الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
المجلس الأول
تاريخ النشر: ١٧ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 11253
مرات الإستماع: 5894

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحياكم الله في هذه المجالس الستة، التي أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل ذلك في ميزان أعمالنا الصالحة، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن يرزقنا النية، وأن يعيننا وإياكم جميعا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

حديثنا في هذه المجالس -كما هو معلوم- عن: قواعد التفسير، ولن نستطيع بطبيعة الحال في مجالس قليلة: أن نأتي على قواعد التفسير، وإنما أذكر بعض ذلك؛ ليدل على المراد، فيتعرف طالب العلم على قواعد التفسير، ويتصور هذا الفن، ويمكنه بعد ذلك أن يتتبع هذه القواعد، وأن يُعنى بها، وأن يدرسها، بالإضافة إلى أن الإلمام ولو ببعض هذه القواعد يفيد في تبصير طالب العلم بأمور يحتاج إليها في علم التفسير، وأيضًا: لربما يتذوق المعاني والتفسير إذا عرف جملة من القواعد، بخلاف دراسة الأقوال التي تذكر في التفسير دراسة مجردة، من غير أن يكون للإنسان بصر وآلة يميز بها، فإن ذلك قد لا يفيده كثيرًا، ولا يخفى أن القواعد تجمع لطالب العلم شتات المسائل، فتجمع له المتفرق في عبارات وجيزة مختصرة، وهذا يختصر كثير من الجهد والوقت، ويعين طالب العلم على الضبط، كما أنه أيضًا يعينه على الانضباط، بحيث ينضبط سيره وكلامه في العلم، وتكون أحكامه متسقة، غير متناقضة، وإنما يسير سيرًا فيه نوع انضباط واتساق وانتظام، والله -تعالى- أعلم.

فالقواعد: جمع قاعدة، وهي في اللغة: الأصل والأساس الذي يبنى عليه غيره، وسواء في ذلك الأمور المحسوسة أو الأمور المعنوية، ففي المحسوسات: قواعد البناء، وهي: التي يقوم عليها البناء، وفي الأمور المعنوية: قواعد العلم، فقاعدة الباب هي: التي تتفرع عليها المسائل والجزئيات التي انتظمتها هذه القاعدة، فالقاعدة هي: الأصل والأساس، هذا في اللغة.

وأما في الاصطلاح، فيمكن أن يقال: هي: حكم كلي يتعرف به على أحكام جزئياته، فالمقصود بالحكم الكلي، أي: خلاف الجزئي، فحينما نقول مثلًا في الفقه: الطهارة واجبة، هذا حكم جزئي، وحينما نقول: بأن قراءة الفاتحة ركن، فهذا حكم جزئي، ولكن حينما نقول مثلًا: الأصل في الأشياء الطهارة، هذا يعتبر حكم كلي، يدخل فيه ما يتعلق بالمياه والثياب والمطعومات والذوات، وما إلى ذلك، فهذا حكم كلي، فكل ما يمر بك شيء تشك في طهارته، فالأصل: الطهارة، وهكذا حينما نقول في القاعدة الأصولية: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، فهذا حكم كلي، لكن حينما نقول: الصلاة واجبة، فهذا حكم جزئي، فحينما يقول الله وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43]، فهذا أمر في قضية جزئية، ولكن كيف تعرف أن الصلاة واجبة؟ أن الله أمر بها، فعندك الحكم الكلي: أن الأمر للوجوب، فحينما يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43]، والأمر للوجوب, فالصلاة إذن: واجبة، وقوله:  وَآتُوا الزَّكَاةَ  [البقرة:43]، الزكاة واجبة؛ لأن الله أمر بها، وهكذا.

وأما التفسير، فهو في اللغة: من الفسر، وهو: الكشف والبيان والإظهار، وسواء كان ذلك أيضًا في الأمور الحسية أو في الأمور المعنوية، ففي الأمور الحسية حينما تقول: فسر عن ساقه، أو عن ذراعه، يعني: كشفه، وفي الأمور المعنوية حينما تقول: فسر المعنى، بمعنى: كشف عما فيه من الإبهام والغموض، فأظهره وجلاه.

وأما التفسير في الاصطلاح: فيمكن أن نقول: بأنه علم يبحث عن أحوال القرآن الكريم، من حيث دلالته على مراد الله -تعالى، بقدر الطاقة البشرية.

فقولنا: علم يبحث عن أحوال القرآن الكريم، إذن: هذا يخرج العلوم الأخرى التي تبحث عن الحساب، أو الفقه، أو التاريخ، أو النحو.

وقولنا: من حيث دلالته على مراد الله -تعالى، فيخرج مثلًا: التجويد؛ لأنه يتعلق بالقرآن، لكن من جهة الأداء، أداء الألفاظ القرآنية، كيف تؤدى؟! وكذلك أيضًا: يخرج العلوم المتعلقة بالقرآن، والأبحاث المتصلة به، التي لا تتعلق به من هذه الحيثية، وهي: دلالته على مراد الله -تعالى، مثل: الكلام على القرآن: أنه كلام الله -تعالى، وكلامه صفة من صفاته، وأنه منزل بحروفه، وألفاظه، ومعانيه، فهذا يتعلق بالقرآن، لكن لا من جهة: دلالته على مراد الله ، وهكذا ما يتصل بالقرآن من ناحية الأحكام، مثل: أنه لا يمس القرآن إلا طاهر، وهل يجوز للحائض والجنب والنفساء: أن يقرؤوا القرآن، أو لا يجوز؟ فهذا ليس من التفسير.

