاء، والنعم المتنوعة التي يعطيها الله، ويمنحها لعبادة على كثرتهم، وتنوع حاجتهم، ومطالبهم، لا شك أن هذا يدل على غناه، من الذي يطعم هؤلاء في أصقاع المعمورة؟

بل من الذي يطعم هذه البهائم والدواب في البر والبحر؟

من الذي يكلؤها؟

من الذي يعطيها، ويوليها؟

هو الله (الغني) -.

لا يستطيع أحد من الخلق أن يقوم بشيء من ذلك، لو وُكل به أهل حي واحد لعجزوا عنه، لكن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يعطي، ويمنح، ويغني.

خامساً: آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:

فأول ذلك هو دعاؤه به وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا الأعراف:180، وهذا الدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة.

أما دعاء المسألة فكما مضى في حديث الاستسقاء: (اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث)([6]).

فتقول: يا غني اغنني.

اللهم إنا فقراء، فأغننا من فضلك.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

فتذكر هذا الاسم عند ذكر الحاجات، والرغبات، وتتوسل إليه بذلك في مطالبك.

أما دعاء العبادة فينتظم أنواعاً:

الأول: إذا عرف العبد أن الله -تبارك وتعالى- هو (الغني) الذي له الغنى الكامل، المطلق من كل وجه، وأن غناه هو الغنى الحقيقي، أما غنى المخلوق فهو كما قلنا: إن فقر المخلوق ذاتي؛ ومن ثَمّ فإن العبد يتواضع لربه، وخالقه --، ويعلم أن هذا الذي في يديه لا ينبغي أن يغره بحال من الأحوال؛ لأن المالك الحقيقي له هو الله، والذي بيده الغنى الحقيقي هو الله، وهذا الذي بيدك ليس بشيء بالنسبة لغنى الله -تبارك وتعالى-، وإذا أردت أن تدرك هذا تذكر المعنى الذي أسلفته في الكلام على هذا الحديث العظيم "لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم...".

فلو أنه وقف هذا الإنسان الذي يغتر بما في يده من العرض الزائل، ثم بعد ذلك تصور أنه يستعرض أمام الناس بهذه الصيغة، أو الطريقة، فماذا عسى أن يبقى بيده عند أول طالب؟

لا شيء.

أما الله -تبارك وتعالى- فبيده خزائن السموات والأرض، فيخضع الإنسان، ويتواضع لربه، ولا يطغى، لا يحمله هذا الغنى على العلو في الأرض، والطغيان الذي يكون مصاحبًا للغنى عادة.

الثاني: هو إفراد الله -تبارك وتعالى- بالعبادة، وهو تعظيم المعبود --؛ لأنه هو (الغني) المطلق، وما سواه فهو فقير، فالملك ملكه، وجميع الخلق مربوبون، مملوكون، فكيف يصرف العبادة إلى شيء، أو إلى أحد منهم؟!.

هذا لا يكون بحال من الأحوال، فتكون عبوديته لربه --، ولا يكون قلبه متعبداً لمخلوق فقير عاجز ضعيف مثله.

وقل مثل ذلك في أنواع العبوديات، فالعبودية قد تكون بسبب التعلق بزيد، أو عمرو؛ من أجل أن يعطيه المال، أو التعلق بزيد، وعمرو؛ من أجل أن يعطيه لوناً من الكفاية، أو أن يتعلق بفلانة، أو فلانة؛ فيكون قلبه متيماً، معبداً لها؛ لأنه يعشقها، ويحبها، فهذا كله من قبيل الفقر.

وما يحصل ذلك التعلق بجميع صوره وأشكاله بالمخلوقين إلا بسبب ما يعتلج في القلوب من الفقر، وبسبب ما فيها من الفراغ من معرفة المعبود - وتقدست أسماؤه.

كيف يُعلَّق هذا القلب، ويُعبَّد لغير (الغني) حقًّا وهو الله -تبارك وتعالى-، فيُعبَّد لمخلوق، فقير، عاجز، لا يصلح له شيء من ذلك؟!.