وقولنا: بقدر الطاقة البشرية، باعتبار: أنه لا أحد يستطيع أن يحيط بجميع معاني القرآن، وإنما يحيط بجميع معانيه من نزله -تبارك وتعالى- ولهذا لا زال العلماء يستنبطون منه المعاني، ويغترفون من معينه، فيظهر لبعضهم ما لم يظهر لغيرهم.

فبهذا الاعتبار: إذا عرفنا القواعد، وعرفنا التفسير، فيمكن أن نقول: بأن قواعد التفسير هي: أحكام كلية يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن الكريم، ومعرفة كيفية الاستفادة منها.

فقولنا: أحكام كلية، يخرج الأحكام الجزئية، كما سبق، وحينما نقول: كلية، فليس المقصود: بدقة ما تدل عليه هذه اللفظة عند أهل المنطق، فإن هؤلاء يطلقونها ويريدون بالكلي: ما يحيط بجميع الجزئيات، برمتها، من أولها إلى آخرها، وهذا غير مقصود إطلاقًا حينما يذكر العلماء -رحمهم الله- القواعد بالنسبة للفقه، والقواعد الأصولية، وقواعد التفسير، وما شابهها، إنما يقصدون بذلك: أنها أغلبية، كما يقول الشاطبي[1]-رحمه الله، ولا يقال لشيء من القواعد: بأنه كلي، بمعنى هذه الكلمة تمامًا: أن يحيط بجميع الجزئيات، إلا اللهم قواعد الحساب، ولربما بعض قواعد اللغة العربية، وإلا إذا نظرت في عامة قواعد الفقه، حتى القواعد المشهورة جدًا، وقواعد الأصول، حتى القواعد المشهورة جدًا، تجد لها مستثنيات، بمعنى: أنه يكفي أن تدل هذه القاعدة على عدد كثير من الجزئيات، بمعنى: أن ما يخرج منها ينبغي ألا يكون أكثر مما يدخل فيها، وبعبارة أخرى: لو أن هذه القاعدة صارت تدل على: (60%) أو (70%) من الجزئيات يكفي لأن توسم بأنها: كلية؛ ولذلك هذا ينحل به إشكالات، فتجد كثيرًا من القواعد، تجد أمثلة تخرج عنها، لا تنطبق عليها، وخذ مثالًا على ذلك: قاعدة الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهذه من القواعد الأصولية، ستجد أشياء جاء الأمر فيه بالكتاب، أو في السنة، وخاصة في السنة، تجد أن الجمهور من أهل العلم، بل عامة أهل العلم ولربما لم يخالف إلا الظاهرية في بعض الأمثلة، بل إن بعضهم ينقل الإجماع، ويقول: إن الأمر هنا للاستحباب، أو يقول: بأن النهي للكراهة، والأمثلة كثيرة جدًا.

فإذا أدركت هذا المعنى ينحل عنك هذا الإشكال، وهو: أن القواعد أغلبية، وليس ذلك يعود إلى القاعدة بالإبطال، يعني: حينما تخرج بعض الأمثلة، ولا تنطبق عليها، فالعبرة بالغالب؛ ولذلك يمكن أن نعرف من هذا: أن ما يذكره بعض أهل العلم من محاولات للخروج من هذا الإشكال، كقول بعضهم مثلًا في الأمر: بأنه يفيد الوجوب في الأحكام، أو في العبادات، وأما في الأخلاق، فهو: للاستحباب، أو يقول: هو في المعاملات ليس للوجوب مثلًا، فهذا لا دليل عليه، ويوجد في العبادات أشياء كثير من الفقهاء لا يقولون: بأنها للوجوب، لكن يكفي أن نعرف هذا القدر، والله -تعالى- أعلم، فنقول: بأن القواعد أغلبية، وما يخرج عنها من الأمثلة فإنه يكون بهذا الاعتبار، والعلم عند الله -تبارك وتعالى.

هذه القواعد الكلية يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن، بمعنى: أنها تُمكِّن من عرفها وفهمها أن يستنبط معاني القرآن الكريم، كما سيأتي، وينحل عنه إشكالات في التفسير كثيرة جدًا، وما سنذكره في هذه المجالس ما هو إلا نماذج قليلة، وحتى الذي في أصل هذا المختصر الذي بين أيديكم، وهو الأصل: كتاب القواعد، إنما ذكرت فيه نصف القواعد التي جمعتها، وإلا فهي: أكثر من هذا.

وحينما يقال: ومعرفة كيفية الاستفادة منها، هذا كما يقول الأصوليون في تعريف أصول الفقه: بأنه معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، الواقع: أن أصول الفقه هو: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وأما ما يتعلق بمعرفة كيفية الاستفادة منها، فهذا يُحتاج إليه ثانيًا، وذلك في حال التعارض، وأما حال المستفيد فهو خارج عنه، أي: ما يتعلق بآداب الفتيا، وشروط المفتي، وآداب المستفتي، وما شابه ذلك، فهذا ليس من صلب أصول الفقه، وإنما من مكملاته.

ونحن هنا حينما نقول: كيفية الاستفادة من هذه القواعد، هذا يدخل فيه قواعد الترجيح، هذه التي بنيت بناء خاصًا، حيث تدل على الترجيح عند التردد بين أمرين، مثل حينما نقول: إذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز عند القائل به، فالأصل الحقيقة، وإذا دار الكلام بين الاستقلال والإضمار، فالأصل الاستقلال، وإذا دار الكلام بين الترتيب أو التقديم والتأخير، فالأصل في الكلام الترتيب، وإذا دار الكلام بين التأسيس والتوكيد، فالأصل التأسيس، هذه حقيقة ما يسمى بقواعد الترجيح، التي بنيت بناء خاصًا، لكن قد يحصل شيء من اللبس في هذا المفهوم، ولربما تبنى مؤلفات برمتها على هذا اللبس، فيذكر ما يظن أنه يرجح مطلقًا، وعلى هذا سنرجح بجميع قواعد التفسير، فكيف نرجح؟

نرجح بذكر القاعدة أحيانا، وأحيانًا بقرينة من الآية، وأحيانًا بدليل خارج من السنة مثلًا، إلى غير ذلك من طرق الترجيح الكثيرة، فليس كل ما يرجح به يعتبر من قواعد الترجيح، إنما قواعد الترجيح هي: باب من باب القواعد في التفسير، وهي: التي بنيت بناءٍ خاصًا على هذا الأساس، كما ذكرنا في بعض الأمثلة، فهذه قواعد الترجيح.

بعد ذلك أشير إلى الفرق بين القواعد والضوابط، فبعض أهل العلم لا يفرق بين القواعد والضوابط، وما تجده في هذه الرسالة مبني على هذا الباب، مبني على هذا الأصل: عدم التفريق، ومن فرق فكثير من أهل العلم يذكرون ثلاث فروقات:

الفرق الأول: أن القاعدة أوسع من الضابط، فالقاعدة تتعلق بأبواب شتى، والضابط يتعلق بباب واحد، فلو مثلنا بقواعد الفقه مثلًا: قاعدة الأمور بمقاصدها، كما قال الشافعي -رحمه الله: "تدخل في سبعين بابًا من أبواب الفقه"[2]، فهي: في النكاح، وفي الطلاق، وفي المعاملات، وفي العبادات، لكن حينما نقول: الأصل بقاء الطهارة مثلًا، فهذا ضابط، وحينما نقول: الأصل في الذبائح المنع والتحريم، فهذا ضابط بهذا الاعتبار، باعتبار: أنه يتعلق بباب الذبائح والصيد فقط، والأصل في الأبضاع التحريم، هذا يتعلق بباب النكاح، لكن حينما نقول مثلًا: المشقة تجلب التيسير، فهذا ما يتعلق بباب واحد، هذا يأتي على أبواب كثيرة جدًا من أبواب العلم، فهذا فرق.

والفرق الثاني: أن الاختلاف في القاعدة، يعني: في ثبوتها، في قبولها وعدمه، أقل من الاختلاف في الضابط، والسبب ظاهر، فالضابط يتعلق بباب، فالضابط محدود، فتجد الخلاف: هل يقبل الضابط؟ وهل هو صحيح أو لا؟ فالخلاف فيه أكثر من الاختلاف في القاعدة، ففي الفقه مثلا القواعد الخمس الكبرى، هذه القواعد الخمس مقبولة عند أهل العلم، شائعة ذائعة بينهم، لكن تجد بعض القواعد يوجد فيها خلاف، لكن ليس كالخلاف في الضوابط، لكن قد يختلفون في بعض فروع القاعدة، وجزئياتها.

والفرق الثالث: إنما يشذ عن القاعدة أكثر مما يشذ عن الضابط، فالضابط لأنه محدود، فالأشياء التي تشذ عنه قليلة، أما القاعدة، فلاتساعها، فإنما يخرج عنها أكثر مما يخرج عن الضابط.

بعد ذلك أشير إلى الفرق بين قواعد التفسير، وبين التفسير، فالتفسير هو: شرح وبيان معاني كلام الله -تبارك وتعالى، أما القواعد، فهي: تلك الضوابط أو القضايا الكلية التي يتوصل بها إلى التفسير، يعني: حينما نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه قاعدة، وعلى التفريق بين القاعدة والضابط تعتبر هذه من الضوابط، العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، فهذه حينما نفهمها، فإننا نستطيع أن نتعامل بها مع التفسير، والأقوال المروية في التفسير، هل نقف على صورة السبب عند تفسير الآية، أو نقول: العبرة بعموم اللفظ والمعنى، وإن كانت وردت على سبب خاص؟

فالقواعد إذن: مثل الآلة التي يتعامل بها المفسر من أجل أن يتوصل إلى المعاني، ويكشف عنها، وذلك هو: التفسير، إذن: هي: معينة للمفسر.

وأما الفرق بين قواعد التفسير وبين علوم القرآن، فيمكن أن يقال: إن قواعد التفسير هي: باب من أبواب علوم القرآن.