الثالث: أن ذلك يورث الافتقار الكامل لله، فإذا كان فقر المخلوق هو من قبيل الفقر الذاتي في جميع أحواله فهو لا يستغني عن ربه -تبارك وتعالى- بحال من الأحوال، وأن الله -تبارك وتعالى- مستغنٍ عن الخلق، له الغنى المطلق الكامل، وهنا ينبغي أن يتوجه العبد بفقره إلى ربه -تبارك وتعالى-، ومن هنا يعظُم رجاؤه بربه، ويحصل التوكل عليه، والاعتماد عليه، فهو يثق به؛ لأن ربه -تبارك وتعالى- هو (الغني).

فهو الذي يحقق له مطالبه، فيُستجلب منه النفع، ويُدفع منه الضر، ويكون الانسان متبرئاً من حوله، وطوله، وقوته، وماله، وما إلى ذلك، فتكون ضراعته إلى الله -- في كل الحالات، يطلب منه الهداية، ويطلب منه التوفيق، ويطلب منه المال، ويطلب منه العافية، ويطلب منه كل حاجة يسألها.

المخلوقون لنقص عقولهم، وقلة إدراكهم، وبصرهم بحقائق الأمور لربما يتوجهون بالتعظيم لمخلوق مثلهم، مع أنه لا يمنحهم، ولا يعطيهم، فمثل هذا لربما يتهافتون على مجالسه، ولا ينادونه إلا بأحسن الكنى، والأسماء، وإن كانت له حاجة فلا يحتاج إلى إبدائها، وإنما يتسارعون لتحقيقها، ويقترحون عليه من مصالحه ما لم يكن مصرحاً به من حاجاته، هم يقترحون عليه، ويبتدرونه بهذا، وإذا اعتل، أو مرض فلا تسأل عن عائديه، ويعظمونه، وإذا رأوا من مظاهر الشح، والبخل، والنقائص فإنهم يعدون ذلك من المناقب، أن هذا لتواضعه، أن هذا لزهده، وقد لا يكون كذلك.  

إذا رأوا رثاثة الثياب عدوا ذلك من الكمال، وإذا رأوا التدقيق على كل درهم وربع درهم في البيع والشراء، والمماكسة على أقل الأشياء، وأتفه الأشياء مع أفقر الناس -هذا الذي يبيع عند باب المسجد أو غير ذلك- عدوا هذا من باب الاقتصاد، وحفظ المال، وحفظ النعمة.

يماكس فقيراً، لربما كل هذه البضاعة التي قد وقف سائر النهار في الحر والبرد يعرضها هي لا تساوي خمسمائة ريال، وهذا في غناه يحصل له الملايين بجزء من الساعة، ويماكس هذا الفقير على الريال، ونصف الريال، ويعدون هذا من المناقب، والكمالات، وأنه يحفظ النعمة، لا يضيعها، ويُضرب به المثل، وهو نقص، وعيب، ورزية، ولكن هذا الذي يفعله قصر النظر، وضعف العقول.

فالناس إذا كانوا يعظمون هذا المخلوق لغناه مع أنه لا يعطيهم شيئاً، ويتهافتون على مجالسه، ولا يدعونه إلا بأحسن الأسماء، وهو لا يعطيهم شيئاً، فما الحاجة إلى مثل هذا؟

ما الحاجة إلى تعبيد النفوس لهؤلاء المخلوقين؟

إذا كان هذا مع مخلوق فكيف ينبغي أن يُصنع مع (الغنيّ) الغِنى الحقيقي، الذي ينعم، ويتفضل، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِالنحل:53؟، هذا أولى بالتعظيم، والمحبة، والإجلال، والإكبار من مخلوق لا يوصل إليهم نفعاً، ولربما لا ينفع أقرب الناس إليه!.