وأما الفرق بين قواعد التفسير وبين أصول الفقه وبين اللغة مثلًا، فنقول: قواعد التفسير هي: مأخوذة من الأصول، ومن اللغة، إلى غير ذلك، لكن القواعد الأصولية منها: ما يتعلق بالقرآن؛ ولذلك تجدون أحيانًا في كتب أصول الفقه: باب، أو أحيانًا: كتاب القرآن ومباحث الألفاظ، فيتكلمون عن: المشترك والمترادف، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، إلى غير هذا، فيذكرونها عند الكلام على: القرآن ومباحث الألفاظ، فما يذكر هنا من القواعد يصلح أن يكون في قواعد التفسير، لكن هناك أشياء تذكر في الكلام على السنة النبوية، وهي: الأصل الثاني الذي يذكره الأصوليون، يقولون:

الأصل الأول: القرآن.

والأصل الثاني: السنة.

والأصل الثالث: الإجماع.

والأصل الرابع: القياس.

والمقصود بهذا: ذكر ما يذكره الأصوليون مرتبا على طريقتهم، فالقواعد التي يذكرونها في الكلام على السنة، أو الكلام على الإجماع، أو الكلام على القياس، عامة ما يذكر من ذلك لا يتعلق بقواعد التفسير، وإنما يوجد قليل منه، بعض ما يتعلق بالإجماع، وقليل مما يتعلق بالسنة، من حيث أنها تفسر القرآن، وبعض ما يتعلق بقول الصحابي، وما شابه ذلك.

وحينما نقول: قواعد اللغة العربية أيضًا، قواعد اللغة العربية فيها: قواعد في النحو، وفيها: قواعد في غير النحو، فالنحو مثلًا: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، فمثلًا هذا لا تعلق له بقواعد التفسير، لكن يوجد من قواعد اللغة ما يتعلق بقواعد التفسير، مثل: إذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز، فالأصل الحقيقة، والتأسيس مقدم على التوكيد، هذا من اللغة، ويوجد في كلام أهل اللغة، وإذا دار الكلام بين الترتيب أو التقديم والتأخير، فالأصل فيه الترتيب، والتوكيد ينفي احتمال المجاز، هذه قاعدة في اللغة، فيوجد من قواعد اللغة ما يتعلق بقواعد التفسير، فلعل هذه المقدمة تكفي، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

قال الشيخ: خالد بن عثمان السبت، زاده الله تأييدًا وتسديدا، وهداية وتوفيقًا، في كتابه الذي أسماه: مختصر في قواعد التفسير:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا مختصر حوى جملة من القواعد المهمة، التي أودعتها كتاب: قواعد التفسير، ويدخل تحت كثير منها قواعد متنوعة، تركت ذكرها طلبًا للاختصار، أسأل الله أن ينفع به من كتبه وقرأه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى أله، وصحبه وسلم.

أقول: شاء الله أن نقرأ هذا المختصر في هذا العام: 1429هـ، ولم يكن المقصود به: التأليف، وإنما كتبته ليقدم في دورة سنة: 1415هـ، فما شاء الله أن تتم، ولم أقدمه بعد ذلك هنا في هذا البلد إلا في هذا العام، وقد طبع بعد هذا مع الأصل، وإلا ما كان في النية أنه يطبع، ولم يعمل من أجل هذا، وإذا شاء الله شيئًا كان.

قال: المقاصد.

المقصد الأول: نزول القرآن، وما يتعلق به.

قاعدة: إذا تعددت المرويات في سبب النزول نُظِرَ إلى الثبوت، فاقتصر على الصحيح، ثم العبارة، فاقتصر على الصريح، فإن تقارب الزمان حمل على الجميع، وإن تباعد حكم بتكرار النزول، أو الترجيح.

هذه القاعدة من أنفع القواعد لطالب العلم، وذلك أنك تجد في كتب التفسير بالمأثور، تجد المرويات الكثيرة المتعددة التي تذكر سبب النزول، وهذه المرويات منها: ما هو صحيح ثابت، ومنها: ما هو ضعيف، ومن هذه المرويات: ما هو صريح، ومنها: ما هو غير صريح، وفي غالب دروس التفسير تجد سردًا للمرويات أحيانًا في سبب النزول من غير تمييز، يقال: ورد في سبب نزولها أقوال، القول الأول كذا، والقول الثاني كذا، والثالث، والرابع، إلى آخره، وهذا لا يحصل به المقصود، ولكن يحتاج طالب العلم إلى بصر وطريقة يتعامل بها مع هذه المرويات، ويخرج في النتيجة بسبب النزول ما هو من بين هذه المرويات، وهذه القاعدة ترشدك إلى ذلك.

فحينما نقول: إذا تعددت المرويات في سبب النزول نظر إلى الثبوت، فاقتصر على الصحيح، ثم العبارة، فاقتصر على الصريح، هذا يحتاج إلى بيان المراد بالصريح وغير الصريح.

أسباب النزول على نوعين من هذه الحيثية:

هناك ما هو صريح، والمراد بالصريح: ما كان مصرحًا بسبب النزول، كأن يقال: سبب نزول هذه الآية كذا، أو يذكر سؤال أو واقعة أو حادثة، ثم يقال: فنزلت الآية، أو فأنزل الله كذا، أو ثم نزلت الآية، فهذا يقال له صريح.

وأما غير الصريح، فكأن يقال: نزلت هذه الآية في الرجل يعمل كذا وكذا، فإذا قيل: نزلت هذه الآية في كذا، فهذا غالبًا يراد به: أنه مما يدخل في معناها، فيكون ذلك من جملة التفسير؛ ولهذا تجدون خلاف أهل العلم في الكلام على سبب النزول، هل له حكم المسند أو لا؟ وحكم المسند يقصدون به: هل له حكم الرفع، أو ليس له حكم الرفع؟ فالنوع الأول: الصريح، يدخلونه في المسند، لكن يبقى النظر في النوع الثاني هذا، وحينما يقال: نزلت هذه الآية في كذا، فهذا هل يدخل، أو لا يدخل؟ فيه خلاف؛ لأنه يحتمل أن يراد به سبب النزول، ويحتمل أن يراد به التفسير فقط.

وهذه القاعدة كغيرها من القواعد نقول: أغلبية، باعتبار هذه الجزئية، أن ما يقال فيه: نزلت هذه الآية في كذا من قبيل التفسير، وليس دائمًا؛ ولذلك عند التتبع والاستقراء للروايات تجد أحيانًا الرواية التي تكون غير المصرحة، لو تتبعت رواية أخرى أحيانًا تجد بعض الروايات مصرحة، وأحيانًا تجد رأس الرواية غير مصرح، فيقول: نزلت هذه الآية في كذا، ثم إذا تتابع سرد الرواية تجد في آخرها: فأنزل الله، فيصرح؛ ولهذا يقال: إن هذا هو الغالب، بأن ما قيل فيه: نزلت هذه الآية في كذا، أنه المقصود به: أنه من قبيل التفسير، أي: مما يدخل تحت الآية، مما يشمله العموم فيها مثلًا، ولا يراد به سبب النزول غالبًا، إلا إذا وجد دليل يدل على خلاف هذا.

فإذا عرفنا هذه القضية، فالقاعدة تقول: إذا تعددت المرويات في سبب النزول نُظِر إلى الثبوت، فهذا أول ما يكون النظر، الخطوة الأولى، فنستبعد الروايات الضعيفة، ونبقي الروايات الصحيحة.

الخطوة الثانية هي: أن ننظر إلى العبارة، فنقتصر على الصريح، وقد عرفنا الصريح.

ثم بعد ذلك الخطوة الثالثة: أن ننظر هل الزمان متقارب، إذا كان لا يزال عندنا عدد من الروايات الصحيحة الصريحة؟ فهل الزمان متقارب؟ أحيانًا نعرف هذا بالتاريخ، وأحيانًا نعرف أن الزمان متقارب بأمرٍ آخر خارج عن التاريخ، كما سيأتي إن شاء الله، فإذا كان متقاربًا، قلنا: الآية نزلت مرة واحدة بعد الحادثتين، فكلاهما سبب النزول، كما سيتضح بالأمثلة إن شاء الله، وإذا كان الزمان متباعدا، فيحكم بتعدد النزول، ولا إشكال في هذا؛ لأن الآية قد تنزل مرتين، كما قال الحافظ ابن حجر[3]-رحمه الله، تذكيرًا بالحكم، ولا أدل على هذا المعنى من: أن الأحرف الستة نزلت في المدينة في سور مكية ومدنية، والقرآن نزل على سبعة أحرف، فالقرآن كان ينزل على حرف واحد في مكة، فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، وكثر الداخلون في الإسلام، صار القرآن ينزل على سبعة أحرف، وتجد في السور المكية تجد فيها هذا التنوع في الأحرف، مما يدل على: أنها نزلت مرة أخرى بحروف أخرى، وسيأتي أمثلة يقال فيها: بتعدد النزول.

ومن أهل العلم من يعمد في هذه الحالة إلى الترجيح، فيقول: لا نحكم بتعدد النزول، إنما نقول: بالترجيح، ولكن الترجيح كما هو معلوم فيه إهدار لأحد الأدلة، وأما القول بأن النزول متعدد، فهذا نوع جمع بينها، والجمع مطلوب ما أمكن، فآخر ما يُلجأ إليه هو: الترجيح؛ ولهذا قيل في آخر القاعدة: وإن تباعد حكم بتكرار النزول، أو الترجيح، يعني: بناء على القولين.

الآن سنعطيكم تطبيقا على هذه القاعدة: إذا تعددت المرويات في سبب النزول، سنعطيكم مثالًا على ما صحت فيه بعض الروايات دون بعض؛ لأن الروايات منها: ما هو صحيح، ومنها: ما هو ضعيف، والكل صريح، فسنعطيكم مثالا وردت فيه خمس مرويات في سبب النزول، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، لكن الكل صريح، كما سترون: ففي قوله تعالى: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3]، سبب النزول الأول: ما أخرجه الشيخان: عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله ﷺ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة، فقالت: ما أرى شيطانك إلا وقد تركك، الحديث المعروف، فأنزل الله: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2][4]، الآن الحديث في الصحيحين، فهو: ثابت صحيح، وهل هو صريح أو غير صريح؟ هو: صريح، إذن: هذه سنبقيها في سبب نزول سورة الضحى، وبقي عندنا أربع روايات:

الرواية الثانية: عند الطبراني بإسناد ضعيف، في قصة الجرو، وهو: الكلب الصغير، لما أبطأ الوحي على النبي ﷺ فقال للجارية: يا خولة! جبريل لا يأتيني، فهي قالت في نفسها: لو كنستي الدار، فأهوت بالمكنسة تحت السرير، فإذا بجرو ميت، فأخرجته، فجاء جبريل إلى النبي ﷺ وأنزل عليه: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2][5]، هذه الرواية صريحة، ولكن هل هي صحيحة؟ لا، فإذن: هذه سنستبعدها.