 الرابع: أن ذلك يورث غنى النفس، فالفقر نوعان:

النوع الأول: فقر اضطراري: وهذا لا يخرج عنه مخلوق، لا مؤمن، ولا كافر، لا بر، ولا فاجر، فهذا لا يقتضي مدحاً، ولا ثواباً، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقاً، مصنوعاً، مربوباً، كل الخلق فقراء إلى الله -تبارك وتعالى-، هذا الفقر الاضطراري، الفقر الذاتي.

النوع الثاني: فقر الاختيار: هذا الذي يحصل به الكمال، وهذا إنما يتم، ويحصل بمعرفة العبد لربه؛ ولهذا نقول دائماً: إن من أنفع ما يكون للمؤمن مهما كانت حاله، ومرتبته في العلم أو العمل، من أنفع ما يكون معرفة معاني الأسماء الحسنى.

كثير من التعلقات، والمشكلات، والآفات العلاج فيها والحل: أن يعرف الله بأسمائه الحسنى معرفة صحيحة، فإذا عرفه عظمه، وأقبل عليه فلم يلتفت إلى أحد، لا يمكن أن يرائي، لا يمكن أن يتصنع للناس، لا يمكن أن يطلب الجاه، والمحمدة، لا يمكن أن يطلب شهرة، ولا رئاسة، وإنما يريد ما عند الله، هذا فقر الاختيار لأنه عرف الله بأسمائه، وصفاته، إذن ما شأن الخلق يتكثر بهم؟!.

يكثِّر عدد المعجبين، يكثر عدد المتابعين، يكثر عدد المصفقين، ما قيمة هذا؟!

وما الحاجة إليه؟  

إذا عرف العبد ربه بأسمائه، وصفاته لم يلتفت إلى شيء بعد ذلك، فهذا الذي يوجب له فقر الاختيار، يعرف ربه -تبارك وتعالى- بالغنى المطلق، ويعرف نفسه، ويعرف الخلق بالفقر المطلق، والعجز التام.

 

إذا عرف العبد ربه بأسمائه، وصفاته لم يلتفت إلى شيء بعد ذلك، فهذا الذي يوجب له فقر الاختيار، يعرف ربه -تبارك وتعالى- بالغنى المطلق، ويعرف نفسه، ويعرف الخلق بالفقر المطلق، والعجز التام.

 

فإذا عرف أن ربه عزيز عرف أن المسكنة من نصيب العبد وحظه.

إذا عرف أن ربه غني عرف أن الفقر من نصيب المخلوق ووصفه الذي لا ينفك عنه.

من عرف ربه بالعلم التام الكامل عرف الخلق بالجهل.

وأول ما يعرف نفسه، فمعرفة العبد لربه، معرفة العبد لنفسه، معرفة العبد للخلق تجعل العبد في حال من الإقبال على الله، لا يلتفت معها إلى شيء، رضِيَ الناس، سخطوا، وإنما يكون أمره لله، ويكون عطاؤه لله، ومنعه لله، وبذله لله، وإحسانه لله، شعاره: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًاالإنسان:9.  

فهو لا يفتقر إلى المخلوقين.

الافتقار لا يعني بالضرورة أن الإنسان ينتظر منهم المال، لا، الافتقار أنه قد ينتظر منهم الشكر، قد ينتظر منهم التعظيم، قد ينتظر منهم العرفان، قد ينتظر منهم التقديم، قد ينتظر منهم رئاسة، أو ولاية، أو نحو ذلك، كل هذا فقر، فيعبِّد نفسه السنين الطويلة؛ من أجل أن يستحصل على هذا المطلوب؛ فيكون عبداً مُجدَّعًا دهرًا؛ لعله يحصِّل شهرة، أو ولاية، أو يحصل محمدة، فيكون بعمله متصنعاً لغير الله -تبارك وتعالى-، فيبوء بالخسارة.

نحتاج إلى معرفة المعبود بأسمائه، وصفاته، ونحتاج إلى معرفة ضعفنا، وعجزنا، ونقصنا، وفقرنا.