الرواية الثالثة: أيضًا عند الطبري بإسناد ضعيف: من حديث ابن عباس -ا: لما نزل على رسول الله ﷺ القرآن، أبطأ عنه جبريل أيامًا، فتغير بذلك، فقالوا: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2][6]، إذن: هذا هو السبب: أن المشركين قالوا ذلك، وهذه الرواية صريحة، ولكنها ضعيفة، فسنستبعدها.

الرواية الرابعة: من طريق إسماعيل مولى آل الزبير، قال: فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي ﷺ، فأحزنه، فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني...، إلى أن قال: فجاء جبريل بسورة: وَالضُّحَى [الضحى:1][7]، فقوله: فجاء جبريل بسورة: وَالضُّحَى [الضحى:1]، هذا سبب نزول صريح، لكن الرواية ضعيفة.

الرواية الخامسة: ما ذكره سليمان التيمي في السيرة التي دونها، وفيه: وفتر الوحي، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه، فأنزل الله: وَالضُّحَى [الضحى:1]، وأَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1][8]، فهذه الرواية صريحة، ولكنها ضعيفة.

فهذه خمس روايات، فبدلا من أن نسردها في درس التفسير، ماذا نقول؟ نعطيهم النتيجة، ما هو سبب النزول؟ هو: واحد، المخرج في الصحيحين، والباقي يستبعد؛ لأنه لم يصح.

ونعطيكم مثالا آخر: على ما صحت فيه بعض الروايات دون بعض، والصحيح منه: الصريح، ومنه: غير الصريح، ففي المثال الأول الصحيح وغير الصحيح كله صريح، أما هنا، فلا، فمنه: ما هو صحيح، ومنه: ما هو ضعيف، والصحيح منه: ما هو صريح، ومنه: ما هو غير صريح.

نعطيكم مثالا فيه خمس روايات أيضًا، نستخرج منها سبب النزول في قوله -تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].

الرواية الأولى: عند ابن جرير بإسناد صحيح: من حديث ابن عباس -ا- قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وفيه: فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، فأنزل الله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142]، وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][9]، فالآن هذه الرواية صحيحة، وصريحة، فيكون سبب نزول الآية هو: الرد على اليهود لما اعترضوا على تحويل القبلة.

الرواية الثانية: عند الترمذي وابن ماجه بسند صحيح: عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر في ليلة مظلمة، وذكر الحديث: أنه خفيت عليهم القبلة، فاجتهدوا، فصلى كل رجل على حياله، ثم بعد ذلك وضعوا خطوطًا، فلما أصبحوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، يعني: أنهم عرفوا أن بعضهم قد صلى إلى غير القبلة، فنزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][10].

وبعض الناس لما يسمع هذه الآية يظن: أن الإنسان مخير، فيستقبل أي جهة يصلي، وهذا غير صحيح؛ ولهذا يقولون: بأن سبب النزول يعين على فهم المعنى، ويرتفع به الإشكال، فالشاهد: أن هذه الرواية في خفاء القبلة: صحيحة، وصريحة، فهذه ماذا نصنع بها؟ نبقيها.

الرواية الثالثة: عند الترمذي: من حديث ابن عمر -ا- قال: كان النبي ﷺ يصلي على راحلته تطوعًا حيث ما توجهت به، وهو: جاءٍ من مكة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][11].

الذين يكتبون في أسباب النزول كثير منهم يذكر هذه الرواية، ويظن بعض الناس: أن هذا من قبيل أسباب النزول، هل هذه الرواية صريحة أو غير صريحة؟ الجواب: غير صريحة، لكنها صحيحة، فابن عمر قصد التفسير: أن مما يدخل في عموم قوله:  فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ  [البقرة:115]، صلاة النافلة على الراحلة في السفر، إذن: هذه الرواية ماذا نصنع بها مع أنها صحيحة؟ نستبعدها، فإلى الآن عندنا روايتان، والثالثة استبعدناها.

الرواية الرابعة: ما أخرجه ابن جرير: عن قتادة: أن النبي ﷺ...، فهذا ماذا يسمى؟ المرسل، والمرسل من أنواع الضعيف، فقتادة من التابعين ما أدرك النبي ﷺ، فقال: عن قتادة: أن النبي ﷺ قال: إن أخاكم النجاشي قد مات، يعني: أمرهم النبي ﷺ أن يصلوا عليه، فسألوا: كيف نصلي عليه ولم يستقبل القبلة؟ فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][12]، فهذه الرواية هل هي: صحيحة أو ضعيفة؟ ضعيفة، لكنها صريحة، فماذا نصنع بها؟ نستبعدها.

الرواية الخامسة: ما أخرجه ابن جرير: عن مجاهد قال: لما نزلت: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، قالوا: إلى أين؟ فنزلت:  فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115][13]، فهذه الرواية صريحة أو غير صريحة؟

الجواب: صريحة، ولكنها ضعيفة، فمجاهد من التابعين، فهذا مرسل.

فهذه خمس روايات، فإذا أردنا أن نستخرج سبب النزول الآن فماذا نقول؟ أين سبب النزول؟ هو: في الروايتين السابقتين فقط:

الأول: أن ذلك كان جوابًا على اليهود حينما اعترضوا على تحويل القبلة.

والأمر الثاني: أنه لما خفيت القبلة في السفر.

فنقول: هذا سبب النزول، لكن هل نزلت الآية بعد الواقعتين، نزلت مرة واحدة، أو نزلت مرتين؟ هذا مثال لا يوجد عندنا فيه ما يدل على أن الزمان متباعد أو متقارب، ونحن قلنا: فإن تقارب الزمان حُكِم بأن الآية نزلت بعد الواقعتين، وإن تباعد حكم بتكرار النزول، فهنا ما عندنا دليل، لا على التقارب، ولا على التباعد، فماذا نقول في مثل هذا؟ نقول: إن كان الزمان متقاربا فإن الآية نزلت بعد الواقعتين، وإن كان الزمان متباعدًا فإننا نحكم بأن الآية نزلت مرتين، مرة رد على اليهود، ومرة لما خفيت عليهم القبلة؛ ليبين لهم الحكم، ولا إشكال، لكن ستأتي أمثلة نعرف أن الزمان متقارب، وستأتي أمثلة نعرف أن الزمان متباعد، لكن نأخذ هذا المثال الآن ونضبطه فيما لم نعرف فيه تقارب الزمان ولا تباعده.

ونعطيكم مثالا على: ما صحت فيه الروايات، وكانت صريحة، مع تقارب النزول، ففي قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6]، آية اللعان، فالروايات الصحيحة الثابتة منها: ما هو مصرح بأنها نزلت بسبب: هلال بن أمية لما قذف امرأته بالزنا[14].

ومنها: ما هو مصرح بأنها نزلت في: عويمر العجلاني حينما قذف امرأته بالزنا[15]، وليس عندنا في التاريخ شيء يدل على تقارب الزمان، والكلام دقيق، فما عندنا شيء، لكن نحكم هنا بتقارب الزمان، وأن الآية نزلت بعد الواقعتين، بماذا عرفنا هذا؟ كيف؟ إن كان كذلك، فهذا يدل من الرواية على تقارب الزمان، لكن الذي أعرفه: أن سعد بن عبادة لما ذكر النبي ﷺ اللعان، كأنه استشكل هذا، أن الرجل يجد رجلا مع امرأته، ثم يطلب الشهود، فابتلاه الله برجل من قومه، وهو: عويمر العجلاني، حينما جاء إلى عاصم بن عدي، وذكر له ذلك؛ ليأتي إلى رسول الله ﷺ فيسأله، فجاء عاصم بن عدي إلى النبي ﷺ وسأله، فالنبي ﷺ كره المسائل، فرجع عاصم بن عدي، وهو: من سادات قومه إلى عويمر العجلاني يلومه، يعني: أنه كان سببا لسؤال كرهه رسول الله ﷺ، فعويمر العجلاني قال: لآتين رسول الله ﷺ فلأسألنه بنفسي[16]، هذا الذي أعرفه، فإن كان ما ذكرته من الرواية موجودًا، فهذا يكون دليل من نفس الرواية، لكن نحن نعرف من طريق آخر، ما هو؟ هل يمكن أن يقول النبي ﷺ لهلال بن أمية:البينة أو حد في ظهرك[17]، والآية تنزل، آية اللعان تنزل بعد ذلك، ثم يأتي عويمر العجلاني، ويقول له النبي ﷺ: البينة أو حد في ظهرك؟ لا، يكون الحكم قد نزل، فإذن: تكون وقعت قصة هلال بن أمية، وعويمر العجلاني، قبل نزول الآية، وإلا فإن النبي ﷺ سيقول للآخر منهما: الحكم هو: اللعان؛ لأنه قد نزل، وهذا واضح، فمن هنا نعرف أحيانًا تقارب النزول من جهة معنى من المعاني، لا من معرفة التاريخ.

مثال آخر: في سبب نزول صدر سورة التحريم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، فالروايات المشهورة تدل على: أن هذه الآية نزلت بسبب تحريم النبي ﷺ العسل[18]، عامة الروايات في الصحيحين وفي غيرهما تدل على هذا، مع صرف النظر عن التفاصيل في اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ، لكن يوجد أيضًا رواية أخرى صحيحة في غير الصحيحين: أنها نزلت بسبب تحريم النبي ﷺ الجارية[19]، فهنا ماذا نقول، والكل صريح وصحيح؟ ما عندنا دليل يدل على: أن إحدى الروايتين في الوقت الفلاني، والأخرى في الوقت الفلاني، ما عندنا شيء في التاريخ، لكن عندنا مرجح من جهة المعنى، فنستطيع أن نقول بكل اطمئنان: بأن الآية نزلت بعد الواقعتين مرة واحدة، ما هذا المعنى؟ هل يمكن أن النبي ﷺ مرة يحرم العسل، ثم ينزل معاتبته في القرآن: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم يقع منه مرة ثانية، ويحرم الجارية، فتنزل عليه الآية مرة ثانية؟