فأكمل الخلق هو أكملهم عبودية لله -تبارك وتعالى-، وأعظمهم شهوداً لفقره، وحاجته إلى ربه -تبارك وتعالى-، وأنه لا يستغني عنه طرفة عين.

ولهذا يقول النبي ﷺ: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)([7]).

تأمل قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ فاطر:15، فذكر هذا الاسم الكريم المتضمن لصفة الإلهية، ولم يذكر الرب، وذلك -كما سبق- أن الفقر على نوعين:

فالفقر إلى ربوبيته -تبارك وتعالى- هذا لا ينفك منه مخلوق، فالخلق جميعاً فقراء إلى ربوبيته --، ولكن الفقر الآخر، فقر الاختيار، فقر الأنبياء، والأتقياء هو الفقر إلى إلهيته بالتعبد إليه عبودية الاختيار، والتوجه إليه بالسؤال، والدعاء، والرغبة، والرهبة، والإنابة، فهذا الذي ترتفع به مرتبة العبد، ويسمو في الدنيا، وفي الآخرة، تكون له العزة، والرفعة في الدنيا، وتكون له -أيضاً- الرفعة في الدرجات في الآخرة، فهذا كله في هذه الجملة الموجزة: أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ فاطر:15.

فالإلهية متضمنة للربوبية، فينتظم ذلك الفقر إلى ربوبيته وهو فقر جميع الخلائق، وفقر الخاصة من أوليائه وهو الفقر إلى ألوهيته، والألوهية هي العبودية، العبادة، المألوه هو المعبود، فيتوجهون إليه باختيارهم، يسألونه الحاجات سؤال طلب، سؤالاً بلسان المقال، وسؤالاً بالعمل، والتقرب، والعبادة بصلاتهم، وذكرهم، وقراءتهم، وأعمالهم الصالحة.

كل ذلك وغيره يمكن أن يذكر فيما يؤثره هذا الاسم الكريم: من عزة النفس، والاستغناء عن الخلق، ومحبة الرب -تبارك وتعالى-، مع التقديس، والتعظيم، والإجلال، والإكبار له -تبارك وتعالى.

فالناس يعظمون عادة من له غنى، أو نحو ذلك، ولربما حضر الغني في مجلس فتوجهت الأنظار إليه، وأسرها، فهو يجذبها من غير شعور منها، فينظرون إليه، وينصتون إلى كلامه، ويذعنون إليه غاية الإذعان، فإذا تبسم تبسموا، وإذا تكلم أنصتوا، وإذا قال استمعوا، وإذا أمر بادروا.

هذا غنيٌّ من المخلوقين، فالله -تبارك وتعالى- أحق بأن تنجذب القلوب إليه، وأن يُمتثل أمره، ويطاع فلا يعصى، وأن يُشكر فلا يكفر.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم الغنى عن كل ما سواه، وأن يغني المسلمين بفضله، ومنه، وكرمه، إنه سميع مجيب.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

في الختام أقول: احرصوا على مجالس العلم -هذه الدورات التي تقام-، فهذه فرصة، وهذه نعمة لاسيما في مثل هذه الأوقات التي تكثر فيها الفتن، والشرور، والشياطين، تتخطف الناس.

فمجالس العلم حياة للقلب، وزكاء، وتجديد للإيمان، وعمارة له في النفوس، وحياة.

أسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته. 



([1]) انظر: نونية ابن القيم (ص:205).

([2]) تفسير أسماء الله الحسنى (ص:220).

([3]) أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).

([4]) أخرجه أبو داود في السنن، تفريع أبواب الجمعة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم (1173)، وابن حبان في صحيحه، برقم (991)، والبيهقي في الدعوات الكبير، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم (549)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2310).

([5]) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2985).

([6]) أخرجه أبو داود، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم (1173)، وابن حبان في صحيحه، برقم (991)، والطبراني في الدعاء، برقم، (2172)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2310).

([7]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (10330)، والطبراني في المعجم الصغير، برقم (444)، والحاكم في المستدرك، برقم (2000)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5820).

مواد ذات صلة