لا يمكن، فهي: مرة واحدة، والنبي ﷺ لما حرم على نفسه العسل لم يكن نزل عليه في هذا شيء! فلما عاتبه ربه -تبارك وتعالى- على هذا، فلا يمكن أن يتكرر؛ ولهذا يقال: بأن الآية نزلت بعد الواقعتين، فبينهما تقارب، وأما من يعمد إلى الترجيح، فيقول: نرجح الرواية التي في الصحيحين وفي غيرهما، الرواية المشهورة، أنها نزلت بسبب تحريمه العسل، والقصة معروفة: أنه كان يطوف على أزواجه بعد صلاة العصر، فكان يشرب عسلًا عند زينب، وفي بعض الروايات غير هذا، فالشاهد: هذا مثال.

ونعطيكم مثالًا على ما صحت فيه الروايات، وكانت صريحة، مع تباعد النزول، يعني: عكس الذي قبله، مع تباعد النزول، ففي قوله -تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، في الصحيحين: من حديث ابن مسعود : أنها نزلت في المدينة بسبب سؤال اليهود في القصة المعروفة[20]، كما جاء عن ابن مسعود بينما أنا أمشي مع رسول الله ﷺ في حرث من حروث المدينة، وهو: يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه، فإنه يسمعكم ما تكرهون، فسأله بعضهم: يا محمد! أخبرنا عن الروح؟ وفي الترمذي: عن ابن عباس -ا: أن قريشا قالت لليهود: أعطونا شيء نسأل هذا الرجل؟ فقالوا: سلوه عن الروح! فأنزل الله:وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85][21]، فالآن الروايتان صحيحتان، رواية ابن عباس تدل على: أنها نزلت والنبي ﷺ في مكة، ورواية ابن مسعود: وهو في المدينة، فالزمان متباعد، فماذا نقول؟ نقول: الآية نزلت مرتين، وأما من يقول بالترجيح، فيقول: نرجح رواية ابن مسعود: أنها نزلت بسبب سؤال اليهود! لماذا؟ قالوا: أولًا: لأنه في الصحيحين، والأمر الثاني: أنه كان حاضرا القصة، فقال: بينما أنا أمشي مع رسول الله ﷺ، وهذا أدعى للضبط، بخلاف ابن عباس -ا، فكان صغيرًا في مكة قبل هجرة النبي ﷺ.

فهذه قاعدة شريفة، يستطيع الإنسان أن يتعامل بهذه الطريقة مع كل المرويات الواردة في أسباب النزول، والمثال المقصود به: التوضيح، دائمًا الأمثلة للتوضيح، فهذه القاعدة وإن أطلت فيه بعض الشيء إلا أنها تستحق هذا، وإن كان عامة ما أذكره من القواعد أخصر من هذا بكثير، لكن من القواعد ما يحتاج إلى شيء من التفصيل؛ لدخول بعض الأقسام تحته، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. انظر: الموافقات (3/ 365)، و(5/ 349).
  2. انظر: التحبير شرح التحرير (8/ 3842)، والمدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية (ص:341).
  3.  انظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 450)، و(9/ 45).
  4. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، برقم (4950)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1797).
  5. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (24/ 249)، برقم (636)، وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني (13/ 316)، برقم (6136).
  6. أخرجه الطبري في تفسيره (جامع البيان) (24/ 486)، وانظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 710).
  7. انظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 710).
  8. انظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 710)، وقال: "وكل هذه الروايات لا تثبت".
  9. أخرجه الطبري في تفسيره، جامع البيان (2/ 527).
  10.  أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، برقم (345)، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، برقم (1020)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1/ 323)، برقم (291).
  11. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم (700)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة البقرة، برقم (2958)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
  12.  أخرجه الطبري في تفسيره، جامع البيان (7/ 497)، برقم (8377).
  13.  أخرجه الطبري في تفسيره، جامع البيان (2/ 534)، برقم (1847).
  14. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:8]، برقم (4747)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، برقم (1496).
  15. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [النور:6]، برقم (4745)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، برقم (1492).
  16. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله :  وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [النور:6]، برقم (4745)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، برقم (1492).
  17. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب  وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:8]، برقم (4747)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، برقم (1496).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، برقم (5267)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق، برقم (1474).
  19. أخرجه الطبري في تفسيره، جامع البيان (23/ 475-479)، والطبراني في المعجم الأوسط (3/ 13)، برقم (2316)، والدارقطني في سننه (5/ 75)، كتاب الطلاق والخلع والإيلاء وغيره، برقم (4013)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 578)، جماع أبواب ما يقع به الطلاق من الكلام ولا يقع إلا بنية، باب من قال لأمته أنت علي حرام لا يريد عتاقا، برقم (15077).
  20. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول الله تعالى:  وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء:85، برقم (125)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب سؤال اليهود النبي ﷺ عن الروح وقوله تعالى:  وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] الآية، برقم (2794).
  21. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة بني إسرائيل، برقم (3140)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الألباني: حسن صحيح، في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (1/ 209)، برقم (99).

مواد ذات صلة